fbpx
دراسات

قراءات نظرية: تسوية الصراعات والدبلوماسية الوقائية

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

برزت عملية تسوية الصراعات منذ نشأة المجتمعات الإنسانية التي شهدت حالات من الصراع والتعاون؛ مما أبرز أهمية تسوية الصراعات التي قد تنشب بينها بالطرق السلمية – تحديدا – تفاديا لحسمها من خلال استخدام القوة العسكرية (القسرية)؛ نظرا للأضرار الكبيرة التي قد تترتب على حسمها، إلا أنه يلاحظ أن مفاهيم التسوية اهتمت تاريخيا بالصراعات بين الدول، وتجاهلت الصراعات الداخلية بسبب مبدأ السيادة، حيث كان لا بد من موافقة الدولة أولا على تدخل المنظمة المعنية، إلا أن الوضع اختلف إلى حد كبير مع انتهاء الحرب الباردة وبروز مبدأ التدخل لاعتبارات إنسانية؛ والذي يجيز للمنظمة الدولية التدخل – حتى بدون طلب الدولة المعنية – في حالة وجود إبادة جماعية، أو جرائم حرب ضد الإنسانية، أو أزمة داخلية تهدد السلم والأمن الدوليين(1).

لذلك تأتي أهمية تحديد المقصود أولا بمفهوم تسوية الصراعات، خاصة وأنه أصبح مفهوما غير محدد بدقة وسط مجموعة من المفاهيم التي ظهرت في حقل دراسة الصراع أبرزها مفاهيم منع وإدارة وحل الصراع من ناحية، ومفاهيم الدبلوماسية الوقائية ومنع وحفظ وفرض وبناء السلام من ناحية ثانية، باعتبارها الآليات التي تتم من خلالها عملية التسوية.

وفي هذا الإطار تم تقسيم هذه الورقة إلى ثلاثة محاور أساسية، يتناول أولها، مفهوم تسوية الصراع وأشكاله المختلفة، ويتناول ثانيها، علاقة تسوية الصراعات بمفاهيم منع وإدارة وحل الصراعات، بينما يتناول المحور الثالث والأخير علاقة تسوية الصراعات بمفاهيم الدبلوماسية الوقائية ومنع وحفظ وفرض وبناء السلام.

أولا: تعريف مفهوم تسوية الصراع وأشكاله المختلفة

يخلط بعض الباحثين بين مفهومي تسوية الصراع Conflict Settlementوحل الصراع Conflict Resolutionبالرغم من أن منّظري الصراع يميزون بين الاثنين، فتسوية الصراع تعني التوصل إلى اتفاق بشأن بعض القضايا المحددة-من خلال الوسائل السلمية السياسية مثل المفاوضات والوساطة، أو القانونية مثل التحكيم والقضاء بين أطراف الصراع، أو حتى الوسائل العسكرية القسرية دون معالجة الجذور العميقة له. في حين أن حل الصراع يعني حل كل القضايا العميقة (أصول الصراع) وإقامة علاقات متجانسة إلى حد كبير بين أطرافه (2).

ووفقا لجون بورتون John Burtonوهو أحد منّظري الصراعات فإن التسوية ترتبط بالقضايا أو المصالح القابلة للتفاوض بشأنها Negotiable Interested، في حين أن حل الصراعات يرتبط بالحاجات الأساسية التي لا يمكن-غالبا- التنازل عنها أو التفاوض بشأنها أو لا بد من حلها معا (الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية للصراع بين الجماعات المختلفة داخل الدولة أو بين الدول بعضها البعض)، ومن هنا فإن التسوية تعني مخرجات الخلافات التي تم التفاوض أو حتى التحكيم بشأنها، في حين أن الحل هو نتاج التخلص من الصراع ذاته بكل أبعاده Outcome of a Conflict(3). لذا فإن عملية التسوية غالبا ما تكون مؤقتة، في حين أن الحل غالبا ما يتسم بالديمومة، ومن ثم فإن التوصل إليه يستغرق وقتا أطول.

وهناك نمطان رئيسيان لعملية التسوية (4):

 

الأول: التسوية السلمية:

وتندرج تحتها التسوية السياسية من ناحية، والتسوية القانونية من ناحية ثانية، ولقد حددت الفقرة الأولى من المادة (33) من ميثاق الأمم المتحدة الوسائل السلمية لتسوية الصراعات الدولية وهي المفاوضات أو التحقيق أو الوساطة أو التوفيق أو التحكيم أو التسوية القضائية أو اللجوء للوكالات والتنظيمات الإقليمية أو غيرها من الوسائل السلمية التي يقع عليها اختيارهم.

ودرج الباحثون وخبراء القانون على تصنيف وسائل التسوية السلمية إلى: وسائل سياسية وتشمل (المفاوضات، المساعي الحميدة، الوساطة، عرض النزاع على المنظمات الدولية)، ووسائل قانونية وتتضمن التحكيم والقضاء الدوليين (5).

وهناك عدة معايير لتصنيف الصراع إلى قانوني أو سياسي، لكن المعيار الأهم هو ما يقرره أطراف الصراع أنفسهم، بمعنى هل هو قانوني أو سياسي، ومن ثم يترتب على ذلك اختيار الآلية المناسبة لتسويته (6).

ويلاحظ أن التسوية القانونية أو القضائية- التي يمكن التوصل إليها من خلال اللجوء إلى التحكيم أو القضاء الدوليين- تكون بالنسبة للنزاع الذي يغلب عليه الطابع القانوني Legal Dispute، حيث لا يصلح معه في هذه الحالة إلا اللجوء إلى الأجهزة القانونية والقضائية المختصة، مثل: محكمة العدل الدولية في إطار الأمم المتحدة، أو الأجهزة القضائية التي تم استحداثها سواء في المنظمات الإقليمية القارية أو الفرعية(7)، وإن كانت غالبية الدول لا تفضل اللجوء إلى التسوية القضائية في منازعاتها، وتفضل التسوية السياسية لأن التسوية القضائية لا تعرف الحلول الوسط، فضلا عن إلزاميتها(8).

 

الثاني: التسوية غير السلمية:

أي العسكرية عن طريق استخدام القوة المسلحة، وحسم النزاع لصالح طرف من أطراف النزاع، فالتسوية العسكرية (القسرية) فتعني بالأساس استخدام القوة من قبل المنظمة الدولية أو الإقليمية بهدف فرض السلام، وهي من الاستراتيجيات الهامة في عملية إدارة الصراع خاصة بعد وقوعه إذ يتم استخدام القوة بهدف قمع الطرف المعتدي من أجل التوصل لتسوية الصراع. لكن يلاحظ أن معظم التسويات العسكرية القسرية تكون مؤقتة، إذ يمكن النكوص عنها من قبل الطرف الذي تم قهره إذا سمحت له الظروف بذلك، مثل نكوص ألمانيا في عهد هتلر على معاهدة فرساي1919 (9). ومن هنا فهي قد لا تستخدم القوة – بمفردها -في عملية التسوية، وإنما قد يتم استخدامها مع أشكال التسوية الأخرى (السياسية أو القانونية) من أجل تسوية الصراع حسب مقتضيات الأمر الواقع.

ويلاحظ أنه منذ انتهاء الحرب الباردة، بدأ الحديث عن استخدام القوة العسكرية ليس من أجل أعمال القمع فحسب، وإنما لأغراض وقائية (منع اندلاع صراع أو انتقاله لدول الجوار كحالة مقدونيا اليوغوسلافية من ناحية، ولأغراض حفظ السلام من ناحية ثانية، إلا أن تسليح هذه القوات في هاتين الحالتين يكون محدودا بالنظر إلى المهام المنوطة بها (10).

 

شكل رقم (1) أشكال تسوية الصراعات(*)

ثانيا: علاقة مفهوم التسوية بمفاهيم منع وإدارة وحل الصراع

يرتبط مفهوم تسوية الصراع بمفاهيم منع وإدارة وحل الصراع، حيث يعبر كل منهم عن مستوى معين من مستويات التعامل مع الصراع. وقبل الحديث عن هذه العلاقة ينبغي أولا تحديد تعريف كل منهم:

(1) مفهوم منع الصراع Conflict Prevention

ويعد بمثابة مفهوم وقائي يقوم على الحيلولة دون اندلاع الصراع أساسا أو الحيلولة دون تصاعده. وقد برز هذا المفهوم منذ بداية التسعينات، ويقوم في جوهره على مجموعة من الإجراءات الوقائية التي تتعامل مع مواقف صراعية محددة تتضمن احتمالا قويا بتصاعد أعمال العنف، ومن ثم فهو وثيق الصلة بمفهومي الدبلوماسية الوقائية وصنع السلام. ويشير بعض الدارسين إلى أن هناك عددا من الشروط اللازمة لنجاح جهود منع الصراع، أبرزها وجود شبكة إنذار مبكر توافر دعم مالي كاف لخطوات حفظ السلام اللازمة لمنع الصراع، ووجود رغبة في التسامح بشأن الضحايا والخسائر البشرية التي تكبدها كل طرف من أطراف الصراع، فضلا عن توافر معلومات كافية عن الصراع ككل، وبدون هذه المعلومات فإنه من غير المتوقع لأي صانع قرار أن تكون له مساهمة كبيرة في مجال منع الصراع والدبلوماسية الوقائية، أو القيام بعملية حفظ سلام فاعلة، إذ سيكون الأمر محفوفا بالمخاطر (11)

(2) مفهوم إدارة الصراع Conflict Management

يعتبر هذا المفهوم مفهوما عمليا يتعامل مع صراع قائم من خلال سلسلة من الإجراءات السياسية والعسكرية، بما يؤدي إلى إبقائه عند مستويات أقل تصعيدا، الأمر الذي قد يؤدي إلى تسويته بصورة نهائية في مرحلة لاحقة، أي إن الهدف من عملية الإدارة كما أشار إليه رحيم Rahimهو الوصول بالصراع إلى حده الأدنى وذلك من خلال تشجيع عوامل بناء الثقة بين أطرافه، وفي المقابل الحد من عوامل الهدم (12).

(3) مفهوم حل الصراع Conflict Resolution

ويشير إلى الإنهاء الكامل للصراع من خلال معالجة الجذور العميقة له في مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية، ومن ثم فهو بمثابة حالة مثالية إذ لا يكتفي بإنهاء العنف المسلح فقط، وإنما يسعى لمعالجة المسببات الهيكلية والجذرية له عبر فترة طويلة من الزمن، ويتطلب ذلك توافر أربعة شروط رئيسية، هي إدراك أطراف الصراع بارتفاع تكلفته بصورة يصعب تحملها، وضع موعد نهائي لمفاوضات التسوية، وجود طرف ثالث فاعل، والتزام أطراف الصراع بمبدأ الحلول الوسط المتبادلة، وفي المقابل فإن فرص حل الصراع تتضاءل تماما إذا كانت أطراف الصراع أو بعضها-على الأقل- تعتقد بأن تكلفة الصراع يمكن تحملها أو أنها غير مبررة (13).

ووفقا للتعريفات السابقة يمكن القول بأن ثمة ارتباط وثيق بين مفهوم تسوية الصراع بأشكاله المختلفة-خاصة التسوية السياسية والعسكرية-وبين مفاهيم منع وإدارة وحل الصراع إذ يمكن أن تتم التسوية-التي تأخذ غالبا شكل التسوية السياسية-قبل اندلاع الصراع (مرحلة منع الصراع)، أو عند بدايته وتصاعده (مرحلة إدارة الصراع) وذلك من خلال تدخل قوات لحفظ السلام، وهنا نكون بصدد تسوية سياسية، أو فرض السلام (تسوية عسكرية)، وتعد كل منهما مقدمة للتسوية السياسية الشاملة عند مرحلة حل الصراع.

وهناك رأي أخر يربط بين هذه المفاهيم من خلال وضع التسوية السياسية في مرحلة تالية لعملية منع وإدارة الصراع، وقبل مرحلة الحل الشامل، ومن ثم فإن التسوية –وفقا لهذا الرأي-تعني فقط إنهاء الصراع المسلح من خلال اتفاقات تفاوضية،غالبا ما تتم من خلال عملية إدارة الصراع أو نتيجة له، لكن هذا الإنهاء يكون مؤقتا، إلا إذا تمت معالجة كافة جذور الصراع بما يؤدي إلى حله وليس تسويته فقط، وهو ما ذهب إليه بورتون والذي أضاف مفهوما آخر في هذا الشأن، وهو مفهوم تحول الصراع Conflict Transformationبمعنى تغيير العلاقة بين الأطراف الصراعية، وتحولها من العداء إلى التفاهم والتعاون(14).

 

ثالثا: الدبلوماسية الوقائية وصنع وحفظ وفرض وبناء السلام:

كثر استخدام هذه المفاهيم في الآونة الأخيرة في عمليات تسوية الصراع، خاصة ما يتعلق ببناء السلام وفرض السلام، في حين كان التركيز من قبل على مفهوم حفظ السلام فقط. وحتى هذا المفهوم لم يتضمنه ميثاق الأمم المتحدة عند وضعه، وكذلك مواثيق المنظمات الإقليمية كآلية لتسوية الصراع، وإنما تم استحداثه بعد ذلك من قبل المنظمة الدولية بسبب عدم كفاءة التدابير الأمنية الموجودة في الميثاق (15). لذا لا غرابة في أن يضع الأمين العام السابق للأمم المتحدة الدكتور بطرس غالي هذه المفاهيم في أجندته الخاصة بعملية السلام والتي كلفه بها مجلس الأمن عام 1993، وقدم تقريره بشأنها عام 1993.

ويلاحظ أن كلا من هذه المفاهيم يشير إلى تسوية الصراع في مرحلة معينه من مراحله. ولعل البداية تبدأ بجهود الدبلوماسية الوقائية في محاولة لمنع الصراع، ثم بمرحلة صنع السلام التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالدبلوماسية الوقائية، وغالبا ما تكون متزامنة أو تالية لها، مرورا بمرحلة حفظ السلام وفرضه في حالة اندلاع الصراع وتصاعده، وصولا إلى مرحلة بناء السلام والتي تعنى بعملية حل الصراع وإزالة مسبباته وليس الاقتصار على تسويته فقط (16).

وقبل الحديث عن العلاقة بين مفهوم تسوية الصراع وهذه المفاهيم، ينبغي أولا تعريفها، ثم محاولة معرفة العلاقة بينها وبين مفهوم التسوية، وكذلك المفاهيم الأخرى التي تم تناولها في النقطة السابقة.

(1) مفهوم الدبلوماسية الوقائية Preventive Diplomacy

يشير هذا المفهوم إلى الإجراءات والأعمال التي من شأنها أن تعمل على منع نشوب النزاعات بين الأطراف –أساسا –أو منع تصاعد النزاعات القائمة، أو وقف انتشارها وامتدادها عندما تقع. وتشمل الإجراءات من هذا النوع جميع الأساليب والوسائل التي نص عليها الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة (الوساطة-التوفيق-المساعي الحميدة). ويلاحظ أنه منذ ثمانينات القرن الماضي لم تعد أنشطة الدبلوماسية الوقائية قاصرة على وسائل وآليات التسوية السلمية التقليدية، إذ امتد المفهوم ليشمل إمكانية استخدام الوسائل العسكرية، وهو ما عبر عنه الدكتور بطرس غالي في تقريره (السابق الإشارة إليه) حيث أشار إلى أن جهود الدبلوماسية الوقائية تتراوح بين المكالمة المقتضبة، وقد تصل إلى حد تحريك القوات المسلحة، وهو ما فعلته الأمم المتحدة عندما صدر قرار مجلس الأمن رقم (795 ) لعام 1992 بشأن إرسال قوات دولية لجمهورية مقدونيا اليوغوسلافية السابقة على حدودها مع كل من ألبانيا وصربيا والجبل الأسود(17).

ويعتمد نجاح جهود الدبلوماسية الوقائية على ضرورة توافر مجموعة من الآليات التي تساعد على كشف بؤر الصراع قبل اندلاعه أهمها وجود شبكة إنذار مبكر Early Warning Networkتقوم بجمع البيانات عن بؤر الصراع، وتقديمها إلى المنظمة الدولية المعنية من أجل سرعة التحرك. (18)

ويلاحظ أن مفهوم الدبلوماسية الوقائية يرتبط بصورة قوية بمفهوم منع الصراع، كما أنه يعد مقدمة لجهود صنع السلام، فضلا عن كونه يدخل في إطار التسوية السلمية للصراع

(2) مفهوم صنع السلام Peace-Making:

وفقا لتعريف أكاديمية السلام الدولية International Peace Academy، فإن مفهوم صنع السلام يعني الجهود المبذولة لتسوية الصراع عبر الوساطة أو المفاوضات، أو الأشكال الأخرى للتسوية السلمية، وهذه الأنشطة تكون محصورة-عمليا-في المستوى السياسي وأحيانا تكون بمثابة مجال مساعد Field Adjustmentلعمليات حفظ السلام (19).

وكما يتضح من التعريف فإنه-غالبا-ما تأتي عملية صنع السلام في مرحلة تالية أو متزامنة تقريبا مع جهود الدبلوماسية الوقائية، أو بمعنى أخر فإن جهود الدبلوماسية الوقائية تبدأ-غالبا-قبل اندلاع الصراع، أو في حالة وجود بوادر له، في حين أن عملية صنع السلام تبدأ-غالبا-مع اندلاعه بهدف منع تصعيده أو انتشاره إلى المناطق المجاورة؛ ومن ثم فإن عملية صنع السلام-شأنها في ذلك شأن الدبلوماسية الوقائية-ترتبط أساسا بجهود منع الصراع.

(3) مفهوم حفظ السلام Peace-Keeping:

بالرغم من شيوع كلمة حفظ السلام وورودها أكثر من مرة في ميثاق الأمم المتحدة (20)، إلا أن التوصل لتعريف محدد للمصطلح يعد غاية في الصعوبة بالنظر إلى التطور الكبير الذي حدث في حجم القوات -مناطق تركزها – التفويض – المهام المنوطة بها. ونظرا لاتساع نطاق التفويض الممنوح لها صارت هناك عدة طرق للتعريف، فوفقا لأكاديمية السلام الدولية، فإن مفهوم حفظ السلام يعني احتواء، الوساطة، الفصل بين أطراف الصراع من خلال تدخل طرف دولي ثالث بصورة مباشرة ومنظمة، حيث يتم استخدام قوات متعددة الجنسيات لذلك الغرض تضم قوات عسكرية –قوات شرطة-مدنيين من أجل استعادة السلام.

ويكاد يتفق هذا التعريف مع تعريف الخبراء العسكريين الأمريكيين مثل Quinn، والذي يركز في تعريفه على الطبيعة الدفاعية (غير القسرية) لهذه القوات من ناحية، وإمكانية تغيير التفويض الممنوح لها من ناحية ثانية، فوفقا لكوين فإن مفهوم حفظ السلام يشير إلى العمليات غير القمعية بالأساس التي تتم من خلال قوات الأمم المتحدة أو غيرها من المنظمات المعنية، التي لا يحق لها استخدام القوة إلا في حالات الدفاع عن النفس، وهدفها مراقبة وتسهيل التوصل إلى اتفاقيات بناء الثقة من أجل تسوية الصراعات، ويتم نشرها بناء على موافقة كل أطراف الصراع الرئيسية، ويمكن لهذه القوات في فترة لاحقة –ولأي سبب من الأسباب –أن تقوم بعمليات قتالية عندما يسمح لها بذلك من قبل الأمم المتحدة أو المنظمة المعنية ليس بهدف الدفاع عن النفس، ولكن من أجل تحقيق المهام المنوطة بها(21).

وتهدف عمليات حفظ السلام –في الأغلب الأعم-إلى تحقيق عدة أمور أهمها:

أ-السعي لوقف النزاع المسلح حتى يتم إيجاد مناخ مستقر يمكن أن يتم التفاوض في إطاره، لذا فهي تشكل إضافة للوسائل التقليدية السلمية في تسوية الصراع، أو مكملة لها.

ب-أنها تستخدم كرادع ضد أي طرف يقوم بأي خروقات بعد توقيع اتفاقات وقف إطلاق النار، سواء تلك التي يتوصل إليها الطرفان قبل وصولها، أو التي تتم تحت إشرافها (22).

ج-مراقبة انتهاكات الحدود، والعمل كقوة عازلة بين أطراف الصراع، كما يمكن لها –في حالة الصراعات الداخلية-المساهمة في الحفاظ على النظام الداخلي خلال الفترة الانتقالية.

ولقد شهدت مهام حفظ السلام تطورا كبيرا في السنوات الأخيرة، حيث لم يعد دورها قاصرا على النواحي العسكرية فقط، وإنما صارت لها مهام ذات طبيعة-إنسانية-خاصة في بؤر الصراع كما حدث في رواندا-بوروندي-الصومال-ليبيريا في تسعينات القرن الماضي (23).

ويتوقف نجاح عمل هذه القوات على ضرورة وجود تفويض واضح بشأن مهامها من ناحية، وتعاون الأطراف المختلفة معها من أجل تنفيذ المهام المنوطة بها من ناحية ثانية، وضرورة توفير الدعم اللوجيستي والمالي لها من ناحية ثالثة (24).

إلا أنه من الملاحظ أنه منذ أواخر الثمانينات من القرن الماضي، لم تعد عمليات حفظ السلام-خاصة التي تتم من خلال الأمم المتحدة-تتقيد بالشروط التقليدية السابق الإشارة إليها، لا سيما تلك المتعلقة باستخدام الحد الأدنى من القوات بسبب الطبيعة الدفاعية لها، وكذلك ضرورة موافقة الأطراف المتحاربة وتعاونها، إلا أن تجاهل هذين الشرطين-تحديدا-يجعلها دائمة عرضة للمخاطر المختلفة خاصة من أطراف الصراع المعارضة لوجودها (25).

ومن هنا يلاحظ أن مفهوم حفظ السلام يرتبط بعملية تسوية الصراع منذ بدايته أو عند تصاعده، ومن ثم فإن هدف هذه القوات هو إدارة الصراع من أجل التوصل إلى تسوية سلمية، أما التسوية العسكرية (استخدام القوة العسكرية) فإنها تأتي عند تفاقم الصراع، حيث يكون دور هذه القوات في هذه الحالة فرض السلام، ثم يتم التوصل إلى تسوية سياسية بعد ذلك.

(4) مفهوم فرض السلام Peace Enforcement:

يرتبط مفهوم فرض السلام-أساسا-باستخدام القوة العسكرية في عملية التسوية، ويتم اللجوء إليه في حالة الصراعات التي تصبح فيها مهمة حفظ السلام غير عملية، خاصة إذا تعرضت القوات الدولية للهجوم من قبل طرف أو عدة أطراف من أطراف الصراع، كما حدث مع بعثة الأمم المتحدة في الكونجو (1960)، والصومال(1993)، وقوات الجماعة في ليبيريا(1990).

وهنا لا بد من الإشارة إلى نوع مهمة القوات الدولية (حفظ سلام-فرض سلام) في القرار الصادر بشأنها من المنظمة المعنية. وبصفة عامة فإن الاختيار بين هاتين المهمتين يتوقف على نمط الصراع من ناحية، والتغيرات التي تطرأ عليه من ناحية ثانية (26).

لذا يلاحظ ارتباط مفهوم فرض السلام بنمط التسوية السياسية والعسكرية من ناحية، ونمط إدارة الصراع من ناحية ثانية.

(5) مفهوم بناء السلام Peace Building

هناك شبه اتفاق بين الخبراء العسكريين على أن مفهوم بناء السلام يرتبط بعمليات إصلاح البنية التحتية، وبناء المؤسسات في الدولة أو الدول محل الصراع؛ من أجل إيجاد الظروف الملائمة لتحقيق السلام وضمان عدم العودة إلى الصراع مرة أخرى، مثل حالة كمبوديا والصومال (27).

ويلاحظ أن هدف عملية بناء السلام هو السعي لحل الصراع من كافة أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية، وعدم الاقتصار-فقط-على التسوية من الناحيتين السياسية والعسكرية، وهو يعتبر من المفاهيم الحديثة نسبيا، وتكمن أهميته في أنه يستكمل الحلقة المفقودة فيما يتعلق بدور المنظمات الدولية –خاصة الأمم المتحدة-في مجال حفظ السلم والأمن الدوليين من ناحية، ودورها في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من ناحية ثانية، حيث كان التركيز في الأغلب الأعم على المجال الأول. وهناك اتجاه يربط بين جهود الدبلوماسية الوقائية، وعملية بناء السلام على اعتبار أن الأولى تسعى للحيلولة دون اندلاع الصراع من الأساس في حين أن الثانية تهدف إلى الحيلولة دون العودة إليه ثانية (28).

ومن هنا يلاحظ أن مفهوم بناء السلام يقابل مفهوم حل الصراع السابق الإشارة إليه، كما أنه يرتبط –كذلك-بالتسوية السياسية الشاملة وليست التسوية الجزئية التي تقتصر-غالبا-على التسوية السياسية أو العسكرية.

الهامش

(1) أحمد إبراهيم محمود، التسوية السلمية للصراعات الداخلية في إفريقيا: دراسة حالة للصومال منذ بداية التسعينات، (رسالة دكتوراه، معهد البحوث والدراسات الإفريقية، جامعة القاهرة 2004) ص 4-5

(2)-Douglas H. Yorn(ed.) , Dictionary of Conflict Resolution ,(San Francisco: Jorrey-Bass Publisher ,1999) pp120-121

(3)2-Heidi Burgess & Guy M. Burgess, Encyclopedia of Conflict Resolution, (Cambridge: Santa Barbara,1997), PP.75-76 .

(4) عبد الرحمن إسماعيل الصالحي، التسوية السلمية للمنازعات الإفريقية في إطار منظمة الوحدة الإفريقية، (رسالة دكتوراه، معهد البحوث والدراسات الإفريقية، 1980) ص 16-25.

(5) حول هذا التقسيم انظر، غادة خضر حسين زايد، التسوية السياسية للنزاع المصري – السوداني بشأن مثلث حلايب، (رسالة ماجيستير، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة،، 2000) ص 51.

(6) حول هذه المعايير أنظر: د. أحمد الرشيدي، “التحكيم والقضاء الدولي: دراسة في آليات التسوية القانونية للنزاعات الدولية”، سلسلة مذكرات لطلبة الماجستير، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 2000، ص ص 5-11.

(7) حول صور التسوية السلمية للصراعات الدولية أنظر: د. أحمد الرشيدي، “الجهاز القضائي في إطار منظومة الإتحاد الإفريقي: حدود الدور المتوقع والمأمول”، آفاق إفريقية (القاهرة: الهيئة العامة للاستعلامات، عدد 12، شتاء 2002-2003) ص ص 33-34.

(8) د. نيفين مسعد ( محرر) معجم المصطلحات السياسية (القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية بكلية الاقتصاد، 1994) ص ص 270-271

(9) حول التسوية العسكرية ومدى مساهمتها في تسوية الصراع انظر د. محمد أحمد عبد الغفار، التدابير الوقائية مع دراسة لحالة رواندا (الجزائر: دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع، 2004) ص ص 38-39

(10) المرجع السابق، ص ص 315-327

(11) Growth Shelton, “Preventive Diplomacy and Peacekeeping: Keys for Success ”,African Security Review(Pretoria & Cape Town: Institute for Security Studies, Vol.6,No,5,1997) PP.12-15

(12)- Douglas H. Yorn (ed.) , Op. cit, PP.11-118 .

(13) -أحمد إبراهيم محمود، م.س.ذ. ص 9 .

(14) William Zartman &J Lewis Rasnussen (eds.)”Peacekeeping in International Conflict: Methods &Techniques”(Washington D.C: United State Institute of Peace Press,1997) P.64.

(15) George Klay Kieh, ”International Organization and Peacekeeping ” in, Karl Magyar &Earl Morgan(eds.) Peacekeeping in Africa: Ecomap in Liberia (London: Macmillan Press ,1998) P.15.

(16) -Idem

(17) حول مفهوم الدبلوماسية الوقائية والإجراءات التطبيقية له أنظر: د. محمود أبو العينين، الأمن الجماعي الإفريقي: المستويان القاري والإقليمي الفرعي (القاهرة: معهد البحوث والدراسات الإفريقية، نشرة خاصة محّكمة، رقم 36،1994) ص 5. وأنظر أيضا الأمم المتحدة: تقرير دكتور بطرس غالي الأمين العام السابق للأمم المتحدة عن أعمال المنظمة سبتمبر 1993،ملحق مجلة السياسة الدولية،عدد 14،أكتوبر1993،ص 6 وما بعدها.

*(18) بالرغم من أهمية شبكة الإنذار المبكر في إطار الدبلوماسية الوقائية، إلا أن هناك رأيا يرى ضرورة أن تنصرف جهود هذه الدبلوماسية لمعالجة الأسباب العميقة للصراعات وليس مجرد رصدها من أجل تفاديها، حول هذا الرأي أنظر: السيد يسين (محرر)، التقرير الإستراتيجي العربي1992(القاهرة: مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، 1993) ص 44.

(19) Ademola Adeleke,”The Politics and Diplomacy of Peacekeeping in West Africa: the Ecowas Operation in Liberia “.the Journal of Modern African Studies,(Cambridge: Cambridge University Press,Vol.33.No.4,1995) P.569

*(20) يلاحظ أن ميثاق الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية لم يتضمن أسلوب حفظ السلام كآلية لتسوية الصراع، وإنما هو أسلوب تم استحداثه من قبل الأمم المتحدة بسبب عدم كفاءة التدابير الأمنية الجماعية الموجودة بالميثاق من ناحية، ومن أجل تجنب تدخل القوى الكبرى في الصراعات إبان الحرب الباردة من ناحية ثانية.

(21)1 – Denis C. Jett, Why Peacekeeping Fails,(New York: ST Martin Press,2000) PP.13-14

(22)3-George Klay,Op.cit,P.15

(23) د. محمود عبد الحميد سليمان، “عمليات حفظ السلام في نهاية القرن العشرين”، مجلة السياسة الدولية (القاهرة: مؤسسة الأهرام، عدد 134، أكتوبر 1998) ص 38.

(24)2-U N: United Nation Peacekeeping (New York: United Nation Department of Public Information ,August 1993) PP.6-7

(25)- انظر تقرير د.بطرس غالي، م.س.ذ، ص ص 62-63

(26)-Ademola Adeleke,Op.cit,P.569

(27)2-Dennis C. Jett, Why Peacekeeping Fails,(New York: ST Martin Press,2000), P.15

(28) د. حسن نافعه، الأمم المتحدة في نصف قرن: دراسة في تطور التنظيم الدولي منذ عام 1945، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والأداب، سلسلة عالم المعرفة، رقم 202، أكتوبر 1995) ص 413.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close