fbpx
تقديرات

تحولات السياسة التركية بين الثابت والمتغير

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

 

تمهيد (1):

تخوض الدولة التركية هذه الأيام عملية مراجعة شاملة لسياستها الخارجية، تحت عنوان عريض وهو تقليل الأعداء وتكثير الأصدقاء، وهي العبارة التي أطلقها رئيس الوزراء بن علي يلدرم في أولى اجتماعات توليه منصبه، مشيرًا إلى تحسين تركيا لعلاقاتها مع دول البحرين الأسود والأبيض، تحديدًا مع كل من روسيا وسوريا ومصر، وأعقب ذلك تطورات سريعة في العلاقات مع روسيا بما يشير أن الطرفين كانا في انتظار عودة العلاقات، بينما تظل العلاقة مع كل من النظامين في سوريا ومصر لم تتبلور بعد.

ولكي نفهم طبيعة المرحلة القادمة في السياسة الخارجية التركية، يجب أن نحدد ما هو الثابت وما هو المتغير فيها؛ لا سيما في ضوء تضارب تصريحات تتعلق بالعلاقة مع مصر تحديدًا، وكذلك مع النظام السوري بقيادة بشار الأسد. فقد أعلن يلدرم عن نية بلاده تطوير العلاقات مع العراق وسوريا ومصر (يني شفق) في الوقت الذي يؤكد فيه هو والناطق باسم رئاسة الوزراء “نعمان قورتولموش” أنه لا توجد إجراءات عملية حتى الآن بهذا الصدد (ديلي صباح).

أولاً: أهداف المراجعات التركية

تهدف تركيا من مراجعة سياستها الخارجية إلى خلق بيئة أفضل لتحركاتها في المنطقة، بعد أن أجهض الربيع العربي عدة خيوط كانت تمتلكها فيما يتعلق بالاتفاقات التجارية وفتح الحدود وتصفير المشكلات، أما اليوم وبعد تحول البيئة الإقليمية في غير صالح تركيا، فإن تحرك أنقرة كان العودة إلى تقليل المشكلات والأعداء أيضًا، وهنا فإن العلاقات بين مختلف جيرانها تعد علاقات متشابكة ومعقدة للغاية، حيث إنه لا يوجد حليف حقيقي لتركيا في الإقليم، باعتبار أنها وريثة الإمبراطورية العثمانية، والكل يتحسب إلى عودتها مرة ثانية للهيمنة على مناطق نفوذها السابقة، وخاضت حروبًا مريرة ضد كل من روسيا وإيران وأوروبا وحتى مصر على النفوذ والموارد، في حين كانت تنحاز الدول الإقليمية تاريخيًا إلى القوى الكبرى مثل روسيا والغرب الممثل في إنجلترا وفرنسا قديما، واليوم الولايات المتحدة.

واليوم فإن تركيا أمام أطراف إقليميين ودوليين تتسم العلاقة معهم بالازدواجية، والكل يعلم محددات تلك اللعبة، ويرى نية تركيا للصعود ويعمل على تحجيمها، فيما تلعب تركيا على المصالح المشتركة لتعظيمها وتقليل التوتر إلى أقصى حد ممكن، لكسب الوقت حتى تستطيع أن تحقق استقلاليتها الوطنية، باعتبار أن تجربة تركيا قائمة على الانفتاح الاقتصادي وعلى قوتها الناعمة، وعلى استقبال الاستثمارات الأجنبية وعلى خلق مناخ جاذب للاستثمار وللسياحة، ولا يمكن لتركيا اليوم أن تعكس تلك المنظومة باستخدام قوتها الصلبة في الظروف الراهنة، نظرًا للتكلفة العالية التي يمكن أن تدفعها ثمنًا لذلك، ومن ثم كانت عودة تركيا إلى سياسة تكثير الأصدقاء وتقليل الأعداء.

ثانياً: ثوابت السياسة التركية:

هناك العديد من المتغيرات التي حدثت في السنوات الأخيرة جعلت تركيا تضيف إلى ثوابت أمنها القومي أن تصبح قوة لا يمكن الاستغناء عنها، بمحاولة أن تصبح معبرًا للطاقة إلى أوروبا، وهذه النقلة يمكن لتركيا من أجل تحقيقها أن تتنازل عن العديد من الأهداف التكتيكية، ويمكن إجمال ثوابت السياسة التركية في المرحلة الراهنة بالتالي:

1ـ أن تصبح معبرًا للطاقة إلى أوروبا وتستفيد بفرق أسعار الغاز من أجل سد حاجاتها في مجال الطاقة.

2ـ أن تحقق طفرة في صناعة السلاح لتصبح مصدّرة للسلاح وأحد المنافسين في سوق السلاح العالمي بما يحقق لها نفوذًا إقليميًا وتحقيق أمنها القومي.

3ـ أن توسع من قاعدتها التجارية لدعم صناعتها المحلية وقدرتها التنافسية.

4ـ أن تصبح مستقبلة للاستثمارات الأجنبية لاسيما من دول الخليج في حقبة ما بعد النفط لمواصلة صعود اقتصادها عالميًا.

5ـ أن تحافظ على دورها الإقليمي في مناطق نفوذها القديم وتقديم سياسة خارجية ذات بعد قيمي وإنساني انطلاقًا من دورها التاريخي.

وتتحرك تركيا في ظل تلك الأهداف بالوضع في الاعتبار أسس الأمن القومي التي صاحبت إنشاء الدولة القومية بعد انهيار الخلافة العثمانية، وهو وضع الخطر الكردي على رأس الأولويات، ومقاومة أي حركات انفصالية بحسم وكذلك عدم السماح باحتواء الدولة التركية جنوبًا حيث إن منطقة الشام ظلت تحمل أهمية كبرى في الأمن القومي التركي باعتبار أنها تمثل عمقًا حيويًا لتركيا، بالإضافة إلى الدول الناطقة بالتركية شرقًا، ومن ثم فإن مناطق الشام ظلت دومًا مناطق تابعة للخلافة العثمانية ومناطق انتقال للسكان الأتراك والعرب وتحمل إرثًا تاريخيًا لتركيا، وتزداد أهميتها في الفترة الحالية مع تفكك الدولة السورية بالإضافة إلى مناطق شمال العراق والتي فيها أقلية تركمانية أيضًا بما في ذلك الصراعات التاريخية مع بريطانيا حول تقسيم المنطقة في أعقاب سايكس بيكو.

ومن ثم فإننا نستطيع أن نفهم نية تركيا لتجنيس السوريين في هذا الإطار؛ حيث إن الدولة التركية قادرة على استيعاب المزيد من الكوادر البشرية للاستفادة من قدراتهم لاسيما ذوي الكفاءات منهم في دفع عجلة الاقتصاد وتحقيق أهداف الحكومة التركية (الأناضول)، حيث إن الأمر لا يتعلق فقط بمسألة التصويت في الانتخابات كما قالت المعارضة التركية (أخبار العالم) ولكن الأمر يتعلق برؤية حزب العدالة والتنمية لجوارها الجغرافي وللروابط مع السكان في الإقليم، في إطار رؤية تهدف إلى إعادة الارتباط بمناطق نفوذ الخلافة العثمانية السابقة، على عكس الحركة القومية والكمالية في البلاد.

ثالثاً: العلاقات مع دول الإقليم:

إن مختلف الدول تتعامل مع تركيا باعتبار تلك الازدواجية في العلاقة التي تهدف إلى تحقيق التعاون في الوقت الذي تخشى فيه من استعادة تركيا لنفوذها الإقليمي بالوضع في الاعتبار الإرث التاريخي لتركيا والأهداف الحالية لحزب العدالة والتنمية، وهذا الأمر ينطبق على كل إسرائيل ومصر والسعودية وإيران، بالإضافة إلى روسيا والولايات المتحدة. فمصر تعلم أن نفوذ تركيا في المنطقة سيخصم من نفوذها، ومن ثم فإن رؤية النظام المصري هو الانضمام إلى التحالف الإسرائيلي اليوناني القبرصي فيما يتعلق بالصراع على مصادر الغاز شرق المتوسط، ولكن المتغير الجديد الذي طرأ على المعادلة هو الاتفاق التركي الإسرائيلي على البدء في تنفيذ مشروع خط أنابيب ينقل الغاز إلى أوروبا، وهنا فإن الدولة المصرية باكتشافاتها الحديثة التي من المتوقع أن يبدأ استخراجها في 2017 (الجزيرة) تجد نفسها مجبرة على الانضمام إلى محور تركيا إسرائيل، باعتبار أن الأنبوب في حال تم بناؤه فإن مصر ستستفيد منه بتصدير غازها إلى أوروبا، بدلا من التكلفة العالية لنقله عبر السفن أو عمل أنبوب يسير في المياه العميقة بتكلفته العالية ومخاطرة الجسيمة، ومن هنا قد نفهم تصريحات تركيا بشأن عودة العلاقة مع مصر مع التحفظ على سجلها في حقوق الإنسان بعد الانقلاب.

لذلك جرى التنسيق المصري الإسرائيلي في هذا الصدد واطلعت الحكومة الإسرائيلية مصر على بنود اتفاقها مع تركيا (فيتو)، فيما يبدو توطئة لإشراك مصر في صفقات تصدير الغاز القادمة، فيما تتبقى العديد من النقاط الخلافية في العلاقات المصرية التركية، وقال مسئول بحزب العدالة والتنمية أن وفدًا تركيا من المتوقع أن يزور مصر قريبًا (روسيا اليوم) قبل أن يعود رئيس الوزراء بن علي يلدرم ليؤكد على أنه لا توجد خطوات حتى الآن فيما يخص ملف المصالحة مع مصر، وركز في تصريحاته في 13 يوليو على عودة العلاقات مع سوريا دون التطرق إلى مصر (الأناضول)، بما يشير إلى وجود تعثر في هذا الملف، ولكن ذلك سيكون مفهومًا إذا علمنا أن مصر ليست متعجلة للمصالحة مع تركيا حيث لا شيء يدعوها إلى ذلك الآن، حيث إن القاهرة لا تزال لديها عدة ملفات من بينها التعاون مع أكراد سوريا وكذلك الخط الملاحي التركي الذي يذهب إلى الخليج عبر مصر.

وفيما يتعلق بالعلاقات مع النظام السوري فإن رئيس الوزراء التركي صرح في كلمة ألقاها خلال الاجتماع الموسع لرؤساء فروع حزب “العدالة والتنمية” الحاكم، في أنقرة، أنه “لابد من إرساء الاستقرار في سوريا والعراق، وأن تكون فيهما إدارة سياسية قوية، يمثل فيها جميع أخوتنا هناك، وهذا لا مفر منه، حتى يتسنى لنا النجاح في مكافحة الإرهاب” (الأناضول)، فيما تعضده تقارير تفيد بوصول قيادات عسكرية سورية إلى أنقرة بهدف التوصل إلى إنشاء حكومة موسعة في سوريا تشمل جميع الأطياف.

حيث نشرت صحيفة (أورينت نيوز) خبرًا مفاده وصول وزير الدفاع السوري السابق العماد “علي حبيب” إلى أنقرة، قادماً من العاصمة الفرنسية باريس، وذلك لإجراء مشاورات مع القيادة العسكرية التركية، وتم استقباله بشكل رسمي في مطار أنقرة، بحضور نائب رئيس هيئة الأركان العامة للجيش التركي، ومدير جهاز الاستخبارات التركية الجنرال “حقان فيدان”، لينتقل بعدها العماد “حبيب” إلى مقر إقامة كبار الزوار في “هيئة الأركان” التركية في إحدى ضواحي العاصمة التركية.

وأنه من المتوقع أن المسؤولين الأمنيين الأتراك سيبحثون مع “العماد حبيب” تشكيل حكومة عسكرية موسعة برئاسته بمشاركة عدد كبير من ضباط النظام والضباط المنشقين، وانشاء نواة موسعة لجيش وطني، يتألف من حوالي عشرة آلاف ضابط وجندي كمرحلة أولى، من معسكرات الضباط المنشقين التي تحظى بحراسة شديدة في الأردن وتركيا، ومن ضباط موجودين الآن في الخدمة العاملة في جيش النظام، وستستخدم هذه المعسكرات التي يعيش فيها الآن الضباط المنشقون كقواعد عسكرية لتأهيل الجيش الوطني، ومن المتوقع أن ينضم إلى هذا “الجيش الوطني” فصائل عسكرية تابعة للجيش الحر، ليس كمنظمات، ولكن كأفراد يجري استيعابهم في إطار الجيش الوطني. وهذه التقارير تتماشى مع التصريحات المعلينة للقيادات التركية التي أصبحت تتحدث عن عودة العلاقات مع سوريا وكذلك التقارير السابقة التي تحدثت عن وجود محادثات سرية جرت في الجزائر على هامش ملف المصالحة التركية الروسية (كارنيجي).

خلاصة

في المجمل نستطيع أن نقول أن السياسة الخارجية التركية تحاول الآن الاقتراب من (تصفير المشكلات) مرة ثانية، بالرغم من أن ذلك لن يحدث لا بالصورة النظرية في كتابات أحمد داود أوغلو، ولا حتى بمستوى ما قبل الربيع العربي، ولكن السياسة الخارجية التركية تهدف إلى إعادة خلق بيئة إقليمية تسمح لها بالتحرك لتحقيق مصالحها انطلاقًا من أهدافها المشار إليها عاليه، وقبول الازدواجية في العلاقات مع كل من روسيا وإسرائيل ومصر وسوريا، محاولة منها لشراء الوقت من أجل تحقيق أهدافها الاقتصادية والتنموية.

فمع وجود تنسيق تركي روسي انطلاقًا من مصالحهما المشتركة فإن أنقرة ستتمكن من إيجاد وسائل ضغط على النظام السوري من أجل وقف الحرب في البلاد، بالوضع في الاعتبار أن التدخل الروسي هو الذي قلب المعادلة لصالح بشار الأسد، ولكن الدعم الروسي لن يستمر إلى الأبد، بالوضع في الاعتبار المشكلات الاقتصادية التي تواجهها روسيا.

ومن ثم فإن المصلحة التركية الروسية تتقاطع في إنهاء الحرب ووقف القتال، بينما استمرار النظام الأسدي حتى لو بصيغة توافقية سيحقق المصالح الروسية في استمرار وجود دمشق تابعة لموسكو وعدم خروجها عن فلكها فيما يتعلق بكونها المصدر الأساسي للسلاح للجيش السوري، وكذلك الحفاظ على قاعدتي طرطوس وحميميم، وهي المكاسب الأساسية لروسي من ذلك الصراع، بينما سيؤدي وقف الاقتتال في سوريا إلى قدرة تركيا على إعادة اللاجئين إلى سوريا وكذلك تخفيف الضغط الأمني عليها في الداخل، وتفرغ مختلف الأطراف إلى المرحلة التالية وهي تفريغ سوريا من المقاتلين الأجانب وإيجاد حل وطني للحرب الأهلية، ومن ثم فإن تركيا لن تكون بعيدة بشركاتها العملاقة في إعادة إعمار البلاد.

—————————-

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close