fbpx
قلم وميدان

قراءات تاريخية على هامش الثورة المصرية

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

 

تمهيد

سلسلة من المقالات المنشورة عبر فترة زمنية قصيرة من عمر الثورة المصرية، ترصد جانباً من تحولاتها، ولكن في رحلة عبر تاريخ الثورات والتحولات الكبرى في العالم الحديث والمعاصر، تم سبر أغوارها، واستخلاص عبراتها، لعلها تكون دليلاً للباحثين عن نور جديد في آخر النفق المظلم الذي تمر به الثورة المصرية

أولاً: سنخوص معاركنا مع بيروس

هل تتمنى أن تكون منتصرا أو على الأقل مع منتصر عظيم محنك، ربما عليك أن تراجع نفسك قليلا بعد قراءة هذه الكلمات .

كان هناك صراع مرتقب بين “روما” القوة الصاعدة وبين مستعمرة “بينيغنتوم” التابعة لإسبرطة الإغريقية، الثرية جدا والتي تعتبر نفسها في هذا الوقت نموذج متحضر راق، لديها كبرياء كبير ولا يعيبها أن ليس لديها جيش فيمكنها بكثرة أموالها أن تمول أي جيش حيث تريد .

قررت بينيغنتوم أن تلقن روما درسا كبيرا يناسب كبرياءها فأغرقت الأسطول الروماني الذي دخل ميناءها ليس هذا فحسب بل انتقمت من قائد الأسطول وقتلته بعد تدمير الأسطول تماما .

شعرت روما بحجم الضرر الكبير الذي ارتكبته وما يمكن أن يجر عليها من الوبال، فقررت أن تقدم الاعتذار وحاولت التوسط، لكن … كبرياء بينيغنتوم أبى إلا أن يسطر لحظات فارقة جديدة في التاريخ وأن يختزل كل التاريخ في تلك اللحظة وقررت الرفض وتحدي روما إلى أبعد حد .

لدى بينيغنتوم الأموال والمقايضة بالأحلام والآمال ولديها طبول اللحظة الفارقة وشارات المجد التي يمكن أن توزع في الهتافات والميادين والميداليات التذكارية، ليس هذا فقط بل لديها قريبا في منطقة ” ابيروس ” القائد العظيم المحنك الملقب ب ” النسر ” سليل الإسكندر الأكبر القائد ” بيروس ” وهو قائد محنك ولد في عام 319 قبل الميلاد وكان له صلة قرابة من الإسكندر وعاش على قصص أسطورة المحارب والقائد “أخيل” ولديه حلم وطموح كبير، وأثبت أنه قائد محنك واستراتيجي قدير في أرض المعارك .

لم يكن الأمر هينا أن يـُستأجر لشن حرب كبرى على روما، لكن اللحظة الفارقة داعبت أحلامه وأمجاده التي يريدها فعرضوا عليه المال وعرضوا عليه العون بجيش كبير من الحلفاء وأعطوه فرصة بعد النصر أن يعلن نفسه ملك إيطاليا، بل يمكنه التوجه غربا حتى يسيطر على البحر المتوسط، لكنه عندما وصل بينيغنتوم وجد المفاجأة أنهم لم يجهزوا له جيشا منهم ولا من غيرهم وليس معه إلا نفسه وقوته التي لا يستهان بها .

لم تنتظر روما أن يأتي لها ” النسر ” بل زحفت إليه في بينيغنتوم، وقرر بيروس المواجهة وحقق أكبر نصر عظيم ساحق على روما بفضل عبقريته واستراتيجياته الحربية ومعه قوة جبارة في هذا الوقت قوامها 20 ألف مشاة و30 ألف فارس و2000 رماة و20 وسلاحه النوعي من الفيلة .

كانت المعركة بحق كبرى، وكان النصر بحق نصر كبير، لكن روما التي كانت بالأمس تريد التفاوض والاعتذار والتوسط لدى بينيغنتوم اشتعلت فيها روح الثأر والانتقام لروما مهما كان الثمن، وهو ما أدركه بيروس-خاصة بعد حجم الخسارة الكبيرة والضخمة التي خسرها في جيشه وفي قوام جيشه الأساسي – فقرر سريعا بعد هذا النصر أن يطلب التفاوض مع روما وعرض عليهم وهو المنتصر التشارك، غير أنه فوجئ بالرفض القاطع وبرغبة عارمة للمقاومة والثأر لن يوقفها أحد .

تجهزت روما للثأر والانتقام من ” بيروس ” في معركة أخرى هي معركة ” اسكالوم ” ورغم بسالة روما وقوتها وحماستها وحجم الخسارة التي كبدتها لبيروس بل كادت أن تحسم المعركة لصالحها نجحت تكتيكات واستراتيجيات بيروس ونجح في استخدام سلاحه المميز الفيلة وحقق نصرا كبيرا .

علت الانتصارات في هذه اللحظة الفارقة التي لم يكن يحلم بها أنصار ” بيروس ” فهو الإمبراطور المنتظر لكنه تعلم شيئا خطيرا في هذه اللحظة الفارقة أوجزه في هذه المقولة ” لو هزمنا الرومان مرة أخرى في معركة كهذه فسندمر كليا ”.

لم يتمكن بيروس من تحقيق أحلامه – فقد كان انتصاره هذا بداية النهاية – واكتشف متأخرا أنها لم تكن لحظته الفارقة، وأنه خدع نفسه – أو وافق على خداعها – كان عليه أن يدرس موقفه جيدا وأن يدرس معاركه جيدا وأن يختارها بعناية وأن يحدد فعلا – ليس فقط الوصول للنصر – ولكن من أجل ماذا كان النصر؟ أمن أجل الفناء والتمزق وخسران القدرة على الاستمرار والمواصلة، إنه السؤال الذي قد نهرب منه حين نُستغرق داخل لحظة نراها فارقة ونخشى الإجابة عليه: من أجل ماذا كان الصراع والمعارك وهل يمكننا الانتصار في هذه المعارك والأهم هل حين ننتصر سنكون قادرين على تحقيق ما ضحينا وناضلنا من أجله ولا يكون نصرا ببروسيا .

لقد أصبح  ” نصر بيروسي “مثلا لكل من انتصر انتصارا بطعم الهزيمة لا يستطيع أن يستفيد من انتصاراته ولا أن يبني عليها، فالانتصار وحده ليس هدفا لذاته (إلا عند بعض المرضى) بل هدف لشيء أسمى، عليك ألا تفكر فقط في النصر لكن عليك أن تفكر من أجل ماذا يكون النصر ومن أجل ماذا تكون التضحيات والصراعات والمعارك هل من أجل نصر بيروس الذي يعقبه فناء القوة ومقوماتها أو يعقبه التفكك والهزيمة والانهيار وعدم القدرة على تحقيق ما كنت ترجوه وتحيا من أجله؟

إن المعارك والصراعات سواء كانت قبل الميلاد أو في عصر السماوات المفتوحة هي، منها ما تحقق نصرا حقيقيا ومنها ما تحقق نصرا زائفا، فكم من معركة أو انقلاب أو ثورة أو جهاد كان من أجل مطالب ورغبات وأحلام عادلة لكنها كانت إما معارك عبثية فاشلة بلا أدوات، أو أنها كانت تسعى لتحقيق نصر بيروسي لم يكن بداية لتأسيس الحلم والمطالب العادلة بل بداية للسقوط والتمزق .

إن معاركنا الآن مع الاستبداد والفساد ، مع القتلة والمفسدين ، مع المؤسسات التي تدعمهم وتحميهم وتوفر لهم منظومة الحماية ، هي معركة بين مستقبل نريده نحن ولا يريدوه هم ، إنهم يريدون أن لا نخوض المعارك معهم بل يريدوننا عجزة أو فشلة ، وإن كان من المعارك بد ، فليدفعونا إلى معارك لإفنائنا ، يريدون لنا أن نكون دوما الضحية حتى حين ننتصر، يخططون لترسيخ ماضيهم وحاضرهم وتبديد مستقبلنا ، إن واجبنا الحقيقي أن نخطط ليس لهزيمتهم فحسب، بل لنصر غير نصر بيروس ، لحضارة عليا وقيم راسخة ونظم عادلة لا تبقى فقط في هتافات الحناجر ولا لافتات المظاهرات بل تكون واقعا يمكن لها أن تتحقق في حياتنا وحياة أبنائنا .

ثانياً: ماك واستراتيجية المصباح السحري

كثيرون لا يحبون الاستسلام للهزيمة وينتظرون قائدًا محنكًا خبيرًا لديه خطة واستراتيجية النصر، ها هو “كارل ماك” جنرال عسكري نمساوي لا يريد أن يستسلم للهزيمة المنكرة التي أوقعها نابليون لبلاده في عام 1800، فطموح نابليون لن يتوقف عند هذا الحد بعد أن نصب نفسه إمبراطورًا وبسط نفوذه على عدة مناطق أوروبية، تاريخ الجنرال ماك العسكري مشهود له بالخبرة العسكرية إضافة إلى وقوعه في الأسر 3 سنوات في فرنسا واهتم كثيرًا بدراسة نابليون واستراتيجياته وتكتيكاته .

وجد ماك أن الانتظار غير مجدٍ ويجب التخطيط المحكم لتحالف موسع وكبير من أجل توجيه ضربة استباقية قوية يُحكم الحصار فيها من كل النواحي على نابليون وجيشه، ويمنع عنه أي مدد خارجي وينجح في خنقه وتوجيه ضربة قاصمة له ولجيشه .

في عام 1805 تم الاتفاق على التحالف الكبير الذي ضم النمسا وإنجلترا وروسيا لشن الحرب على فرنسا وإرغامها على العودة إلى ما قبل طموح نابليون .

كانت الخطة كبيرة ورائعة بحق، فقد استغرقت وقتًا طويلًا لإعدادها بقيادة الجنرال ماك، كانت الخطة بكل تجهيزاتها ومددها تصل إلى جيوش قوامها نصف مليون جندي وهو رقم ضخم وكبير في هذا التوقيت مقارنة بجيش نابليون الذي كانت تقديراته في هذا التوقيت تقارب الـ 70 ألف مقاتل .

ها هي الخطة تعطي لجيش نمساوي قوامه 95 ألفًا لتأمين منطقة بين إيطاليا والنمسا، وماك يقود جيشًا آخر قوامه 70 ألفًا غرب الدانوب إلى بفاريا، ثم يعسكر بانتظار 75 ألفًا قادمين من روسيا وفي الأثناء بعد وصول جيش روسيا وانضمامه لماك تهاجم إنجلترا فرنسا بجيش كبير آخر من البحر، لقد كان ماك يشعر بالفخر والاعتزاز بهذه الخطة وإدارتها بهدوء وروية، فها هو يقترب من تلقين نابليون درسًا قاسيًا .

ماك جنرال عسكري يكره الفوضى واللا يقين، ويحب التخطيط الواضح المحكم، حتى أنه أطلق على هذه الحرب “حرب دقيقة كالساعة”، فجأة اكتشفت كشافة الجنرال ماك أن الغابة السوداء التي تقع بين جيش ماك والحدود الفرنسية بها جيش فرنسي يتقدم، وهو أمر مفاجئ وغريب فهي منطقة صعبة وبها ممر ضيق ولا يمكن أن يفكر نابليون أو أي قائد محنك في المرور منها، لقد كان أمام نابليون خيارات أخرى أفضل وأيسر لجيشه، شكّ ماك أنها مناورة من نابليون لكن كان عليه أن يحتاط وأرسل جزءًا من جيشه إلى الغابة .

في وقت آخر وصلت أخبار أنّ ثمة جيش فرنسي في مكان آخر شمال موقع ماك، وتضاربت التقارير عدة مرات عن مكان هذا الجيش، ارتبكت معلومات الجنرال ماك عن تقدم الفرنسيين وعن مكانهم بدقة، ثم تم اكتشاف جيش فرنسي آخر يقطع الطريق تمامًا بين ماك وبين النمسا ويقطع طريق الروس أيضًا قبل أن يصلوا إلى ماك .

لقد وقع ماك في حيرة واندهاش عجيبين فكيف لجيش قوامه 70 ألف جندي أن يظهر في كل تلك الأماكن مرة واحدة، وبدأ القلق وعدم اليقين يسيطران على ماك، حتى اكتشف ثغرة كنقطة ضعف بها قوة صغيرة من الفرنسيين وقرر أن يشق طريقه ليكسر الحصار من خلال تلك النقطة وبعد يومين من تحرك ماك أخبره الكشافة أن قوة فرنسية ضخمة ظهرت بين ليلة وضحاها قاطعة هذا الطريق أيضًا، في هذه الأثناء قرر الروس التوقف وعدم إرسال جنودهم لماك .

لقد كانت هناك خلافات كبيرة وجوهرية ومتغيرات كثيرة لم يدركها ماك، حيث أحدث نابليون تغييرات كثيرة وجوهرية وفعّالة في جيشه حتى عام 1805 بنمط جديد ومغاير عما اعتاده الآخرون تمامًا، لقد أعاد نابليون تنظيم جيشه ولم يستمر على نفس النمط المعتاد، فنجح أن يجعل قوام جيشه أكثر من 200 ألف مقاتل، وغيّر نمط الجيش الذي قسّمه إلى وحدات، كل وحدة تبلغ ما بين الـ 15 و30 ألف مقاتل، وجعل كل وحدة مستقلة بخيّالتها ومدفعيتها وقيادتها أيضًا، كما غيّر نمط القيادة واعتمد على اختيار قادة من ضباط شباب أثبتوا تميزهم في حملات سابقة،

تميزت هذه الوحدات والتشكيلات بالتحرك السريع وباعتماد نابليون على اللا مركزية في إدارة الوحدات، فهو يقوم بتكليفهم بمجموعة من المهام والباقي عليهم، نجح نابليون أن يمنع إهدار الوقت في تمرير الأوامر، وكان بمقدور نابليون أن ينتشر ويركز وحداته في أطر غير محدودة وتبدو للخصم أنها فوضوية وغير مفهومة وكان يحسن تحريكها وتوجيهها بسرعة ومهارة .

إن خوض المعارك والصراعات لا يعتمد أساسًا على وضع الخطط المسبقة ومعها استراتيجية مصباح علاء الدين السحرية التي إن استخدمتها ضمنت النصر، بل يعتمد كذلك على فارق القيادة ونمط عملها وتحركها وإدارتها للصراع .

فالخطط يمكن تغييرها وموازين القوى كذلك يمكن تغييرها وطبيعة المعارك والصراعات تتغير باستمرار، الركيزة الأولى هنا هي نمط القيادة، فقيادة غير نمطية يمكنها أن تكسب ميزات جديدة تؤثر في ميزان القوى وفي طريقة إدارة الصراع – رغم ضعفها أو قلة عددها – من أجل خلخلة الخصم ومفاجأته وتحقيق نصر حقيقي عليه .

لا أشك أن ماك كان خبيرًا ودارسًا ومخلصًا لقضيته ووطنه، لكن نمطه لم يكن مناسبًا أمام نمط نابليون، لقد فاجأ نابليون ماك رغم قلة عدد جيشه وقلة أحلافه، وأيضًا مهد نابليون طويلًا لهذا الفارق الذي لم يكتشفه ماك، واستطاع نابليون أن يحسن تحريك وتوجيه هذه الوحدات عمليًا، أما ماك فيؤسفني أن أخبرك بالمفاجأة أنه استسلم أمام الجيش الفرنسي ووقع في أسر نابليون مع 60 ألف جندي من جنوده .

إن الخطط والاستراتيجيات ليست أمرًا سحريًا يمكن لمن يتحصل على واحدة منها أن يضمن لنفسه أن معه المصباح السحري، لو كان ماك بيننا الآن لظننا أن معنا المصباح السحري وأننا سنلقي بنابليون في البحر وأن نصر الله على نابليون هو أمر محتم محقق، فهل علينا أن ننتظر دومًا عواقب الأمور ونهايات ماك حتى ندرك أننا نحتاج للتفكير المبكر في نمط يمكنه التعامل مع النصر كما يمكنه التعامل مع الهزائم .

ثالثاً: مدرسة الحيوان المثالي

هذه القصة تخيلية وأي تشابه بينها وبين الواقع هو من وحي خيال الكاتب. اجتمعت مجموعة مخلصة من الحيوانات التي تريد أن تقدم النفع للغير وفق رسالة وفكرة سامية لمواجهة التردي والضعف والتخلف .

قامت الفكرة على فلسفة بسيطة وواضحة للغاية ونبيلة المقصد، نحن نريد الحيوان المثالي القادر على مواجهة المستقبل وتحدياته، فلدينا الطاقات والخبرات المتعددة، فهذا الحيوان السريع، وآخر بارع في القفز كما لدينا كائنات بحرية يمكننا التعاقد معها ممن يجيدون السباحة وغير ذلك الكثير والكثير .

تخيلوا معنا بالعلم والتدريب والمثابرة والعطاء يمكننا جمع تلك الميزات في حيوان عصري مثالي، وإذا نجحت التجربة فستكون فتحا كبيرا في عالم المستقبل .

وبعد إيمان عميق ومناقشات ومداولات شرعوا في تنفيذ التجربة الأولى، وظهرت معالم المدرسة التي ستكون وعاء الفكرة، وها نحن أمام ” الأرنب ” بطل قصتنا الذي سيكون إن شاء الله أول أبطال مدرسة الحيوان المثالي .

كان الأرنب ضمن العينة المختارة للمرحلة التجريبية ومعه صديقه الكنجارو، ووافقت السمكة على المشاركة في هذا المشروع العظيم .

كان جدول الحصص موزعا بالتساوي بين حصص الجري والقفز والسباحة، بعد طابور الصباح بالطبع وكلمات شحذ الهمم عن جدوى المدرسة وعمق فكرتها وسلامة طريقها وروعة غايتها والأهم تفرد تجربتها .

وبعد الحماسة والنشاط انطلق جرس الحصة الأولى وهي حصة الجري، وكانت من حسن حظ صديقنا الأرنب الذي أصبح سعيدا بأعلى درجات الوصف الممكنة، حتى تمنى أن تكون حياته كلها في هذه المدرسة .

صحيح أن حصة القفز الثانية، لم تكن بذات الدرجة، لكنها لم تعكر صفو السعادة التي حلت من الحصة الأولى، لكن جاءت الطامة الكبرى بين يدي جرس الآزفة، فهذه الحصة ستكون في حمام السباحة، وهنا تملكت الأرنب الرعشة والصدمة والرعب، ولم يجد ملاذا إلا الانكماش تحت كرسي منزو في ركن بعيد لم يخلعه منه إلا شداد أقوياء ينظرون إلى المعالي والمستقبل ولا يقبلون الخوف والتراجع .

أصبحت الهلاوس والهواجس والأرق وقلة النوم أسيرة الأرنب، وبعد أيام قليلة كان تقرير المدرسة لمجلس الإدارة المنعقد خصيصا لبحث مشكلة الأرنب أنه ممتاز في الجري مقبول في القفز كارثي في السباحة .

ظل المجلس يفكر ويفكر ثم عاد يفكر ويفكر، وبعد التأكيد أن غايتنا نبيلة ومدرستنا راقية وأساتذتنا مثابرون، وبعد المداولات والمناكفات نسوا كل الخلافات والاختلافات وخرجوا على قلب رجل واحد بقرار جامع مانع يتبناه الجميع: أن تقل حصص الجري وتزاد حصص السباحة للأرنب .

كان قرارا سهلا وواضحا وحاسما وسريعا رأى مجلس الإدارة فيه أنه يحمل نظرة ثاقبة وتحليلا دقيقا للموقف والأهم الخروج بقرار عملي، لم تكن الإدارة بحاجة لوقت طويل لبحث آثار القرار، فقد كان أثره واضحا وجليا وسريعا، إذ أرسل مشرف الفصل رسالة قصيرة من جملة واحدة إلى مجلس الإدارة بعد عدة أيام ” لقد هرب الأرنب ولم يعد “!

تعلمت هذه القصة منذ زمن طويل وألهمتني كثيرا في طريقة تعامل الشخص مع نفسه أو أسرته وأولاده أو فريق عمله، فهناك من يظن أن التركيز على نقاط الضعف مع إهمال نقاط القوة سيجعل من صاحبه عظيما، بدلا من أن يستفيد من نقاط القوة التي لديه ويعمل على تعظيمها وصولا للتخصص والتميز والإبداع، فلن يصبح الشخص متميزا في كل شيء، ومبدعا في كل شيء وعظيما في كل شيء، بل قد يكون متميزا مبدعا في أمر ما، ومتوسطا أو ضعيفا أو فاشلا في أمر آخر .

لكن أهم ما تعلمته أيضا من تلك القصة هو كيف يفكر كثيرون في حل مشاكلهم وأزماتهم، فهناك من أنشا فكرة وهو أسير ما أنتجته إدارة هذه الفكرة من وسائل عملية وتشغيلية فقط، وغير قادر على التعامل الصحيح مع مستويات تفكير أخرى غير التفكير في تفاصيل التنفيذ والتشغيل مرتكزا على إخلاصه لفكرته .

إن الإخلاص للفكرة وحده لا يكفي، إذ إن هناك بالتأكيد أسباب خلف الفشل والأزمات، وواجبنا المستمر البحث عنها وأخذها في الاعتبار ما أمكن ذلك، لكن النظر في الأخذ بالأسباب واتخاذ قرارات مناسبة لا ينبغي أن يكون أمرا اعتياديا وروتينيا خاصة إذا استمرت الأزمات والتحديات أو تفاقمت، فليس مجرد الاجتماع لاتخاذ قرار عملي تشغيلي هو أقصى الاجتهاد لإراحة الضمير أننا فعلنا ما علينا .

قد يكون مناسبا النظر في مستوى التنفيد والتشغيل والتكتيك كما حدث في تغيير ساعات الحصص وتقليل حصة وزيادة أخرى، وربما يرى آخر من منظور ومستوى مختلف أن المشكلة تكمن في فريق العمل أو القيادة أو من قام بالتدريب، وهناك من قد يرى أن فكرة المدرسة – وليس قيمتها الأخلاقية النبيلة – بحاجة إلى إعادة النظر، فقد لا تكون فكرة الحيوان المثالي مناسبة وملائمة، أو قد يكون تصورنا عنها غير مكتمل أو بحاجة للتطوير، أو أن وعاء المدرسة لم يكن هو المناسب أو الشكل الوحيد لتطبيق هذه الفكرة … إلخ .

إن وجود الأزمات واستمرارها وتزايدها وتفاقمها يجب أن يكون دافعا أكبر للبحث والنظر والتداول في كل المستويات من الفكرة للاستراتيجية للتنفيذ والتكتيك .

إن تحول الأزمة وتفاقمها من ” ضعف وفشل كارثي في السباحة ” إلى ” هرب ولم يعد ” يستدعي ألا نستسهل اتخاذ قرارات جديدة قبل النظر ثم النظر ثم النظر في كل المستويات وعدم الاستسلام بأن كل ما سبق كان قدرا محتوما .

رابعاً: الضفدعة التي فقدت حاسة السمع

في عام 2006م وفي أدنى جنوب مملكة تايلاند كنت مع بضعة أصدقاء من العرب نعيش في غربة مركبة، غربة المكان والبيئة والبعد الجغرافي، وكذلك غربة اللغة والثقافة والعادات مع قلة الأنيس والصديق .

مر صديقي ـ الذي لم أستأذنه في نشر اسمه ـ بأزمة كبيرة كادت تعصف به وبنا جميعا، حين رزقه الله بابنته الأولى وهي آية في الجمال والبراءة كغيرها من الأطفال حديثي الولادة .

ساعات وأيام وتبدأ معاناة الملاك الصغير بعد أن قرر الأطباء استمرار حجزها بسبب استمرار التقيؤ ورفض اللبن تماما، مع البكاء والنحيب والصراخ الشديد، كنا لا نزال حديثي العهد بتلك البلاد ولغتها العجيبة التي تُشكِل على من تعلمها حديثا، ولم يتقنها بعد، فهي لغة يتغير المعنى تماما باختلاف نبرات الحرف الواحد، حتى أن درجة تفخيم حرف أو ترقيقه تغير المعنى تماما .

زادت المعاناة بالطبع حتى أكرمنا الله بصديق يعرف العربية تعرفنا عليه في الغربة، جاء من قرية أخرى صابرا محتسبا. ظل صديقنا يتحدث طويلا مع الطبيب ومساعديه في حوار يبدو عليه العمق والتأثر والجدية، ويبدو بوضوح حرص صديقنا على المزيد من الاستفسار والتبين قبل أن يترجم لنا .

كانت أعيننا تدور ذات اليمين والشمال، نتطلع لكل همسة وسكنة وحركة في العين والوجه واليدين، حتى الصمت بين الكلمات كان له وقع وأثر كبير علينا، وكان صراخ المولودة يفُت في عضدنا ويزيدنا كمدا وألما، ولم تكن النصائح المتضاربة التي تأتينا من القريب والبعيد ومن المحبين والمقربين تخفف أو تهون، بل كانت تزيد نفوسنا اشتعالا وحيرة وترددا .

المهم سكت الجميع وحانت لحظة الحقيقة والترجمة، بدأت الترجمة في كلمات ثابتة هادئة: أخبرنا صديقنا أنه يبدو أن سبب كل ذلك ورم في المعدة! كانت بالفعل أزمة عصيبة إذ فُتح علينا من حيث لا ندري باب البحث في الأورام والسرطانات، وما أنواع تلك الأورام وتصنيفاتها وخطورتها على هذه المسكينة .

طار عقل الأب والأم، لكنهما كانا بفضل الله صابرين محتسبين برغم تلك الكارثة، ولا يمكن هنا سرد تلك اللحظات والأيام قبل أن نقرر سرعة السفر والعودة إلى البلاد واختيار طبيب ومستشفى أفضل لنا .

وفقهم الله هذه المرة إلى طبيب مختص، وبعد الفحص حدد التشخيص أن الأمر بسيط، وليس كما يعتقدون فهو التهاب، وليس ورمًا، وحاول الطبيب أن يخفف من هول الصدمة ـ المفرحة بالطبع ـ نعم هو التهاب، وليس ورماً، وهو أمر بسيط وربما عدة أشهر فقط بعلاج بسيط ورعاية ستكون الأمور على ما يرام .

بدأت سحب الإحباط والخوف والقلق تتبدد شيئا فشيئا حتى عاد العقل يعمل في هدوء وروية، وبقليل من التدقيق والمراجعة تبين أن الخطأ الذي بدا بسيطا من صديقنا الخبير المتمكن ـ كما كنا نظنه ـ لم يكن خبيرا ولا متمكنا في اللغة، ولم يكن أهلا للترجمة أصلا فقد ترجم كلمة “التهاب” إلى كلمة “ورم ”!

لقد كان موقفا مأساويا وتلك السطور لا توفيه حقه، فقد عشنا أياما ولحظات في كدر وضيق وقلق وحزن وخوف، ولم ننتبه لحظة أنّ هناك خللا أساسيا في أصل التشخيص، أو بالأدق في وصف وفهم ترجمة هذا التشخيص، مما أتبعه حالة وأفكار وحركة وتصرفات كادت أن تعصف بنا جميعا لولا أن الله سلم .

إن النتائج تعتمد حتما على مقدمات، ومخرجات أي شيء تعتمد وتتأثر بالمدخلات، وإن التقصي والتعب والتروي والتفكير السليم في التشخيص، وفهم هذا التشخيص بدقة أمر بالغ الأهمية، بل تعلو أهميته في هذه اللحظات على سرعة التصرف والإقدام والثبات والصبر والاحتساب .

ليس الخطأ في التشخيص أو في فهم التشخيص هي أكبر مشكلات التعامل مع الأزمات، بل هناك أيضا استسهال الاستنتاجات الخاطئة مع عدم تطابق تلك الاستنتاجات أحيانا مع المقدمات، فكثيرا ما نجمع المقدمات ونتسرع في القفز على نتائج دون تدقيق منطقي دقيق، وهو ما يذكرني بالطرفة التي كنا نضحك عليها صغارا وأصبحت تؤلمنا كبارا عن رجل باحث يريد أن يجري تجربة علمية وتجريبية على ضفدعة وهيأ لنفسه بيئة البحث العلمي .

بدأت التجربة ورحلة الاستنتاج العلمي بقطع رجلها الأولى، ثم صرخ فيها لتقفز فقفزت، وفعل ذلك في الثانية فقفزت، وفي الثالثة فقفزت، كان باحثنا في كل مرة يدوّن ويسجّل كل ما يشاهده بدقة مع تثبيت كافة العوامل الأخرى حوله، حتى إذا قطع الرابعة كانت المفاجأة، فلم تقفز الضفدعة، وهنا ظهرت النتيجة ساطعة كالشمس لباحثنا المتميز : إذن الضفدعة فقدت حاسة السمع !”

إن للحياة سُننا وكلما تقدمت الإنسانية في العمر اكتشفت مزيدا من السنن كانت مجهولة في الماضي، ولا زالت هناك سننٌ أخرى مجهولة سيتم اكتشافها قريبا وفي المستقبل، لقد أصبح للطب الكثير من القوانين والسنن، وأصبحت للنفس البشرية الكثير من القوانين والسنن، وكذلك للجماهير وتحريكها وقيادتها وأيضا للمجتمعات .

كما أصبح لقيام الدول وسقوطها سنن، وللحركات والتنظيمات سنن وغير ذلك، مما لا يعد ولا يحصى، وأولى لكل من يقع في أزمة ألا يستسهل ويتسرع في تشخيص حالته، أو في القفز على استنتاج وتثبيته كحقيقة دامغة ساطعة بغير بحث دقيق .

فكم من حقائق قامت عليها دول ومنظمات وسُعّرت في سبيلها حروب، ولم تكن تلك الحقائق دقيقة أو صحيحة، بل أحيانا ليس لها أساس من الصحة، لكنها كانت في عيون أصحابها وحيا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إن صراعات الحاضر تتطلب التحري وإتقان التشخيص وفهمه وفق السنن والقوانين للمختصين لا المدعين، فكيف يكون هناك فهمٌ وتشخيصٌ بلا علم، وبحث وتشخيص يتحرى أعلى درجات الدقة الممكنة .

إن من أوجب الواجبات رفع الغشاوات والغمامات والتفريق بين الحقائق والنظريات والافتراضات والظنيات والتوقعات والتمنيات، وكذلك التفريق والتمييز بين ما هو ثابت حقاً بالدليل والبرهان وبين ما يتغير بتغير الزمان والمكان، وما يتغير فهمه من شخص لآخر أو من زمن لزمن أو من سياق يختلف عن سياق آخر، أو ما يكون فهمه خاضع للمحاولة والتجريب والتصحيح أو التغيير، وهو في رأيي واجب كل فرد كما هو واجب كل مجموعة ومجتمع ودولة .

خامساً: الجهاد مع إليزابيث

كنا سنصل للنتائج نفسها على كل الأحوال، وبأية طريقة فكرنا وأية استراتيجية اتبعناها ”

لا أعرف كيف تنتشر مثل هذه العبارات الجبرية بيننا أحيانـًا، فحين نخفق في مسار نعلق الأمر على القدر وإحكام المؤامرات، وإن أحرزنا تقدمًا يومًا تحاكينا عن الفخر والعظمة والعبقرية والتميز، فلنفترض جدلاً ولنسلم بتلك المقولات أن الصراع والصدامات والمواجهات والانتكاسات التي مرت بها الثورة المصرية كانت حتمية، فهل كانت جميع المسارات وطرق التفكير والخطط والقرارات حتمية أيضًا؟

دعونا نجرب النظر إلى الملكة إليزابيث التي تولت حكم إنجلترا عام 1588 في لحظات صعبة بعد قيادة أختها غير الحكيمة، التي حملت فترة حكمها كثيرًا من السخط واللوم وربما الكره أيضًا، تولت إليزابيث مقاليد السلطة في أجواء شديدة الحرج ولا تملك الدعم والقبول والرضا الكافي، وكانت موارد إنجلترا ضعيفة وتحدياتها كبيرة وهي واقعة بين قوتين كبيرتين لا يمكنها أن تناطحهما فرنسا وإسبانيا، كما كانت إسبانيا تجاهر بالعداء وإعلان الحرب على إنجلترا وتتوعدها بالغزو وتعد العدة لذلك، ولم تكن معاداة إسبانيا شيئًا عارضًا بل كانت متجذرة بالعقيدة والاقتصاد والكبرياء أيضًا، فكانت اللحظة بالفعل فارقة، والتهديد كبيرًا، والتحديات جسامًا، والضغوط الخارجية والداخلية كبيرة، والكبرياء الإسباني شرسًا، إنها معركة فـُرضت لا محالة، وكأنها خطوات كتبت عليها ومن كتبت عليه خطى مشاها .

بدأت الملكة إليزابيث أولاً في العمل الدؤوب الناجح لدعم الاستقرار الداخلي وتقوية بيئتها وجبهتها الداخلية ومحاولة تحسين الاقتصاد مع نشر السلام والاستقرار الداخلي بعد فترة من الإنهاك في الفوضى والحروب الأهلية، ورغم أنها كانت حريصة على نشر المذهب البروتستانتي في أوروبا مقابل اعتناق إسبانيا المذهب الكاثوليكي إلا أنها أبدت تسامحًا مع المخالفين، وبدأت الأجواء داخل إنجلترا تتحسن شيئًا فشيئًا وتزداد ثقة يومًا بعد يوم .

لم تـُستغرق إليزابيث في الداخل على حساب الخارج وتهديده الضخم المستمر وتحرش إسبانيا بها، الذي يدفعها حتمًا للحرب والمواجهة إما بدافع العقيدة أو حتى بدافع الاقتصاد أو حماية الأمن القومي، لكنها سعت في رسم استراتيجية شاملة للتعامل مع الحرب المحتومة مع إسبانيا لكن بطريقتها هي لا بالقدر المحتوم الذي ستفرضه إسبانيا عليها كما وصفها روبرت غرين في كتابه (33 استراتيجية للحرب) “فإذا كانت الحرب مع إسبانيا حتمية فقد أرادت (يقصد إليزابيث) خوضها وفقـًا لشروطها هي ”.

أولاً لم تستجب إليزابيث لأي ضغط تحت مسمى حرب المذهب والعقيدة المقدسة، كما لم تستسلم لرغبات وزرائها ومستشاريها وحماستهم وقوتهم واندفاعهم لمواجهة الحرب المحتومة؛ لأنها كانت تقدر قوتها وميزان القوى بشكل جيد، ووضعت وفق ذلك استراتيجية للمواجهة تناسب قدرتها ومواردها وتعطيها الأفضلية والأولوية، وقررت أن تفكر بطريقتها هي لا بالطريقة التي تـُفرض عليها من الخصم .

صنعت استراتيجيتها في مواجهة التهديد الإسباني، التي اعتمدت على :

تقوية جبهتها الداخلية والعمل من أجل أن يلتقط المجتمع أنفاسه بعد فترة من الفوضى والحرب الأهلية لتحقيق استقرار مجتمعي مع تنمية الموارد الاقتصادية .

العمل على امتلاك التميز في سلاح البحرية والذي سيكون السلاح الفاصل في حالة الحرب القادمة وجعلته محترفـًا متميزًا .

قررت بناء شبكة معلومات وتجسس للتميز على الخصم في مجال جمع المعلومات، فامتلكت كل معلومة تفصيلية عن الحملة والأسطول حتى موعد التحرك، وفي الوقت المناسب نجحت في توجيه ضربة شتت الأسطول وقطعت عنه الإمداد وأعجزته عن التحرك ومزقته تمامًا؛ فتم إلغاء الاجتياح بعد أن تحقق ضرر لا يمكن لفيليب جبره في المدى القريب .

التركيز على استنزاف ملك إسبانيا فيليب استنزافـًا ماليًا كبيرًا؛ فهو يعد أسطولاً كبيرًا ويجهزه للغزو وحجم تكاليفه المالية وأعباؤه وفوائده ضخمة جدًا، فأطلقت العنان لأعظم ضباطها أن يعمل منفردًا كقرصان دون أية تبعية لها أو للملكة ليقتات على هذه السفن والأسطول الذي يُعده فيليب، فكل سفينة يمكنه تخريبها أو الاستيلاء عليها يرفع معدل الفائدة على فيليب ويزيد إنهاكه ماليًا .

تفوقت إليزابيث على فيليب العظيم واستنزفته ماليًا وجعلت كلفة غزوه لإنجلترا تزداد يومًا بعد يوم، وأثارت عليه داعميه ومموليه، وجمعت إليزابيث هنا بين قوتها الداخلية وسلاحها الذي يحميها وحرب المعلومة والاستنزاف وبنت استراتيجية المواجهة على العمل باقتصاد تام للقدرات والموارد على وأد الخصم واستنزافه وعدم تمكينه من خوض حرب مفتوحة وإحباط الغزو قبل أن يبدأ، فوأدت أحلام فيليب وتآمره بأقل الموارد وبالحفاظ على المكتسبات التي تحققها دون الرهان بكل شيء في اللحظات الفارقة .

إن الصراعات الكبرى ليست مجرد شعارات ومطالب بل تحتاج قيادة تمتلك عقلاً وفكرًا وتخطيطـًا واعيًا قبل أن نسأل الله التوفيق والنصر، وإن أول وأوجب الواجبات على دعاة الحرية والكرامة وإسقاط الاستبداد والحكم العسكري أن يقوموا بتحديث عقولهم وأدواتهم وطريقة تفكيرهم واستراتيجيتهم التي يجب أن تكون ناجحة؛ فالاستعداد للمواجهة والثورة يبدأ من قوة البيئة والجبهة الداخلية وتدعيمها، ثم التفكير في تحديث بنيتها وعقولها ومفكريها ومؤسساتها وقادتها، ثم تحديث الأدوات المناسبة التي يمكن أن تحقق بها تفوقًا على الخصم في الميدان والمجتمع والإعلام والسياسية وغير ذلك وصناعتها، مع النظر في أدوات الخصم والتفكير في كيفية إحباطها واستنزافها عمليًا .

لقد فكرت إليزابيث في التخطيط لمعركتها بالطريقة التي تريدها وليس بالطريقة التي تفرضها عليها الأحداث الحتمية، ولم تغفل تقوية الجيش وتحديثه والإنفاق عليه وتقويته وتأسيس سلاح البحرية الذي سيكون الرأس الحربة في مواجهة إسبانيا وتقويته، لكن استراتيجيتها جعلتها تصمم أدواتها في التفوق على الخصم في المعلومات وفي أدوات الإنهاك العملية ورفع التكاليف على الخصم مقابل قلة التكاليف عليها، في الأثناء كانت تقوي اقتصادها الداخلي وبنيتها الداخلية .

عندما تحدثنا عن ” معاركنا مع بيروس” كان التحذير من ذلك النصر البيروسي الذي يمكنه أن يحقق انتصارات كبرى متتالية بعد جهد جهيد لكنه ينتهي في النهاية إلى دمار شامل فيكون نصرًا بطعم الهزيمة، واليوم نرى كيف أن النصر أو الهزيمة ليسا أمرين حتميين، وأن النصر ليس له طريق واحد وخطة واحدة واستراتيجية واحدة، وأن الانكفاء والاقتصاد والتقاط الأنفاس مع تعظيم الأدوات ورسم طريق مختلف للمعركة والصراع يمكن أن يحقق نجاحات أخرى قد تكون أفضل من الانتصارات البيروسية التي هي بطعم الهزيمة .

إننا نعيش في زمن يتحاور بعضهم فيه على حتميات وجبريات كأن كل شيء كتب وفرض علينا، فكُتب علينا الاستبداد وكُتب علينا الحكم العسكري وكُتبت علينا المؤامرات والخيانات، فلماذا لم تكتب على إليزابيث أيضًا .

وتبقي القراءات مستمرة …. !!

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close