fbpx
أسيا وافريقياالمشهد التركي

تطورات المشهد التركي 9 مايو 2016

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

 

(1) كان التطور الأبرز في المشهد التركي خلال الفترة التي يغطيها التقرير (من 2 إلى 8 مايو 2016)، هو إعلان الدكتور أحمد داود أوغلو نيته التنحي عن منصبه كرئيس للوزراء ورئيس لحزب العدالة والتنمية وذلك خلال المؤتمر العام الطارئ للحزب المزمع عقده يوم 22 مايو 2016 (بي بي سي).

وبالرغم من حنكة أوغلو وتفانيه في الدفاع عن الحزب والرئيس رجب طيب أردوغان في خطاب نيته التنحي عن رئاسة الحزب والحكومة (الحياة)، وحرصه كذلك على استقرار الوضع السياسي وإرساله رسائل تطمينيه للاقتصاد وللمستثمرين، إلا أن ذلك الحدث ربما يكون له تداعيات مستقبلية على كل من مسار حزب العدالة والتنمية، ومسيرة تركيا بصورة عامة. فاستقالة أوغلو تؤرخ لعهد جديد من عمر الحزب الذي يستعد إلى تحويل النظام السياسي إلى نظام رئاسي، ويؤشر كذلك إلى انفراد الرئيس أردوغان بالقيادة داخل الحزب بعد السيطرة الكاملة لرجاله على عملية اتخاذ القرار، بعدما تم تهميش أوغلو في اختيار قيادات الحزب المحلية وكذلك اللجنة المركزية للحزب (ترك برس)، وعدة منعطفات أخرى أثبتت أن أوغلو لم يرض أن يكون بلا سلطة حقيقية في منصب سيحاسبه عليه التاريخ.

وعلى هامش استقالة أحمد داود أوغلو تبرز مجموعة من الملاحظات والتداعيات والاعتبارات التي يجب مراعاتها من جانب صانعي السياسة التركية والمهتمين بها، وذلك على النحو التالي:

1ـ وجود اتجاه إلى مزيد من الاعتماد على الصوت الواحد داخل الحزب، وهم الأعضاء الموالون لأردوغان، والذين سيتم تصعيدهم تباعًا في الفترات القادمة، وكذلك سيتم تهميش الأصوات التي كانت تمثل المعارضة أو “الصوت الآخر”، تعلمًا من أزمات أوغلو ومن سبقوه وخرجوا من الحزب، مما سيكرس لعملية الانفراد باتخاذ القرار، واتباع “حدس” الزعيم.

2ـ ربما يتم تهميش الأكاديميين، والاعتماد بصورة أكبر على التنفيذيين القادرين على الاتباع السريع لإيقاع قرارات أردوغان، وهو ما سيفقد الحزب العقول المفكرة، أو على الأقل أهمية إنتاجها، والتي من المفترض أن ترسم الخطط الاستراتيجية طويلة الأمد، ومن ثم سيتم الاعتماد على التكتيكات السريعة التي تواكب حدس أردوغان وكاريزميتة.

3ـ ربما يمتد الانقسام إلى داخل الكيان الأكاديمي ذاته داخل تركيا بصورة عامة، وهو ما بدا أنه يتشكل الآن فيما نراه من انحيازات بعض الأكاديميين، والذين يهدفون إلى عدم حسابهم على معسكر أوغلو الراحل عن المشهد، خوفًا من خروجهم هم أيضًا من دائرة اهتمام صانع القرار في البلاد، ومن ثم ستتقلص مساحة النقد الأكاديمية لتحركات الحزب على المشهدين الداخلي والإقليمي، وهو ما سيفقد الحزب العين الناقدة التي ترى من بعيد وتساهم في توجيه القيادة تجنبًا للعثرات.

4ـ ربما نرى المزيد من تصلب الآراء فيما يتعلق بالقضايا الهامة التي دار حولها الخلاف بين أردوغان وأوغلو، وعلى رأسها التعامل القضائي مع الأكاديميين والصحفيين والتعامل مع القضية الكردية، وكذلك اتفاق الهجرة مع الاتحاد الأوروبي، ومن وراء ذلك التعامل مع الغرب بصورة عامة؛ حيث كان أوغلو يمثل الطرف الآخر من المعادلة وكان يستمع إلى كافة الآراء بوجهه الدبلوماسي والأكاديمي، الذي كان يحظى بقبول عند مختلف الأطراف الإقليمية والدولية.

5ـ ستحاول المعارضة استغلال هذا الخروج لأوغلو لمزيد من تكريس صورة أردوغان كديكتاتور، وستعمل على شق الصف داخل الحزب وقاعدته الانتخابية، وتزيد من تصعيدها ضد أردوغان بالاشتراك مع أطراف محلية وإقليمية ربما تضررت بصورة أو بأخرى من قرارات أردوغان، والتي ربما اعتبرها هو مصيرية في تعامله مع بعضها باعتبار أن البلاد في حالة حرب ولا يصلح معها المواءمات.

6ـ تأتي استقالة أوغلو في ظل ظروف داخلية وإقليمية غاية في الخطورة، فأردوغان فتح حربا على عدة جبهات داخلية، منها “الكيان الموازي” برجال أعماله ووسائل إعلامه، وعلاقاته بمفاصل الدولة، وبعض قطاعات من الصحفيين والإعلاميين، وتصريحه “العابر” بعدم احترامه لبعض قرارات القضاء الذي أفرج عن صحفيين متهمين (سكاي نيوز)، وكذلك توجهاته الحادة فيما يتعلق بالتمرد الكردي شرق البلاد، بالإضافة إلى تهديد تنظيم الدولة والنظام السوري والمليشيات الكردية العاملة من داخل سوريا بالتعاون مع حزب العمال الكردستاني، ما يعني أن أردوغان قرر قطع خط الرجعة والمضي قدما في تصعيد حالة الصراع مع تلك الأطراف المختلفة، بعد أن كان أوغلو يمثل صوتا هادئا يسعى إلى الحوار مع مختلف تلك الأطراف.

7ـ أي تعثر قادم لحزب العدالة والتنمية على أي المستويات، الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية، سيفتح الباب أمام المناداة بعمل حزب جديد من المنفصلين عن الحزب، وهم عدد كبير من القيادات التي كانت تحسب على الاعتدال داخل الحزب، مثل الرئيس السابق الذي كان يعد ثاني شخصية في الحزب عبد الله جول، ورئيس البرلمان الأسبق ونائب رئيس الوزراء والناطق الرسمي باسم الحكومة “بولنت أرينج” و”علي باباجان” نائب رئيس الوزراء السابق مهندس الاقتصاد التركي (ترك برس)، والآن الأكاديمي والسياسي “أحمد داود أوغلو”، وكلها أسماء تستطيع إنجاح أي حزب، وإن كان ذلك لا يصب في صالح التجربة الحزبية للعدالة والتنمية في المجمل، الذي كان يجب عليه أن يحتوي الخلافات وألا تخرج القيادات من داخل الحزب، بل يستمرون في عملية الإثراء الفكري والتنظيمي من الداخل.

8ـ ربما تنجح الحملات المضادة لأردوغان في عدم تمرير التعديلات الدستورية بتحويل النظام السياسي إلى نظام رئاسي، كما صرح أوغلو بعد نتائج انتخابات يونيو 2015، والتي حصل فيها الحزب على 41% فقط، أي أن الشعب بتلك النتيجة رفض النظام الرئاسي، وهو تعبير عن الطبيعة الديموقراطية لأوغلو الأكاديمي الذي يحترم الاستطلاعات ونتائج الانتخابات كمؤشر على قياس الرأي العام، وهو التصريح الذي لم يعجب أردوغان واعتبره مخالفًا لرؤيته، ومثّل نقطة في الخلاف بين الرجلين، وبينما سعى أوغلو إلى حكومة ائتلافية آنذاك، كان إصرار أردوغان على الانتخابات المبكرة، رهانًا منه على خوف الشعب من الحكومات الائتلافية، وهو ما صدق فيه حدسه وصوّت الشعب لصالح العدالة والتنمية ليشكل الحكومة منفردًا من جديد، لكن هذه المرة، فإن خوف الشعب من انفراد أردوغان بالسلطة سيكون مضاعفًا، بعد غياب أوغلو عن المشهد، ومن ثم فإن تصويته ضد النظام الرئاسي سيكون ضربة قاصمة لأردوغان ولحزبه على حد سواء.

9ـ يمكن أن يفقد الحزب قدرته على تفريخ كوادر كاريزمية جديدة، فقد أثبت أوغلو أنه قادر على لعب دور السياسي القادر على تحريك الجماهير في مؤتمراته الأخيرة، واستطاع أن يرتجل وأن يخطب وأن يلهب مشاعر الناس، وهي الثغرة الأساسية التي كانت موجودة في حزب العدالة والتنمية، أنه لم يكن هناك بديل لأردوغان في حال اختفائه عن المشهد لأي سبب من الأسباب، إلا أن الإطاحة بأوغلو وغيره من القيادات التي استطاعت أن تطور كاريزمًا خروجا من ظل أردوغان، سيؤدي إلى تكريس أزمة الزعامة داخل الحزب، وحتى الذين لديهم مقومات القيادة ستموت داخلهم بعدما تعلموا بالمشاهدة مصير من يصعد داخل الحزب ويكوّن شخصيته المستقلة، مما سيفرز كوادر جديدة تتحرك فقط في “ظل” الزعيم، وهو ما سيؤدي إلى غياب الحزب مع غياب أردوغان في يوم من الأيام.

10ـ إن الفترة الحالية ليست فترة عادية في عمر الدولة التركية، وربما يرى البعض أنه من المناسب اتخاذ قرارات سريعة وحاسمة، وهي تناسب الشخصيات ذات الكاريزما والخبرة السياسية من أمثال أردوغان، فيما أن الشخصيات التي تتمتع بالقدرة على التنظير الأكاديمي ورسم خطط المستقبل تصلح لفترات الرخاء وتحتاج إلى فترات زمنية طويلة الأمد لرسمها وتحقيقها، فهم يتحركون ببطء حركة التاريخ ذاتها، فيما أن الأحداث على الأرض تتطلب القيادة الفطرية التي تستطيع الطرق على الحديد وهو ساخن مثل أردوغان، الذي يتمتع كذلك بسرعة بديهة ليس فقط في قراراته، ولكن أيضًا في الرد على مخالفيه بصورة آنية وفورية وسرعة بديهة فطرية.

11ـ إن عملية اتخاذ القرارات في الفترة المقبلة يمكن أن تشهد مزيداً من الحدية على المشهد السياسي، وأن تؤدي إلى مزيد من الاصطدام وتخندق القوى المعارضة لأردوغان داخل البرلمان وخارجه، لاسيما بعد الاشتباكات بالأيدي التي وقعت عند مناقشة رفع الحصانة عن النواب واستهداف حزب الشعوب الديموقراطي بذلك، وتلك الاشتباكات تؤشر إلى ارتفاع حدة التوتر على الساحة، وأن ذلك التوتر ربما ينتقل إلى الشارع مع أول منعطف تصويتي والذي ربما سيكون على الدستور الجديد.

12ـ من المؤكد أن تركيا لم تعد تعيش في حقبة “صفر مشكلات” والتي انتهت فعليا بخروج أوغلو عن الساحة السياسية، وأن المشهد الإقليمي ربما يتحول هو الآخر إلى استخدام القوة الصلبة، وهو ما لوح به قادة الجيش في أكثر من مناسبة، أن القوات التركية في المناطق المتاخمة لمناطق الصراعات في حالة تأهب، بل داود أوغلو نفسه في تصريح للجزيرة قال أن تركيا ستتدخل إذا تطلب الأمر ذلك (الجزيرة.نت)، بالإضافة إلى خوض الجيش التركي لحرب حقيقية على الجبهة الشرقية امتدادًا حتى عمق إقليم كردستان العراق، حيث تشن الطائرات التركية حملات دورية على معاقل حزب العمال الكردستاني هناك، وفي حال تورط الجيش التركي في حرب على الجبهة السورية، فإن الأمور ستتصاعد بصورة ستعطي العسكريين مزيدًا من الظهور من جديد، وهو ما يمكن أن يعطي ذريعة لهم بالتدخل في الشأن السياسي في حال تطورت الأمور داخليًا وتعثر الاقتصاد نتيجة تصاعد الاختلافات بين الأحزاب، مما يمكن أن يعيد مشاهد الانقلابات العسكرية والتي تتدخل دائمًا بحجة الحفاظ على الأمن القومي ومنع انهيار البلاد سياسيا واقتصاديًا.

وبالطبع ليس خروج داود أوغلو من المشهد هو الذي سيسفر عن ذلك بصورة مباشرة، ولكن تواري المواءمات السياسية والتنازلات المتبادلة بين الأحزاب على الساحة يمكن أن يؤدي إلى مزيد من الراديكالية والتصلب في المواقف، وهو ما يمكن أن تحاول استثماره العناصر المناوئة لأردوغان، وخاصة ما يسمى بالكيان الموازي، وهو ما كان يحاول أوغلو أن يتجنبه طوال مسيرته السياسية التي اعتمد فيها على تقريب وجهات النظر بين مختلف الأطراف بوجهه الباسم دائمًا الذي يتجنب الصدام.

13ـ إن زيادة وتيرة المعارك قد تعني بالضرورة زيادة نفوذ العسكريين، كما أن المتربصين بالتجربة التركية كثيرون، ممن لا يريدون استعادة تركيا مكانتها في الإقليم، ويتفقون على ضرورة وأد النفوذ التركي على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم، وربما عداء تركيا هو الشيء الوحيد الذي ربما يتفقون عليه، من أطراف تبدأ من روسيا وإيران ودول أخرى في الإقليم مثل أرمينيا، وانتهاء بإسرائيل وبعض الصقور في الولايات المتحدة ممن يغذون مشاعر قبول انقلاب عسكري بالبلاد.

14ـ على حزب العدالة والتنمية مضاعفة الجهد من أجل ترسيخ أقدامه على الساحة الداخلية وإثبات أنه حزب سياسي بحق، وبالرغم من التوقعات التي تفيد بأن رئيس الحزب القادم سيكون من رجال أردوغان؛ إلا إن الحزب ومن أجل أن يحافظ على مكانته السياسية، يجب أن يبذل جهدًا مضاعفًا للترويج لوجهة نظره فيما يتعلق بالنظام الرئاسي، وتأكيده على دور الشعب في عملية تشكيل النظام السياسي القادم، والتأكيد كذلك على مسيرة الحزب خلال تاريخه القصير في العملية السياسية بأنه يلجأ دائمًا إلى استفتاء الشعب في حال تعثر المشهد السياسي.

15ـ من المهم للحزب التفكير بجدية في كيفية إعادة دمج الخارجين منه من القيادات الكبرى في صورة هيئة استشارية تساعد في التنظير للحزب على المدى البعيد، وإعادة رسم ملامح المستقبل، والتأكيد على أهمية الرأي الآخر داخل المجتمع الأكاديمي والحزبي على حد سواء، وعلى رأس ذلك أحمد داود أوغلو، الذي ربما يستثمر الفترة القادمة في تقديم صورة جديدة ومنقحة لرؤيته الاستراتيجية لتركيا في ظل الأزمات الراهنة، ومن واقع تجربة عملية وتنفيذية وليست أكاديمية فقط للعمل داخل جهاز الدولة البيروقراطي، فأوغلو يعد من أهم المنظرين الاستراتيجيين في العالم الإسلامي كله، كما أن تجربة العدالة والتنمية هي الأخرى تعد ملكًا للعالم الإسلامي، الذي ينظر بترقب وحذر إلى الخطوات التالية للقادم الجديد على “كرسي الباشبكان”.

——————————-

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close