fbpx
تحليلاتقلم وميدان

خبرات إدارة ما بعد الصراعات: جنوب أفريقيا

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

 

(1)كانت جمهورية اتحاد جنوب أفريقيا مثالًا من أسوأ أمثلة التفرقة العنصرية البغيضة، حيث حكم أربعة ملايين من العناصر البيضاء، حوالي 29 مليونًا من غير البيض، هذا الاتحاد الذي فقد وحدته قبل أن يولد، وأصبح جنة الأقلية، وجحيم الأغلبية، وقلعة التفرقة العنصرية، فقد سلكت الأقلية البيضاء سياسة عزل الأغلبية غير البيضاء في مناطق تتسم بالفقر والجدب حيث المعازل، ويسخرون في خدمة البيض، وأمعنت سلطات البيض في جنوب أفريقيا في سياسة التفرقة العنصرية، وتمادت في تطبيقها مما جلب عليها سخط العالم واستنكاره، وأصدرت هيئة الأمم المتحدة عدة قرارات لمقاطعة اتحاد جنوب أفريقيا في سنة 1962م، والسنوات التالية لها، كما قاطعت دول العالم الثالث اتحاد جنوب أفريقيا بسبب التفرقة العنصرية.

أولاً: التركيبة العرقية:

يتكون سكان جنوب أفريقيا من عناصر عديدة، وكانوا ينقسمون حسب نظم التفرقة العنصرية إلى مجموعتين: البيض وغير البيض، ويبلغ عدد البيض حوالي 5 ملايين نسمة، بينما عدد الوطنيين، وهم قبائل البانتو أكثر من 24 مليونًا، وعدد الملونين والآسيويين 4 ملايين، أي أن عدد غير البيض يقترب من 29 مليونًا، وهم بذلك يشكلون أغلبية سكان اتحاد جنوب أفريقيا، وتتكون الأقلية البيضاء من سكان جنوب أفريقيا من عناصر أوروبية هاجرت إلى جنوب أفريقيا أثناء احتلال هذه المنطقة، ومن العناصر البيضاء هولنديين، وألمان، وبريطانيين، وفرنسيين، هذا الخليط من العناصر أطلق على نفسه «الأفركانيرز»، وخلق قومية جديدة من هذا الشتات، ويتحدثون لغة مشتقة من الهولندية ممزوجة بكلمات ألمانية وإنجليزية أطلقوا عليها لغة «الأفركانرز».

بينما يتكون الأفريقيون – وهم الأغلبية- من البانتو، وتضم مجموعات عديدة منها مجموعة نجوني، ومجموعة تسونجا، ومن المجموعة الأولى السوازي، وشعب الزولو، وكان الزولو أمة مرهوبة الجانب قبل الاستعمار الأوروبي، ومن المجموعة الثانية قبائل تسونجا، ورنجا وتسوا، وإلى جانب المجموعتين السابقتين جماعات فندا، والسوتو، وهكذا تتعدد قبائل البانتو.

أما العناصر الملونة فتشكلت من خليط نتج عن تزاوج بين الهونتنوت- وهم عنصر أفريقي- بالأوروبيين الأوائل، وخليط نتج عن تزاوج بين الآسيويين أو الأوروبيين، وتتكون العناصر الآسيوية من المهاجرين إلى جنوب أفريقيا تحت سخرة العمل من الماليزيين والهنود والباكستانيين، وهكذا شعوب اتحاد أفريقيا تتكون من عدة عناصر.

ثانياً: مسيرة التحرر:

اتبعت حركة مناهضة سياسات التمييز العنصري في جنوب أفريقيا طوال الخمسينيات من القرن العشرين، عددًا من أساليب الكفاح الوطني، ففي عام 1952م أعلن المؤتمر الأفريقي عن شنِّ “حملة تحد”، نظم خلالها عددًا من هذه الأساليب لمقاومة سياسة التمييز العنصري في مجال التعليم في الفترة من (1953ـ 1955م)، وحركة مقاطعة الحافلات في الفترة من عام (1955 وحتى عام 1959م) احتجاجًا على انخفاض الأجور، وقد حققت حركات مقاطعة الحافلات في مقاطعات إيفاتون وألكسندرا وجوهانسبرج نجاحًا شجع مواطني جنوب أفريقيا على الاستمرار في الاحتجاجات الوطنية.

وقد ساهمت حركة مقاطعة الحافلات الناجحة في جوهانسبرج في خلق مناخ من المقاومة الوطنية، وبرز قادة أكفاء من خلال هذه المقاومة، وبالرغم من عدم مشاركة المؤتمر الوطني الأفريقي في حركة مقاطعة الحافلات، إلا أنه دعا على إثر نجاحها إلى مقاطعة الشركات القومية ومنتجاتها، وشهدت أواخر الخمسينيات عددًا من الأنشطة والحركات الأخرى نتاجًا لما أفضت إليه حركة مقاطعة الحافلات من إحساس الأفارقة بمزيد من الثقة بقوتهم وبفاعلية الكفاح الوطني.

وبعد نجاح حزب المؤتمر الأفريقي بقيادة المناضل نيلسون مانديلا، في إجبار حكومة الأقلية على الاعتراف بالحقوق الدستورية الكاملة لكل المواطنين، أصبح لكل مواطن– بغض النظر عن لونه أو عرقه أو دينه- حق التصويت والمشاركة في الانتخابات على أساس «one vote one man».

وفي نيسان/أبريل 1994م أجريت أول انتخابات برلمانية غير عنصرية، شارك فيها 86 بالمائة من الناخبين، وفي أيار/مايو من نفس السُنة، اجتمع البرلمان الجديد لأول مرة بصفته جمعية تأسيسة، وفي أواسط التسعينيات من القرن الماضي أصبحت العملية الدستورية في جنوب أفريقيا المثال الكامل لعمليات الدساتير القائمة على مشاركة المواطنين.

ثالثاً: إستراتيجية حزب المؤتمر الأفريقي:

يشرح مانديلا كيف جعل تنوع شعب جنوب أفريقيا قوة وليس ضعفاً، فيقول: “في 27 أبريل/نيسان 1994م، أرسى شعب جنوب أفريقيا أمة على أساس التعهد بأننا سنمحو إرث ماضينا المجزأ؛ لكي نبني حياة أفضل للجميع. لم يكن هذا عهدًا قطعناه باستخفاف، لقد دُفع الملايين إلى بؤرة الفقر عمدًا عبر أجيال، ولكي يخلد نظام التفرقة العنصرية نفسه، كانت القوة الغاشمة وحدها هي التي تحافظ على نظام الأبارتيد، ذاك الذي ادعى أنه مكرس بإرادة السماء، فسلبنا جميعًا إنسانيتنا، المقموعين منا والقامعين على حدٍّ سواء، لقد ناضلنا خلال عقود من الزمان من أجل مجتمع غير مميز عنصريًّا، غير مميز جنسيًّا، وحتى قبل وصولنا للسلطة في الانتخابات التاريخية عام 1994م، كانت رؤيتنا للديمقراطية محكومة بمبادئ من بينها مبدأ يقول: إنه لا يجوز أن يتعرض أي شخص أو تتعرض أي مجموعة من الأشخاص للاضطهاد أو الإخضاع أو التمييز بسبب العرق أو الجنس أو الأصل الإثني أو اللون أو العقيدة، وما إن وصلنا إلى السلطة حتى قررنا اعتبار تنوع الألوان واللغات مصدرًا للقوة، بعد أن كان يستخدم في الماضي للتفرقة بيننا”.

وأضاف: “لقد ضمنا أن القانون الأساسي للبلاد – دستور وميثاق حقوق المواطنين– يُعزز الوحدة الوطنية، ويُوجه اهتمامًا خاصًا إلى الحقوق الاجتماعية والاقتصادية. لم يكن طريقنا نحو الاندماج جديدًا، كما لم يتم اختياره بتسرع؛ إذ كان المؤتمر الإفريقي يدعو طيلة عقود إلى الوحدة الوطنية، وحتى في ذروة العنف والقمع عندما كان الاختلاط العرقي يُوصل للسجن أو الموت، لم نتخل أبدًا عن هدفنا في بناء مجتمع قائم على الصداقة، وعلى الإنسانية المشتركة”.

وأضاف: “الآن على الرغم من القوانين التى لم تعد تقوى الانقسامات القديمة، فإنها ما زالت ماثلة للعيان في الحياة الاقتصادية والاجتماعية في مناطقنا السكنية، وفي أماكن العمل، وفي اتساع شقة عدم المساواة بين الأغنياء والفقراء، عندما تولينا مشروع تحويل مجتمعنا، كان أحد شعارات نضالنا: “التحرر من العوز”، وكان هدفنا القضاء على الجوع والفقر والأمية والتشرد، وضمان الحصول على الغذاء والتعليم، ورأينا الحرية صنوًا لا ينفصم عن الكرامة والإنسانية والمساواة بين البشر، الآن وُضع الأساس لحياة أفضل وبدأ البناء، ونحن نُدرك تمامًا أن حريتنا وحقوقنا لن تكتسب معناها الكامل إلا عندما ننجح معًا في التغلب على انقاسامات ماضينا وإجحافاته، وفي تحسين حياة الجميع وبخاصة الفقراء”.

وأكد مانديلا: “اليوم نبدأ في حصاد بعض النتائج التي غرسناها في نهاية مجاعة جنوب أفريقيا، ثمة كثيرون في المجتمع الدولي ممن راقبوا عن بُعد كيف تحدى مجتمعنا نُذراء الشؤم وتكهناتهم بنزاع لا ينتهي، يتكلمون عن معجزة، لكن أولئك الذين شاركوا في عملية التحول إلى ما نحن عليه الآن، سوف يعرفون بالتأكيد أن ذلك التحول كان نتيجة قرار اتخذه بشر”.

رابعاً: آليات بناء الوحدة المجتمعية:

1ـ المساواة في التوظيف:

عند انتهاء نظام التفرقة العنصرية (الأبارتيد) في عام 1995م، كان البيض يشكلون نسبة 13% من السكان، ويجنون 59% من الدخل الخاص، فيما كان الأفريقيون الذين تبلغ نسبتهم 76% من السكان يحصلون على 29%، وأظهر مسح أجري في عام 2000م، وشمل 161 شركة كبيرة توظف 560 ألف عامل، أن البيض ما زالوا حتى ذلك الحين يحتلون 80% من المناصب الإدارية، كذلك كان الفارق العنصري في الأجور كبيرًا، وإن كان قد تناقص بنسبة كبيرة عن ذي قبل، إذ في أواخر تسعينيات القرن الماضي كان العمال البيض يكسبون أجورًا يزيد معدلها خمس مرات عن أجور الأفريقيين، رغم أن نصف هذا التفاوت كان يعلل بفارق التعليم والمكان.

في فترة ما بعد الأبارتيد، بدأت الحكومة الديمقراطية بتطبيق سلسلة من البرامج المصممة لتخفيض هذه الفوارق، فقانون المساواة في التوظيف الصادر في عام 1998م يفرض على أصحاب العمل أن يقدموا معلومات عن مبالغ التعويض والمنافع في كل فئة مهنية على أساس العنصر والجنس، وأن يتخذوا الإجراءات الملائمة إذا كانت هناك اختلافات غير مناسبة في دخل العاملين، ويتعين على الشركات التي يفوق حجمها حدًّا معينًا أن تزود الدولة بتقارير سنوية تُوضح وتُخطط لجعل قواها العاملة تمثل التركيبة السكانية على جميع المستويات بشكل أفضل.

ويقول القانون أيضًا: إن نقص الخبرة اللازمة لدى فرد من مجموعة مشمولة بالحماية ليس سببًا كافيًا لتوظيف شخص آخر مكانه، ما دام طالب العمل يمتلك القدرة على اكتساب المعرفة اللازمة للقيام خلال فترة زمنية معقولة.

بالإضافة إلى ذلك تحدد مواثيق تمكين السود لكل صناعة أهدافًا لنسب الأسهم التي يجب أن تنتقل ملكيتها إلى السود (الأفريقيين الأصليين، والملونين، والآسيويين)، كما نشرت مواثيق كهذه لقطاعات البترول والمناجم والمصارف، ويهدف هذا التوجه العام إلى نقل ملكية حوالي ربع الأسهم في جنوب أفريقيا إلى أيدي السود خلال عقد من الزمن أو نحو ذلك.

ماذا حققت هذه الجهود؟ قرابة نصف المديرين من المرتبة المتوسطة وربع المديرين من المرتبة العليا في جنوب أفريقيا هم اليوم من السود، مقابل لا أحد تقريبًا قبل عشر سنوات، كما حصل السود على ترقيات سريعة بشكل خاص في القطاع العام، إذ لا يوجد منافسون للحكومة، غير أن الحكومة التي رفعت عددًا كبيرًا ممن لا يتمتعون بمؤهلات كافية، اضطرت إلى توظيف عدد كبير من المستشارين لمساعدة هؤلاء، لكن ذلك الوضع تغير، فالفعالية قضية مطروحة للنقاش، حيث تعليمات المشتريات على أن الشركات التي يملكها سود تستطيع أن تطلب ثمنًا أعلى وتكسب عقودًا حكومية رغم ذلك، الأمر الذي يبقي أموالًا أقل للمصانع العامة كالطرق والمساكن والجسور.

2ـ اللغات والدستور الجديد

حاولت جنوب أفريقيا توسيع مجالات الاختيار أمام الذين لا يعرفون الإنكليزية والأفريقانية بالدعوة إلى اعتماد 11 لغة رسمية معترفًا بها في الدستور (منذ 1994م)، منها 9 لغات للسكان المحليين، بالإضافة إلى الإنكليزية والأفريقانية، ورغم وجود برنامج طموح للترجمة في المحاكم كمعظم الدول الأخرى، ما زال هناك تحيز لصالح الإنكليزية، فقد أظهرت دراسة عن المحاكم في كواكوا في «الولاية الحرة»، وهي منطقة يتكلم معظم سكانها لغة سيسوتو، أنه حتى عندما يكون القاضي والمدعي والمتهم أفريقيين ويتكلمون لهجة سوتو الجنوبية كلغة أم، فإن إجراءات المحاكمة تدار بلغة إنكليزية من الدرجة الثانية، وبمساعدة مترجم تعينه المحكمة يترجم من لغة ستسوتو، وإليها لفائدة المتهم.

3ـ مانديلا ليس نبياً

من المهم أن لا نحصر سبب نجاح هذه التجربة فى شخص الزعيم/ نليسون مانديلا؛ فهذا يُعد ظلما كبيراً لكل الفاعلين والمناضلين فى التجربة سواء كانوا من الأغلبية السوداء أو من الأقلية البيضاء؛ والإهتمام بسيرة ومسيرة مانديلا يمكن الإستفادة منه فى بناء فضاء إجتماعي جديد قائم على التسامح، واحترام الأخر، ويتجاوز ضيق الانتماءات الوطنية، ويتعالي على تطرف بعض الأيديولوجيات.

إن قصة مانديلا بمثابة حبة واحدة فى عِقد النضال الأفريقي الممتد والمتواصل منذ أن وطىء الإستعمار الأوروبي الإستيطاني شواطىء جنوب أفريقيا بقدمه. مانديلا ما هو إلا قمة بارزة فى جبل مقاومة شعب جنوب أفريقيا الأسود لعدوان الرجل الأبيض على ثروات ومُقدرات هذا الوطن.

لقد نجح مانديلا بفضل العديد من الشركاء والداعمين له فى الداخل والخارج:

(أ) نجح مانديلا بدعم نضال رجال ونساء المؤتمر الوطنى الأفريقي الذى استمر فى الكفاح ضد نظام الفصل العنصري وبكافة الوسائل المتاحة، فقد جربوا حرب اللاعنف التى دعى لها غاندى، ودفعتهم وحشية ممارسات حكومة الفصل العنصري إلى استخدام العنف، ولمّا ترنح النظام العنصري وقرر العدول عن عدوانه تحول النضال إلى الكفاح الديمقراطي والدستوري على مدار قرابه عشرين عاماً بينما كان مانديلا ورفاقه يقبعون فى غياهب السجون.

(ب) نجح مانديلا بفضل انحياز الرئيس الأبيض فريدريك دكلارك للخيار الديمقراطي وفتحه الطريق أمام سريان عجلة العدالة الإنتقالية لتجهيز المشهد السياسي لمشاركة الجميع فى إدارة البلاد سياسيا دون تهميش أو إقصاء لأحد، وقد اتخذ دكلارك هذا القرار الشجاع على الرغم من معارضة الأقلية البيضاء المُهيمنة على مقاليد الأمور الإقتصادية والسياسية والأمنية؛ ولذلك حاز على جائزة نوبل للسلام مناصفة مع مانديلا.

(ج) نجح مانديلا بفضل تأسيسه لجان فض النزاعات وصناعة السلام فى الفترة من 1991 إلى 1994 فى كل مدن وقري جنوب أفريقيا لمعالجة الجروح الإجتماعية الغائرة بين السود والبيض عبر الحوار والتواصل والتدريب وحصار مناطق التوتر وإعادة تأهيل الشرطة لتكون خادمة للشعب، وتم ذلك عبر المصالحة والإعتذار ولولا عمل هذه اللجان لما نجح تسامح مانديلا فى أن يتجسد واقعا فى دنيا الناس.

(د) نجح مانديلا بفضل انحياز المؤسسات الإجتماعية والدينية الفاعلة فى المجتمع وبخاصة الكنائس لرؤيته فى ضرورة الإنتقال من مرحلة التاريخ الدامى إلى رحابة المستقبل بإطلاق حملة “الحقيقة مقابل المسامحة” ومن أبرز الأسماء التى دعمت هذه الحملة القس ديزموند توتو كبير أساقفة جنوب أفريقيا السابق الحائز على جائزة نوبل للسلام العام 1984.

————————————

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close