fbpx
دراساتاوروبا وامريكا

العسكرة في إدارة ترامب: التوجهات والأولويات

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

إعداد د. عمرو درّاج – نبيل عوده

مقدمة

منذ انتهاء الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة (وإسرائيل) من أكثر الدول في العالم التي توصف بأنها “ديمقراطيات” خوضاً للحروب. فإذا نظرنا إلى سجل بدء الحروب منذ العام 1945، حسب ما يبين ذلك ريتشارد ليبو في كتابه (لماذا تتحارب الأمم) فسنجد أن الولايات المتحدة من بين أكثر البلدان التي لجأت إلى الحلول العسكرية. فمن بين 31 حرباً نشبت خلال هذه الفترة، كانت إسرائيل متورطة في ست، والولايات المتحدة والصين في خمس، وفيتنام في أربع، والهند وباكستان في ثلاثة لكل منهما”1.

تشكل الحرب للدول العظمى الأداة الأكثر تفضيلاً لإظهار الهيبة من جانب، وردع كل الخصوم من جانب آخر. ولم تخل إدارة من الإدارات الأمريكية المتعاقبة من توجه أكيد نحو استخدام القوة العسكرية ضد الأعداء المحتملين. وتتمثل الاستراتيجية العامة للدول العظمى، كما يجادل جون ميرشايمر في كتابه The Tragedy of Great Power Politics – مأساة سياسات الدول العظمى2، في سعيها لمنع أي من القوى الصاعدة من منافستها على النفوذ والهيمنة. وقد كانت استراتيجية الولايات المتحدة أثناء الحرب الباردة تتمثل باحتواء الاتحاد السوفيتي، انتقلت بعيد انتهاء الحرب للتصدي للدول المارقة (طبقا للتعريف الأمريكي) التي ضمت كل من إيران، والعراق، وليبيا، وكوريا الشمالية ضمن استراتيجية عرفت بـ Rouge State Doctrine أو مواجهة “الدول المارقه”.

مع بداية الألفية، تجددت عقيدة “الدول المارقة” من خلال تبني إدارة جورج بوش الابن لمبدأ “محور الشر” الذي على إثره تم غزو العراق، واسقاط نظام صدام حسين. تزامناً مع ذلك كان الاعلان الأمريكي للحرب الكونية على ما يسمى الارهاب، وهي الحرب التي تخوضها الولايات المتحدة على مدار أكثر من عقد من الزمان. وبذلك يكون أمام الولايات المتحدة لاعتبارات المحافظة على وضعية الهيمنة ثلاثة دوائر استراتيجية للتحرك العسكري تتلخص أولا باحتواء الدول الصاعدة (الصين وروسيا)، وثانياً ردع باقي الدول المارقة (كوريا الشمالية وإيران وليبيا بعد الانتهاء من العراق، وقد تم الانتهاء من ليبيا بالفعل في وقت لاحق)، وأخيرا محاربة التنظيمات التي تصفها بالإرهابية (مثل القاعدة وداعش).

وقد تمحورت سياسة جورج بوش الابن حول مبدأ الحرب الاستباقية، والتحرك أحادي الجانب، والنزعة التداخلية تحت مظلة نشر الديمقراطية، في حين كانت سياسة الرئيس أوباما تتركز على مبدأ القيادة من الخلف، والعمل ضمن المؤسسات الدولية، والنزعة التداخلية المنضبطه بوجود تهديد مباشر وصريح لإحدى المصالح الحيوية الأمريكية. مع وصول ترامب إلى سدة الرئاسة، يدور جدل كبير حول المبدأ الذي سوف يتبعه الرئيس في التعاطي مع الدوائر الاستراتيجية الثلاثة، هل ستكون لإدارته نزعة تدخلية أم انعزالية؟ هل سيقود من الخلف مثل أوباما أم يتولى زمام المبادرة؟ وما هي طبيعة المبدأ الذي سيتبناه ترامب؟ وما هي شروطه ومحدداته؟

إشكالية البحث:

لقد كان واضحا خلال الحملة الانتخابية للمرشح دونالد ترامب توجهاً نحو الانعزالية وعدم التدخل في الصراعات الدولية التي لا تمس الأمن القومي الأمريكي بشكل مباشر، انطلاقا من مبدأ “أمريكا أولا”، وهو ما كان يردده بكثره خلال حملته الانتخابيه3، ثم ظهر تحول سريع خلال المائة يوم الأولى من حكمه، بدا فيها أن الرئيس ترامب سوف يتبنى سياسة على العكس تماما مما كان يقوله أثناء حملته الانتخابية، وهي سياسة ذات نزعة تدخلية، قائمة على مبدأ إظهار القوة العسكرية الأمريكية، بشكل أحادي الجانب (في الغالب) ولكن بآلية قد تكون مختلفة بعض الشيء عن سلفه الجمهوري الرئيس جورج بوش الابن.

وفي هذا الإطار تبحث الورقة في أسباب ودوافع هذا التحول السريع للتوجه نحو العسكرة والتدخليه، من خلال تناول أربع مجموعات من الأسباب والشواهد، ثلاثة منها تتعلق بالديناميكيات الداخلية المتعلقة بشخصية الرئيس بحد ذاته، وتركيبة إدارته، وطبيعة سياسته الداخلية، أما المجموعة الأخيرة فتتعلق ببنية النظام الدولي المثخن بالأزمات الساخنة في الكثير من المناطق، والتي تحفز بحد ذاتها لمزيد من الحروب والنزاعات.

 

أولاً، ترامب: الجوانب الشخصية:

يكتسب التحليل النفسي لشخصية الرؤساء أهميته لاعتبارات تتعلق بمستويات التحليل. فبالإضافة لمستوى الوحدة/ الدولة ومستوى النظام، هناك مستوى الفرد، والذي يُسلط الضوء على مزاج صانع القرار، وشخصيته، ودوافعه، وأهدافه، وتصوراته الخاصة عن نفسه، وعن العالم من حوله، وتُشكل هذه العوامل مجتمعة مؤشرات ضرورية في تحديد الشعور الذي ينتاب صانع القرار، وأفكاره، والكيفية التي سوف يتصرف بناء عليها مستقبلا. كما أنها تعتبر أداة رئيسية في تحديد الأسباب الكامنة وراء اختياراته وقراراته.

وقد خلص أستاذ علم النفس في جامعة نورث وسترن ماك آدامز، مؤلف كتاب “الأبعاد النفسية للرئيس جورج دبليو بوش George W. Bush: The Redemptive Dream) إلى وجود أنماط خمسة أساسية لفهم الشخصيات هي:

الأول: الانبساطية (ضد الانطوائية) Extraversion: وتتضمن السمات المتعلقة بالمخالطة، والسيطرة الاجتماعية، والحماسة، والسلوك الساعي للمكافأة.

الثاني: العصبية Neuroticism: وتتضمن السمات المتعلقة بالقلق، وعدم الاستقرار العاطفي، والميول الاكتئابية، والمشاعر السلبية.

الثالث: الضمير الحي Conscientiousness: وتتضمن السمات المتعلقة بالاجتهاد، والانضباط، والالتزام، والتنظيم.

الرابع: التوافقية Agreeable: وتتضمن السمات المتعلقة بالدفء، ورعاية الآخرين، والإيثار، والرحمة، والتواضع.

الخامس: الانفتاحية Openness: وتتضمن السمات المتعلقة بالفضول، وغير التقليدية، والخيال، وتقبل الأفكار الجديدة.

وقام آدامز بوضع مخطط نفسي للرئيس ترامب في دراسة حملت عنوان: The Mind of Donald Rump (عقل دونالد ترامب). وتوصل آدامز، من خلال استقراء حياة ترامب، إلى أنه يميل إلى نمط من الشخصية يجمع بين مستويات عالية جدا من الانبساطية (اللانطوائية)، مع مستويات منخفضة جدا من التوافقية والانسجام. وهذا يعني أن ترامب يمتلك رغبة كبيرة في حب الظهور الاجتماعي، والشهرة، والسيطرة الاجتماعية، والسعي الحثيث للحصول على المكافآت والتقدير الذاتي. في حين يفتقر إلى العاطفة، والاهتمام بالآخرين، والايثار، والرحمة، والتواضع. وهذه السمات مجتمعة تفضي إلى شخصية ذات طابع انفعالي يغلب عليها الغضب والتدليس وتعظيم الأنا.

ويرى آدامز أن السمات الرئيسية للرئيس ترامب تشير إلى أن رئاسته ستكون موسومة بسرعة الغضب إلى حد كبير. كما أن هناك دلائل محتملة لرئيس يتمتع بشخصية نشيطة، ومفعمة بالطاقة، وذي علاقة أقل ودية مع الحقيقة. كما أن ترامب قد يكون صانع قرار جريء، وعدواني، وعديم الرحمة، يسعى لخلق نتائج تتصف بأنها الأكثر إثارة، ولمعاناً وحجماً. كما أنه من تلك الشخصيات التي لا تفكر أبداً بحجم الضرر الذي قد تخلفه وراءها، فهو مولع بالقتال، ويملك قدراً كبيرا من التهديد، والصرامة، والقابلية للغضب الشديد4.

وإذا كان يصعب بالضبط معرفة أي نوعية من القرارات سوف يتخذها الرئيس ترامب، ولكن السمات التي تتكون منها شخصيته يمكن أن تقدم لنا بعض الأدلة على نمط صناعة القرار لديه. ويقترب ترامب من الرئيس جورج بوش الابن فيما يتعلق بالانبساطية حيث يمتلك ميلاً إلى المخاطرة، والمغامرة، واجراء الصفقات التي تضمن له تحصيل الفوائد المصحوبة بمزيد من البهرجة والظهور. غير أن الفرق بين الرجلين يتعلق بأن ترامب لا يعتبر من الشخصيات الأيديولوجية البحتة؛ ولذلك فهو أكثر مرونة، وبراغماتية، وأكثر قبولاً للمناورة واجراء التفاوض (راجع مثلا كلماته وتصرفاته عند زيارة الرياض في مايو 2017 وحرصه على تكوين تحالفات استراتيجية وعقد صفقات هامه مع بلدان العالم الإسلامي، في مقابل أقواله أثناء الحملة الانتخابية أن “الإسلام يكرهنا” وغير ذلك)، ولا يتذمر من كثرة التفاصيل؛ بل على العكس فهو يفضلها (على عكس بوش تماما) الأمر الذي يجعله أكثر ميلا للمساومة.

على صعيد آخر، يقترب ترامب من الرئيس نيكسون فيما يتعلق بالمستوى المنخفض من التوافقية أي تنحية العاطفة والمشاعر من عملية صنع القرار، وهذا يجعله يتعامل بواقعية مع القضايا الخارجية بحيث يكون قادراً على الموازنة بشكل مفيد بين المصالح المتنافسة باستخدام اقترابات مختلفة، أو المساومة مع الخصوم، فقد استطاع نيكسون أن يُحدث اختراقاً – على سبيل المثال – مع الصين من أجل كسر المحور الشيوعي لتشديد الحصار على الاتحاد السوفيتي. ولكن الأهم من ذلك هو الكيفية التي تعامل معها الرئيس نيكسون بملف الحرب الفيتنامية، حيث كان قادراً على التواصل مع خصومه بشكل مباشر من جهة؛ فيما اعتمد على القصف العسكري بشكل هائل من جهة أخرى، وهو بذلك يقدم نموذج للدبلوماسية القائمة على التواصل بالزناد. وفي هذا السياق، قد يعمد ترامب إلى الضغط على الزناد من أجل التواصل مع خصومه لتحقيق هدف يضمن له الصيت العالي والبهرجة.

أما فيما يخص السياسة الداخلية، فإن الرؤساء الذين ينتمون لهذا النمط المنخفض من التوافقية يكونون ميكافلليين، وأكثر ميلا للمكر، والقسوة، والسخرية، ولذلك يميلون للكذب والتدليس أكثر من غيرهم. وفي هذا الصدد أجرى موقع POLITIFACT تقييماً للصدق في بيانات المرشحين للرئاسة لعام 2016، وقد أظهرت النتائج أن 2% فقط من الادعاءات التي أدلى بها ترامب كانت صحيحة؛ و7% صحيحة في معظمها؛ و15% صحيحة نسبياً؛ و15% في الغالب كاذبة؛ و42% كاذبة؛ و18% كاذبة جدا. وعند إضافة الأرقام الثلاثة الأخير المتعلقة بالكذب، فإن أقوال ترامب الكاذبة تصل إلى 75% من كلامه طبقا لهذا الاستطلاع. وبالمقارنة مع المرشحين الآخرين يتضح الفرق، فقد حصل تيد كروز على 66% من مؤشر الكذب؛ وحصل جون كاسينس على 32%، وحصل بيرني ساندرز على 31%، وأخيراً حصلت هيلاري كلينتون على 29%.

وشخصية نيكسون المحبة للظهور والسيطرة، والمتوجسة من الخصوم والمحبة للأضواء أدت إلى سوء استغلال منصب الرئاسة، الأمر الذي قاد إلى فضيحة “ووترجيت” وما نجم عنها من استقالة الرئيس قبل استكمال إجراءات عزله، وفي هذا السياق يمكن النظر إلى الفضيحة التي تلاحق الرئيس ترامب في التعامل مع الروس، وتنحيته لمدير التحقيقات الفيدرالية جيمس كومي، وما يجري حولها من تفاعلات تتضخم بسرعه ككرة الثلج كمقدمه قد تؤدي إلى نتيجة مماثلة.

ومن الجدير ذكره أن هذا التشخيص لا يتضمن الأمور السلبية فقط، فهناك بعض الأمور التي تعتبر ربما ايجابية؛ صحيح أن ترامب من الشخصيات النرجسية، سريعة الغضب، والانفعالية، ولكنه أيضا غير متصلب، وغير مؤدلج، وبرجماتي، وعنيد، وفي سبيل الوصول إلى هدفه فإنه لا يتوان عن الذهاب إلى آخر الطريق واستخدام جميع الأدوات التي في جعبته، ومنها الأداة العسكرية بطبيعة الحال، ولكنه في المقابل، وعلى طريقة رجال الأعمال في عقد الصفقات، من الممكن أن يتنبأ بالأشياء الخاطئة التي قد تؤدي إلى ضياع الصفقة، ولذلك يحاول أن تكون خطواته محسوبة، وهذا يعني أن التصعيد الذي يلجأ إليه كواحدة من الآليات للضغط على الخصوم لا تأتي من باب القفزات في الهواء، بل من أجل الوصول إلى صفقة ما.

فالربح والمتعة هما ما يعنيه، وأي تصعيد لا يخدم هذا الهدف، فعلى الأغلب لن يلجأ إليه. أما النتيجة التي قد تترتب على استخدام هذا الأسلوب، فذلك شيء مختلف، حيث أن الحياة العملية لترامب هي في واقع الأمر مليئة بالفشل الناتج عن قرارات خاطئة، وهنا لابدَّ من النظر إلى تركيبة إدارة الرئيس ترامب لمعرفة إلى أي حد قد تعمل الإدارة على كبح الرئيس أو الذهاب معه حتى آخر الطريق.

 

ثانيا: إدارة ترامب: التركيبة المشاكسة

حازت إدارة ترامب الكثير من الانتباه والاثارة بالنظر إلى تركيبة التيارات المتنافسة بداخليها، فالإدارة ولدت غير متناسقة منذ البداية. فقد كان هناك ممثلين عن التيار الشعبوي (كبير استراتيجي البيت الأبيض ستيفن بنون وكاتب كلماته ستيفن ميللر)، وتيار حزب الشاي وهم الأكثر محافظة في الحزب الجمهوري (نائب الرئيس مايك بنس)، وممثلين عن التيار المحافظ التقليدي (وزير الدفاع جيمس ماتيس، ومستشار الأمن القومي ماكماستر)، وممثلين عن الشركات الكبرى وأصحاب المال (وزير الخارجية ريلكس تيلرسون ووزير الخزانه مينوخين)، وممثلين عن العائلة (ايفانكا، وزوجها كوشنر).

ولكن الأهم فيما يخص الشأن العسكري أن إدارة ترامب قد احتوت على شخصيات نافذة ومؤثرة من النخبة العسكرية التي قد تميل لاستخدام القوة العسكرية لفرض الهيمنة، تضم أسماء لجنرالات لهم قدر كبير من السمعة والمهنية: الجنرال أربعة نجوم، قائد المارينز سابقا وزير الدفاع الحالي جيمس ماتيس، والجنرال هربرت ماكماستر مستشار الأمن القومي، ووزير الأمن الداخلي الجنرال جون كيلي. وإضافة إلى ذلك يوجد نفوذ للتيار الشعبوي، ممثلا أساسا في ستيف بانون، الذي يرى بحتمية الحرب الدينية مع ما يطلقون عليه “الاسلام الراديكالي”.

(أ) الجنرالات والعسكر:

1ـ وزير الدفاع “جيمس ماتيس”:

يعتبر “جيمس ماتيس” واحدا من ألمع الأسماء في تاريخ العسكرية الأمريكية الحديث، وقد اعتبر اختياره مفاجئاً من قبل الكثيرين بسبب مواقفه المحافظة القريبة من الاعتدال والتي لا تتقاطع بدورها مع المواقف المتطرفة للرئيس ترامب؛ تلك التي عبر عنها أثناء حملته الانتخابية. ويحظى ماتيس بمصداقية عالية من قبل الحزبين الجمهوري والديمقراطي على السواء، ويُنظر إليه كواحد من أكثر المسؤولين تشدداً بالقضايا المتعلقة بالأمن القومي، وبالرغم أنه لا يمتلك أي خبره سياسية مدنية إلا أنه يتمتع بمستوى عالٍ من الاستقلالية بحيث تجعله قادراً على الموازنة بين المصالح المتنافسة؛ بين سلطته التنفيذية، والقيود التشريعية للكونجرس.

ويؤمن ماتيس بضرورة عودة وزارة الدفاع لتمارس دورها الفعال في سياسة الولايات المتحدة الخارجية، ويدعم بشكل كبير زيادة موازنة الدفاع. ويدعو حلفاء واشنطن في حلف شمال الأطلسي أن يعملوا على زيادة مساهماتهم في الحلف، إذا أردوا المحافظة على تعهدات واشنطن الصارمة بأمنهم، هذا مع إيمانه الشديد بالأهمية القصوى للحلف في استراتيجية الولايات المتحدة الأمنية، وقد عبر عن ذلك صراحة عندما قال بأن: “التاريخ واضح؛ الدول مع حلفاء أقوياء تزدهر، وبدونهم تضمحل”5.

ولا يتميز ماتيس بالتعصب الحزبي؛ فهو يسعى إلى تنويع فريقه من خلال ترشيح أسماء محسوبة على المحاربين القدامى من الديمقراطيين من أمثال “ميشيل فلورثوي” الذي شغل منصب وكيل وزارة الدفاع للشؤون السياسية في إدارة الرئيس السابق بارك أوباما.

أما على المستوى الخارجي؛ يتبنى ماتيس مواقفاً متشددة من روسيا حيث يعتبر أن مشاكل واشنطن تنبع بداية من موسكو، ويؤمن بأن روسيا قد تدخلت فعلياً في التأثير على نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، ويبنى مقاربة التعاطي مع الكرملين على قاعدة ضرورة انصياع روسيا للقانون الدولي أولاً. أما فيما يخص إيران، فلا يقل موقفه المتشدد حيالها عن موقفه حيال موسكو. فقد هاجم ماتيس إيران متهماً إياها بزعزعة الاستقرار في المنطقة، وبأنها تمثل تهديداً لجيرانها جراء برنامجها العسكري للصواريخ البالستية؛ كما أن له تصريحات كثيرة مفادها أن إيران تُمثل التهديد الأول للمصالح الأمريكية في المنطقة، هذا بالرغم من كونه أكد على ضرورة احترام الولايات المتحدة للاتفاق النووي مع إيمانه بأن الاتفاق لا يمثل حلاً مثالياً لمشكلة إيران النووية ولا يعتبر من حيث الأساس معاهدة صداقة6.

2ـ مستشار الأمن القومي ماكماستر:

الجنرال الآخر البارز في إدارة ترامب، هو مستشار الأمن القومي هربرت ريموند ماكماستر، والذي اعتبرته مجلة التايم من ضمن قائمة الشخصيات المائة الأكثر تأثيراً في العالم، حيث وصفته بأنه قد يكون المفكر العسكري الأبرز في القرن الواحد والعشرين7. فقد جمع ماكماستر بين الخبرة العسكرية الطويلة والاطلاع المعرفي الواسع على التاريخ العسكري الحديث، فقد حصل على درجة الدكتوراه في التاريخ الأمريكي عام 1996، ونشر كتابه الشهير عن حرب فيتنام في عام 1997. وقد حفل تاريخه العسكري بالكثير من الانجازات التي امتاز بها عن غيره، ففي حرب الخليج الثانية، حصل على وسام النجمة الفضية بعد أن استطاع مع كتيبة المدرعات التي كان يقودها والمكونة من 9 آليات فقط من تدمير ما يقرب من 80 آلية للجيش العراقي.

أما في الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003، فقد استطاع ماكماستر أن يطور مقاربة مختلفة تميزت بتوظيف البعد الفكري في العمليات العسكرية من خلال تدريب جنوده على التعامل مع الفروقات الاجتماعية للشعب العراقي؛ ومن أشهر معاركه كانت معركة تلعفر في العام 2005. وفي العام 2007 تم اختياره مع مجموعة أخرى من الأكاديميين العسكريين ليكونوا ضمن فريق إعادة البحث عن مقاربات جديدة في التعاطي مع الحرب العراقية8، ويعود له الفضل مع آخرين في اجتراح سياسة الصحوات التي عملت على تجفيف نشاط تنظيم القاعدة في المدن الرئيسية.

وفيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط فإن ماكماستر يؤمن بضرورة هزيمة تنظيم الدولة من خلال نزع الأراضي التي يسيطر عليها، وتحقيق الأمن لعودة المهاجرين؛ ويرى ضرورة التفريق بين المتشددين المنضوين في صفوف الجماعات “الارهابية” وبين عموم المسلمين، ولذلك رفض تصريحات الرئيس ترامب التي وصف فيها الاسلام بالراديكالي حيث اعتبرها لا تخدم المصالح الأمريكية والجهود المبذولة لمحاربة تنظيم الدولة. وهذا ينم عن معرفه دقيقة بقضايا المنطقة؛ حيث يذكر عنه أنه كان يدرب جنوده على التفريق بين الشيعة والسنة، على سبيل المثال، من خلال الصور المعلقة في البيوت.

كما يؤمن ماكماستر بضرورة البحث عن حل سياسي للحرب الأهلية في سوريا، مع تأكيده بأن الحل السياسي لا يمكن أن يتحقق بوجود نظام الأسد الذي وصفه مراراً بأنه “نظام قاتل” ولذلك فهو يرى ضرورة العمل بشكل متزامن لهزيمة تنظيم الدولة، وإحداث تغيير ملحوظ بطبيعة نظام بشار الأسد، وسلوكه بشكل خاص10. كما يرى أن روسيا مازلت جزء من المشكلة، ولكنها يمكن أن تقرر أن تكون جزءا من الحل، وعندها يمكن الحديث عن تعاون مشترك بين الولايات المتحدة وروسيا من أجل ايجاد حل للأزمة السورية. ولكنه، بشكل عام، يرى موسكو كخصم وليس كشريك محتمل.

فقد صرح في أيار/مايو من العام 2016، في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، بأن روسيا تعمل من خلال ضمها لشبه جزيرة القرم، ودعمها الانفصاليين في شرق أوكرانيا إلى إحداث تغييرات في النظام الدولي المشكل بعد الحرب العالمية الثانية بما يخدم مصالحها11.

أما فيما يخص إيران فقد كان ماكماستر واضحاً في موقفه المناهض لها. فقد اتهم في مقابلته مع وكالة Fox News في نيسان/إبريل 2017 إيران بشكل صريح بمحاول زعزعة أمن واستقرار المنطقة من خلال تبنيها لنموذج “حزب الله” الذي يقوم على إضعاف حكومات المنطقة، ودعم مليشيات خارجة عن القانون وذلك من أجل بسط سيطرتها على هذه الدول. كما اعتبر إيران والمليشيات الموالية لها جزءا من المشكلة في سوريا من خلال دعمها اللامحدود لنظام بشار الأسد. وقد أوقع ماكماستر باللائمة على الإدارة السابقة لتمكينها إيران من إثارة موجة عارمة من الكارثة السياسية والانسانية في الشرق الأوسط الكبير، ويرى أن هناك فرصة كبيرة لمواجهة إيران سواء في الإقليم أو ما بعده وذلك من خلال العلاقات المتميزة التي يتمتع بها الرئيس ترامب مع قادة المنطقة12.

وفيما يتعلق بكوريا الشمالية فإن ماكماستر لا يُبدي أي تردد في التعبير عن الخطر الحقيقي الذي يتهدد الولايات المتحدة وحلفائها الاقليميين من قبل كوريا الشمالية وبرنامجها النووي. ويدعو مستشار الأمن القوي إلى ضرورة تشديد العقوبات الاقتصادية المفروضة على كوريا الشمالية، وزيادة مدى عزلتها السياسية، ولكنه أيضا يدعو إلى تبني خيار “قابل للتطبيق” وذلك من خلال العمل على تدعيم المسار الدبلوماسي والاقتصادي المتمثل بالعقوبات، بخيار عسكري حقيقي يجعل من نظام كوريا الشمالية يُدرك بما لا يدع مجالا للشك النوايا الجادة للولايات المتحدة لمواجهة التهديد الكوري الشمالي13.

3ـ تشكيل مجلس الأمن القومي:

من المثير للاهتمام فيما يتعلق بتشكيل إدارة ترامب، أنه وحسب والمراجعة التي قامت بها صحيفة واشنطن بوست فإن ثمانية على الأقل من بين أرفع المناصب السياسية والقيادية في مجلس الأمن القومي لإدارة ترامب يشغلها مسؤولون عسكريون؛ في مقابل اثنين فقط في إدارة سلفه أوباما، هذا مع العلم أن إنشاء مجلس الأمن القومي بعد الحرب العالمية الثانية كان أساساً بغرض التصدي لهيمنة المؤسسة العسكرية على القرار السياسي المتعلق بالسياسية الخارجية للولايات المتحدة، مما حدا بالصحيفة بالاستنتاج أن مثل هذا التوجه في تشكيل الإدارة سيمثل تحولاً جوهرياً في توجيه السياسة الخارجية الأمريكية نحو المزيد من العسكرة.

وأبرز المناصب التي يشغلها العسكريون في مجلس الأمن القومي هي: الجنرال ماكماستر مستشار الأمن القومي، والسكرتير التنفيذي للمجلس الجنرال كيث كيلوج، ونائب مستشار الأمن القومي الجنرال احتياط ريك واديل، ومنسق الشرق الأوسط والخليج العقيد ديريك هافي، ومنسق منطقة آسيا مات بوتينجر، هذا بالإضافة إلى كل من منسق العمليات ومكافحة الارهاب التابعين لفريق مستشار الأمن الداخلي توماس بوسرت14.

(ب) اليمين الشعبوي والحرب الشاملة:

بالإضافة إلى فريق الجنرالات، تتضمن إدارة ترامب مجموعة من الشخصيات النافذة ؛ المحسوبة على تيار اليمين المتطرف والتيار الشعبوي، وعلى رأسه كبير مستشاري البيت الأبيض ستيفن بانون، حيث يؤمن بانون بالعقيدة والقيم اليهودية – المسيحية التي تواجهها العديد من التحديات، ويرى أن الرأسمالية التي كانت يوماً رصيداً للولايات المتحدة في هيمنتها على العالم قد أصبحت تتهاوى وتتراجع وذلك لتخلي الأجيال الجديدة من الأمريكيين عن تقاليد الآباء الذين تمتعوا يوماً بالجدية في العمل والبناء، ويرى أن تعديل المسار ينبع من خلال إحياء القومية التي من شأنها أن تعيد وحدة المجتمع وتآلفه على منظومة التقاليد والعادات الموروثة، وأن مواجهة هذه التحديات لن يمر إلا عبر صراعات عسكرية دموية كبرى.

ويضع بانون هذه الأفكار في إطار “نظرية الأجيال” لحركة التاريخ الأمريكي Theory of Generations، والتي وضعها المؤرخان “نيل هاو” و”ويليام شتراوس”. وتنظر نظرية الأجيال إلى التاريخ الأمريكي من خلال عدسة الدورات المتكررة والتي تدوم حوالي 80 عاماً لكل منها، وتقبع ضمن الدورة الواحدة مجموعة من الفترات التي تأخذ مساراً مكوناً من 20 سنة تبدأ بفترة العلو، ثم الصحوة، ثم الانحلال، ثم الأزمة15.

ويعتقد بانون، الذي شغل سابقاً الرئيس التنفيذي لشبكة بريتبارت الاخبارية Breitbart إحدى الشبكات الرئيسية المعبره عن التيار اليميني المتطرف، أن الولايات المتحدة تعيش حالياً في الفترة الأخيرة من الدورة الحالية وهي فترة الأزمة. وهذه هي الدورة الرابعة – حسب اعتقاده -في التاريخ الأمريكي الحديث بعد الثورة الأمريكية، والحرب الأهلية، والحرب العالمية الثانية/الكساد الكبير. وباتباع منطق النظرية فإن العودة إلى فترة العلو من جديد وتجاوز فترة الأزمة الحالية للولايات المتحدة لا يمكن أن تتم إلا من خلال حرب كبرى ضد خطر وجودي؛ وهذا الخطر في نظر بانون هو ما يسميه: الاسلام الراديكالي.

وفي خطاب ألقاه بانون في الفاتيكان عام 2014، صرح بأن الغرب المسيحي الآن في حرب كونية مع “الاسلام الفاشي”، ودعا إلى ضرورة أن يتكاتف الغرب المسيحي ويعمل على استغلال ثرواته وتحشيد طاقاته للفوز بهذه الحرب، خصوصا وأن هذه الحرب، كما يعتقد، ستكون أكبر من أن تستطيع الحكومات الغربية وحدها التصدي لها16. (للمزيد يمكن الرجوع لدراسة المعهد المصري، سياسات ترامب: ضد الإخوان أم ضد الإسلام؟)17

وقد صعد نجم بانون مع التحاقه بحملة الرئيس ترامب الانتخابية، وبعيد الفوز، تم تعيينه في منصب مستحدث ليكون كبير مستشاري البيت الأبيض للاستراتيجية، وقد صنف على أنه واحد من أكثر الاشخاص نفوذاً في البيت الأبيض، خصوصاً بعد أن تم تعيينه عضواً في مجلس الأمن القومي، وبالرغم من أنه فقد هذه العضوية لاحقاً بعد أن باشر ماكماستر مهامه كمستشار الأمن القومي، فإن بانون مازال يحتفظ بنفوذه داخل البيت الأبيض، فقد نجا – على سبيل المثال-من حملة التحريض التي خاضها ضده صهر الرئيس جاريد كوشنر.

ويمثل التنافس بين كل من بانون وكوشنر رأس جبل الجليد لتنافس كبير بين تيارين كبيرين من داعمي الرئيس ترامب؛ يمثل أتباع العولمة globalists من أمثال جاري كوهن ودينا باول، المديرين التنفيذيين السابقين في جولدمان ساكس، أحد التيارين18؛ أما التيار المقابل فهم جوهر الداعمين للرئيس ترامب وقاعدته الشعبية والذي بات يطلق عليهم مصطلح “البؤساء” (deplorables) وهم الذين ينتمي إليهم بانون19.

ويمتلك بانون القدرة على التحريض، فهو البوق الشعبوي للرئيس ترامب، وربما يكون هو وراء الدفع بزيارة ترامب للفاتيكان، وبذلك يكون منسق الأجندة الأيديولوجية لإدارة ترامب، وبالرغم من وجود شكوك حول قدرة بانون على اختراق الأصوات العقلانية المحترفة في إدارة ترامب مثل الجنرالين ماتيس وماكماستر، إلا أن بانون والتيار الشعبوي من خلفه سوف يحافظون على رصيد مهم من التأثير خصوصاً مع اشتداد الأزمة الداخلية ضد الرئيس ترامب وتصدع جدار داعميه من الجمهوريين المحافظين.

فقد أشارت استطلاعات الرأي أن نسبة تأييد ترامب بين قاعدته الشعبية مازلت مرتفعة وتتجاوز حاجز 90%20، غير أنه لا يوجد أي ضمان لبقاء نسبة التأييد مرتفعة مع اشتعال فضيحة التعامل مع روسيا التي تلاحق إدارة ترامب.

 

ثالثا: السياسة الداخلية والاستعصاء المزمن

في دراسة أعدها المعهد المصري للدراسات حول المائة يوم الأولى من إدارة ترامب، تم استعراض سياسة ترامب الداخلية والتي امتازت بالفوضى، وعدم التجانس، والتنافسية الشديدة، والفجائية21. كان بادياً أن ترامب يخوض معركة شرسة مع المؤسسة السياسية في واشنطن، وقد استطاعت المؤسسة أن تفرض على ترامب أن يسير إلى حد كبير وفق بيروقراطيتها التقليدية حيث لم يستطع ترامب أن ينفذ غالبية وعوده التي قطعها على نفسه أثناء حملته الانتخابية؛ فعلى سبيل المثال لم يستطع ترامب أن يفرض تعديل قانون أوباما كير، ولا تطبيق قانون حظر دخول مواطني عدد من الدول ذات الأغلبيه المسلمه إلى الولايات المتحدة على القضاء الفيدرالي بالرغم من كل الضغوط التي مارسها ، فضلا عن المتاعب الكثيرة التي تصاحب التحقيقات حول التواصل مع الروس وتدخلهم في توجيه نتائج الانتخابات الرئاسية الامريكية.

أخذت شعبية الرئيس ترامب تتهاوى بسرعة، حيث سجلت مع اقتراب نهاية المائة يوم الأولى من ولايته 36% فقط وهي أقل نسبة وصلها رئيس أمريكي بهذا الوقت القصير منذ حفل تنصيبه22. وتشهد سياسة ترامب الداخلية أزمة حقيقية. فهو في حرب شعواء مع الاعلام والتسريبات الصحافية، وعلى خلاف مع الجهاز الأمني الفيديرالي، ويفتقر إلى تيار سياسي حقيقي داعم لسياساته وتوجهاته، ومازالت إدارته تشهد حالة من الفوضى نتيجة التنافس الشديد بين الفرقاء بداخلها على النفوذ، كما أن هناك نقص شديد في عدد العاملين في الإدارة. وحسب بعض التقارير تبلغ حالة الفراغات في إدارة ترامب ما يقرب من 1200 وظيفة، ولا شك أن غياب هذا العدد الكبير من الموظفين يؤثر على كفاءة الإدارة في تنفيذ أعمالها.

كما تأتي أزمة التعامل مع روسيا والتي أصبحت الشغل الشاغل في واشنطن بعيد إقالة مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي جيمس كومي من منصبه في مايو/أيار 2017، وتعتبر هذه الأزمة من أبرز الأدوات التي تحاول المؤسسة السياسية في واشنطن استخدامها لترويض الرئيس ترامب، وكبح سياساته التي تراها غير مألوفة. فبعيد تنصيبه، عين ترامب مايك فلين مستشاراً للأمن القومي، وقد أثار هذا حفيظة التيار الرئيس في واشنطن الذي عمل على إثارة قضية تواصل فلين مع السفير الروسي في واشنطن أثناء السباق الانتخابي الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى تقديمه لاستقالته وتعين ماكماستر خلفاً له.

لم تتوقف الشبهات حول العلاقة مع روسيا على إقالة فلين، بل أصبحت تلاحق الرئيس ترامب نفسه، خصوصاً مع تزايد الدلائل على التدخل المباشر لروسيا في الانتخابات الأمريكية لصالح ترامب من خلال اختراقها للبريد الالكتروني للمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون وبعضاً من مساعديها، ونشرها لاحقا، حيث دارت تساؤلات عديدة حول نزاهة كلينتون بعد أن كشفت هذه التسريبات عن استخدام كلينتون لبريدها الشخصي في الاعمال الرسمية. وحاول ترامب تحصين نفسه من خلال تعيين “جيف سيشنز” الموالي له في منصب النائب العام بعد إقالة سالي ييتس، والتي مٌنعت بعد ذلك من الادلاء بشهادتها أمام لجنة الكونجرس المكلفة بالنظر في العلاقة المحتملة بين فريق ترامب وروسيا.

وضمن هذا السياق يمكن فهم إقالة كومي من منصبه. فقد أشارت التقارير إلى أن مدير مكتب التحقيقيات الفيدرالي المقال “كومي” قد طالب بمزيد من الدعم من أجل تمويل عمليات التحقيق المتعلقة بدور روسيا في الانتخابات الأمريكية، وهذا ربما ما أثار حفيظة الرئيس ترامب لكي يقيله من منصبه تحت ذريعة أن كومي لا يقوم بأداء مهامه بالشكل المطلوب، هذا بالرغم من أن كومي نفسه كان له دور غير مباشر في نتيجة الانتخابات عندما أدلى بتصريحه الشهير حول ايميلات كلينتون قبل 11 يوم فقط من التصويت على الانتخابات الرئاسية، وهو الأمر الذي أثر على نتائج الانتخابات لصالح ترامب.

وقد جاءت التطورات تباعاً بعيد إقالة كومي لتثير موجة عارمة من التساؤلات، فقد عقد ترامب، وقبل أن تمضي 24 ساعة على إقالة كومي، لقاءً دبلوماسياً مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بحضور السفير الروسي في واشنطن سيرجي كيسلياك المثير للجدل. وكان مستغرباً أن يتم منع الاعلام الأمريكي من تصوير اللقاء في حين تم السماح للإعلام الروسي بذلك، هذا بالرغم من تبرير البيت الأبيض من أن مراسل الوكالة الروسية الرسمية TASS قد ضلل موظفي البيت الأبيض عندما ادعى أنه من ضم الوفد الرسمي لوزير الخارجية23.

لم يتوقف الأمر عند ذلك، حيث قابل ترامب بعيد انتهاء اجتماعه مع لافروف، مستشار الأمن القومي السابق هنري كيسنجر في المكتب البيضاوي على ذات الكرسي الذي يقابل به الرؤساء والمسؤولين الرسميين. وقد دار النقاش حول عدة قضايا كان من ضمنها العلاقة مع روسيا. هذا مع الإشارة أن كيسنجر خدم في إدارة الرئيس السابق نيكسون والذي أقال أحد المسؤولين بسبب تورطه في تحقيقيات تتعلق بقضية ووترجيت التي اضطر الرئيس على إثرها لتقديم استقالته24.

لم يتوقف الأمر عند ذلك، ففي 14 مايو/أيار نشرت صحيفة واشنطن بوست أن الرئيس ترامب قد سرب للروس في اجتماعه مع لافروف وكيسلياك معلومات فائقة السرية تتعلق بتنظيم الدولة، وأوضحت أن هذه المعلومات قد جاءت عن طريق أحد شركاء الولايات المتحدة، ويحتمل أن تكون إسرائيل أو الأردن (مازال هناك تضارب بالمعلومات حول مصدر هذه المعلومات) وتتعلق بسياسة تنظيم الدولة باستهداف خطوط الطيران من خلال تزويد أجهزة الكمبيوتر المحمولة بمواد متفجرة.

وذكرت الصحيفة أن هذا الشريك لم يعط واشنطن الحق بمشاركتها مع موسكو25. وهذا من شأنه أن ينال من مصداقية الولايات المتحدة أمام حلفائها. هذا بالرغم من أن ترامب قد دافع عن تصرفه، قائلاً: إنه تبادل مع الروس معلومات تتعلق بالإرهاب وسلامة الملاحة الجوية رغبة منه في أن تفعل روسيا المزيد ضد تنظيم الدولة، وتحدث عن: “حقه المطلق” في تبادل تلك المعلومات.

وفي ذات السياق دافع مستشار الأمن القومي ماكماستر بنفسه عن موقف الرئيس وقال في الايجاز الصحفي مايو 16، 2017 أن المعلومات التي تم تداولها مع وزير الخارجية الروسي تتناسب مع البروتوكولات المعمول بها في اللقاءات الرسمية، وقد جاء تبادل المعلومات في سياق البحث مع الروس عن أرضية مشتركة للعمل سويا من أجل التصدي لخطر التنظيمات الارهابية العابرة للحدود وخصوصاً تنظيم الدولة. وأكد ماكماستر على أن الخطر الحقيقي ينبع من تسريب المعلومات التي يمكن ربطها بمعلومات متوافرة أخرى الأمر الذي قد يهدد أمن الأمريكيين26.

ولا يبدو أن قضية العلاقة مع روسيا ستقف عند هذا الحد، حيث تأخذ الأحداث مسار كرة الجليد، فمع توالي الأيام تتكشف المزيد من الحقائق التي من شأنها تضييق الخناق على الرئيس ترامب وتأزيم الوضع الداخلي. ففي تسريب جديد كشفت عنه الواشنطن بوست أن الرئيس ترامب قد طلب من كومي في لقاء منفرد أن يسقط التحقيقيات المتعلقة بعلاقة مستشار الأمن القومي السابق مايكل فلين مع روسيا، والتركيز بدلاً من ذلك على متابعة الصحافيين بخصوص التسريبات. وهذا يعني أن الرئيس ترامب ربما يواجهه تهمة مزدوجة تتعلق بتسريب معلومات سرية لدولة خصم من جهة، والعمل على تعطيل مجريات العدالة من جهة أخرى27.

وعلى إثر ذلك بدأت تتعالى الأصوات بضرورة تنحي الرئيس، وأظهر مركز الاستطلاعات العامة survey from Public Policy Polling أن نسبة 48% من الشعب الأمريكي تؤيد تنحية ترامب بمقابل %41 لا يؤيدون ذلك28. أما الحزب الجمهوري فقد بدأ يشعر بالأزمة الحقيقية، فالأزمات المتوالية التي تأتي من البيت الأبيض تكبح أجندة الجمهوريين التشريعية والتي تتعلق بقوانين الرعاية الصحية، واللوائح الحكومية، وقانون الضريبة، هذا بالإضافة إلى القلق الذي بات يصيبهم بخصوص الانتخابات النصفية المقبلة، الأمر الذي دفع الكثيرين من أعضاء الكونجرس من الجمهوريين إلى الصمت من خلال امتناعهم عن الظهور على وسائل الاعلام29، أو توجيه الانتقادات للمسار الذي يتخذه الرئيس في إدارته البلاد30، وهو ما يؤشر أن جدار الدعم الصلب الذي تلقاه الرئيس ترامب من الجمهوريين بدأ بالتفسخ، الأمر الذي يفتح المشهد أما تصاعد الأزمة، وتضييق الخناق على الإدارة؛ هذا مع العلم أن إدارة ترامب مازالت متماسكة، فلم يقدم أحد من أعضائها الكبار استقالته مثلا؛ في حين انبرى عدد منهم في الدفاع عن الرئيس، فبالإضافة إلى مستشار الأمن القومي، دافعت مندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة عن قرارات ترامب الأخيرة وقالت: أنه هو الرئيس ويحق له أن يقيل من يشاء31.

هذه المشاكل والأزمات التي يتعرض لها ترامب وإدارته في داخل الولايات المتحدة، من الممكن أن تكون دافعا جوهريا لاتباع سياسة الهروب إلى الأمام باتخاذ خيارات عسكريه خارجيه تخفف الضغط عنه في الداخل، وتعتبر الضربة الصاروخية التي أمر بها ترامب على مطار الشعيرات في سوريا مثالاً واضحاً على تلك السياسة32.

 

رابعا: الإطار الدولي وأولويات المواجهة:

بجانب الاعتبارات الداخلية، تبرز التأثيرات الدولية على سياسة ترامب، فهناك بيئة دولية حالية مليئة بالاضطرابات والنزاعات التي تجد الولايات المتحدة نفسها ملزمة بالتعامل معها بشكل يدفع إلي تزايد احتمالات التوجه لمزيد من العسكرة في إدارة ترامب. فهناك الشرق الأوسط، وخاصة سوريا والعراق، وأزماته المستعصية المتعلقة بالإرهاب والحروب الأهلية والدول الفاشلة والتمدد الإيراني والروسي؛ وهناك اليمن والصومال؛ وهناك الأزمة الأفغانية واتساع سيطرة تنظيم طالبان على مناطق جديدة، وأزمة شرق أوكرانيا؛ وهناك الصين ومشكلة بحر الصين الجنوبي، فضلا عن المشكلة الكبرى المتعلقة بكوريا الشمالية وبرنامجها النووي.

1ـ الشرق الأوسط وأزماته:

تتشكل يوماً بعد يوم ملامح الاستراتيجية الأمريكية في التعاطي مع هذا الإقليم شديد الاضطراب والأكثر هشاشة في العالم، ويظهر ذلك من خلال تركيز أكبر قدر من العسكر في مجلس الأمن القومي في الإدارة المختصة بشئون الشرق الأوسط وإيران.

وتتعلق هذه الاستراتيجية في التعاطي مع الأولويات الملحة والتي على رأسها محاربة “الارهاب” وهزيمة تنظيم الدولة وتحديداً في العراق وسوريا، وفي هذا الصدد تزيد الولايات المتحدة حضورها العسكري على الأراضي السورية والعراقية سواء من ناحية عدد الجنود، أو من خلال تخفيف قواعد الاشتباك لاستهداف مناطق جديدة يتحصن بها أعضاء تنظيم الدولة بغض النظر عن الضرر الذي قد يلحق بالمدنيين، هذا بالإضافة إلى زيادة دعمها العسكري بالمعدات الثقيلة لقوات سوريا الديمقراطية التي تتكون غالبيتها من مقاتلي وحدات حماية الشعب الكردية (بالرغم من التحفظ التركي الكبير) وذلك في سياق التحضيرات لمعركة الرقة.

(أ) الأزمة السورية:

تسعى إدارة ترامب لمعالجة الأزمة السورية، خصوصاً بعد الضربة التي وجهتها على مطار الشعيرات على إثر الهجوم الكيماوي الذي شنته قوات بشار الأسد على منطقة خان شيخون في ريف إدلب، ويبدو أن هناك قناعة الان لدى إدارة ترامب أن حل الأزمة السورية لا يمكن أن يتحقق مع وجود الرئيس بشار الأسد في السلطة، ولكنها مازالت تؤمن بالحل السلمي طريقاً رئيسياً للوصول إلى تسوية مع عدم استبعاد خيارات أخرى، وفي هذا الصدد أبدت الإدارة استعدادها للتعاون مع روسيا من أجل البحث عن حل ينهي سفك الدماء في سوريا، هذا بالرغم من الانتقادات شديدة اللهجة التي وجهتها إدارة ترامب لموسكو على خلفية دعمها المتواصل لنظام بشار الأسد الذي وصفته بـ”القاتل”.

(ب) الموقف من إيران:

يبدو أن إدارة ترامب تتبنى موقفاً أكثر تصلباً تجاه إيران مما كانت عليه إدارة سلفه أوباما، ومع أنه إلى الآن لم يفسخ الاتفاق النووي الإيراني، إلا أن سياسة إيران الإقليمية تشكل عوامل لممارسة المزيد من الضغط على طهران. ولكن يبدو أن إدارة ترامب تسعى للتعامل مع أزمات المنطقة بشكل مجمل Collective strategy Selective strategy كما فعلت إدارة أوباما من قبل؛ بمعنى أنه ومن أجل التعاطي مع أزمات المنطقة المعقدة والمتداخلة لا بدَّ من إنشاء تحالف يضم غالبية الدول العربية المنضوية تحت العباءة الأمريكية، إضافة إلى إسرائيل، حيث بات يجمعهم “عدو مشترك يتمثل بإيران، وتنظيم الدولة “داعش”.

وقد جاءت هذه الرؤية بشكل صريح في الايجاز الصحفي الذي قدمه مستشار الأمن القومي ماكماستر في مايو 16، 2017 وتناول فيه تفاصيل زيارة الرئيس ترامب إلى الشرق الأوسط والفاتيكان33. وهذا يتطلب بطبيعة الحال انضواء إسرائيل ضمن التحالف العربي/الاسلامي وهو ما يعني أيضا ضرورة البحث عن حل – ولو مرحلي – للنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي، وهو النزاع الذي يعتبر من أهم عوامل عدم الاستقرار الإقليمية، خصوصاً وأن الصراع مع إسرائيل يرتبط بشكل ما بالتعاطي مع إيران؛ حيث أثبت التاريخ الحديث أنه وكلما زاد الضغط الأمريكي على إيران، صعدت الأخيرة من تهديدها لإسرائيل من خلال أذرعها الموالية لها كحزب الله في لبنان، أو فصائل المقاومة الفلسطينية كحركة الجهاد الإسلامي، وإلى حد ما حركة حماس.

(ج) إدماج الكيان الصهيوني:

أشارت بعض التقارير مؤخراً إلى أن بعض الدول العربية (خصوصاً دول الخليج) قد عرضت على إسرائيل حزمة من الامتيازات التطبيعية – من قبيل السماح للشركات الإسرائيلية بالعمل في الأسواق الخليجية، والسماح للطيران الإسرائيلي بالعبور فوق الأجواء الخليجية – في مقابل تقديم إسرائيل بعض التنازلات التي تتعلق بإبطاء إنشاء المستوطنات، وتخفيف الحصار عن غزة34. ويبدو أن زيارة الرئيس ترامب إلى المنطقة والتي تمت في مايو/أيار 2017 ستشكل البداية الحقيقية لتشكيل مثل هذا التحالف.

(د) العراق:

يُشكل العراق بالنسبة للولايات المتحدة معضلة نظراً للإرث الكارثي الذي خلفه الغزو الأمريكي وما ترتب عليه من تفسخ للدولة والمجتمع. وتقف ثلاثة ملفات ملحة أمام إدارة الرئيس ترامب بالنسبة للأزمة العراقية، هي: محاربة تنظيم الدولة وحرمانه من مراكز السيطرة والتحكم في المدن الكبرى وخصوصاً الموصل، والتعامل مع الأزمة السياسية في البلاد خصوصاً بعد القضاء على داعش وبروز معضلة التمثيل السني في الحكومة، بالإضافة إلى المسألة الكردية واحتمالية استقلال إقليم كردستان، وأخيرا معضلة النفوذ الإيراني في العراق. لم تفرج إدارة ترامب عن خطة متكاملة لاستراتيجيتها في العراق، إلا أن الرئيس ترامب أكد أن إدارته لن تكتفي بالاستمرار بدعم القوت الحكومية ضد تنظيم الدولة بل ستعمل على زيادتها35. وقد تبلور ذلك بالفعل في الضربات الجوية الأمريكية على غرب الموصل في شهر إبريل الماضي، والتي سقط على إثرها المئات من الضحايا المدنيين.

(هـ) الأزمة اليمنية:

أشارت التقارير إلى أن هناك تزايداً ملحوظاً في الضربات العسكرية الأمريكية ضد تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية مقارنة بما كانت عليه أيام الرئيس السابق أوباما، ففي شهر نيسان/ابريل الماضي وصل عدد الهجمات التي شنتها طائرات بدون طيار على أهدف تعود لتنظيم القاعدة في اليمن إلى ما يقارب 70 غارة36، والتي أسفرت عن وقوع عدد كبير من الضحايا المدنيين وصل إلى ما يقرب من 30 شخصاً37، وهو ما يعكس التغيير الحاصل في قواعد الاشتباك، والتخفيض في التقييدات التي كانت مفروضة بالسابق مراعاة للأماكن المدنية وذلك للتخفيف قدر الامكان من التعرض للأبرياء. وفي ظل التقارب الأمريكي الخليجي بعد زيارة ترامب، والحديث عن الصفقات الهائلة من السلاح، قد يذهب البيت الأبيض لزيادة انخراطه في اليمن سواء من خلال الاستمرار باستخدام الطائرات من غير طيار، أو من خلال زيادة الدعم اللوجستي المقدم إلى التحالف العربي الذي تقوده السعودية لإرجاع الشرعية في اليمن بعد هزيمة الحوثيين.

(و) الأزمة الصومالية:

تبدي إدارة ترامب مزيدا من الاهتمام بالصومال، فبعد مشاركته في المؤتمر الذي عقد في لندن بداية مايو/أيار 2017 لمناقشة الأزمة الصومالية قال وزير الدفاع الأمريكي ماتيس أن للولايات المتحدة دوراً لتلعبه في الصومال وذلك في سبيل هزيمة تنظيم الشباب “الارهابي” والمساهمة في اعادة اعمار البلاد38.

وعلى الأرض تقوم القوات الأمريكية وبالشراكة مع الجيش الوطني الصومالي بعملية عسكرية ضد حركة الشباب المصنفة ارهابية والتي أسفرت حسب المتحدث باسم وزارة الدفاع عن سقوط أول قتيل في صفوف القوات الأمريكية العاملة في المنطقة منذ تسعينيات القرن العشرين39.

2ـ القضايا الآسيوية:

في آسيا، يبدو أن خطر كوريا الشمالية الأكثر الحاحاً من غيره. ففي لقائه مع مجموعة من الدبلوماسيين في البيت الأبيض الاثنين 24 نيسان ابريل 2017، أكد الرئيس ترامب على أن الوقت قد حان لمعالجة المشكلة النووية لكوريا الشمالية40.

(أ) الأزمة الكورية:

يعود تاريخ الأزمة الأمريكية مع كوريا الشمالية للضغط عليها من أجل التخلي عن برنامجها النووي لأكثر من عقدين، فقد تم توقيع عدة اتفاقيات بين البلدين في الأعوام 1994 في ولاية الرئيس بيل كلينتون، و2002 في ولاية الرئيس بوش الإبن، ثم في 2012 في ظل إدارة الرئيس أوباما، وذلك بهدف ثني بيونج يانج عن الاستمرار في تطوير برنامجها النووي، إلا أن جميع هذه الاتفاقيات بما وفرته من حوافز اقتصادية قد فشلت، كما فشلت أيضا العقوبات الاقتصادية والعزل السياسي في الوصول إلى تفاهم مع نظام بيونج يانج؛ وهو الأمر الذي أوصل العلاقة بين البلدين إلى طريق مسدود يكشف عنه التصعيد الخطير في اللهجة بين واشطن وبيونجيانج مؤخراً.

وتنبع الإشكالية في التعاطي مع كوريا الشمالية في الاستراتيجية التي يتبعها هذا البلد والتي تقوم – بالرغم من ضعفه وفقره- على الردع الدفاعي النووي بامتلاكه ما بين ثلاثين إلى أربعين سلاحاً نوويا، قادرة على الوصول إلى اليابان وكوريا الجنوبية وهما حلفاء الولايات المتحدة القويين في المنطقة. والتهديد بضرب اليابان وكوريا الجنوبية بالسلاح النووي يدفع الولايات المتحدة إلى التريث في التعامل العسكري مع كوريا الشمالية، فالضربة العسكرية على بيونج يانج لا تعني إطلاقاً أن التداعيات سوف تقتصر على حدود هذا البلد، بل إنها ستطال الإقليم كله؛ مهددة بحالة من عدم الاستقرار غير مسبوقة، وهنا تبرز استراتيجية كوريا الشمالية بشكل واضح من خلال توظيفها السلاح النووي بأخذ حلفاء الولايات المتحدة كرهائن.

وتدرك الولايات المتحدة خطورة الحل العسكري، ولذلك فهي تسعى للتعاطي مع كوريا الشمالية باتباع سياسة حافة الهاوية من خلال تصعيد الضغط الدبلوماسي على الصين لكي تمارس نفوذها على نظام الرئيس كيم جونغ أون؛ فالصين تعتبر البلد الوحيد الذي يستطيع فعلا أن يضع حدا لبرنامج كوريا الشمالية النووي، وقد ظهر ذلك التصعيد من خلال تصريحات الرئيس ترامب والتي هدد فيها مراراً بالتعامل مع كوريا الشمالية بشكل أحادي الجانب إذا رفضت الصين أن تمارس ضغوطها على الرئيس جونغ أون، وأيضا من خلال الرسالة غير المباشرة التي أوصلها ترامب لنظيرة الصيني شي جينبينج عندما استقبله في منتجع مارالاجو بولاية فلوريدا حيث أطلعه بشكل مباشر على أخبار الضربة العسكرية على سوريا41.

على صعيد آخر، تحاول الإدارة الأمريكية أن تبعث برسائل شديدة الوضوح إلى كوريا الشمالية بأن جميع الخيارات موضوعة على الطاولة ومن ضمنها الخيار العسكري، فقد أرسل ترامب نائبه مايك بنس إلى المنطقة حيث أكد تصميم الولايات المتحدة على الرد بقوة لا متناهية على أي اعتداء لكوريا الشمالية على حلفاء واشنطن في الإقليم42.

بالإضافة إلى المناورات العسكرية التي تجريها الولايات المتحدة مع كل من اليابان وكوريا الجنوبية حيث توجهت حاملة الطائرات الأمريكية USS Carl Vinson للمشاركة في تدريبات تكتيكية بالقرب من الفليبين مع كل من اليابان وكوريا الجنوبية43. هذا بالإضافة إلى أن واشنطن وفي استعراض ملفت للأنظار أعادت التأكيد على جهوزية برنامجها الصاروخي العابر للقارات من خلال إجرائها تجربة على صاروخ عابر للقارات من طراز Minuteman III والذي يبلغ مداه 4000 ميل44.

وإذا كانت مناورات كوريا الشمالية ليست بالجديدة، فإن الجديد هو وجود رئيس في البيت الأبيض لا يمكن التنبؤ بقراراته، وهو ما يجعل مستوى الخطورة عالٍ جداً، وهنا تبرز الأهمية القصوى للدور الذي يمكن أن تمارسه الصين في تهدئة الأوضاع. فكما حدث في فترة الحرب الباردة عندما أدى الخط الساخن بين موسكو وواشنطن لتجنيب العالم حرب نووية في أكثر من واقعة (أبرزها أزمة الصواريخ الكوبية)، فإن من شأن خط ساخن بين بيجين وواشنطن أن يلعب ذات الدور خصوصاً مع تأكيدات نيكي هيلي – مندوبة الولايات المتحدة مجلس الأمن – من أن الصين تستجيب من خلال ممارسة ضغوط متزايدة على كوريا الشمالية45.

(ب) الأزمة الأفغانية:

في أفغانستان، وحسب ما أوردته صحيفة الواشنطن بوست، فإن إدارة الرئيس ترامب تعكف على احداث تحول جذري في استراتيجيتها القتالية ضد طالبان تتضمن زيادة الحضور العسكري الأمريكي في البلاد، والسماح للبنتاجون بدلا من البيت الأبيض بأخذ سلطة ارسال مزيد من الجنود، واعطاء السلطة العسكرية الاوسع نطاقا لاستخدام الضربات الجوية لاستهداف مقاتلي طالبان46 (وقد ظهرت أولى ملامح هذه الضربات الجوية باستخدام ما يسمى بأم القنابل، القنبلة ذات القدرة التدميرية الأكبر في إطار القوه غير النووية، في قصف بعض التجمعات البشرية بشكل مفاجئ وبدون سابق إنذار). ومن شأن الخطة المقترحة أن تحدث قطيعة مع استراتيجية الرئيس السابق أوباما والتي كانت تهدف إلى التقليل من الانخراط العسكري الأمريكي، وتسليم المسؤوليات الأمنية للقوات المحلية والتي أثبتت انها غير قادرة على التصدي لمقاتلي طالبان لأسباب كثيرة، منها المستوى العالي من الفساد الذي ينخر قيادتها العليا.

وتهدف زيادة الانخراط العسكري حسب الخطة المقترحة إلى اجبار حركة طالبان على الجلوس إلى طاولة المفاوضات من جديد. وتأتي الزيادة العددية لجنود المارينز في افغانستان والتي قد تبلغ ما يقارب 8000 جندي بعد الانجازات الأرضية التي حققتها حركة طالبان خصوصاً في ولاية هلمند الأمر الذي أصبح يشكل تهديداً حقيقياً على الحكومة الموالية للولايات المتحدة في كابل. ويعد مستشار الأمن القومي ماكماستر الذي قاد يوما قوات مكافحة الفساد في افغانستان القوة الدافعة وراء الخطة الجديدة، ومن المرجح أن يتم الافصاح عنها من قبل الرئيس ترامب في أعقاب قمة الناتو والتي جرت في أواخر مايو ، 2017، هذا بالرغم من معارضة وزارة الخارجية على الخطة وبعض الأصوات داخل البيت الأبيض مثل كبير المستشارين ستيفن بانون الذي يخشى أن هذه الخطة المكلفة لن تنجح47.

 

الخلاصة

مع استمرار تصاعد النزاعات الدولية في مناطق اهتمام الولايات المتحدة دون ظهور افاق للحلول السياسية في أي منها، يتضح أن هناك تصاعدا وتغيرا جوهريا في انخراط الولايات المتحدة عسكريا في كل المناطق، وعلى نطاق جغرافي واسع، ولعل هذه الدلائل توجت بطلب إدارة ترامب زيادة موازنة الإنفاق العسكري بشكل غير مسبوق بمقدار 54 مليار دولار للعام القادم دفعة واحدة لكي تستطيع تلبية كل هذه الاحتياجات، مما يشكل بوضوح تحولا نحو العسكرة والسياسة التدخليه في الخارج، مقارنة باستراتيجية أوباما بالقيادة من الخلف.

وذلك يعود إلى الطبيعة الشخصية للرئيس، بالإضافة إلى تركيبة إدارته التي يتمتع فيها مجموعة من الجنرالات بنفوذ كبير، كما يلعب التيار الشعبوي الذي يقوده كبير مستشاري البيض الأبيض بانون دوراً مهماً في التحريض على الحرب بناء على منطلقات أيديولوجية.

وعلى جانب آخر، قد تلعب الأزمات الداخلية التي يواجهها ترامب وعلى رأسها قضية التعامل مع روسيا، والفشل في أغلب الملفات الداخلية وتدني شعبية ترامب بشكل غير مسبوق لأي رئيس أمريكي أخر، دوراً مهماً في الإتجاه نحو ترحيل الأزمات الداخلية إلى الخارج (سياسة الهروب إلى الأمام) من خلال زيادة الانخراط العسكري في الجبهات المفتوحة أصلا في كل من العراق وسوريا وافغانستان واليمن والصومال، أو من خلال فتح جبهات أخرى في كوريا الشماليه على سبيل المثال.

ومن المهم الإشارة إلى أن زيادة انخراط الولايات المتحدة في الأزمات الخارجية لن يكون اعتباطياً، فوجود شخصيات وازنة في إدارة الرئيس ترامب (ماتيس وماكماستر) تتمتع بخبرة طويلة وتاريخ عسكري كبير، بالإضافة إلى عقلانية واضحة، يؤشر على أن تدخل إدارة ترامب العسكري سيكون مدروساً بشكل جيد، وهذا ينطبق بشكل أساسي في محاولة تحديد الهدف السياسي من كل عملية عسكرية تسعى إدارة ترامب إلى القيام بها (و هي عمليه يبدو أنها لم تكتمل حتى الان)، إلا أن طبيعة شخصية ترامب، والأزمات الداخلية المتصاعدة، فضلا عن طبيعة الصراعات الدولية، والضغوط التي قد يمارسها بعض حلفاء أمريكا كدول الخليج مثلا للتصعيد ضد إيران، أو الطبيعة المتهورة لبعض خصوم أمريكا أمثال رئيس كوريا الشمالية، قد تدفع بتصاعد عسكري سريع خارج نطاق السيطرة، وهو ما يحدث عادة في الصراعات الكبري والحروب العظمى(48).

——————————————-

الهامش

(1)Lebow, Richard., 2010. Why Nations Fight. New York: Cambridge University Press, p: 211.

(2) Mearsheimer J, John,2014. The Tragedy of Great Power Politics, the United States: University of Chicago.

(3) للمزيد انظر؛ يمنى سليمان. توجهات السياسية الخارجية عند دونالد ترامب. سلسلة دراسات سياسية، المعهد المصري للدراسات، مايو 21،2017.

(4) Read more; By Dan P. McAdams. THE MIND OF DONALD TRUMP: Narcissism, disagreeableness, grandiosity—a psychologist investigates how Trump’s extraordinary personality might shape his possible presidency. The Atlantic, June 2016.

(5) AUSTIN WRIGHT and JEREMY HERB, Mattis breaks with Trump on Iran, Russia, POLITICO, January 12, 2017.

(6) Shirzad Bozorgmehr, Sara Mazloumsaki and Angela Dewan. Iran world’s ‘biggest state sponsor of terrorism,’ Mattis says. CNN, February 4, 2017.

(7) See more; Dave Barno. Major General Herbert Raymond McMaster. Time, April 23, 2014. Access into internet 14/5/2017

(8) See more; Who is HR McMaster, Trump’s new national security adviser?, BBC, February 20,2017. Access into internet 15/5/2017.

(9) See more; Evan Perez. National security adviser: Term ‘radical Islamic terrorism’ isn’t helpful. CNN, February 26, 2017. Access to internet on 15/5/2017.

(10) See more; Tim Hains. National Security Advisor H.R. McMaster: Russia Can Still Be “Part Of The Solution” In Syria. Real Clear Politics, April 9, 2017. Access into internet on 15/5/2017.

(11) See more; John Walcott. Trump’s new security advisor differs from him on Russia, other key issues. Reuters, February 22, 2017. Access into internet on 15/5/2017.

(12) Read more, Lt. Gen. H.R. McMaster on foreign policy; Sen. Schumer on President Trump’s first 100 days. Fox News, April 30, 2017. Access into internet 15/5/2017.

(13) Ibid

(14) See more; Missy Ryan and Greg Jaffe. Military’s clout at White House could shift U.S. foreign policy. Washington Post, May 28, 2017. Access into internet on 28/5/2017.

(15) Read more; Gwynn Guilford and Nikhil Sonnad. UNDER THE BANNER OF BANNON. What Steve Bannon really wants. QUARTZ, February 03, 2017. Access into internet 16/5/2017.

(16) Read more; Remarks of Stephen Bannon at a Conference at the Vatican. The American Catholic, November 18, 2016. Access into internet 16/5/2017.

(17)للمزيد انظر: عمرو دراج، سياسات ترامب: ضد الإخوان أم ضد الإسلام؟ المعهد المصري للدراسات، فبراير 23، 2017.

(18) See moe; SARAH ELLISON. STEVE BANNON ISN’T THROUGH WITH TRUMP YET. VANTY FAIR, April 12, 2017. Access into the internet 16/5/2017.

(19) See more; T.A. FRANK. CAN TRUMP AFFORD TO DIVORCE HIS “DEPLORABLES”?. VANTY FAIR, April 12, 2017. Access into the internet 16/5/2017.

(20) See more; Dan Balz and Scott Clement. Nearing 100 days, Trump’s approval at record lows but his base is holding. Washington Post, April 30, 2017. Access into 19/5/2017.

(21) للمزيد انظر: عمرو درّاج ونبيل عودة. ترامب بعد مائة يوم: المسارات والسيناريوهات. المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، مايو/أيار 10، 2017.

(22) See more; “Trump’s Approval Rating Drops to New Low of 36%”, GALLUP, March 27, 2017. Access into internet on 16/5/2017.

(23) See more; Hadas Gold. News outlets shut out of Trump meeting with Russians. THE GLOBAL POLITICO, May 10, 2017. Access into internet on 16/5/2017

(24) See more; Kevin Liptak. Trump hosts Russians, Kissinger at White House day after Comey firing. CNN, May 10, 2017. Access into internet on 16/5/2017.

(25) See more; Greg Miller and Greg Jaffe. Trump revealed highly classified information to Russian foreign minister and ambassador. Washington Post, May 15, 2017. Access into internet 16/5/2017.

(26) Know more; Press Briefing with National Security Advisor H. R. McMaster. The White House, May 16, 2017. Access into internet on 17/6/2017.

(27) Read more; Dan Balz. As Trump’s woes mount, congressional Republicans arrive at a moment of reckoning. The Washington Post, May 16, 2017. Access into internet on 17/5/2017.

(28) See more; TIM MARCIN. AMERICANS SUPPORT IMPEACHING DONALD TRUMP MORE THAN THEY OPPOSE IT, POLL FINDS. Newsweek, May 16, 2017. Access into internet on 18/5/2017.

(29) See more; Marc Fisher. How dangerous are the cracks emerging in Trump’s wall of support? Washington Post, May 17, 2017. Access into internet on 18/5/2017

(30) See more; Dan Balz. As Trump’s woes mount, congressional Republicans arrive at a moment of reckoning. Washington Post, May 17, 2017. Access into internet on 18/5/2017

(31) See more; Bradford Richardson. Haley: Trump can ‘fire whoever he wants. The Washington Times, May 14, 2017. Access into internet on 18/5/2017.

(32) للمزيد أنظر، عمرو دراج، الضربة الأميركية: هروب ترامب إلى الأمام، المعهد المصري للدراسات، 7 أبريل، 2017.

(33) Listen more; Press Briefing with National Security Advisor H. R. McMaster. The White House, May 16, 2017. Access into internet on 19/5/2017.

(34) Read more; Jay Solomon, Gordon Lubold and Rory Jones. THE WALL STRET JOURNAL, May 15, 2017. Access into internet on 19/5/2017.

(35) See more; CRISTINA SILVA. TRUMP ON IRAQ WAR: U.S. ‘SHOULD NEVER EVER HAVE LEFT’. Newsweek, March 31, 2017.

(36) See more; Terri Moon Cronk. U.S. Airstrikes Hit Terrorists in Yemen. U.S Department of Defense, April 3, 2017. Access into internet on 22/5/2017.

(37) See more; COREY DICKSTEIN. US launches more airstrikes targeting al-Qaida in Yemen. STARS AND STRIPS, April 3, 2017. Access into internet on 22/5/2017.

(38) See more; Jim Garamone. Mattis ‘Heartened’ After Attending Somalia Meeting in London. U.S Department of Defense, May 13,2017 access into internet on 22/5/2017.

(39) See more; U.S. Service Member Dies During Somalia Operation. U.S Department of Defense, May 13,2017 access into internet on 22/5/2017.

(40) See more; Ben Kesling. Trump Urges U.N. to ‘Solve the Problem’ of North Korea’s Weapons Program. The Wall Street Journal, April 24, 2017.

(41) See more; Trump Administration to Take Harder Tack on Trade With China. New York Time, April 6, 2017. Access into internet on 19/5/2017.

(42) See more, Joshua Berlinger and James Griffiths. Vice President Mike Pence gives stern warning to North Korea. CNN, April 19, 2017. Access into internet on 19/5/2017.

(43) See more, Junko Ogura and Susannah Cullinane. North Korea threatens to sink US aircraft carrier. CNN, April 24, 2017. Access into internet on 19/5/2017.

(44) See more; Ryan Pickrell. U.S. Military Shows North Korea What a Real Nuclear-Capable ICBM Looks Like. The National Interests, April 26, 2017. Access into internet on 19/5/2017

(45) See more; UN AMBASSADOR NIKKI HALEY: CHINESE PRESSURE ON NORTH KOREA ‘WORKING’. ABC News, April 24, 2017. Access into internet on 19/5/2017.

(46) Missy Ryan and Greg Jaffe. U.S. poised to expand military effort against Taliban in Afghanistan. Washington Post, May 8, 2017. Access into internet on 22/5/2017.

(47) See more; Missy Ryan and Greg Jaffe. Military’s clout at White House could shift U.S. foreign policy. Washington Post, May 28, 2017. Access into internet on 28/5/2017.

(48) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close