fbpx
قلم وميدان

مراجعات الثورة المصرية: الكنانة قبل الإخوان

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

 

المُدقق في التاريخ الخاص بمصر والأمة العربية الإسلامية، بوجه عام يدرك أن السقوط، على جميع المستويات، لم يكن وليد عام ولا عقد أو حتى قرن، بل إن الأمر تراكمي، استمر لعدة عقود، ولعل أصدق المُعبرين عن هذه الحقيقة الراحل الشيخ “محمد الغزالي” لما قال: “إن الأمة الإسلامية تسقط من فوق السُّلم العالمي منذ عدة عقود، ويسمع لسقوطها دوي رهيب”.

على أن السقوط في البنية المصرية بدأ، أول ما بدأ في نواة المجتمع الأولى، وأبرز مكوناته، الأسرة، ومن ثم جاء التوسع على جميع المستويات حتى ازداد البعد عن القيم والعادات والتقاليد، وهي مهما تباينت الالفاظ المُعبرة عنها، تتصل في النهاية بتعاليم الدين، المكون الرئيسي في نفوس الملايين بخاصة في القرى والنجوع والمدن البعيدة عن العواصم، والتأثر بالوافد الأجنبي، ويكفي أن نتوقف عبر تاريخ السقوط  الاجتماعي إلى لحظة من ملايين من أمثالها قبيل تاريخ حدوثها، وهي تتكرر اليوم بقسوة، لكن بعيداً عما تلاها من أحداث تصاعدية، بخاصة في ظل حالة التفسخ المجتمعي عقب مغادرة الإخوان له..

فقد روى الصحفي “صلاح عيسى” في كتابه “رجال ريا وسكينة .. سيرة سياسية اجتماعية (دار الأحمدي للنشر 2002م)، والكتاب مُوثق بمحاضر تحقيقات رسمية خاصة في نيابة الإسكندرية إبان القضية الأشهر آنذاك، نقلاً عن إحدى القاتلتين أنها بصحبة زوجها “حسب الله” يوم عيد الفطر الموافق لعام 1920م قاما باصطحاب إحدى الضحايا، تم قتلها فيما بعد،  وبداخل مركبة يجرها حصان، (تسمى حنطوراً في مصر)، وكان زوج المرأة غائباً في سفر، فأخذاها بابنتها، على أنهما آخ وأخته (حسب الله وإحدى القاتلتين)، وصار “حسب الله” يتقارب معها، ويفعل أفعالاً خارجة في وجود ابنة الضحية النائمة، وعمرها 9 سنوات، في نفس المركبة، وفي المنزل أكملا، ثم استعان القاتل بزوجته لقتل المرأة، وهو ما شّدد الحكم عليهم بالإعدام، وجعل القاضي يذكر في حيثياته إنهم كانوا يفعلون الفاحشة في أماكن دفن الضحايا، على أن أغرب ما يمكن الوقوف عليه هو قول أحد القتلة على حبل المشنقة: قد قتلت سبع عشرة امرأة لا سبعاً، وغافلت الحكومة في عشر نساء، بالإضافة إلى وجود حيوانات منوية، فيما بعد، في مجرى بول الراحل عند تشريحه!

والشاهد ان هذه كانت ثقافة طبقة في المجتمع المصري بخاصة في “الثغر” الإسكندرية قبل أن تتواجد جماعة الإخوان بثماني سنوات فحسب، و”قصة ريا وسكينة” نفسها نسجت حولها مئات القصص والأعمال الدرامية، ثم أصدر “عيسى” محاضر الجلسات الخاصة بالقضية مصورة عن دار المحفوظات المصرية، بل صدرت عن سلسلة مكتبة الأسرة عام 2006م نسخة بسعر ست جنيهات مصرية (أقل من دولار آنذاك)، ولم يهتم أحد بمقارنة واقع المجتمع المصري قبل وجود الجماعة، ولعل موقف الاخيرة من “مؤلف الكتاب”، وهو يساري محسوب على النظام، هو السبب.

بل إن المُطلع على قصص وروايات أدباء نشأوا في هذه المرحلة، وكتبوا لاحقاً يصاب بالذهول من بوادر ذهاب روح النخوة واهتراء العلاقات الاجتماعية، وتمكن الوهن الاجتماعي من نماذج لا تخفى على العين، ومن هؤلاء “نجيب محفوظ، محمد عبد الحليم عبد الله، عبد الحميد جودة السحار، محمود البدوي”، وقد اعتمدنا هنا أسماء لم يُعرف عنها الإغراق في تتبع الأدب الخارج، بل إن الراحل “مصطفى صادق الرافعي”، المُتوفي عام 1937م نبه للأمر مراراً وتكراراً، وتكفي مقالاته: “لحوم البحر”، وقد تناول فيها المصايف وما يحدث بها، و”رقصت وصلت”، وتناول فيها راقصة قيل عنها أنها تصلي، ثم “كلمة وكليمة”، والأخير كان مما أورده فيه تحذير للفتيات مراراً من معسول الكلمات الذي يودي بمرؤتهن  للتدليل على ما رأه من تراجع خلقي واضح في المجتمع (نشرت المقالات في مجلة الرسالة برئاسة أحمد حسن الزيات قبل وفاة الرافعي، وضمها كتابه وحي القلم بأجزائه الثلاثة).

وفي آراء كثيرين، نميل إليها، أن التفسخ الخُلقي والاجتماعي كان مقصوداً لسهولة إتمام استيلاء المحتل الإنجليزي على المجتمع، وإطالة أمد بقائه، وفيما بعد الإبقاء على عملائه من الحكام، وغير بعيد عن هذا موضة قصر الملابس الشديدة التي سادت في الستينيات وما تلاها في الجامعات وأماكن العمل المصرية، وهي الموضة المعروفة بـ(الميني جيب والميكروجيب)، والتهكم بالمحجبات من قبل رؤساء دول ، (عبد الناصر لما قال إن المرشد الراحل للإخوان حسن الهضيبي طلب منه أن يُحجب بنات مصر ونسائها، ورده عليه في الفيديو القصير المعروف، والسادات لما قال في خطبة شهيرة في أواخر أيامه يريدون مني أن ألبس بناتي خيمة).

ويروى أن الإنجليز لما أرادوا نشر الموضة بين النساء، وكن في عموم مصر قرب بداية القرن الماضي، كما في الأمة الإسلامية غير كاشفات الوجه أصلاً، طلبن من الفتيات المُتلحقات بالمدرسة السنية للبنات تقصير ملابسهن وأكمامهن حتى لا يقعن عند الجري والقفز، وشيئاً فشيئاً ضاق الزي وقصر بل أُهدر.. (والسنية تعود إلى عام 1873م وتم إنشاؤها على يد الزوجة الثالثة للخديو إسماعيل جشم آفت هانم).

في المقابل كان وجود الإخوان المسلمين دعامة وجود للقيم ومن قبلها الدين، ونقطة فارقة في التاريخ المصري الحديث للحفاظ على وشائج وأربطة الأسرة الخفية، تجاه جرعات متتالية من التغريب، شاركت السينما المصرية فيها، عبر تاريخ طويل يعود لما قبل بداية القرن الماضي، وإن كان بدء الإنتاج تأخر إلى العشرينيات منه، بالإضافة إلى وجود ثكنات الأجانب، وانتشار بيوت الدعارة، وإلى أماكن شرب المسكرات، بما فيها الرخيص منها، وما عرف إبان الاحتلال من محاولة إبعاد الأمة والدول العربية عن تاريخها، وتعاليم الإسلام كما المسيحية.

وكانت عفوية الإمام “البنا” في تبسيط صورة الجماعة لتقريبها إلى جميع المصريين صمام أمن ناجح في مواجهة التغريب بصوره الفكرية وتطبيقاته المختلفة، وفي كتابه “مذكرات الدعوة والداعية” أثبت مرشد جماعة الإخوان الأول أنه لما عقد العزم على إنشاء الجماعة في القاهرة عام 1928م، وعدد من المخلصين  (ستة رجال) احتاروا في اسمها فقال الراحل في بساطة: نحن إخوان .. ونحن مسلمون فليكن الاسم إذاً: “الإخوان المسلمون”.

ولما عرض عليه الحاضرون في مارس/أذار من العام المذكور أن يكونوا نواة لحركة أو حزب سياسي أو ما شابه قال ببساطة: إنما نحن رجال نحمل دماء لتجديد شباب هذه الأمة .. فلتكن العاطفة محركنا لنصرة دين الله ولأفعالنا بعيداً عن الحركات والأحزاب (نسخة ويكي إخوان من مذكرات الدعوة والداعية للراحل البنا على شبكة المعلومات بدون تاريخ).

أي إنهم من عاديي الشعب المصري باسم عفوي لا يميزهم عنه، وهو المبدأ الذي وفق الإمام فيه إلى حد ما، وإن شابه القصور ككل منتج بشري، ومن قصور ما بعد طرح الإمام تعامل الجماعة مع ما خطت يداه على انه وحي بعد الوحي في “القرآن الكريم”، و”السنة المطهرة” لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن ذلك تدريس الرسائل المستمر حتى اليوم، بما فيها من تعريف الجماعة على أنها ليست جماعة سياسية أو تكوين حزبي، والأول والثاني كلام نظري نقض أوله “البنا” في حياته، بترشحه للبرلمان عن دائرة مولده الإسماعيلية، وترشح الجماعة من بعده مرات، بل دعمها الرئيس الأسبق “جمال عبد الناصر”، والثاني ما خاضته الجماعة من تكوين حزبي في مصر معروف بعد الثورة، وما تزال الجماعة تعرف نفسها على أنها ليست كياناً سياسياً، او تجمعاً حزبياً!

أحد أعضاء الجماعة، اعتقل إبان انتخابات عام 2005م خوفاً من جماهيريته، ولما أراد الأمن الإفراج عنه، اعتذر له الضابط المختص، وفق الإجراء المُتبع في ذلك الحين، ثم أراد الأخير التبسط معه فقال له: أنت طبيب وناجح في مهنتك ومحبوب ممن حولك ..فلماذا لا تعتزل هذه الجماعة؟

فأجابه عضو الجماعة، على البداهة: حضرتك متزوج .. رأيتُ الخاتم في يدك اليسرى!

فاستشاط الضابط غضباً وقال له: وما دخل هذا بذاك؟

فقال الأول: هذه الدبلة الفضية هل تعرف من أين جاءت إلى مصر، فقد كان الرجال يلبسونها ذهبية قبل عام 1928م .. أنت تلبس الدبلة الفضية التي نبه الناس إليها الإخوان المسلمون.. وتريد مني هجرهم!

فأجابه الضابط: لفد استولوا على كيانك .. وما أرى فائدة معك!

إلى هذا الحد استطاع الإخوان الامتداد في عمق البيئة المصرية(1).

———————————

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close