fbpx
تحليلاتقلم وميدان

إشكاليات السياسة التركية: دكتاتورية أم دستورية؟

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

(1) منذ فوز الرئيس أردوغان في الانتخابات الرئاسية في تركيا بتاريخ 10/8/2014، والحديث متواصل عن دكتاتورية أردوغان، واستحواذه على القرار السياسي التركي منفرداً، بداية وهو في منصب رئاسة الوزراء التركية لثلاث دورات انتخابية برلمانية، ثم صعوده لمنصب رئاسة الجمهورية، وهو يحمل خبرة وخفايا منصب الحكومة التركية بكامل تفاصيلها الحزبية ووزرائها ونوابها وشخصياتها السياسية الفاعلة، بل وشخصياتها السياسية الاحتياطية داخل حزب العدالة والتنمية وخارجه.

وحيث أن أردوغان هو مؤسس حزب العدالة والتنمية مع مئة من السياسيين غالبيتهم كانوا في حزب الرفاه وغيره، من الذين شاركوا الحركة السياسية الأربكانية معظم مراحلها السياسية القاسية، بل إن كل الذين انضموا إلى حزب العدالة والتنمية من الأحزاب الأخرى إنما انضموا وهم على صداقة وتفاهم وثقة بشخص الرئيس أردوغان وهو في رئاسة حزب العدالة والتنمية أو في رئاسة الوزراء أو وهو في رئاسة الجمهورية.

وقد كان من بين هؤلاء رئيس الوزراء أحمد داود اغلو، الذي انضم إلى الحزب بعد سنوات من تأسيسه، ومنهم أيضاً نائب رئيس الوزراء التركي نعمان كورتلموش، المرشح الأقوى لرئاسة الحزب، وهو الذي تولى رئاسة حزب الرفاه ثم حزب الشعب ثم حزب السعادة، وكلها أحزاب سياسية محسوبة على تاريخ الحركة الإسلامية التركية منذ بداية السبعينيات من القرن العشرين.

هذه الخلفية لتولي أردوغان كل هذه المناصب السياسية، وما صاحبها من نجاح سياسي واقتصادي للدولة التركية في عهده جعل من شخصية أردوغان شخصية قيادية كاريزمية، تحظى بكل الدعم والتأييد من الشعب التركي، وشاهد ذلك فوزه في كل الانتخابات البلدية والبرلمانية والرئاسية التي خاضها في تركيا، فضلا عن نجاحه في الاستفتاءات التي دعا إليها الشعب التركي في تعديل الدستور لأكثر من مرة.

كان أهمها الاستفتاء الذي أجراه في شهر تشرين أول/ أكتوبر 2007 لتعديل طريقة انتخاب رئيس الجمهورية، حيث أصبحت بالانتخاب المباشر من الشعب، بعد أن كانت في السنوات الماضية تتم من خلال مجلس النواب التركي، وقد كان من نصيب أردوغان أن يكون أول رئيس جمهورية تركية ينتخب من الشعب مباشرة عام 2014، وبذلك أصبح رئيس الجمهورية رئيسا منتخبا من الشعب ويتحمل مسؤولية هذا الانتخاب، وتأدية دوره وفق الدستور التركي، بكامل صلاحياته كرئيس للجمهورية، وإلا كان مقصراً في حق الشعب، ومبطلاً لأهم مقصد من انتخاب الرئيس مباشرة.

لذلك فإن الأنظار توجهت مباشرة بعد فوز أردوغان في رئاسة الجمهورية إلى شخصية الرجل الذي سوف يكون رئيسا للوزراء، ومدى صلاحياته، وهل سيكون تابعاً لرئاسة أردوغان، أم أنه سيكون حراً في إدارة شؤون الحكومة، كما كان أردوغان حرا وهو رئيسا للوزراء، وقد ورث رئيس حزب العدالة والتنمية الجديد الدكتور احمد داود أوغلو مشاريع حزب العدالة والتنمية وهو برئاسة أردوغان، وفي مقدمتها مشروع تركيا الجديدة عام 2023، وصياغة الدستور التركي الجديد على أساس النظام الرئاسي، بدل النظام الرئاسي البرلماني الحالي، الذي وضعه الجنرال كنعان إيفرين بعد انقلاب 1980، وأقره البرلمان التركي عام 1982 ليجعل من رئيس الجمهورية كنعان إيفرين مشاركا في حكم تركيا مع رئيس الوزراء.

أي أن دستور 1982 الذي وضعه الانقلابيون تمت صياغته ليكون رئيس الجمهورية شريكا في الحكم مع عدم إلغائه النظام الرئاسي البرلماني، الذي يمنح رئيس الوزراء المنتخب صلاحيات حكم البلاد كهيئة تنفيذية منبثقة عن السلطة التشريعية في البرلمان التركي، وهذا ما ولد التناقض في الصلاحيات الدستورية بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء بغض النظر إن كان أردوغان أو غيره، أو إن كان أحمد داود أوغلو أو غيره.

لذا ينبغي قبل الحديث عن دكتاتورية أردوغان أو ضعف رئيس الوزراء داود أوغلو أمام أردوغان، النظر إلى الإشكالية الدستورية والسياسية التي أحدثها دستور انقلاب 1982، فما من رئيس جمهورية بعد ذلك التاريخ إلا وحدث في عهده إشكاليات سياسية بين رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، بما فيهم رئيس الجمهورية نجدت سيزار ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان في السنوات الأولى لحكومة حزب العدالة والتنمية، فقد حاولت الدولة العميقة أو دولة الوصاية في تركيا استغلال منصب رئيس الجمهورية لتعطيل عمل حكومة العدالة والتنمية برئاسة أردوغان وهي منتخبة من الشعب التركي عام 2002.

وكانت مطالبات رئيس الجمهورية السابق تورغت أوزال ومن بعد الرئيس سليمان ديميريل بتعديل الدستور التركي إلى نظام رئاسي دليل على وجود هذا التناقض في النظام السياسي التركي، وذلك قبل أن يتحدث عنه أردوغان، وقبل أن يصبح هذا المطلب بتعديل الدستور من برامج حزب العدالة والتنمية، بغض النظر عن قناعة داود أوغلو الشخصية حول هذا الموضوع، علما بأن داود أوغلو قد دافع عن النظام الرئاسي منذ توليه منصب رئاسة الحكومة، وجعله على رأس أولويات حملته الانتخابية بتاريخ السابع من حزيران/يونيو 2015، والأول من نوفمبر عام 2015 على حد سواء.

ولذلك فإن تعذر تمرير تعديل الدستور عن طريق لجنة برلمانية من كل الأحزاب السياسية الأربعة الموجودة في البرلمان التركي، جعل حزب العدالة والتنمية يتولى الموضوع بنفسه، وتشكيل لجنة برلمانية من نواب الحزب وصياغة مسودة دستور أصبحت جاهزة للمناقشة البرلمانية بعد تقديمها بشكل رسمي إلى البرلمان التركي، وحزب العدالة والتنمية يحاول أن يمرر ذلك التعديل بالتحالف مع نواب آخرين من خارج حزب العدالة والتنمية، والحزب يمثل الثقل الأكبر في البرلمان بنسبة 49.5%، وهو يمثل كتلة حزبية وبرلمانية متماسكة، بينما نواب الأحزاب الأخرى في حالة إنقسام وتنازع داخل أحزابهم.

لذلك فإن الحديث عن ديكتاتورية أردوغان وهو أمام مسؤولية بناء تركيا الجديدة عام 2023 لتكون وفق برنامج حزب العدالة والتنمية من الدول الاقتصادية العشر الأولى في العالم، وكذلك وهو أمام مسؤولية 52% من الشعب التركي، هم الذي انتخبوه عندما أصبح رئيسا للجمهورية، وهو الذي استطاع أن يقود التجربة النهضوية التركية المعاصرة بنجاح، هو حديث فيه استخفاف في قراءة المشهد السياسي التركي، وفيه استخفاف بالتحديات السياسية والدستورية التي تواجهها الدولة التركية بكامل مؤسساتها، فالإشكالية في الأصل دستورية، وهي من نتائج دستور صاغه العسكر عام 1982، وقد فصَّلوه ليخدم طموحاتهم في الهيمنة على الحكومة التركية المنتخبة برلمانياً.

ففي الدستور الحالي صلاحيات كبيرة لرئيس الجمهورية، كان يمكن لرئيس الجمهورية أن يتخلى عن ممارستها طالما لم يكن منتخبا من الشعب وإنما من النواب، ولكن إقرار الشعب التركي في استفتاء 2007 ان يكون انتخاب رئيس الجمهورية من الانتخاب الشعبي المباشر، قد جعل هذه الصلاحيات ملزمة لرئيس الجمهورية، فهو مطالب أن يطبقها بحكم التزامه بالدستور التركي، وحيث أن رئيس الوزراء داود أوغلو واجه صعوبة في تمرير مسودة الدستور برلمانيا بمشاركة كافة أحزاب السلطة والمعارضة، فإن وضع الإشكالية الدستورية أمام الشعب التركي بكامل حجمها هي مهمة أساسية وضرورية، حتى لا تبقى مسألة تعديل الدستور ينظر إليها بنوع من المناكفة الحزبية، أو بنوع من الاستخفاف أو المغالطة، مثل القول بان الهدف منها هو تعظيم أردوغان لصلاحياته فقط، بينما المشكلة موجودة دستورياً قبل أردوغان، وإذا لم يتم تعديلها في عهد أردوغان فإنها ستبقى بعده، ولكنها ستبقى تحدياً أمام الشعب التركي، حتى يتخذ القرار الصحيح بشأنها، حتى لو كان باستفتاء عام، إذا فشلت جهود حزب العدالة والتنمية بتمرير مشروع التعديل بمفرده.

إن الشعب التركي اليوم أمام أزمة دستورية حقيقية، وهي في الصلاحيات المتعارضة بين صلاحيات رئيس الجمهورية وصلاحيات رئيس الوزراء، بمعزل عن أردوغان ووأغلو، ولا ينبغي الاعتماد فيها على تنازل اختياري من أحد الرئيسين عن صلاحياته، ولا التنازل بالإكراه، وإلا وقع الخلاف بينهما، وهذا ما ينبغي معالجته دستوريا أيضاً، وذلك بوضع دستور أو تعديل الدستور ليفصل بين الصلاحيات بدقة، فإما ان يختار الشعب التركي النظام الرئاسي بالكامل مثل فرنسا وأمريكا، وفي هذه الحالة لا يقال بأن الدستور أو الرئيس الفرنسي أو الأمريكي دكتاتوريان، لأن الدستور ينبغي ان يعتمد نظام عمل مؤسساتي بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية.

فإما ان يختار الشعب التركي النظام الرئاسي البرلماني، وتعديل دستور 1982 بإلغاء بعض الصلاحيات التنفيذية لرئيس الجمهورية، وبذلك يصبح الدستور التركي رئاسي برلماني، يحتفظ رئيس الجمهورية بمنصب فخري وشرفي، دون أن يقلل من قيمة الرئيس، ولكن ذلك يتضمن التراجع عن استفتاء انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب، أو أن يختار النظام الرئاسي بالكامل.

إن الإشكالية السياسية القائمة في تركيا هي إشكالية دستورية، ويمكن حلها ديمقراطيا ودستوريا، ولذلك ليس من المفيد الحديث الزائد عن اختلافات ومؤامرات لرئيس الوزراء داود اغلو ضد أردوغان، فهذا مما نفاه أوغلو أولاً، والمشكلة الدستورية موجودة من قبل داود أوغلو وأردوغان، وتنازع السلطات بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء موجودة منذ عام 1982، وأردوغان لم يكن الرئيس التركي الأول الذي يدعو لتعديل الدستور التركي إلى نظام رئاسي، والتغني بدكتاتورية أردوغان وسوء نوايا أوغلو لا يخدم قضية المعالجة التي ينبغي على الشعب التركي الشروع فيها مباشرة.

———————————

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close