fbpx
قلم وميدان

حصار قطر: بين حكم الشرع وواجب العلماء

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

لسنا بحاجة إلى البرهنة على أنَّ الحصار المضروب على قطر من قِبَلِ جاراتها لا يوجد له مبرر مقبول ولا سبب معقول؛ لأنَّ بذل الوسع في الاستدلال إنما يكون على ما يخفى لا على ما يبلغ من الظهور ما تبلغه الشمس إذا توسطت السماء وتربعت في العلياء؛ فليس من الحكمة -إذاً -تضييع الوقت بتكرار الْمُكَرَّر وتقرير الْمُقَرَّر، فلندلف إلى ما يجب بيانه، وهو الحكم الشرعي لهذه النازلة المدلهمة، وإن كانت بديهيات الشرع تبوح بالحكم قبل إعمال الفكر وإجالة النظر، لكن ليكن من قبيل التذكير وإقامة الحجة.

هذه النازلة الطارقة تتلقاها قواعد الشريعة وأصولها العامة بالتفظيع والتشنيع؛ فما من أصل من الأصول المقررة بقواطع الشرع إلا وقد بلغ غاية الاستفزاز والاشمئزاز منذ فاجأتنا هذه الفاجعة، إلى درجة أنَّ جميع مقاصد الشريعة الضرورية التي دل الاستقراء التام على تقريرها صارت كالريشة في مهب هذه العاصفة الهوجاء التي هبت على حين غرة من سراويل حفنة من صبية الأمراء.

فجميع مقاصد حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال والعرض التي تكاتفت أحكام الشريعة وتعاضدت لحمايتها صارت مرهونة بأهواء هؤلاء الصغار الأغمار؛ وعندما يصير الأمر على هذا النحو فلا تسل عما يمكن أن يقع من حروب لا ناقة للمسلمين فيها ولا جمل، وعما يمكن أن يسيل من دماء بلا طائل ولا ثمن، وعما يمكن أن يجري من فتن تشتعل في بلاد المسلمين وتستشري نارها ويستعر أوارها فلا تخمد إلا وقد خَلَّفَت البقاع والأصقاع أكثر تمزيقا وأشد تفتيتاً.

وإذا كانت الأمة الإسلامية قد عدمت في زمانها هذا سلطاناً شرعياً جامعاً يحقق أمر الله تعالى لها بالاتباع والاجتماع، فإنَّه لا يسع أيَّ حاكم لأيِّ رقعة من هذه الرقاع المتناثرة أن يستثمر تلك الحدود السياسية المصطنعة ليمزق شمل المسلمين ويفرق جماعتهم، فالمسلمون أُمَّة واحدة مهما تعددت دولهم وتفرقت أمصارهم، وهم مأمورون بالحفاظ على وحدتهم أمراً غاية في الإحكام: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).

وإنَّ الأصل الذي تواطأت الشرائع على تقريره وتواضعت على إظهاره وتحريره أنَّ الأرض بما فيها من سُبُلٍ ومعايش وأرزاق وأسواق إنَّما هي لله تعالى، وأنَّ الله استخلف فيها الإنسان، وأباح له أكنافها وأتاح له أكتافها، وجعلها له مركبا ذلولا، وسخر له ما في برها وبحرها ورطبها ويابسها؛ فهو حُرٌّ يسيح فيها حيث شاء بما لا يضر غيره ممن أشركهم الله معه في خيرها واستعمرهم مثله على ظهرها؛ فمن سعى في حرمان الناس من هذا الحق بغير سلطان من الله فهو هادم لأصل شرعيّ وإنسانيِّ عريق بعراقة بني آدم، وقد أنكر القرآن على قوم لوط: (إئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل).

وإنَّ ولاء المؤمن إنما يكون لله ولرسوله وللمؤمنين: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) وإنَّ شدة المؤمنين وبأسهم إنما تكون على أعدائهم لا على إخوانهم: (أشداء على الكفار رحماء بينهم) (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) فمن رام قلب هذا النظام، ليغدو سيف المسلم مغموداً على أعداء الله مسلولاً على أوليائه؛ فهو مبتغ في الإسلام تبديلاً وتحريفاً وطالب للمسلمين محقا وتجريفاً، فهل يوجد في دنيا الناس فعل يستحق التحريم والتجريم ويستوجب المقاومة والمدافعة أكثر  من هذا ؟!

ولا ريب -والأمر هكذا -أنَّ العلماء قد وُضِعوا في امتحان جِدّ عسير وفي وموقف جِدّ خطير، ولا ريب -كذلك -أنَّهم لو وسعهم السكوت -ولا أحسبه يسعهم -فلا يمكن بحال أن يستساغ منهم التأييد والتصويب، كما لم يعد وجيها ولا مقبولاً أن يخلعوا على كل من نزا على بلاد المسلمين فأضاع دين الناس ودنياهم وصف “ولي الأمر”، لأنَّهم مهما حَصَّلوا بهذا السلوك المنحرف من مصالح دعوية وشرعية فإنها تطيش إذا وزنت بمفسدة التغرير بالشعوب، وإخضاعها وتعبيدها لمن يمحقها ويبيدها.

أمَّا الشعوب فلدى تعرض دينها وأمتها لخطر كبير كهذا يجب عليها شرعاً ألا تطيع لهؤلاء أمراً، (إنما الطاعة في المعروف) و(لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)كما يجب عليها أن تعبر بشتى وسائل التعبير عن رفضها لهذا العدوان الذي تواترت نصوص الشرع بمنعه، وألا تخذل المؤمنين في مواطن يحتاجون فيها إلى نصرهم وتأييدهم، فلو تطور الأمر إلى قتال فلا تجوز المشاركة فيه بحال؛ لأنَّه يفضي إلى قتل نفوس معصومة بغير حقّ؛ (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيماً) اللهم إلا من وقف – بعد استفراغ الوسع في الإصلاح – لنصرة المحصورين المعتدى عليهم؛ حتى تفيء القُوَى الباغية المعتدية إلى الحقِّ والرشد (فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله).

هذا الحديث الذي أسلفت هو أقل ما يمكن أن يقال في هذه الداهية الدهياء؛ وإلَّا فإنَّ ما وراء الأكمة قد فاح ريحه وذاع خبره، فلم أتحدث عن غارة “ترامب” وآثارها الواقعة والمتوقعة، ولم أتطرق إلى ما لم يعد خافياً من  خطط التقسيم الجديدة التي أصبح العلم باستهداف العدو لها مما لا يمكن دفعه، ولاسيما بعد أن بدت ملامحه على أثر العدوان الصليبي على العراق، ثم على أثر الانقلابات على الموجة الأولى من الثورة العربية، وإذا كان تورط صدام في العراق قد افتتح المسيرة فلا نستبعد أن تختتم على يد هؤلاء الحمقى إن هم لجوا في غيهم ولم يسعدوا بمن يردعهم.

فيا أهل الإسلام أغيثوا الأمَّة من نكبة قد تقصم ظهرها فلا يكون لها قيام بعدها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، واعلموا أنَّ المستهدف ليس قطر في ذاتها؛ وهل جَدَّ على قطر جديد منذ زمن بعيد؟! إنّها والله شرارة إن أطلقت فلن تنطفئ حتى تلتهم بلادنا من الخليج إلى المحيط وحتى يذبح ديننا من الوريد إلى الوريد، ونسأل الله السلامة، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل (1).

————————————

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close