fbpx
مختارات

القراءة السياسية لمبادرة الجماعة الإسلامية

 

منشورات الشرق القطرية، 3/9/2016

نادرة هي وقفات المراجعات أو ومضات النقد الذاتي التي شهدتها الساحة المصرية سواء على مستوى التنظيمات والأحزاب والرموز الوطنية وبالأحرى على مستوى الحكومات والأنظمة السياسية وهو ما يعكس خللا في البنية الثقافية والسياسية على حد سواء كما يمكن تحميله جانبا مهما من أسباب قصور نخبتنا وتخلف مجتمعاتنا وتنكب حكوماتنا دائما للطريق القويم فالمراجعة والنقد الذاتي ما زال بعضنا يعتبره عوارا سياسيا أو عيبا خلقيا !!

ينتشر ذلك برغم أن ثقافة مجتمعاتنا هي ثقافة إسلامية علمتنا أن الرجوع للحق فضيلة وأن الرجوع للحق خير من التمادي في الباطل.. كما أن القرآن الذي نتباهى ونعتز بالاحتكام إليه يحض على أن يكون منهجنا الدائم في التفكير معتمدا على مراجعة الذات ومحاسبة النفس ولومها على الخير والشر على السواء فإن أساءت أقلعت واستغفرت وعزمت ألا تعود وإن أحسنت وطنت وجودت.. ورضي الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه القائل: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم. ورحم الله الراشدين الذين كانوا يكافئون على النقد والنصح للحكام .

أذكر ذلك بين يدي استعراض أهم الملامح السياسية لمبادرة الجماعة الإسلامية لوقف العنف والتي انطلقت عام 1997م مؤكدًا على هذا السلوك وهذا النوع من المراجعات وداعيا كل ذي شأن في الساحة المصرية أن يراجع نفسه وينتقد ذاته فليس منا ولا بيننا أحد معصوم من الخطأ وهو ما يوجب المراجعة والنقد الذاتي في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ مصر والتي قد تفضي في أحد أبعادها السلبية أن نفقد وطننا ونرى مجتمعنا يتفتت ويتصارع وما أكثر المتربصين به والمتآمرين عليه .

والحقيقة أنى لا أجد سببا للتوجه بذات النصيحة للنظام الانقلابي الجاثم على صدر بلادي لأنه أصل الداء الحالي ومكمن الخطر وهو يعي ذلك ولا يفكر في المراجعة ويكفي أن نذكر كلمة الجنرال الشهيرة التي قالها قبل انقلابه بعدة شهور حيث قال: “إن الجيش لو نزل الشارع فإن مصر سترجع للوراء أربعين عاما” ثم فعلها !!

كما أن النظام العسكري الذي حكم بلادنا منذ أكثر من ستين عاما لم يحكمها بغير العنف والقمع والترويع وقد عاد اليوم أشرس من ذي قبل ولا يتصور أن يراجع نفسه ويتخلى عن العنف لأنه يكاد يكون أداته الوحيدة للحكم بعد أن فقد كل الأدوات السياسية ولا يسعى لامتلاكها ففي الوقت الذي يحتفل أحد الفصائل السياسية بالذكرى العشرين لإعلانه التخلي عن العنف طريقا لتحقيق الأهداف السياسية نجد النظام يدشن أوسع حملة عنف في تاريخ مصر لترويع الشعب وتركيع المعارضين .

أما عن مراجعة الجماعة الإسلامية في التسعينيات فهي تحتاج إلى المزيد من تسليط الضوء لأسباب عديدة منها أنها لم تكن مجرد هزيمة أمام قهر النظام المتسلط، كما لم تكن من موقع ضعف أملى عليها التراجع لأن تشكيلات الجماعة المنتشرة في الداخل والخارج آنذاك كانت لا تزال قادرة على المدافعة والاستمرار في الصراع كما كان عدد مهم من قادتها لا يزال خارج البلاد ويمتلك القدرة على إدارة هذا الصراع.. كما كان النظام مأزوما اقتصاديا بالشكل الذي يصعب عليه الاستمرار في مواجهة مفتوحة من هذا النوع إلا بضخ غالب موارده في تأمين القيادة السياسية ثم لتذهب البلاد بعد ذلك إلى الجحيم طالما بقي الرئيس وأبناؤه في مأمن .

كما كانت الجماعة تمتلك هدفا مشروعا، بغض النظر عن الطريقة التي اختارتها في تحصيله، وهو تفكيك القبضة الأمنية العاتية التي وضحت شراستها مع وصول زكي بدر لمقعد وزارة الداخلية ووصول قبضة الأجهزة الأمنية لكل أحشاء المجتمع والتحكم في كل مظاهر الحياة العامة، وصولا للسيطرة الأمنية على كل المرافق وإحكام الخناق على المواطن فضلا عن الساحة السياسية والإعلامية والحقوقية التي أصبحت مصدر إزعاج للنظام، الذي رتب أوضاعه خلال السنوات الست الأولى من حكمه ثم أخذ يتجه نحو بناء ديكتاتورية تحكم للأبد وإن لم يكن قد اتضح يومها اتجاهها نحو التوريث .

كما أن مبادرة وقف العنف التي أطلقتها الجماعة الإسلامية كانت في أحد أبعادها نوعا من “الهجوم السياسي”، ولم تكن مجرد انسحاب أمام جبروت النظام وقوته الغاشمة فقد وضعت النظام في موقف حرج أمام أنصاره وهم غالب القوى السياسية آنذاك الذين كانوا قد وقفوا بجانبه وخضعوا لقبضته الأمنية المغلفة بشعار محاربة الإرهاب وقبلوا السكوت على كل أشكال التوسع في القوانين الاستثنائية والإجراءات القمعية وتأميم الساحة السياسية في مقابل أن يكون لهم من الأمر شيء بعد زوال الغمة وتحقيق النصر المظفر !!

ولهذا كان من الطبيعي تزايد “المطالب السياسية” واتساع دائرة “الاحتجاج السلمي” وارتفاع الأصوات مطالبة بالإصلاح السياسي طالما قد انتهى الإرهاب وهذا ما كان يحذره النظام الذي اختطف المجتمع تحت شعار “لا صوت يعلو فوق صوت مكافحة الإرهاب” وهو ما جعله يتأخر طويلا حتى 2001م فيما بعد أحداث سبتمبر ليضطر للإفراج عن “مبادرة وقف العنف” التي أطلقت عام 1997م وذلك على استحياء وعلى مضض وتحت ضغط الخوف من الأمريكيين الذين راحوا مذعورين يبحثون عن سبب لانتشار الإرهاب في العالم فجاءتهم الإجابة من أهم مراكزهم البحثية وأكبر مفكريهم لتوجه أصابع الاتهام للنظام المصري الذي بالغ في تعذيب الشباب وأفرط في القمع وأغلق كل منافذ التعبير فهاجر الشباب للخارج ليكتشف أن أمريكا هي الداعم الرئيس لهذا النظام .

كما يجب ملاحظة أن مبادرة وقف العنف جاءت دون شروط ومن طرف واحد لأن الطرف الآخر الذي هو السلطة رفض أن يكون شريكا في ذلك لأنه كان يتمنى أن تستمر حالة التعبئة الأمنية التي تصب في صالحه على كافة المستويات وتكرس نظامه الاستثنائي وتجذب له عطفا دوليا برع في التلاعب به.. ولهذا أيضا أطاح بالوزير عبدالحليم موسى لأنه كاد يتوصل لمبادرة شبيهة عام 1993م .

وفي الختام لا يسعني إلا أن أحيي كل من دعا أو شارك في الاحتفال بمرور عشرين عاما على مبادرة وقف العنف وأتمنى أن تكون قد وصلت الرسالة لصاحب الكفة الأثقل في ممارسة العنف وهي السلطة التي لا تزال تمارس أقصى درجات العنف العضوي والقيمي والسياسي في تعاملها مع المعارضين ومع المواطنين فالعنف والقمع حين يأتي من السلطة التي تحتكر كل أدوات العنف فإن الطامة تكون أفدح.. كما أعزي نفسي بل والمجتمع المصري كله في عودة العنف على يد السلطة بأشرس ما شهدته مصر في عصرها الحديث ووصول معدلات القتل خارج القانون لأرقام غير مسبوقة وتعرض المواطنين للتعذيب بشكل يومي دون حساب ووصول معدلات الاختفاء القسري لمعدلات قياسية .

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close