fbpx
قلم وميدان

التاريخ الموجز للأنظمة القطبية (1800ـ 2020)

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

 

شكلت أوروبا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى حركة التاريخ السياسي والعسكري العالمي في القرن التاسع عشر، فكانت اللاعب السياسي الرئيس الذي شكل وجه الخارطة الجيوسياسية والجيواستراتيجية لرقعة الشطرنج الدولية في تلك الفترة الزمنية، وتحديدا كل من بريطانيا العظمى وفرنسا وروسيا والنمسا وبروسيا، ومن خلالها تشكل النظام العالمي، والذي انتهى بانتصار بريطانيا العظمى على فرنسا في معركة واترلو وتوقيع معاهدة باريس، والذي جعل من بريطانيا القرن التاسع عشر القطب الأوحد الذي تسيد العالم لعقود تالية.

إن السنوات العشر الأخيرة التي أنهت القرن الثامن عشر والسنوات العشر الأولى التي دشنت القرن التاسع عشر كانت أقرب كثيرا إلى تشكيل تحالفات قطبية فضفاضة منها إلى تكتلات محكمة، وتعتبر تلك الفترة استمرار لحقبة التوازن الكلاسيكي التي امتدت ما يقارب المائة سنة قبل الثورة الفرنسية التي بدأت في العام 1789م وانتهت في العام 1799م، حتى تسيدته بريطانيا العظمى “بحريا” في الفترة 1815م – 1870م، وذلك من خلال الكثير من الأوراق السياسية والاقتصادية الرابحة، كالتفوق الصناعي والتماسك السياسي وقوة الأسطول البحري وهي على سبيل المثال لا الحصر.

ونشير إلى عبارة “بحريا” هنا، بسبب التفوق “البري” للإمبراطورية الروسية في تلك الفترة الزمنية، ولكن، ولأسباب كثيرة، للبريطانيين نسبة الترجيح التي أطلقت سياسيا وتاريخيا على القرن التاسع عشر “قرن الهيمنة البريطانية” وقد (تعايشت الإمبراطوريتان: البريطانية والروسية، بنحو سلمي نسبيا، ومن دون إشكاليات ذات بال، حتى العقود الأولى من القرن العشرين، فالعوالم الخاضعة لكلتا الإمبراطوريتين كان بينهما فاصل واضح المعالم، أضف إلى هذا أن هذه العوالم كانت على قدر كاف من الاختلاف والتباين).

إلا أن هناك خلطاً تاريخياً بين نهاية الإمبراطورية البريطانية العظمى كقوة سياسية عالمية امتدت حتى منتصف القرن العشرين تقريبا، وتلك القوة القطبية التوسعية البريطانية التي دارت حولها العديد من الأجرام الأرضية باعتبارها مركز الثقل العالمي حينها، ولكننا نستطيع أن نؤكد من خلال هذه النظرة بأن القطب البريطاني قد انتهى فعليا بتراجع دوره البحري الاستراتيجي، بسبب الكثير من المشاكل السياسية والاقتصادية التي عصفت بالإمبراطورية البريطانية خلال الفترة 1873م ـ 1896م.

حيث شكلت السنوات التي تلت تراجع الدور البريطاني العالمي كقوة قطبية مع نهاية القرن التاسع عشر إلى بروز بعض القوى العالمية المتربصة كألمانيا وفرنسا على سبيل المثال لا الحصر، مع استمرار القوة الروسية وتصاعد وتيرة تمددها البري، مع تراجع واضح في الجانب البحري منه، وتحديدا خلال السنوات 1901م – 1920م، والتي تخللها العديد من التغيرات الهيكلية الأساسية على بنية النظام العالمي ككل، فعلى سبيل المثال لا الحصر، وفي هذه الفترة تحديدا ازداد سباق التسلح الذي اندلع بين القوى الأوروبية سالفة الذكر تحديدا، وتشكلت العديد من التحالفات الثنائية والثلاثية التي نستطيع أن نطلق عليها بالتعددية القطبية المحكمة، كما هو الحال بين إنجلترا وفرنسا من جهة وألمانيا والنمسا وإيطاليا من جهة أخرى.

وأفضت في نهاية المطاف إلى اندلاع العديد من المعارك والحروب، كان أشرسها على الإطلاق الحرب العالمية الأولى خلال الفترة من العام 1914 و1918م، والتي أطلق شراراتها إمبراطورية النمسا والمجر التي قامت بغزو مملكة صربيا إثر حادثة اغتيال ولي عهد النمسا وزوجته من قبل طالب صربي، أثناء زيارتهما لسراييفو، وتُعد الحرب العالمية الأولى بما تخللها من أحداث وتغيرات، البذرة الحقيقية للنظام العالمي ثنائي القطب بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأميركية فيما بعد.

فهذه الحرب أفضت إلى بروز بعض الحركات الأيديولوجية الجديدة كالشيوعية، وتوقيع العديد من المعاهدات والاتفاقيات التي كان لها ما بعدها من الآثار السياسية والجيوسياسية على رقعة الشطرنج الدولية كمعاهدة بريست ليتوفسك، كذلك ومن ضمن الآثار الجانبية التي خلفتها الحرب العالمية الأولى الحملة البريطانية في بحر البلطيق في الفترة 1918 – 1919م.

كما أسفرت، بالإضافة إلى ما سبق ذكره، إلى تراجع الدور الأوروبي بشكل عام والبريطاني على وجه الخصوص على رقعة الشطرنج الدولية، وتوقيع معاهدة فرساي، التي تمخضت بدورها عن قيام عصبة الأمم المتحدة، ثم تلاها قيام الحرب العالمية الثانية في العام 1939م، ما يمكن أن نطلق عليه بفترة السلام الساخن، وهي الفترة التي تقع بين العام 1920م – 1936م.

حيث شاب تلك الفترة سلام منقوص لم تستطع عصبة الأمم المتحدة التحكم في وتيرة انهياره، حيث بدأ بتمزيق معاهدة فرساي وانسحاب ألمانيا من عصبة الأمم، واحتلال اليابان لمقاطعة منشوريا الصينية، واحتلال إيطاليا لأثيوبيا. وهكذا فقد مثّل تراجع هيبة الأنظمة الديمقراطيّة أمام تحدّيات الأنظمة الدكتاتوريّة دليلاً واضحًا على فشل سياسة الأمن المشترك المتبعة من قبل عصبة الأمم، مما نتج عنه في نهاية المطاف قيام الحرب الأهلية الإسبانية، التي كانت بدورها الشرارة الحقيقية لقيام الحرب العالمية الثانية في الفترة من 1937م – 1945م.

 

وباختصار، يمكن القول إن الفترة التي تلت انهيار نظام القطبية البريطانية في العام 1896م وحتى العام 1945، أي ما يقارب النصف قرن تقريبا كانت فترة غير مستقرة في التاريخ السياسي العالمي، وهي فترة لا يمكن أن تُنسب دوليا لقوة بعينها. بمعنى آخر ظل العالم تحت رحمة التجاذبات السياسية والقوى العالمية والصراعات القارية دون قيادة مركزية عالمية مهيمنة، ولا حتى ثنائية قطبية أو تعددية قطبية محكمة، ولكنها من حيث التاريخ السياسي هي فترة حروب أوربية تطورت إلى حروب عالمية شرسة، أفضت إلى اغتيال الاستقرار العالمي وإبادة الملايين من البشر في مختلف أرجاء الأرض.

وتجاوزا لشرح مسرح الحرب العالمية الثانية فقد وضعت الولايات المتحدة الأميركية نقطة النهاية لقصة عقود من الحروب والمعارك والصراعات الأثينية والقارية وذلك بإلقاء القنبلتين النوويتين على كل من مدينة هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين، منهية بذلك سنوات من نظام التعددية القطبية المحكمة الذي ساد العالم خلال الفترة سالفة الذكر، ولتسفر نهاية الحرب العالمية الثانية عن هزيمة الدكتاتوريات في إيطاليا وألمانيا واليابان وتراجع مكانة القارة الأوروبية، وتحديدا كل من السيادة البريطانية والفرنسية، ليبرز بعدها نظام عالمي جديد أُطلق عليه فيما بعد بنظام “الثنائية القطبية” والذي شكله من الناحيتين الجيوسياسية والجيواستراتيجية التاريخية كل من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي حتى سقوط هذا الأخير بشكل نهائي في العام 1991م.

وقد شكلت الأعوام التي تلت سقوط الاتحاد السوفيتي وتحديدا الفترة من العام 1991م – 2001م، فترة ما أطلق عليه بفترة “القطب الواحد”، أي فترة السيادة الأميركية المطلقة على النظام العالمي، فالولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي تقاسما الهيمنة والسيادة المطلقة على العالم لمدة 45 سنة تقريبا تلت نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى بداية العقد التاسع من القرن العشرين، مع سيادة مطلقة للولايات المتحدة الأميركية على مسرح السياسة العالمية في العقد الأخير من القرن العشرين.

 

ويشير عدد من منظري التاريخ السياسي الحديث، أن انهيار برجي التجارة العالميين في الولايات المتحدة الأميركية، في أحداث سبتمبر 2001م، كشفت هشاشة النظام الأميركي القومي، وانهيار أسطورة أجهزة الحماية الأميركية، وهو العام الذي نستطيع أن نطلق عليه “رمزيا” انهيار مكانة الولايات المتحدة الأميركية، أو القطبية الأميركية، وإن كانت هذه الأخيرة قد بدأت بالتراجع نتيجة التدهور والأزمات المالية منذ فترة الثمانينيات من القرن العشرين.

كما شكل هذا العام بداية عودة روسيا إلى الواجهة الدولية كقوة، ولم تكن الولايات المتحدة الأميركية تعتقد حتى وقت قريب بأنها يمكن أن تعود ولو من الناحية المعنوية، وهو ما شكل ضربة أخرى للهيمنة الأميركية على رقعة الشطرنج الدولية، وان كنا نؤكد على أن روسيا وحتى نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ما زالت غير قادرة على منافسة الولايات المتحدة الأميركية في كثير من جوانب الصراع العالمي القطبي، إلا أن القوة العسكرية الروسية وخصوصا النووية منها، تجعلها القوة العالمية الوحيدة القادرة على مواجهة الولايات المتحدة الأميركية خلال الثلث الأول من القرن الحادي والعشرين على أقل تقدير، كما أن المكانة الجيوسياسية للدولة الروسية على الخارطة الدولية، والتحالفات الجانبية سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو عسكرية والتي عقدتها روسيا مع العديد من دول العالم جعلت لها المكانة السياسية والدبلوماسية التي لم تستطع الولايات المتحدة الأميركية تجاوزها أو تهميشها، وهو ما برز بشكل واضح وملفت للنظر في موضوع الملف النووي الإيراني.

 

أي أننا نستطيع أن نحدد الموجز التاريخي للقوى القارية خلال القرون الثلاثة الأخيرة (19، 20، 21) على التالي:

1ـ تسيدت الإمبراطورية البريطانية الفترة من العام 1815ـ 1870م بشكل مطلق، بحيث إننا نستطيع أن نطلق على تلك الفترة فترة القطب البريطاني الواحد، بحيث يوصف القرن التاسع عشر بالقرن البريطاني، تراجع الدور البريطاني القطبي تدريجيا بعدها خلال الفترة من عام 1873م ـ 1896م، بحيث نستطيع أن نقول بان الإمبراطورية العظمة قد انهارت إمبراطوريا وبشكل نهائي مع نهاية القرن التاسع عشر، مع استمرار نفوذها السياسي وقدرتها على إدارة العديد من القرارات السياسية الدولية والتحكم بها حتى منتصف القرن العشرون تقريبا.

2ـ الفترة بين العام 1901م – 1945م، ورغم أنها تجاوزت الأربعة عقود، إلا أن التاريخ السياسي الحديث لا يؤكد فيها بأن هناك قوة عالمية قطبية قد تسيدت النظام العالمي خلالها، كما هو حال الإمبراطورية البريطانية خلال أكثر من  50 سنة تقريبا في القرن التاسع عشر، بل كان النظام العالمي فيها يتأرجح بين نظام عالمي متعدد الأقطاب وفوضى سياسية وعسكرية مدمرة، نتج عنها أشرس حربين شهدهما العالم، هما الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية.

3ـ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بروز نظام الثنائية القطبية في الفترة من عام 1945م وحتى العام 1991م – أي – ما يقارب 45 سنة تقريبا، وهي فترة موازية لفترة الصراعات ما بين العام 1901مـ 1945م، وبمعنى آخر أن النظام العالمي في القرن العشرين قد انقسم إلى ثلاثة مراحل تقريبا وهي : فترة التعددية المحكمة في الفترة من 1901 – 1945، وفترة الثنائية القطبية في الفترة من 1946م – 1991 م، وفترة القطب الواحد في الفترة من 1991م وحتى العام 2000م.

4ـ أن القرن الحادي والعشرين فلا زال – من وجهة نظري الشخصية – يعاني الفصام القاري، أو شيزوفرينيا ما قبل تشكيل النظام العالمي القادم، فهو وحتى نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين قرنا أميركيا من الناحيتين السياسية والجيوسياسية، مع بروز عدد من القوى القارية المؤهلة لتقاسم الهيمنة والسيادة على رقعة الشطرنج الدولية مع الولايات المتحدة الأميركية خلال المرحلة القادمة كروسيا والصين على سبيل المثال، وهو ما جعلنا نؤكد على أن وجود أولئك المتمردين الجدد والمتنمرين على الهيمنة الأميركية لا يجعله عقدا أميركيا خالصا، وبالتالي لا يجعل من مفهوم النظام أحادي القطب صالحا للتطبيق على النظام العالمي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ومن ناحية أخرى يمكن أن نطلق على النظام العالمي في الفترة من 2001م – 2009م، وبناءً على المعطيات السابقة بنظام “الأحادية القطبية الفضفاضة”، حيث يتمتع بعض أطراف النظام، عالمية كانت أم إقليمية، بالاستقلال الحقوقي عن مركز السلطة وبقدر غير قليل من الاستقلال الذاتي السياسي، غير أن الأطراف الرئيسية وأكثرية الجهات الأخرى تبقى رغم ذلك القدر من الاستقلال الذاتي، خاضعة جوهريا لنفوذ مركز الهيمنة أو السلطة الوحيدة للنظام، على الأقل فيما يخص علاقاتها الدولية المهمة.

 

وبعبور العالم عتبة العام  2010م تبرز العديد من الملاحظات التحليلية حيال الكثير من النظريات والاحتمالات التي ترسم صورة وملامح النظام العالمي في العقد الثاني والثالث من القرن الحادي والعشرين، حيث تبين النظرة إلى السياسة العالمية المعاصرة أن النظام العالمي الراهن والدائب على التطور، ونقصد بناء على معطيات وتحولات الفترة من 2011م- 2015م هو نظام هجين، يجمع بين أوهام القطب الواحد الذي لا زالت تشكله الولايات المتحدة الأميركية وقوتها الراهنة على الخارطة الجيوسياسية العالمية، وخيالات ثنائية القطب بين هذه الأخيرة وروسيا بوتين، التي لا زالت تحمل فوق كتفها حقيبة الإمبراطورية السوفيتية بكل ما تحتويه من قوة، وتحالفات فضفاضة، سرعان ما تتغير بتغير المصالح الجيوسياسية وتكتلات اقتصادية وأمنية، وبروز قوى دولية نطلق عليها بالمتنمرين الجدد الباحثين عن مكانة لهم على رقعة الشطرنج الجيوسياسية العالمية سواء كانت في الحدود الإقليمية أو القارية أو حتى الدولية.

 

سمات وملامح:

إن عالم اليوم بعيد عن أن يكون أحاديا قطبيا مطردا، على الرغم من وضوح كون الولايات المتحدة الأميركية هي القوة المسيطرة في النظام، كما أن هناك سلسلة طويلة من سمات وملامح حكم الكثرة المتحدية لها:

1ـ تعددية قطبية فضفاضة:

ثمة أنماط مختلفة من السلطة، وتشكيلة واسعة من الجهات الرسمية وغير الرسمية المتمتعة بهذه السلطة، والصداقات والعداوات المتعددة والمتداخلة حيث يمكن للأصدقاء والأعداء أن يختلفوا تبعا للقضية المطروحة)، وبالتالي فان أقصى ما يمكن الذهاب إليه من خلال ما يحدث وما يتوقع حدوثه بناء على المعطيات والتحولات الراهنة والمحتمل حدوثها خلال الفترة من العام 2016م – 2020م وربما يحتمل استمرار ذلك حتى العام 2029م، على هياكل البنية المتغيرة للسياسة الدولية وبناء عليها يمكن وصف النظام العالمي القادم، هو ذلك الوصف الذي أطلقه “سيوم براون”، وهو أستاذ التعاون الدولي في قسم العلوم السياسية بجامعة برانديز في كتابه “وهم التحكم – القوة والسياسة الخارجية في القرن الحادي والعشرين”، الصادر في العام  2004م: “إن النظام العالمي الذي نعيشه اليوم هو أقرب إلى نظام تعددية قطبية فضفاضة، على تخوم نظام حكم الكثرة، في ظل الحضور الأحادي الطاغي في اغلب الأحيان للولايات المتحدة الأميركية”.

 

2ـ نظام حكم الكثرة

إن هذا النظام أي نظام التعددية القطبية الفضفاضة الذي نعايشه اليوم وكما وصفه سيوم براون في العام 2004م، أي قبل عقد من الزمن تقريبا يعيش على تخوم نظام آخر، هو نظام حكم الكثرة، فماذا نعني بان العالم على تخوم نظام حكم الكثرة أو البولياركي  Polyarchy ؟

ولم توجد حقبة سياسية مماثلة وشبيهة عبر التاريخ السياسي الحديث يمكن أن توصف بهذه التسمية كما هو حال نظام الأحادية أو الثنائية أو حتى التعددية القطبية الفضفاضة التي نعيشها اليوم وتطرقنا إلى وصفها وشرحها سلفا، فليس ثمة أي ظاهرة معروفة باسم حكم كثرة محكم ولعل مثل هذا النظام هو نظام مؤلف من عدد كبير من أنماط الأطراف الدولية الفاعلة المختلفة، الحكومية وغير الحكومية بعضها شديد الحرص على استقلاليته، وبعضها الآخر يعول كثيرا على غيره طلبا للأمن والرخاء الأساسيين، وهو يمثل طيفا متباين الألوان من التحالفات وعلاقات الخصومة المتشكلة حول مئات القضايا والمشكلات وعلى مختلف الأصعدة، وفي ظل نظام حكم الكثرة تتبارى الدول القومية والجماعات دون القومية والمصالح والروابط الخاصة العابرة للحدود القومية والمؤسسات متعددة القوميات فيما بينها، على الموارد والتأييد والولاء في قواعدها، التي تكون كثرة منها أعضاء في كثير من هذه الكيانات المختلفة في الوقت نفسه.

والمتتبع المتخصص لحال وواقع المشهد السياسي والجيوسياسي العالمي الراهن يشاهد تقاربا كبيرًا مع الوصف السابق، حيث نلحظ أن القطبية المركزية أو حتى الثنائية القطبية التي ورثتها كل من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا لم تعد قادرة على إحكام قبضتها بشكل كامل على رقعة الشطرنج الدولية، بل إن العديد من القوى الإقليمية، إن صح وصفها، في أوربا وآسيا كالاتحاد الأوربي وتركيا وإيران والصين والهند على سبيل المثال، لم تعد تملك أي نوع من قوة الجذب القادر على بناء تكتلات محكمة، تربطها مصالح مشتركة لوقت طويل، أو يمكن التعويل عليها لبناء تحالفات استقرار واتزان في هياكل البناء السياسي العالمي.

لذا يمكن أن نصف السلطة والقوة في منتصف العقد الثاني من القرن 21 بأنها سلطة متعددة الأبعاد، ومبعثرة كثيرا بما لا يسمح بذلك النوع من قوة الجذب التي كانت تمارسها مراكز الاستقطاب القديمة أو الأطراف المهيمنة، مع سيطرة النزوع للتهديد والوعيد، وعمليات استعراض العضلات الآنية، والمساومات حول قضايا أخرى.

 

3ـ نظام فوضوي ومتناقض التركيب:

فالحلفاء والأصدقاء في هذا النوع من الأنظمة العالمية وفي وضع ومكان وزمان معين، هم أعداء وخصوم في مكان وزمان ووضع آخر، وعلاقات الخصومة المتشكلة تغلب على علاقات التحالف في العديد من القضايا، وذلك بسبب العدد الكبير من اللاعبين ونوعياتهم، التي تجعل من النظام العالمي نظام فوضوي ومتناقض التركيب، سريع التقلبات والصدقات والعداوات، في ظل غياب شركاء تحالف يعول عليهم، مما يجعل من تشكيل التحالفات وديمومتها أمر بالغ الصعوبة.

ومن المفترض أن يكون نظام حكم الكثرة المتوقع أن يبرز على رقعة الشطرنج العالمية مع مطلع العقد الثالث من القرن 21 سيكون النظام الأشد نزوعا للحرب والصراعات والاقتتال العابر للقارات، إلا انه لن ينطوي على حرب الجميع ضد الجميع كما توقع ذلك توماس هوبز، نتيجة لوجود صلات التقاطع والتداخل بين الأمم والتي تستطيع أن تُفعل وتُولد الكابح للجهود المولدة للعداوة الكلية بين الأمم، لذا ستتركز تلك الحروب والصراعات حول جيوب وبقع عداوة مفرطة بين أطراف أحادية أكثر منها عالمية مجتمعة، وخصوصا تلك التي تغرق في بحر من ثقافة العنف والطائفية والحزبية والمذهبية والقومية، ونتوقع أن يبرز ذلك بشكل أكثر وضوح على رقعة الشطرنج الاوراسية، وخصوصا في الشرق الأوسط والبيت السوفيتي القديم.

 

خلاصة:

إن الفترة الذهبية للإمبراطوريات والقوى الأوربية من 1815م – 1918م، والتي تقاسمتها الدول الأوربية العظمى، فيما يمكن أن نطلق عليه نظام تعددي من التحالفات الفضفاضة وأحيانا المحكمة، مع تفوق واضح لكل من بريطانيا من جهة وفرنسا وألمانيا وروسيا من جهة أخرى، مع تفوق واضح للقوتين الإمبراطوريتين العظميين وهما بريطانيا وروسيا، حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى في العام 1914م، كانت نتاج طبيعي لصدام المصالح وشبكة التحالفات وتوازن القوى في ذلك الوقت.

إلا أنه في العام 1918م لم يعد للإمبراطوريات الثلاثة (الإمبراطورية الألمانية، الإمبراطورية الروسية، الإمبراطورية النمساوية المجرية) وجود، إضافًة إلى نهاية الدولة العثمانية، إذ فقدت الإمبراطوريتان الأوليتان السابقتان العديد من الأراضي الكبيرة بينما تفككت الأخرى تمامًا ولم يعد لها وجود، وأُعيد رسم خريطة أوروبا بالدول المستقلة وخلق دول وقوى عالمية جديدة بسبب التقسيمات الجديدة، وفي هذا السياق يقول المؤرخ الشهير للتاريخ الأوربي “أ.ج.ب.تايلور” في كتابه “الصراع على سيادة أوربا 1848م – 1918م”: “في يناير من العام 1918م، توقفت أوربا عن أن تكون مركز العالم، وذابت الهيمنة الأوربية في بوتقة حرب عالمية”.

 

واستمرت القوى العالمية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى متسيدة رقعة الشطرنج الدولية حتى العام 1944م، وهي فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، الذي بزغ فجره مع تأسيس الإمبراطورية السوفيتية الشيوعية الحمراء مع مطلع العام  1922م، وسقوط النظام القيصري في روسيا، واستمرار تلك القوى كقوى مهيمنة حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية في العام 1945م والتي أسفرت عن بروز نظام عالمي جديد، أطلق عليه “الثنائية القطبية”، بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي حتى سقوط هذا الأخير في العام 1991م، وتربع الولايات المتحدة الأميركية على عرش النظام العالمي كمحور أحادي القطب تدور حوله معظم دول العالم، وهو أمر استمر حتى مطلع القرن 21 وتحديدا حتى العام 2001م، مع ضرب رموز المركزية الأميركية الإمبريالية التوسعية، فيما سمي بأحداث الحادي عشر من سبتمبر.

 

والفترة من 2001م وحتى العام 2015م، يمكن القول أنها فترة سقطت فيها أسطورة النظام القطبي الواحد، ليبرز نظام عالمي قطبي جديد هو مزيج يجمع بين أوهام القطب الواحد الذي لا زالت تشكله الولايات المتحدة الأميركية، وقوتها الراهنة على الخارطة الجيوسياسية العالمية، وخيالات ثنائية القطب بين هذه الأخيرة وروسيا بوتين، التي لا زالت تحمل فوق كتفها حقيبة الإمبراطورية السوفيتية بكل ما تحتويه من قوة، وتحالفات فضفاضة سرعان ما تتغير بتغير المصالح الجيوسياسية، وبروز قوى دولية نطلق عليها بالمتنمرين الجدد الباحثين عن مكانة لهم على رقعة الشطرنج الجيوسياسية العالمية، سواء كانت في الحدود الإقليمية أو القارية أو حتى الدولية، وهذا النظام يمكن أن يستمر حتى نهاية العقد الثاني ومطلع العقد الثالث من هذا القرن(1).

———————————

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close