fbpx
تقديرات

أزمة الاقتصاد المصري : المؤشرات -الأسباب – الحلول

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

 (1) تمهيد

أخر تعديل للموضوع  يوم 17 مايو 2016

تصور المؤشرات الاقتصادية الحالة التفصيلية التي يمر بها الاقتصاد في أي دولة، ولا شك أن تتبع المؤشرات المصرية يدلل على حالة التراجع العام التي أصابت الاقتصاد المصري علي كافة الأصعدة، والتي يمكن ان يطلق عليها فشلاً في إدارة الملف الاقتصادي والذي ولا شك ستؤثر تبعاته على الأحوال السياسية والاجتماعية.

يعد ضعف الإنتاج هو المرض الرئيس للاقتصاد المصري، تنبثق منه مجموعة من الأعراض يشكوا من آلامها الجماهير، وتحاول السياسة الاقتصادية بجناحيها المالي والنقدي (في الأجل القصير) التخفيف من تلك الأعراض مرحلياً، ولكن تبقي الخطط الاستراتيجية المتوسطة والطويلة الأجل هي الأمل نحو العبور نحو الرفاهة.

وتحاول هذه الورقة أن تستعرض في البداية أهم المؤشرات الاقتصادية المصرية التي يمكن الاستناد عليها في توصيف الأزمة الاقتصادية المصرية، ثم استعراض أهم الأسباب التي أدت اليها، وذلك في إطار محاولة قولبة إطار فكري للتنمية الاقتصادية في مصرفي أوراق أخري بإذن الله تعالي.

أولاً- المؤشرات الاقتصادية الكلية:

يعاني الاقتصاد المصري من تراجع حاد تعكسه كافة المؤشرات الاقتصادية، ونتعرف على الأوضاع الداخلية للاقتصاد من خلال الموازنة العامة للدولة، وحالات التوازن أو العجز أو الفائض التي تعتريها، ولا شك أن حالة العجز سيصحبها قروضاً عامة سواء داخلية أو خارجية.

أما ميزان المدفوعات فيصور العلاقات الاقتصادية للدولة مع العالم الخارجي، وما يرتبط بذلك من توافر للعملات الأجنبية، واحتياطيات بالنقد الأجنبي تعتمد عليها الدولة في تمويل الواردات.

ويمكن تتبع ذلك كما يلي:

  • تطور عجز الموازنة العامة:
  • عام 2012/ 2013 بلغ العجز الكلى بالموازنة7.239 مليار جنيه للعجز بالموازنة رغم (منح 2.5 مليار جنيه + 20% من الصناديق الخاصة)
  •  عام 2013/2014بلغ 4.255 مليار جنيه رغم (9.95 مليار جنيه منح + 35 % من ايرادات الصناديق الخاصة)
  •  عام 2014/2015 زاد العجز الكلى بالموازنة إلى 4.279 مليار جنيه رغم (منح بلغت 4.25 مليار جنيه، ورغم انخفاض أسعار البترول عالميا مما خفض من دعم الطاقة).
  • تشير بيانات الربع الأول والثاني من العام المالي 2015/2016 الي حتمية تخطي العجز 300 مليار جنيه خاصة في ظل انخفاض قيمة الجنيه وما يعنيه من زيادة فاتورة السلع التموينية (على الرغم من استمرار انخفاض أسعار النفط والغذاء عالميا، وخفض دعم الكهرباء)
  • عجز الموازنة والافراط في الاقتراض الداخلي والخارجي: فالاقتراض سواء داخلياً أو خارجياً يؤدي الي: تصدير المشكلة الاقتصادية للأجيال القادم، ومزاحمة الدولة للقطاع الخاص على المدخرات المحلية، كما أن شروط القرض الخارجي قد يترتب عليها الاجبار على سياسات اقتصادية تضر بفئات معينة خاصة الطبقات الفقيرة، أو تدعم التبعية الاقتصادية.

لذلك يجب أن توجه القروض نحو مشروعات استثمارية ذات جدوى اقتصادية وقومية، ذات عوائد تغطي الأصل والفوائد، والابتعاد عن تمويل العجز الجاري في الموازنة العامة للدولة بالقروض.

عملياً قدرت وزارة المالية المصرية، ارتفاع الدين العام الداخلي والخارجي، خلال العام المالي الحالي (2015/ 2016)، إلى نحو 2.5 تريليون جنيه (نحو 323 مليار دولار أمريكي)، بما يعادل 90% من الناتج المحلي الإجمالي.

وأشارت التقديرات أن الدين الداخلي سيبلغ 2368.5 مليار جنيه، بما يعادل 83.5% من الناتج المحلي، فيما يبلغ الدين الخارجي 182.8 مليار جنيه، بما يعادل 6.5% من الناتج المحلي. وبذلك يكون إجمالي الدين 2551.3 مليار جنيه، في نهاية مارس 2016.

وبذلك يمكن القول إن ارتفاع الديون المحلية خلال الفترة الأخيرة بوتيرة غير مسبوقة في تاريخ مصر له انعكاسات سلبية خطيرة على الوضعين الاقتصادي والاجتماعي وأداء الموازنة العامة للدولة، خاصة في ظل التوقعات بارتفاع الديون إلى ما يقترب من 2.9 تريليون إلى 3 تريليونات بنهاية العام الجاري 2016 – نتيجة لارتفاع العجز في الموازنة العامة للدولة، والانخفاض المستمر في قيمة الجنيه المصري. ويزداد الأمر سوءاً بإضافة الصفقات والوعود بالقروض التالية:

1ـ موافقة مجلس النواب على صفقة الرفال في مارس 2016 والتي تقدر قيمتها ب 5.625.900 مليار يورو، 60% منها قرض من مجموعه بنوك فرنسية بقيمة 3.375.540 مليار يورو لصالح وزارة الدفاع المصرية ” وعلى مصر ان تدفع بنفسها ال 40 % المتبقية من قيمه هذه الصفقات علماً بأن هذا القرض مضمونه من قبل وزارة المالية المصرية.

2ـ وقعت مصر مع السعودية اتفاقية للحصول على قرض بقيمة 1.5 مليار دولار لتنمية شبه جزيرة سيناء، و1.2 مليار دولار لتمويل مشتريات البترول، إضافة إلى منحة بقيمة 500 مليون دولار لشراء منتجات وسلع سعودية.

3ـ في ابريل 2016 أعلنت دولة الإمارات عن تخصيص أربعة مليارات دولار” دعما لـمصر، نصفها وديعة في البنك المركزي لدعم الاحتياطي النقدي والنصف الآخر في صورة استثمارات.

4ـ اقتراض هيئة قناة السويس 1.4 مليار دولار من البنوك الوطنية، وإعلان الهيئة في مايو الجاري عن التفاوض مع عدد من البنوك الوطنية، للحصول على قرض جديد بقيمة 600 مليون يورو.

يضاف الي ما سبق بعض الاتفاقيات المبرمة مع صناديق عربية وافريقية إضافة الي صندوق النقد الدولي نفذت أجزاءً من بعضها، مما ينذر بوصول الديون الخارجية حدودا تفوق قدرات الدولة علي السداد، وربما نعيش بالفعل شبح الإفلاس.

ب – أوضاع ميزان المدفوعات:

يتكون ميزان المدفوعات من موازين فرعية هي الميزان التجاري، والميزان الخدمي الذي يصوران المعاملات السلعية والخدمية للدولة مع العالم الخارجي (ويجمعان فيما يسمي ميزان المعاملات الجارية)، يضاف اليه ميزان المعاملات الرأسمالية (قروض – منح – هبات – استثمارات) ليكتمل ميزان المدفوعات.

1ـ حقق ميزان المعاملات الجارية عجزا بلغ 9.18 مليار دولار خلال الشهور السبع والعشرين، الممتدة من يوليو 2013 وحتى سبتمبر 2015. (4.7 مليار دولار فائض الميزان الخدمي + 6.56 مليار دولار فائض ميزان التحويلات بنوعيها الرسمية والخاصة – 8.82 مليار دولار عجز الميزان التجاري = –  9.18 مليار دولار) خلال نفس الفترة.

2ـ حقق ميزان المدفوعات فائضاً ضئيلاً بلغ 5.1 مليار دولار فقط خلال نفس الفترة، فاذا اعتبرنا أن القروض والودائع والتسهيلات والمعونات الرسمية التي حصلت عليها الدولة والمقدرة بنحو 7.41 مليار دولار هي أمور استثنائية ‘فالعجز يجب أن يقدر بحوالي 40 مليار دولار خلال نفس الفترة.

أما بالنسبة لأوضاع ميزان المدفوعات في العام المالي الحالي: ارتفعت نسبة العجز في الحساب الجاري بأكثر من الضعف حيث بلغت 8.9 مليار دولار خلال النصف الأول من العام المالي الحالي، مقابل 4.3 مليار دولار في نفس الفترة من العام السابق.

ولا شك أن ارتفاع نسبة العجز يعكس خللاً هيكلياً، ويزيد من مخاطر الضعف الخارجية، كما أن ارتفاع عجز الحساب الجاري في مصر يعكس عجزا تجاريا هيكليا، وانخفاض فائض ميزان الخدمات وتراجعا حادا في صافي الإيرادات.

وترجع الأسباب الرئيسة لهذا العجز الي ما يلي: تراجع ايرادات الصادرات السلعية، مع استمرار تزايد الواردات، وضعف الاستثمارات بنوعيها المباشرة وغير المباشرة، وتراجع حصيلة الاستثمار الأجنبي الداخل وتزايد الخارج، وتراجع الإيرادات السياحية، واستمرار مدفوعات السياحة المصرية للخارج، وتزايد قيم أقساط الديون.

ج – الاحتياطي الأجنبي وتراجع قيمة الجنيه:

تزايد العجز بالميزان التجاري السلعي وانخفاض الفائض في ميزان الخدمات، وتراجع الموارد الرئيسية للعملة الأجنبية خاصة السياحة كانت السبب الرئيس في استنزاف احتياطيات العملات الأجنبية، حتى بات احتياطي مصر من النقد الأجنبي بالسالب، وهو ما يعنى أن ديون البنك المركزي المصري بالنقد الأجنبي تفوق صافي أصوله الأجنبية، وأن الالتزامات المستحقة على البنك تفوق ما لديه من عملات أجنبية خاصة بالدولار. وهو ما يعكس كذلك توافر احتياطيات تكفي شهرين فقط من الواردات.

وما يمكن التأكيد عليه أن الارتفاعات الطفيفة التي تحدث للاحتياطات من النقد الأجنبي تعود في الأساس الي القروض والمنح والمعونات وليس الي أي تحسن في الأوضاع الاقتصادية.

ويمكن تتبع أرصدة الاحتياطيات النقدية كما يلي:

  • انخفضت أرصدة الاحتياطيات من 35 مليار دولار في يناير 2011، إلى 5.15 مليار دولار في يونيو 2012 بانخفاض بلغ 9.19 مليار دولار.
  • بنهاية يونيو 2013 ارتفع الاحتياطي الي 19 مليار دولار.
  • في نهاية سبتمبر 2015 انخفضت الاحتياطات الدولية الي 16.33 مليار دولار، مقابل 18.09 مليار دولار في نهاية أغسطس 2015.
  • بنهاية ابريل 2016 ارتفعت قيمة الاحتياطي إلى 17.01 مليار دولار مقابل 16.56 مليار دولار في نهاية مارس
  • استنزاف الأصول الأجنبية داخل الجهاز المصرفي (البنوك والبنك المركزي)، حيث انخفضت من 6.17 مليار دولار إلى 3.1 مليار دولار فقط بنهاية سبتمبر 2015، بنقص 3.16 مليار دولار، بل أن صافي الأصول الأجنبية لدى البنك المركزي، تحول إلى الجانب السلبي بداية من شهر سبتمبر 2015.

سعر صرف الجنيه المصري:

استمرار التراجع في كافة المؤشرات الاقتصادية كان طبيعياً أن ينعكس على قيمة العملة الوطنية، فبينما كان سعر الصرف الرسمي 99.6 جنيه في يوليو 2013، ارتفع في نهاية عام 2015 ليبلغ 73.7 جنيه للدولار.

وفي مارس 2016خفض البنك المركزي المصري قيمة الجنيه رسميا بنسبة 14.3% ليصبح سعر بيع الدولار في البنوك 8.95 جنيهات بدلا من 7.83 جنيهات.

السوق السوداء:

لم تفلح إجراءات البنك المركزي في كبح جماح الهامش بين السعرين الرسمي وغير الرسمي، (ومنها وضع سقف للإيداع اليومي الدولار بنحو عشرة آلاف دولار، وسقف شهري للإيداع الدولاري خمسين ألف دولار، ورفع الفائدة على شهادات الإيداع بالجنيه المصري، ورفع نسبة تدبير المستوردين لقيمة الصفقات الاستيرادية إلى مائة بالمائة، وغيرها من الإجراءات وصولاً الي الخفض التاريخي لقيمة الجنيه المشار اليه) الا أن السعر غير الرسمي يتزايد باضطراد حتى بلغ حواف 12 جنيه، ومن المتوقع بلوغه 15 جنيه بنهاية العام وذلك وفق أنباء بشأن اتفاق مع صندوق النقد الدولي لخفض قيمة الجنيه بنحو 35% من قيمته بحلول عام 2016، وكان انخفاض مارس الماضي جزء منها.

مع التأكيد على أن مسار الصعود المتعرج طبيعياً سواء لجني الأرباح من قبل المضاربين، أو للتأثير المؤقت للمساعدات الخارجية، وفي بعض الأحوال التصرف في بعض المدخرات لصغار المدخرين الذين اضطروا للدولرة كأداة استثمار سريعة العائد.

ثانياً: أسباب استمرار أزمة مصر الاقتصادية:

لا شك أن الاقتصاد المصري كان يعاني قبل ثورة يناير من مجموعة من الاختلالات الهيكلية، وأن استمرار بعضها قد يبدو طبيعيا تحت أية إدارة اقتصادية، ولكن الملاحظ هو تنامي الأزمة علي كافة المؤشرات، وأضحي التراجع الاقتصادي كأنه قدر لا فكاك منه، وكذلك فان حجم المساعدات والمعونات والقروض التي حصل عليها النظام كان غير مسبوقاً، بل ويعتبره كثيرون كافيا للبدء في اصلاح اقتصادي حقيقي، لا ينعكس فقط في صورة تحسن في المؤشرات الاقتصادية لكنه ينعكس كذلك علي مستوي معيشة المواطن البسيط والخدمات الحكومية المقدمة للجميع، والمؤكد ليس فقط أن كليهما لم يتحقق، ولكن أيضا تفاقم الأزمة.

لذلك كانت هذه المحاولة في البحث عن أهم أسباب استمرار الأزمة وانعدام بوادر الحلول مما بدأ فعلاً حالة من السخط العام آخذة في التنامي المستمر، وتأتي هذه المحاولة في إطار استخلاص الدروس التي يجب تجنبها مستقبلاً، وذلك كما يلي:

(أ) غياب الرؤية الاقتصادية:

تحدد الرؤية التوجه المستقبلي للدولة، على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، سواء من حيث النظام المتبع، والمذهب المطبق، أو المكانة التي تريد أن تحتلها الدولة في المستقبل. فالرؤية باختصار هي الحلم المطلوب تحقيقه.

الرؤية الجيدة هي القادرة على استشراف الغد، والسباق نحو التميز والريادة، والسعي نحو نيل المراتب الأولى، وذلك من خلال تبني ممارسات إنسانية وإدارية ومهنية ناجحة، تسهم في ديمومة التجربة السياسية وتألقها الاقتصادي وريادتها الإدارية والمهنية.

ومن خلال الرؤية يتم تحديد مجالات الأنشطة الأكثر أولوية، ومدي الترابط فيما بينها، ووضوح صورة المطلوب انجازه، فتنتج الانتعاش على كافة الأصعدة.

واعتماد الرؤية ما هو إلا بداية فقط لرحلة مليئة بالتحديات والصعوبات والمسؤوليات والمهام، وتبقى قدرة الأجهزة الحكومية على التنفيذ المحدد الرئيس لترجمة الرؤية إلى واقع، والذي لن يكون فعالاً إلا بمعايير جودة وتقييم ورقابة من مختلف الجهات وأطراف المجتمع المعنية ومحاسبة عالية وشفافة.

عدم تطبيق ما سبق على الحالة المصرية أنتج مشروعات مبعثرة لا يربطها إطار كلي، ففقدت الوفورات الخارجية والداخلية، وامكانيات التكامل بين المشروعات أماماً وخلفاً، كما أنها لا تخضع لنظام ومذهب اقتصادي بعينه، ولا يتم اختيارها وفق أولويات مجتمعية نابعة من رؤية ما، ولا وفقاً لاستراتيجية معينة، سواء أكانت تستهدف كفاية الإنتاج المحلي وكفاءته طبقاً لمعايير الجودة المتفق عليها، أو حتى تتوجه نحو المنافسة الدولية في مجالات تختار بعناية، بل تم التغييب المتعمد لأبسط قواعد المحاسبة والشفافية.

كل ذلك أفرز ناتجاً اقتصادياً لا يتناسب اطلاقاً مع حجم التدفقات الخارجية الي الاقتصاد القومي، ولا مع طموحات الجماهير وتطلعاتها، ولا حتى مع أبعاد المأساة الاقتصادية التي يعيشها نصف المصريون على الأقل.

(ب) الاعتماد على الهيئة الهندسية للقوات المسلحة:

الجيش المعفى من الضرائب والجمارك، المستولي على المجهود الذهني والبدني لمجنديه، ينافس وحيداً في ميدان الأعمال، مدعوماً بقوانين سلطانية تمنع مراقبته أثناء التنفيذ والتسليم، أو حتى من معرفة تفاصيل العقود، وأسعارها، بل وتعطي الحق في الاسناد المباشر دون مناقصات أو مزايدات، وتمنع الحق في الطعن على العقود المبرمة ان تسربت بعض المعلومات. بالإضافة الي استيلاءه على أراضي الدولة والذي يعتبر من أخطر أسباب التراجع الحضاري والاقتصادي لمصر.

ولذلك آثار خطيرة على الاقتصاد المصري ومنها:

  • مضاعف شبه صفري للاستثمار:

أول ما يجب التنبه اليه عند المفاضلة بين المشروعات علي أسس اقتصادية – خاصة في مراحل الركود الاقتصادي-  هو مضاعف الاستثمار لهذا المشروع، والذي يعني قدرة المشروع على نقل المال المستثمر جزئياً الي مشاريع أو أفراد آخرين، حيث يعتبر ضخ كمية المال المستثمر في المشروع محل الاختيار حقناً متعدداً للاقتصاد وليس لمرة واحدة.

فاذا كان المنفذ للمشروع عديم المضاعف فهو جيب اقتصادي يبتلع المال المستثمر، ولن يستفد الاقتصاد بأكثر من المشروع نفسه.

وللأسف يعتبر تنفيذ الجيش للمشروعات الاقتصادية المثال النموذجي للمضاعف شبه الصفري، وفيه يبتلع الجزء الأكبر من المال المستثمر داخل جيب اقتصادي لا نعرف علي وجه التحديد أين يحتفظ بمدخراته.

  • جودة التنفيذ والقدرة على المساءلة:

الدولة المصرية تدفع مقابلاً بسعر السوق للهيئة الهندسية مقابل كل مشروع يسند اليها لتنفيذه، ولكن للأسف نتيجة كثرة المشروعات والمبالغة في القدرات (سواء من حيث حجم العمالة أو المهندسين أو حتى الآلات) وسلق الدراسات تكون النتائج من عينة انهيار أربعة كباري بعد عام واحد فقط من تشييدها، أو إنفاق مليارات على أنفاق وكباري لحل أزمة مرورية في نقطة مكانية معينة. وبعد البناء نجد أنها والعدم سواء، ويزداد الأمر سوءاً مع انعدام القدرة على المساءلة.

وحينما تعترف الهيئة بمحدودية قدراتها تلجأ الي مقاولي الباطن، تشاركهم الهيئة الربح، ولا يخفي أن ربح الهيئة سيقتطعه مقاول الباطن من أجور عماله ومهندسيه ومن جودة التنفيذ، فاذا علمنا أنه في معظم المقاولات -خاصة الكبرى منها-  أن سلسلة مقاولي الباطن تمتد الي ثلاثة وفي أحيان أربعة مقاولين، لنتخيل كم سيبقي للعمال الفعليين ولجودة تنفيذ المشروع. وللأسف في هذه الحالة تصبح الهيئة الخصم والحكم في نفس الوقت.

  • تكلفة الفرصة البديلة:

هذه النقطة تخص مشروعات ملك الجيش يدبر رؤوس أموالها دون أن يكلف خزينة الدولة، ورغم ذلك تضيع علي الدولة فرصة التخصيص الأفضل اقتصادياً للمورد النادر نسبياً وهو رأس المال. فللأسف يستثمر الجيش أمواله في الفنادق والأندية ومصانع المواد الغذائية، مضيعاً على الوطن فرصة الاستنبات التكنولوجي الذي هو صنيعة الجيوش في كل دول العالم، هذا بخلاف الأرباح الضخمة للإنتاج التكنولوجي مقارنة بمصانع المكرونة والمنتجات الغذائية. هذا بخلاف اهدار الموارد في انتاج مكلف اقتصادياً مقارنة بنظيره في السوق الوطني، ثم اجبار بعض المؤسسات العامة على الوقوف في طوابير الشراء اجباراً تحت مسمي انتاج سيادي.

الاشراف والعمل داخل هذه المؤسسات يكون لمجندي الجيش أفراداً وضباطاً سخرةً، والاشراف لمحظوظي الضباط الذين يتقاضون راتباً جديداً فوق الراتب الطبيعي، وذلك يفتح هوة المحسوبية والفساد، ليس فقط في الاسناد الوظيفي بل كذلك في كافة المراحل الإنتاجية بل والمحاسبية. وفي النهاية تذهب الأرباح الي كبار الضباط لتستقر خارج البلاد في نزح مفضوح للموارد الوطنية الشحيحة في الأساس، لتتكرس حالة الفقر داخل الوطن.

(ج) الاحتكار ومعضلة القطاع الخاص:

الاحتكار هو المحصلة المتوقعة من آليات السوق الرأسمالي التي لا يضبطها دور قوي وفعال للدولة، لذلك فقد أنتج الانفتاح الاقتصادي المنفلت مبكراً احتكارات لأغلب السلع، ومع تزايد دور الجيش في المنظومة الاقتصادية أضحت شركاته احتكارية هي الأخرى.

ومع انتشار الفساد وتزاوج رجال السياسة برجال المال بات الاقتصاد المصري احتكارياً بامتياز، سواء على مستوي الإنتاج أو الاستيراد، بل أن معظم السلع الاستراتيجية المستوردة (بل ومنافذ توزيعها) تحتكرها أسماء بعينها. ولعل الاحتكار هو ما يفسر فشل الحكومات المتعاقبة في التحكم في الأسواق، سواء من الناحية السعرية، أو حتى بضمان الجودة وحقوق المستهلك.

ظروف نشأة الطبقة الرأسمالية في مصر جعلتها أقرب الي السماسرة منها الي رجال الأعمال، تتغذي من بيئة الفساد وتتراكم أرباحها منه، وتتخذ قرارتها الاقتصادية بعيدا عن مبادئ الجدوى، مما ساهم في خلل هيكل الملكية، وتشوه الأسعار، اللذان هما هدفا أي اصلاح هيكلي.

وفي ظل القواعد الاحتكارية الراسخة في الاقتصاد المصري، ومهما يكن حجم الحقن المالي من الخارج، لن تجدي أي ممارسات إصلاحية خاصة إذا كانت خارج أطر وقواعد التخطيط الاقتصادي.

وهذا ما نشاهده عملياً الآن، فبرغم المليارات المتدفقة من الخارج لم تفلح الإدارة في التحكم في الأسواق عملياً، أو حتى في افراز سياسات من شأنها التحكم فيها، وذلك لأن الأمر ببساطة يحتاج الي تفكيك هذه الاحتكارات، وإعادة النظر في الدور الذي يمكن أن تؤديه طبقة رجال الأعمال الحالية في مصر، وجدواها، وذلك لا يعني سعي البحث اطلاقاً نحو تفكيك هذه الطبقة، وتأميم أملاكها ، وما شابه من قرارات تناسب عصراٍ شمولياً ينفصل كلياً عن السياقات الدولية مؤسساتياً وفكرياً ، بل فقط التنبيه علي ضرورة التعاطي المختلف مع هذه الطبقة ، بتحديد أدوارها، وتحفيزها سواء للبعد عن أنشطة معينة أو التوجه نحو أنشطة أخري.

مع التأكيد على ضرورة تبني خلق طبقة رأسمالية موازية على أسس من المنافسة السوقية، والتوجهات الاقتصادية القومية، واعتبار المسئولية الاجتماعية للشركات. وأن هذا الطرح هو نقطة البداية بحثياً في هذا الإطار، وينتظر البناء عليه.

(د) عدم الجدية في محاربة الفساد:

الفساد يساهم في زيادة تكلفة ممارسة الأعمال، ويقلل الثقة في العمليات التجارية، ويشوه المنافسة، ويزيد من المخاطر القانونية والتجارية للشركات.

والمأزق الكبير لجهود مكافحة الفساد هو حصرها في التشهير بحالات فساد فردية محدودة، علاوة على الوقوع في فخ التسيس وتسوية الحسابات لتسقيط هذا وترفيع ذاك.

للفساد أسباب عديدة ومتنوعة منها على سبيل المثال: الفردية في فرق العمل، الفساد الإداري، الفساد القانوني، انعدام الاستقلال القضائي، افتقاد الرقابة والمساءلة، طبيعة الأنظمة السياسية الحاكمة، وانهيار الأخلاق، وانتشار الفساد العالمي العابر للقارات.

وتوجد أهمية كبيرة للتضافر بين برامج مكافحة الفساد وبين حزمة الإصلاحات اللازمة لتحسين الأداء التنموي (وذلك من خلال وضوح الأهداف التنموية من برامج مكافحة الفساد من ناحية، وإدخال ضمانات النزاهة ومكافحة الفساد ضمن السياسات التنموية من ناحية أخري) حيث يفيد هذا الربط في تحديد القطاعات والمجالات ذات الأولوية في تخطيط برامج مكافحة الفساد. على سبيل المثال: برامج وخدمات التعليم الأساسي، البرامج والخدمات الصحية، مجالات الإنفاق على المشروعات الكبرى، مجالات حماية المستهلك، مجالات حماية المنافسة والرقابة على الاحتكارات.

بتطبيق ما سبق على الحالة المصرية يتضح عدم اهتمام النظام من الأساس بقضية الفساد، حيث أوجد حزمة تشريعية متكاملة لا تحمي الفاسدين فقط بل بإمكانها بناء أجيال جديدة منهم، علاوة على ابعاد العديد من الهيئات العامة عن الرقابة المالية للدولة (الجيش – الشرطة – القضاء- المخابرات-  مجلس الشعب وهكذا)

(هـ) أزمة أهل الثقة:

منذ عام 1952 كان الاعتماد على أهل الثقة هو السمة الغالبة على الشأن المصري، وبعد رسوخ الأقدام الأمنية في العمل العام أصبح اعداد أهل الثقة أمنياً بامتياز، فيدفعون نحو المناصب وتتم ترقيتهم حسب التقارير الأمنية.

ولعل أزمة الرجال التي يعاني منها النظام في مصر الآن والتي تجعله يعتمد على أصحاب التاريخ الملطخ، ترجع الي أفضال ثوار يناير الذين تسببوا في حرق المجلس العسكري لكثير من الرجال في وقت قياسي، اضافة الي خروج العديد من نطاق الخدمة لأنهم حرقوا جماهيرياً خاصة من رجال الحزب الوطني.

فأزمة الرجال مثلاً هي التي أتت برئيسين للوزراء تحوم شبهات الفساد حولهما، وقائمة طويلة من الوزراء والمتنفذين، بل ورؤساء الأجهزة الرقابية ذوي تاريخ مخزي، بل وعودة بعض رجال الحزب الوطني ليتصدروا المشهد، وفي النهاية لم تجد السلطة غير تعيين رجال الأمن (جيش- شرطة) أنفسهم في المناصب المختلفة، تشير أعداد المحافظين وأعضاء مجلس النواب بوضوح الي تلك الأزمة.

الخلاصة:

رغم استمرار حقن الإنعاش من مساعدات وقروض للاقتصاد المصري والتي وصلت لحدود غير مسبوقة، أفصحت كافة المؤشرات الاقتصادية عن تراجع حاد للاقتصاد المصري، تنبئ بأحواله المتداعية في المستقبل القريب، الأمر الذي أوجب البحث في الأسباب التي تقف خلف هذا التداعي، وقد أوضح البحث أهم تلك الأسباب ومن بينها غياب الرؤية الاقتصادية التي تجمع مزايا المشروعات المبعثرة لتصهرها داخل الوعاء الاقتصادي، وكذلك اضطلاع المؤسسة العسكرية بأدوار أكبر من قدراتها الاقتصادية، وتغييب الأسس الاقتصادية لهذه الأدوار، كما أشار البحث الي أهمية كسر الحلقات الاحتكارية التي يعاني منها الاقتصاد المصري ، وكيفية التعاطي مع طبقة رجال الأعمال في مصر، ثم التعريج علي دور الفساد في  تثبيط التنمية الاقتصادية وتعظيم كلفتها، وأخيرا تطرق البحث الي الاعتماد علي أهل الثقة وحتمية البحث وفق أسس معينة عن رجال مرحلة الخروج من الأزمة.

———————————-

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

 

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close