fbpx
قلم وميدان

الإسلاميون: أسباب الفشل ومتطلبات النجاح

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

بينما يُحاصر تنظيم الدولة الإسلامية في عاصمته “الموصل” بعد انهيار سائر المدن التي سيطر عليها في العراق، يتلقى عبد الإله بن كيران إقالة مهينة من الملك المغربي بعد فشله في تشكيل الحكومة، وهو الفشل الذي يعلم الجميع أنه إنما كان بسببٍ من الملك نفسه عبر الأحزاب المرتبطة به. وما بين التجربتين أطياف أخرى من التجارب المتعثرة تبدأ من أقصى اليمين عند التيار الجهادي الذي ذروته تنظيم الدولة الإسلامية، ومرورا بأطياف التيار الإخواني الذي ينتهي عند الغنوشي وبن كيران، وفي الخلفية تيارات سلفية اعتزلت السياسة أو مدخلية جعلت من نفسها عملاء بلا أجر للأنظمة الحاكمة.

وهنا يبدأ السؤال المتكرر عند كل تجربة فاشلة: أين يكون الحل؟ فلا حمل السلاح أفضى إلى المطلوب كما في العراق وسوريا وليبيا، ولا الثورات السلمية كما في مصر واليمن، ولا التماهي مع الأنظمة الحاكمة كما في الأردن وتونس والجزائر والمغرب. وأصعب من الإجابة عن سؤال كهذا أن نتفق على بعض الأمور التي يمكن أن نجعلها معيارا نقيس به هذه التجارب، هذه السطور ليست إلا محاولة للإشارة إلى بعض هذه النقاط، وقد وصل بي اجتهادي إلى أنها خمسة نقاط:

(1) قيمة الاعتراف بالفشل

أقصى وأقسى ضربة يمكن أن تضيع بها دروس أي تجربة أن يصر أصحابها أنهم لم يفشلوا، يفعل هذا المتعصبون لجماعتهم وحزبهم تماما مثلما يفعلها القادة الذين فشلوا. صحيح أن شعور الفشل مرير لا يحب أي إنسان أن يذوقه، لكن اللحظة التي لا نعترف فيها بالفشل هي ذاته اللحظة التي يبدأ فيها تزوير المعاني وإفساد الحقائق، فالحركة التغييرية الثورية إذا فشلت في التغيير فسوَّقت لنفسها وأنصارها أنها لم تفشل فإنما تبدأ في هذه اللحظة كجماعة علمية أو دعوية فقط، هنا تتغير وجهتها وهدفها ونمط حركتها وتطمس ما في أدبياتها من ثورية وتغيير وتعيد صناعة جلدها الجديد، فمن هنا تبدأ رحلة طويلة من تزوير المعاني والحقائق والتاريخ فقط لتنجو من الاعتراف بالفشل، ولربما عاشت أجيال بل ماتت وهلكت أجيال جرَّاء هذا التزييف.

لا يعجز أحد عن صناعة المبررات، وحتى الخونة لديهم منطقهم في ارتكابهم للخيانة، واللحظة التي تختل فيها معايير القياس فيُسَوَّق الفشل على أنه نجاح هي لحظة الضلال الكبير، وفي مثل هذه اللحظة تكثر الحاجة إلى المثقفين والفلاسفة وأصحاب القلم، أولئك الذين لديهم القدرة على قلب الحق باطلا. كان عبد الناصر يحتاج إلى هيكل لتحويل لحظة النكبة الكبرى إلى مجرد “نكسة”، وفي حاجة إلى أحمد سعيد لتحويل “النكسة” إلى انتصار باعتبار أن إسرائيل لم تستطع إسقاط الزعيم، وطالما بقي الزعيم فقد انتصرنا.

في الحركات الإسلامية أيضا أمثال هيكل وأحمد سعيد، أولئك الذين يسوِّقون عودة تونس للنظام القديم على أنه حكمة غنوشية، ويسوقون امتصاص ملك المغرب لإرهاصات الثورة واحتوائها بالإسلاميين على أنه حكمة بنكيرانية، تماما مثلما سوَّقوا قديما لحكمة محفوظ نحناح الذي كان إلى جانب الانقلاب العسكري في الجزائر على جبهة الإنقاذ الإسلامية، وسارت الأيام تحكي تجربة مغاربية مختلفة ومتفردة ومتميزة عن تجربة المشرق، ولم يكن الأمر سوى أن الحركات الإسلامية ألقت بنفسها في حضن الأنظمة العلمانية، واتخذتها تلك الأنظمة زخرفا وزينة لا أكثر، فخسر الإسلاميون رسالتهم ووجهتهم وثوريتهم وكسبت الأنظمة كل الأوراق.

ما إن يسمع أصدقائي المغاربيين مثل هذا مني حتى يقولون: كسبنا حقن الدماء، وكنا أفضل من مصر. وأرد مكررا: في مصر كان صمود مرسي هو السبب في بقاء الانقلاب انقلابا مجرما وبقائه رئيسا شرعيا، ومجرد وضوح الحق من الباطل مكسب عظيم، أما أنتم فسلَّمتم الثورة إلى الأنظمة ففازت الأنظمة نفسها بالبلاد بشرعية كاملة. لا يزال السيسي حتى الآن يخطب ويحاول تبرئة نفسه من الخيانة والانقلاب، بينما لا يرى السبسي أنه ناقص الشرعية ولا بقلامة ظفر.

يستطيع الجميع أن يحقن الدماء، الانسحاب خيار يملكه الجميع، وقد قيل بحق: أسرع وسيلة لإنهاء الحرب الانسحاب منها. ولو كان حقن الدماء مكسبا يُراعى في الصراعات الحضارية لكان أولى الناس بالإدانة المجاهدون في كل مكان وعلى رأسهم أحمد ياسين وعمر المختار والبشير الإبراهيمي وعبد الكريم الخطابي وغيرهم. ولو كان الخلاف بين الشعوب والأنظمة خلافا بسيطا لما استحق أن تندلع له ثورات ينزل فيها من يبذل دمه راضيا ولا استحق أن تستخدم الأنظمة كافة ما لديها من آلة عسكرية لسحق الثورة ولو بهدم البلاد وقتل ملايين العباد.

نحتاج قبل كل شيء أن نعترف إذا فشلنا، فإن المكابرة ضلال وتضييع للأجيال. وقد تعلمنا في الكتاتيب قديما أن صاحب المعصية خير من صاحب البدعة، فالأول معترف بخطئه، وأما الثاني فيرى خطأه تجديدا في الدين!

(2) المرض في حالة متأخرة

إننا أمة مستضعفة، نرزح منذ قرن على الأقل تحت الاحتلال وعملاء الاحتلال، لا يكاد يوجد في عالمنا المعاصر من وصل إلى الحكم بغير ترتيب أو إذن المحتلين. نحن تحت احتلال متعدد الطبقات، الطبقة الأولى منه أناس من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، يدعمهم المحتل لإطالة بقائهم فوق رؤوسنا وذلك لكفاءتهم في تعبيدنا له ولمصالحه. وقد أثمر طول هذا الوقت شبكات من المصالح والنظم والعائلات ممن انتفع بهذا الوضع، فصارت محاولات تغييره تصطدم بمصالح الكثيرين ممن يلتصقون بالأنظمة الحاكمة. وقد أنتج كل هذا فارقا هائلا في القوى لا يزال يتسع باضطراد بين قوة الأمة وقوة عدوها.

وفي ظل هذا الوضع يُعدُّ من الطبيعي أن نجرب كثيرا من محاولات الفشل قبل الوصول إلى النجاح، إن المعركة بطبيعتها طويلة ومرهقة، وما من محاولة فاشلة إلا وهي لبنة في طريق النجاح شرط أن نتعلم منها، فإن لم نتعلم فلسنا من أهل الإيمان الذين وصفهم قائدهم بقوله “لا يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين”.

ونعم! إن الفارق بيننا وبين العدو هائل كبير، ولكن كل تجربة فاشلة كان سبب فشلها الرئيسي من أنفسنا (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ).. لكن يجب أن نعلم في النهاية أن معركة الأمة مع الاستبداد والاحتلال هي معركة طويلة لن تخلو أبدا من هزائم وعثرات ومحاولات فاشلة أو غير مكتملة.

(3) القوة والسياسة معًا

لا تحسم المعارك الحضارية بمجرد السياسة ومهارات التفاوض، تلك سيرة الدنيا وقصة التاريخ، ليس ثمة أمة أو حضارة قبلت الاستسلام والذوبان والخضوع لأمة أو حضارة أخرى بمجرد التفاوض والإقناع، ولو كان الأمر هكذا لكان أولى الناس بالنجاح الأنبياء، فهم أكمل البشر نفسا وعقلا وروحا، ومعهم الحق الخالص من السماء، ومع هذا احتاج الأنبياء لحمل السيف والجهاد في سبيل الحق، فمنهم من قُتِل ومنهم من أصيب، ولقد أصيب نبينا وسال دمه الشريف وهو يجاهد، ثم جاهد صحابته من بعده حتى بلغ الدنيا أقصى الشرق والغرب. ومن هنا يبدو بائسا مثيرا للشفقة والسخرية ذلك المنهج الذي يحصر نفسه في الدعوة والتربية والتعليم والإصلاح متوهما أنه يبلغ بذلك غايته في التغيير.

وفي نفس الوقت لا تحسم المعارك أيضا بمجرد القوة والسيف والسلاح، بل لقد احتاج أقوى حكام التاريخ إلى السياسة والتفاوض والسفارة وتحييد الأعداء، ولقد امتن الله على سليمان -أقوى ملك في التاريخ- أنه كان يُفهِّمه {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}، فانظر كيف لمن سخر الله له الريح والجن والطير يكون له سفارة ويبدأ بالرسائل ويستعمل الحرب النفسية والإقناع حتى يصل إلى غايته بغير حرب، ولقد امتن الله على يوسف وهو الذي تحت يده أموال خزائن الأرض بأنه {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}، وكذلك امتن على يوسف المضروب به مثل في القوة والهيبة بأنه {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}. ولقد سمَّى الله اتفاقية صلح الحديبية بـ “الفتح المبين” وليس فيها من مكسب -بالاصطلاح السياسي المعاصر- إلا أنها اعتراف إقليمي بالدولة الإسلامية.

لقد كانت التجارب الفاشلة واحدا من اثنتين: قوة تهمل السياسة أو سياسة تهمل القوة. فهذا تنظيم الدولة كنموذج القوة التي تهمل السياسة، يُفترض أن يشعل المعركة مع نظام بغداد، فإذا به يتمدد إلى سوريا ويشعل معركته مع الأكراد والأتراك والمقاتلين بل والإسلاميين والجهاديين، فضلا عن التمدد إلى أوروبا والسعودية وأفغانستان. فهيَّج عليه الهائج والساكن، وصاحب العداوة الأصيلة ومن يدفعه عن نفسه، وها هو الآن يُقاتَل في عاصمته من بعد انسحابات متكررة من المدن والقرى والأنحاء.

وهذا تنظيم الإخوان في مصر، وإن أردت في أي بلد آخر فالخلاف ليس بعيدا، يسعى بالسياسة ويسحب الذرائع ويفوت الفرص ولا يُقدِم نحو المصلحة “كي لا يُقال كذا”، حتى بلغ حالا مريعا، فإذا به أضعف ما يكون أمام أي نظام، فإما احتواه وقبل به زخرفا وزينة في منظومة حكم بلا صلاحيات، وإما انقلب عليه وسفك دمه وحاكمه بتهمة الإرهاب! وإما تركه ضمن المساحة المحصورة المحدودة لا يخرج منها إلا بإذن ولا يملك لنفسه حتى ضمان استمرار هذه المساحة!

ولا يزال النموذجان اللذان يمكن ضرب المثل بنجاحهما حتى الآن هما نموذج أردوغان في تركيا وحماس في غزة، وكلاهما يبدو واضحا فيهما المزاوجة بين القوة والسياسة.

(4) التقاط فرصة الثورة

لا يوجد نظام عربي سمح لحركة إسلامية بالمشاركة في السلطة أو بدخول انتخابات شبه نزيهة إلا وهو يريد بذلك أن يمتص حالة الغضب ويستبق ثورة وشيكة. المأساة الدائمة أن الحركة الإسلامية تقع دائما في هذا الفخ، وما كان لها أن تقع فيه لولا هذا الانحراف في التصور والرؤية الذي طرأ عليها حين تحولت من حركة ثورية تغييرية إلى حركة إصلاحية دعوية، وهو التغير الذي كان ثمرة عدم الاعتراف بالفشل ومحاسبة القيادت المخطئة في تجارب الخمسينات. فما إن تزول حاجة السلطة إلى الحركة الإسلامية بعد قيامها بدور المخدر إلا وتتكشف الأنياب المستبدة من جديد.

منذ اللحظة التي صرف فيها عبد القادر عودة الجماهير في 1954 وحتى تجربة بن كيران في المغرب تستطيع أن ترى هذه اللحظة متكررة في سوريا والأردن والجزائر واليمن والعراق وتونس ومصر. لقد صرفت الحركة الإسلامية الجماهير قبل الثورة أو عملت كمبرد ومخدر للثورة ثم أعيدت في الغالب إلى السجون والمشانق أو إلى موقع المعارضة المفلسة التي لا تملك شيئا!

هذا التكرار يعبر عن خلل واضح في العقل الجمعي للحركة الإسلامية ككل، وأغلب الظن عندي أن السبب الرئيسي في هذا هو غفلة الحركة الإسلامية عن العلوم الإنسانية والاجتماعية، على الأخص منها: التاريخ والسياسة والإعلام والقيادة وعلم نفس الجماهير فضلا عن العلوم الأمنية والعسكرية. في اللحظة التي انحرف فيها المسار من الهدف الثوري التغييري إلى التيار الدعوي الإصلاحي كانت الحركة تختار أن تظل مفعولا به في ظل وضع الدولة الحديثة والحرب الباردة والنظام العالمي.

أعتقد أن العلوم الإنسانية لا يستفيد منها إلا من كانت لديه بذور الموهبة أصلا، ومجرد الدراسة الأكاديمية لا تسمن ولا تغني من جوع، وقد رأينا في زمن الثورة أن أداء الأكاديميين السياسيين من الإسلاميين كان سيئا وغير مناسب للحظة بحال. يشبه الأمر من ليست لديه موهبة التجارة فهو مهما درسها أكاديميا حتى لو حصَّل الدكتوراة فلا يكون رجل أعمال ناجحا بحال! كما أعتقد أن السياسة لا تؤخذ من الكتب الأكاديمية بقدر ما تؤخذ من الممارسة أو من مذكرات الساسة وصناع القرار، هناك يبدو الأمر أوضح وأسهل وأكثر عملية، تماما كالفارق بين دراسة القانون ودراسة ألاعيب المحامين، أو بين دراسة الفقه وهضم الفتاوى فمجرد دراسة الفقه بغير استيعاب عملية صناعة الفتوى وطرق تصرف المجتهدين لا تُخَرِّج فقهيا مفتيا يفهم أحوال الناس ويستطيع أن يستخرج لهم علاج أحوالهم من القرآن والسنة.

الحركة الإسلامية ليست بديلا عن الأمة، والجماعات ليس بديلا عن الشعب، وأي محاولة لمواجهة الواقع بغير حماية الأمة والشعب محكوم عليها بالفشل، فإذا وصلنا إلى هذه القناعة فلا بد من أن تجيد الحركة وسائل مخاطبة الناس وقيادتهم وتثويرهم واستثمار غضبهم وثورتهم (لا تبريدها وتخديرها) وتطوير حركتهم، وليس يمكن هذا بغير فهم شأن السياسة والتاريخ والاجتماع وعلم نفس الجماهير.

وليس هذا كلاما جديدا بل هو قديم في أدبيات الحركة الإسلامية لكنه لم يوضع موضع التنفيذ، فقديما قال حسن البنا “نحتاج تغييرا نقود الأمة إليه ولا ننوب عنها فيه”، وحديثا قال أبو مصعب السوري بعد مراجعة طويلة للتاريخ إن سبب الفشل المعاصر للحركة الإسلامية هو أن الأمة لم تكن جزءا من معادلة المواجهة.

الشعوب ليست تحت الطلب ولا توجد ثورات “ديليفري”، ولا يمكن تثوير الناس إذا خمدوا مهما عضتهم يد الظلم والجوع والخوف، وإنما هي لحظة فارقة تطير إن لم تُدرك، وفك الله أسر شيخنا البصير حازم أبو إسماعيل صاحب شعار “أدركوا اللحظة الفارقة”.

(5) الجهاز الأمني للحركة الإسلامية

كتب الدكتور إبراهيم الزعفراني في مذكراته أن الدولة وضعت للإخوان خمس خطوط حمر هي: ألا يكون لها أعضاء في الجيش والشرطة، وألا يمتلك أعضاؤها سلاحا، وألا يستعمل أحدهم أي نوع من العنف ولو اليدوي الخالي من السلاح: فقط الاحتجاج السلمي، وألا يزيد مرشحوها للبرلمان عن الثلث، والخط الخامس: ألا يكون لديهم جهاز جمع معلومات من أي نوع ولا حتى لجمع المعلومات عن الأحزاب السياسية الأخرى أو منظمات المجتمع المدني. ويذكر د. إبراهيم أن الجماعة التزمت بهذا بجدية.

مختصر هذه الشروط أن تكون الجماعة عمياء شلّاء منزوعة القدرة على مستوى الإمكانيات، ومنزوعة الرغبة والنخوة على مستوى التفكير والإرادة.

ما لا يعرفه كثير من الناس أن الجهاز الأمني الصهيوني تأسس قبل إسرائيل بثلاثين سنة، ولولا عمله الهائل طوال هذه الثلاثين ما كان بالإمكان أن تقوم إسرائيل إذ قدم هذا الجهاز معلومات لا تقدر بثمن بُنيت عليها خطط مواجهة الفلسطينيين واغتيال قادة المقاومة واحتلال القرى واختراق الانتفاضات المتعددة.

وقد كان النظام الخاص الذي أنشأه البنا جهازا أمنيا لا مجرد جهاز عسكري، كما تكشف مذكرات قادته المنشورة: محمود الصباغ وأحمد عادل كمال، وبدأ أحمد ياسين عمله في تأسيس حماس بالشق الأمني الذي يجمع المعلومات ويتتبع العملاء، وما من ثورة نجحت إلا كان لها قبل أن تنجح أو تأسس في لحظات نجاحها الأولى الجهاز الذي يحميها.

الجهاز الأمني للحركة كالعين للإنسان، وكنت أتصور أن مهمة العين هي الإبصار حتى اللحظة التي وضعوا الغمامة على رأسي في جهاز أمن الدولة المصري، ساعتها عرفت أن العين ليست بصرا فقط وإنما هي أمان كذلك. ويستطيع المصارع النحيف الضعيف أن يغلب المصارع الضخم القوي إن وُضِعت على عين الأخير غمامة، فكيف إذا كان الضخم المفتول العضلات هو المبصر وكان النحيف الضعيف هو الأعمى؟!

إن العلوم الخطيرة في قيادة الناس والمجتمعات لا تدرس في بلادنا إلا في الكليات الأمنية، بل في النادر من تلك الكليات، وأخبرني عدد من المتخصصين في علم النفس والاجتماع أن ثمة مواضيع يُحظر فيها البحث بأمر من أجهزة الأمن والمخابرات، وهي تلك المواضيع التي تكشف خريطة المجتمع النفسية والاجتماعية والاقتصادية ومراكز القوى فيه. فيعيش المجتمع كله أعمى عن نفسه مكشوفا أمام السلطة، كالطفل الصغير في يد أمه، إلا أن السلطة ليست أما له، فكيف تتوقع من طفل صغير عاجز بيد أمرأة تكن له العداوة فتفرسه وتسومه سوء العذاب؟ (1).

———————————

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close