fbpx
قلم وميدان

ماذا يريد سنة العراق من تركيا؟

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

 

يحتم الجوار الجغرافي الرابط بين تركيا والعراق علاقة لا ينفك عنها أحدهما، فكلا البلدين محكومان بسياسات تختلف من مرحلة لأخرى ومن حكومة لأخرى؛ فنجد، قبل الإسلام، أن الدولة البيزنطية التي بسطت نفوذها على أرض تركيا والشام وغيرها في صراع مستمر مع الدولة الفارسية التي كانت في الكثير من الأحيان تحتل العراق وتحكم أرضه وكان العراق ارض الصراع والحروب بين الدولتين وعنصر العلاقة بينهما.

ومن بعد ذلك نجد أن العراق كان يَحكمُ أرضاً تركية أو أجزاء كبيرة منها أيام الدولة العباسية، وكذلك حكمت تركيا العراقَ لقرون أيام الدولة العثمانية أيضا.

ومن بعد الدولة العثمانية تشكلت دولة القومية التركية في تركيا ودولة القومية العربية في العراق والى اليوم كل بلد له حدوده وحكومته وكيانه إلا أن كلا البلدين يتصل بالأخر بوجه من الوجوه، ومثال ذلك نجد أن العراق يضم شريحة واسعة من التركمان الذين هم من أصول تركية، وكذلك نجد أن تركيا قد ضمت الملايين من العرب وخاصة في المناطق المجاورة للعراق وسوريا، وكذلك الكرد يشكلون عاملا مشتركا بين البلدين ولهم روابط رحم وصلة قربى تجمعهم، وكذلك نجد مسألة الدين الإسلامي الذي يعتنقه أبناء البلدين والتوجه السني والانتماء المذهبي للإمام أبي حنيفة يشكل عنصرا من عناصر العلاقة التي تجمع بين أهل السنة في العراق وتركيا.

كل هذا وغيره بجانب مصالح اقتصادية وشؤون سياسية لها أبعاد استراتيجية على مستوى البلدين وعلى المستوى الإقليمي والعالمي في بعض المفاصل. كما نجد حديث الساسة لكلا البلدين لا يخلو من سياسة الشد والتشنج والاتهام، فنجد حكومة العراق تتهم تركيا مع بلدان أخرى بالأزمة الحاصلة في العراق على مدار الثلاثة عشر سنة الماضية وتحملها في الكثير من المواقف تبعية المشهد وملابساته، ونجد تركيا تحاول أن تجد لها موطئ قدم في العراق ولكنها لم تفلح في ذلك، وفي خضم هذا المشهد بهذه الصورة الكبيرة تقع هناك مسائل كثيرة تكمن فيها التفاصيل وتشكل صورة المشهد بدقة، وتوضح ملابساته وإشكالاته.

وبين حكومة العراق وحكومة تركيا يقع أهل السنة طرفا وسطا، فهم بين ضغط الحكومة العراقية وظلمها وتعسفها يبحثون عن سبيل يخرجهم من أزمتهم ويعيد لهم كرامتهم وكيانهم وعزتهم وحقهم، وبين تركيا التي يقع عليها أن تلعب دورا مؤثرا تعادل من خلاله الدور الإيراني وتقف في الطرف المقابل لتصنع توازنا داخل العراق يعيد لأهل السنة كيانهم المسلوب وأرضهم المغتصبة وحريتهم المنتهكة واقتصادهم المدمر…

إن أهل السنة في العراق وبعد الاحتلال الأمريكي “الصفوي” لأرضه مروا ولا يزالون يمرون بمحن عصيبة خلفت دمارا في البنية التحتية لمدنهم كالفلوجة والرمادي وتكريت والموصل وديالى والحويجة ومناطق حزام بغداد وغيرها كثير.

إن أهل السنة اليوم يتواجدون على أرض تركيا بمئات الآلاف، إلا أن أعينهم على العراق، فحلم العودة لا يفارقهم، وديارهم تنتصب أمام أعينهم، ومواطن الصبا وذكريات الشباب لا تبرح تنغص عيشهم، وأمل بعراق جديد تسوده حرية في المعتقد وكرامة للإنسانية تصان وحقوق لا تنتهك فيه أو تهان ودماء لا تسال وتتكفل بصونها حكومة لها قرار ولها في ذلك منهج وسلطان، وهذا لمن كان خارج الحدود وبعيدا عن ظلم السلطان.

أما من يقبع في السجون خلف القضبان أو يقيم في خيمة منحتها إياه منظمة الأمم المتحدة أو جمعية أو مؤسسة إنسانية وأهل الخير والإحسان بعد أن هجر من بيته ومدينته وأصبح بلا مأوى ولا تعليم ولا عمل ولا راتب يكفي لنفقاته وأسرته يقضي له حوائجه من غير ذلة ويصون له كرامته، أو لا يزال في بيته ومدينته إلا أنه مهدد في كل وقت وزمان باعتقال أو تهجير ودمه غير مصان، كل هؤلاء يبحثون عن الخلاص ويجأرون إلى الله في كل وقت أن يجعل بعد العسر يسرا وان يمن عليهم بحال أفضل وواقع أجمل.

وغير هؤلاء من سافر وهاجر وركب البحر فمنهم من غرق ومنهم من نجا كلهم يبحث عن بلد يأويه ودولة تحميه وعيش يسعده ويغنيه وحرية وتعليم وسلامة … هاربا من قلق على النفس وعلى الأهل وعلى المال وعلى الدين واضطراب وخوف وتوجس … كل هؤلاء عينهم صوب تركيا أن يجعلها الله المخلص والمنقذ.

ولهذا قد يُتساءل عن الدور المطلوب لتجاوز المحنة التي يمر بها أهل السنة في العراق، وبحكم المقدمة أعلاه عن الجوار التركي والعلاقة مع العراق لا بد من طرح سؤال وهو؛ ماذا يريد سنة العراق من تركيا؟

إن أهل السنة في العراق يحتاجون من تركيا مشاريع وبرامج طوارئ آنية وأخرى استراتيجية.

 

أولا: مشاريع الطوارئ:

1ـ الإغاثة: إن تركيا اليوم تصل مساعداتها لبلدان شتى فلها يد وباع في سوريا والعراق وفلسطين وأفريقيا وغيرها من دول العالم، عن طرق مؤسساتها الرسمية كوزارة الأوقاف أو منظماتها الإنسانية ومحسنيها. ولقد كان لتركيا باع وشأن في إغاثة المنكوبين والمهجرين من أهل السنة في العراق، بل وصلت مساعداتها إلى الشيعة في أقصى الجنوب وشملت قطاعات واسعة، وما يميز تركيا في هذا الباب عن غيرها من الدول أنها فتحت أبوابها أمام أهل العراق ولم تضيق عليهم وعاملتهم بالحسنى.

إلا أن المرجو أكثر من ذلك؛ ويتمثل بتشكيل منظمات ومؤسسات إغاثية من أهل السنة العراقيين وفق تنسيق عالي المستوى وارتباط مباشر بالمؤسسات التركية وتخصيص صندوق دعم وكفالة للمهجرين والنازحين والمعوزين بشكل طارئ وعاجل.

2ـ الإقامة وإذن العمل: يُقيم على أرض تركيا مئات الآلاف من العراقيين وغالبهم إقامته على الأمم المتحدة ينتظر الحصول على حق اللجوء في الدول الأوربية أو أمريكا وغيرها، والكثير منهم غير راغب بالسفر خارج تركيا ولا يطمح بذلك ويتمنى أن تستقر الأوضاع في العراق ليعود إليه في عز وكرامة، ويطمح في هذا الوقت إلى أن تفتح تركيا إليه ذراعيها بإقامة سهلة ميسورة خالية من التعقيد، فلا تأمين صحي يرهقه ماليا هو وأسرته ولا شرط السفر الإجباري والعودة حتى يتمكن من الحصول على إقامة تسمح له بالتنقل في تركيا والسكن حيثما شاء أو مزاولة  العمل وفق الأصول القانونية لمن أراد التنازل عن الإقامة الممنوحة بسبب ارتباطه بالأمم المتحدة.

4ـ سمة الدخول لتركيا (الفيزا): كان العراقي القادم لتركيا عن طريق الجو لا يحتاج إلى “فيزا”، والقادم عن طريق البر يحتاج إلى “فيزا” الكترونية يمكنه استخراجها في دقائق معدودة عن طريق الإنترنيت، إلا أنه بعد 10/02/2016، تعقدت المسألة وأصبح لابد من استحصال “فيزا” عن طريق السفارة أو القنصلية ضمن مجموعة إجراءات صعبة ضيقت على العراقيين وحرمت أهل السنة من أن يخرجوا هربا من جحيم الواقع العراقي المرير، ولهذا فهناك مناشدات وطلبات وجهت للحكومة التركية بتخفيف هذه الإجراءات وتبسيط الموضوع.

5ـ استثمار الكفاءات ومنهم المعلم والأستاذ الثانوي والأستاذ الجامعي والطبيب والمهندس والإمام والخطيب والعالم والمفكر والمنظر ونخب يصعب عدها وحصرها معطلة غير مستثمرة، منقسمة بين التهجير داخل العراق وخارجه ولتركيا النصيب الأوفر منهم، هم طاقات بناءة وثروة تنبض بالعطاء تحتاج إلى من يمد لهم يد العون ويستخدمهم في البناء والنهضة، وتركيا أولى الناس بذلك وعليها أن تمهد السبيل لذلك ومثال ذلك؛ أن تختار شريحة معلمي ومدرسي اللغة العربية والعلوم الشرعية منهم فتؤهلهم بدورات للغة التركية ثم تدفع بهم بعد ذلك في مئات المدارس التي هي بحاجة ماسة لهم ولطاقاتهم، وكذلك يقال عن الأطباء والمهندسين.

وبهذا تكون تركيا قد حققت أربعة أهداف: الحفاظ على هذه الطاقات من الهروب نحو أوربا التي تتصيدهم لتسخر طاقاتهم لها، وتحقيق مزيد من البناء الثقافي والمعرفي والعلمي لتركيا ذي طابع استقلالي غير تابع للوصاية الغربية، وبناء منظومة للمعرفة الإسلامية، إن صح التعبير، تتمثل بالأتراك والعراقيين وغيرهم من المسلمين، وتحقيق بعد استراتيجي وعمق أخلاقي لتركيا من خلال هذه الثلة التي أكرمتهم وحفظت لهم كرامتهم وعلمهم من الضياع، والفضل لا ينسى.

 

ثانيا: مشاريع استراتيجية:

أما المشاريع التي يعول على تركيا أن تسهم بها تجاه أهل السنة في العراق فهي كثيرة ولها أهمية كبرى لتركيا كما للعراق، ومنها:

1- التعليم: تركيا في كل عام تطلق آلاف المنح الدراسية، وتخصص للعراق حصة مقررة من ذلك إلا أن إدارة هذه الحصة كانت بطريقة غير مدروسة ولا ذات أهداف استراتيجية، وعلى تركيا أن تراجع سياستها في ذلك فتجعل هذه الحصة الدراسية لشريحة تختارها بمواصفات محددة وترعى رعاية كاملة لا على المستوى المعيشي فهذا متحقق، ولكن على مستوى التدريب والتأهيل لمرحلة لاحقة تثمر في بناء سياسة عراقية متزنة لا تميل لطرف على حساب طرف أخر، المراد من تركيا أن تخطو هذه الخطوة لا لأجل أن تحقق سياساتها في العراق وإنما لإنقاذ شريحة واسعة تسير في طريق العزوف عن الدراسة بسب الأوضاع الراهنة المقصودة، التي يعد تخلف أهل السنة عن التقدم هو من أهدافها الكبرى، فتخلو الجامعات منهم والمؤسسات من كفاءاتهم فيستحوذ عليها غيرهم، ويستمر النهج الطائفي بالمزيد من التفرد في إدارة العراق وسياسته التعليمية والوظيفية والإدارية.

2- التدريب والتأهيل: امتازت تركيا عن غيرها من البلدان أنها استحوذت على الشريحة الكبرى من نخب أهل السنة في جميع التخصصات والكفاءات التي اتخذت من تركيا محطة انتظار العودة للعراق في اقرب فرصة ممكنة، لذا فإن على تركيا أن تفكر بطريقة مختلفة في كيفية التعامل مع هذه الشريحة فتستثمر وجودهم وتؤهلهم لمرحلة قادمة فتدخلهم في ورش تدريبية وتأهيلية ضمن تخصصاتهم، فإذا ما عادوا نفعوا وكانوا أصحاب عطاء يخدم كلا البلدين، وهذا من شأنه أن يبني شراكات واسعة اقتصادية وسياسية وثقافية وعلمية واجتماعية على أعلى المستويات، بل على تركيا أن تستقدم من هم أصحاب الاختصاص لتدربهم وتؤهلهم بما يمنحهم فرصا ويمكنهم من مسك الأرض في العراق ويستطيعون أن ينقلوا التجربة التركية في البناء والعطاء.

3- البيت السني: تعاملت تركيا مع عدة أطراف سنية سياسية لها وجود في الحكومة العراقية، إلا أنهم أخفقت في أن تكون البيت الجامع والمظلة الكبيرة لأحزاب أهل السنة وهيئاتهم ومؤسساتهم وشخصياتهم، فضلا عن أن تجمع بين المشاركين في العملية السياسية والمعارضين، فضلا عن أن تكون الراعي الرسمي للمقاومة بفصائلها المعتدلة التي استطاعت أن تخرج الأمريكان من العراق، في حين استطاعت إيران أن تجني ثمرة هذا النصر وجنت ثمرة تمزق البيت السني الذي لم يجد له سندا ولا ظهيرا ولا عونا ولا نصيرا، فأحكمت سيطرتها على العراق بشكل كبير مما صعب المشهد وعقده.

الموقف التركي اليوم يجب أن يرتفع سقفه ويعمل على جمع الفرقاء ويوحدهم تحت أهداف كبرى واستراتيجيات مصيرية، وخاصة أنها اليوم تصرح بقوة في رغبتها للتدخل في قضية الموصل ولن تنجح ولن يكون لتدخلها قيمة إذا لم تعمل على تشكيل هذا البيت واستثماره على الأرض في مرحلة لاحقة (1).

————————

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها،ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close