fbpx
قلم وميدان

تحديات الثورة المصرية: القيادة الثورية

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

“يالها من ثورة عظيمة .. ليس لها رأس ولا قائد” “الثورة المصرية قادتها الفكرة وليست الكيانات والشخوص” هكذا كانت تُمتدح الثورة المصرية من قِبل أذناب النظام وفلوله ليل نهار فى كل الفضائيات والمساحات الإعلامية بعد رحيل مبارك، فقد كان الخوف والحذر يتملك هؤلاء من أن يكون للثورة قيادة يأتمر الناس بأمرها وتنتهي بنواهيها، لأنهم يعلمون مدى التأثير الإيجابي الذي يضفيه هذا الأمر على مسيرة الثورة. ولهذا حرصوا أن يجعلوا من ” اللاقيادة ” مُزية يسعى الجميع بالتفاخر بها، بدلا من النظر إليها على أنها خطأ يجب تصحيحه وقصور يجب تفاديه.

وهكذا مُدحت تلك الثورة بأنه ليس لديها قادة يحركون برؤيتهم وبمهاراتهم الجماهير إلى الطريق الصحيح، وللأسف ابتلع الثوار الطعم وانتشوا فرحاً بأنهم أولئك العظماء الذين تحركوا من تلقاء أنفسهم لا يقودهم قائد ولا يلهمهم زعيم.

والناظر إلى مسيرة الثورة فى موجاتها الأولى يجد أن الثورة انحرفت كثيرا عن مساراتها وعن أهدافها ودخلت فى خلافات ومعارك جانبية وفرعية أنهكتها بل وأهلكتها، إن شئت أن تقول، بسبب عدم وجود “الرؤية” التي هى من لوازم وجود القيادة.

فى ميدان التحرير لازلت أذكر حين كنا مختلفين ما هى مطالبنا، ولتفادي الخلاف ولتجاوز الشقاق كتبنا وثيقة تجمع كل مطالبنا بلا استثناء وكانت الوثيقة الشهيرة ببيان “العمارة” لأنها كانت مُعلَّقة على طول عمارة سكنية بميدان التحرير، استطعنا أن نتفادى الأمر فى هذه اللحظة، ربما بسبب توفر عوامل أخرى جعلت من نجاحه ممكنا، أما فى اللحظات اللاحقة من الثورة وبعد رحيل مبارك فقد ظهرت تداعيات ومثالب عدم وجود “القيادة الثورية” بشكل أخذ من الوهج الثوري وأخنق روحها وانحرف بمسارها.

وتحولت الثورة بفعل ذلك إلى التعاطي بأدوات التدافع السياسي بقدر ما بعدت عن أدوات التدافع الثوري، فتصدر الثورة من له جمهور أكثر فى الشارع طبقا للمقاييس السياسية التقليدية، وإن لم يحمل فى طياته أو مشروعه مطالب الثورة الراديكالية الجذرية، فتحول الخطاب الثوري إلى خطاب سياسي، وتحولت كافة الموازنات من رغبة حقيقية فى التغيير الجذري إلى رغبة حقيقية فى الاحتواء والتعايش والمواءمة.

أهمية القيادة فى النضال الثوري:

البشر بحاجة إلى قائد بالضرورة، بحكم طبيعتهم وتجمعهم، هذا فى المظاهر الحياتية الإعتيادية المنزوعة الإحتدام والمواجهة، فكيف إذا كانت تلك الصراعات الإنسانية منوط بها بذل الدم والمال والوقت والعمر كالنضال الثوري مثلا، فهنا تتضاعف أهمية وجود القيادة الملهمة الأخاذة.

إضافة إلى أن الجماعات البشرية لا تتحرك بقوة حول الأفكار، إلا إذا تمثلت فى شخص يستطيع جمع الناس حولها وحشد الناس إليها، فالأفكار المجردة يتبعها النخبة ووجهاء الأمم، أما الأشخاص ذوو التأثير فيتبعهم عموم الناس، وحيث أن الثورة ليست عملاً نخبوياً بالأساس ولكنها عملاً شعبوياً جماهيرياً أكثر من كونها نخبوياً، لهذا يجب للثورة من قيادة ذات تأثير، ويجب لأفكار الثورة من رجال تتمثلهم وتتجسد واقعاً فيهم.

لقد كان تأثير وجود “القيادة الثورية” بمعظم الثورات تأثيرا ساحراً، حيث وفَّر ذلك العنصر الكثير من الجهود، ونجا بالثورة من التيه والشرود فى مسارات غير نافعة أو مجدية، ونقل الثورة من مساحة الثورة إلى مساحة الدولة فى أسرع وقت وبأقل التضحيات والجهود، وتجربة الخميني (1902-1989) فى الثورة الإيرانية ومايكل كولينز (1890-1922) فى الثورة الأيرلندية و”نلسون مانديلا” (1918-2013) فى ثورة جنوب أفريقيا، أمثلة مهمة تُضرب فى هذا الصدد.

تحديات وإشكاليات القيادات الثورية:

المعضلة الأساسية والتحدي الكبير أمام الجماعة الثورية الآن أنها لا تسعى إلى تكوين وإعداد قيادات ثورية، بل تسعى لإجهاضها فور ظهور نبتتها بدعوى التحوط السياسي وعملاً بنظرية المؤامرة. لأن الجماعة الثورية لازالت حديثة عهد بالاستبداد وحكم الفرد المطلق، فيغلب على تفكيرها وللأسف نحر مشاريع القيادات المؤهلة بدلا من تلميعهم وإفساح المجال لهم وفتح خيمة الإمارة الثورية أمامهم.

وحيث أن الحركة الإسلامية هى القلب من تلك الجماعة الثورية الآن، فإن مثالب وعيوب الحركة الإسلامية لها وقع الأصل على الثورة المصرية، ولهذا ثمة ثلاثة أمور تعوق بزوغ نجم ذلك القائد المنتظر، مرتبطة كلها بالحركة الإسلامية، وهي:

1ـ أدبيات الحركة الإسلامية خلال عقودها الماضية التي تجعل عملية طلب الإمارة عملية مشبوهة، ويُنظر لصاحبها بعين الريبة والشك فى الدين والخُلق، وحزمة الأدبيات التي تُلزم الحركة الإسلامية أنهم لن يعطوا هذا الأمر لأحدٍ سأله، فى أسوأ تفسير وتنزيل لنصوص النبي صلى الله عليه وسلم. إضافة إلى قيم حب الظهور والرياء وطلب الشهرة التي اجتاحت تقييمات الحركة الإسلامية لأفرادها الفترة الأخيرة.

2ـ التاريخ المُلّغم للحركة الإسلامية بقادة كانوا من صنيعتها، ثم خانوا عهودها واستعملوها للوصول إلى أغراضهم وطموحاتهم السلطوية، ثم أذاقوا عناصرها سوء العذاب بعدما تمكنوا، هذا جعل الحركة الإسلامية مصابة بمرض “الفزع” جراء تكرار المشهد نفسه أن تُستخدم لتنصيب قائدا منها أو من غيرها.

3ـ اعتماد الحركة الإسلامية، في كثير من الخبرات، وفي العقد الأخير على المدراء التشغيلين وليس القادة الملهمين ذوو الكاريزما، بشيء أفرز خلواً في الجماعات والتنظيمات الإسلامية من قادة تستطيع أن تتكئ عليهم الثورة أو الأعمال الجماهيرية، وإن وُجدوا فإنهم مغمورون إيعازا لما ذكرت فى النقطة الأولى.

وأمام هذه التحديات تأتي أهمية على الثورة المصرية أن تصنع قادتها ورؤوس حربتها، وتعمل على ترميزهم وتلميعهم ومن ثم اتباعهم، والفرصة عظيمة هذه الأيام حيث أن الجميع قد صُهر تحت نار الاختبار وظهرت معادن الرجال، فمن اليسير أن يكون قيادات الغد أقرب ما يكونوا إلى الرشد، وأبعد ما يكونوا عن الزيغ والشطط.

وعلى الجميع أن يفكر بأن الخوف من زيغ القائد فى مستقبل الأيام واحتمالية استبداده وتسلطه، لا يغنى بالضرورة حتمية وجوده ولازميه تصنيعه، فهو فرض الوقت وواجب المرحلة، ولا نكن كالذي يترك الصلاة مخافة عدم الخشوع فيها.

ويجب أن يدرك الجميع أيضا أن التصدر الآن ليس مغنماً بل مغرم خالياً من أي مغنم، فنحن فى أتون معركة ضروس، فالمتقدم فيها للصفوف يجب أن يُحمد ويُنظر له بعين إجلال وليس العكس، فإنه الرجل الذي سُيقتل ولده كما الخميني، وسُيعرّض لكل أنواع الاضطهاد والإيذاء من عدو لا يفهم إلا هذه اللغة ولا يُحسن غيرها.

ويجب أن تكون هذه الثقافة العامة فى الصفوف الثورية، فمن رأى نفسه مؤهلا فليتقدم ولا يبالي، وعلى الجماعة الثورية وفرق النضال أن ترسم له الطريق وتُعد له برامج الإعداد والتهيئة، وأن تنشئ مؤسسات معنية فقط بهذه المهمة، فإن كل ما تنشئه الثورة من مؤسسات هى فى الأصل خدمية لقيادة ثورية لازالت فى مكنون الغيب، ولم أجد مؤسسة واحدة معنية بالبحث عن هؤلاء القادة المحتملين وإعدادهم.

وإن أردنا أن نناقش جدلية أن القائد يُصنع أو يُولد، فحسبي هنا أن أقول فليكن الاثنين معا، فإن كان ثمة قائد قد وُلد قائدا فليعرض نفسه، ثم يتم إعداده وتهيئته من جانب أولئك الذين يؤمنون بأن القائد يمكن أن يُصنع، فنكون قد إلتقينا فى الوسط وأخذنا ما للنظريتين وتركنا ما عليهما.

وقيادة الثورة المصرية عليها من المسئوليات التي تليق بدور ثورة نيط بها تغيير العالم كله، فأنا لا أبالغ حين أقول أن الثورة المصرية هى رمانة الميزان فى مشروعات التغيير على وجه الأرض، ومصير كل تلك المشروعات التغيرية الكبرى وتغيير مصائر الناس جميعهم متصل عضويا بمصير الثورة المصرية، فالثورة المصرية جعلت من قائدها المنتظر ضرورة لازمة أن يكون قائدا فذ يُسطَر فى التاريخ، لأن به سيتغير التاريخ، وسيتغير وجه الأرض.

قيادة الثورة المصرية .. صفات وسمات:

شتان بين القائد Leadership والرئيس Headship، فالأول يستمد شرعيته من قوة تأثيره الجماهيري ووضوح الفكرة في ذهنه ومشروعه وكلماته، والثاني يستمد شرعيته من القوانين والدساتير واللوائح، الأول هو القائد وقت الصراعات والحروب والأزمات وبالضرورة الثورات، والثاني يستطيع أن يقود الدولة فى وقت الاستقرار واستباب الحكم، نحن نحتاج لقائد الثورة الذي يتطاير الوهج الثوري من عينه وقسمات وجه، ولا نحتاج – فى هذه المرحلة- فقط إلى أصحاب الياقات البيضاء ورجال الدولة الذين يقولون الكلام الدبلوماسي المنمق، فلهذا مجاله ولهذا سياقه.

نحن هنا لا نتحدث عن قائد سياسي مفوه أو قائد عسكري شجاع أو غير ذلك من أنماط القيادة الجزئية، ولكننا نتحدث عن قائد يجمع كل هذه الصفات ويكون مقنعاً ومُلهما للجميع، ولعلى أستطرد هنا أهم الصفات والخصائص التي يجب أن تتوافر في ذلك القائد:

1ـ السمات القيادية: يجب أن يكون له مؤهلات ومهارات القيادة والزعامة كالكاريزما والحضور والقدرة على الإقناع والخطابة وغير ذلك من السمات المتعارف عليها.

2ـ التاريخ: يجب أن يكون غير متمركز فى حالات الاستقطاب الموجودة بكيانات الحركة الإسلامية، وأن لا يُحسب على طرف دون الآخر وأن لا يكون طرفا فاعلا فى أي منها.

3ـ السمعة: يجب أن يكون ناصع البياض فى مواقفه السياسية إزاء جميع القضايا السياسية البارزة، وأن لا يكون له موقف موالي لأي مستبد سواء بالسلطة أو مستبد بإحدى الحركات الإسلامية، باختصار يكون شخص لم يُحرق فى أي من المعارك الفرعية قبل ذلك.

4ـ صاحب رؤية فكرية وحركية عاليتين: فهو شخص لا تغلب عليه الحركية بقدر ما توجهه الرؤية والفكر والتنظير.

5ـ يتميز بالجرأة والثورية والتحرر الذاتي والهمة العالية: وتكون هذه الصفات جبلة لازمة فيه، وليست صفات مكتسبة، فهو شخص لا يُطيق الظلم ولا يقدر على الذل أو القهر، ولا يخضع للتنظيمات بل متحرر النزعة منها.

وقد تطرق الكواكبي بكتابه الرائع طبائع الإستبداد ومصارع الاستعباد إلى مواصفات ذلك الرجل الذي سيقود أمته للتغير ومواجهة الاستبداد فقال “إن الأمم الميتة لا يندر فيها ذوو الشهامة، إنما الأسف أن يندر فيها من يهتدي في أول نشأته إلى الطريق الذي به يحصل على المكانة التي تمكنه في مستقبله من نفوذ رأيه في قومه. وإني أنبه فكر الناشئة العزيزة أن من يرى منهم ً في نفسه استعدادا للمجد الحقيقي فليحرص على الوصايا الآتية البيان:

– أن يجهد في ترقية معارفه مطلقًا لاسيما في العلوم النافعة الاجتماعية كالحقوق والسياسة والاقتصاد والفلسفة العقلية، وتاريخ قومه الجغرافي والطبيعي والسياسي، والإدارة الداخلية، والإدارة الحربية، فيكتسب من أصول وفروع هذه الفنون ما يمكنه إحرازه بالتلقي، وإن تعذر فبالمطالعة مع التدقيق.

– أن يتقن أحد العلوم التي تكسبه في قومه موقعا محترما.

– أن يحافظ على آداب وعادات قومه غاية المحافظة.

– أن يقلل اختلاطه مع الناس وذلك حفظا للوقار وتحفظاً من الارتباط القوي مع أحد كيلا يسقط تبعا لسقوط صاحب له.

– أن يتجنب كليٍّا مصاحبة الممقوت عند الناس لاسيما الحكام.

– أن يحرص على أن يُعرف بحسن الأخلاق لاسيما الصدق والأمانة والثبات على المبادئ وأن يظهر الشفقة على الضعفاء والغيرة على الدين والعلاقة بالوطن

– أن يتباعد ما أمكنه من مقاربة المستبد وأعوانه.

ويقول “من يبلغ سن الثلاثين فما فوق حائزا على الصفات المذكورة، يكون قد أعد نفسه على أكمل وجه لإحراز ثقة قومه عندما يريد في برهة قليلة، وبهذه الثقة يفعل ما لا تقوى عليه الجيوش والكنوز ”

خاتمة:

ربما يقول القائل أن رجلا بهذه الصفات نادر وجوده، بل على العكس، ما أكثر هؤلاء ولكنهم فى بيئة يعلمون أنها غير مواتية للإعلان عن أنفسهم، أو ربما لم يكتشفوا أنفسهم بعد ويحتاجون لمن يبحث عنهم ويضعهم على المسار الصحيح، ولكن على الجميع أن يتحرك فى ملء هذا الفراغ الحرج وهو القيادة الثورية. وربما يكون للثورة حزمة قيادية وليس قائدا واحدا، كلٌ له أتباعه وذوييه ولكنهم متفقون على المشروع والرؤية الواحدة والغاية البعيدة، المهم أن تبدأ الثورة بملء فراغاتها الحرجة وإعداد استحقاقات نجاحها وأهمها بالضرورة “القيادة الثورية”(1).

——————————

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close