fbpx
تحليلاتقلم وميدان

نحو نموذج معرفي في العلاقات الدولية

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

يقوم المفهوم الاصطلاحي “للنموذج المعرفي”، في أحد تعريفاته على أنه “نسق من العلم تم إدراكه بتفكير وتدبير، وبشكل متناسق، ومؤتلف لغايات ووجهات محددة”، ومن واقع هذا التعريف يمكن الوقوف على عدد من الأبعاد الأساسية التي يجب أن تتوفر حتى يمكن القول بوجود “نموذج معرفي” محدد في أي مجال من مجالات المعرفة الإنسانية، ومنها المجال المعرفي للعلاقات الدولية:

وهذا يستلزم منهجًا في عرضه، والمنهج يعبر عنه من خلال المفاهيم، فالنموذج المعرفي” عملية إدراكية مقصودة قوامها الإمعان في التفكّر والتدبر، سواء فيما هو مرتبط مباشرة بالقائم بهذه العملية، وهو الإنسان، أو فيما هو خارجه من كون ووجود وحياة، ولهذه العملية مجالا تنطلق منه، ومجالا تتحرك فيه، وكلاهما مهمان في تحديد مدى الإدراك ونطاقه وأدواته، وغاياته ووجهاته.

2ـ البنية: إن حصيلة هذه العملية الإدراكية تأتي في شكل أو هيئة متناسقة، تربط بين مفردات ما تم إدراكه، بحيث يظهر “النموذج المعرفي” متميزًا ومحددًا، أي أن بنية “النموذج المعرفي” لابد أن يتحقق فيها قدر من الاتساق والانسجام والتوازن والاعتماد المتبادل بين مكوناتها، بحيث لا يفهم أي من هذه المكونات، دون فهم موضعه من هذه البنية، ونمط العلاقات بينه وبين بقية الأجزاء الأخرى.

3ـ التكاملية: ففي “النموذج المعرفي” لا يقوم العقل وحده ولا ينهض كأداة للعملية الإدراكية، وإنما تتساند معه الحواس الإنسانية في إكمالها وإتمامها، ولذلك كان من معاني المعرفة، تدبر الأمر وإدراكه، وأن يتفاعل العقل والحواس كأداتين في بناء “النموذج المعرفي” دون تناقض أو ازدواج، وبقدر ما يحدث من تكامل وتفاعل، بقدر ما يكون النظام علميًا مبنيًا على حقائق وقوانين وافتراضات، ونظريات.

4ـ المفاهيم: تشكل المفاهيم مداخل المنهج لبناء “النموذج المعرفي”، وهي مفاتيح الحديث عنه، فالنموذج المعرفي” يقوم على جوهر المعرفة، وهذا يستلزم منهجًا في عرضه، والمنهج يعبر عنه من خلال المفاهيم، والمفاهيم تنبع من إطار مرجعي، والإطار المرجعي مستمد من مصادر تجسده، وبالتالي فإن لكل “نموذج معرفي” مفاهيمه ومنهجه، وإطاره المرجعي ومصادره المعرفية.

5ـ الغائية: “النموذج المعرفي” غائي، والغايات ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالمجال الذي يتحرك فيه، والحدود التي تفرض عليه، ونظام القيم الذي يحيط به، ويتعايش معه، والمقاصد العامة للواقع الذي ظهر فيه، أي أن العملية الإدراكية حين تتأسس على إمعان الفكر والتدبر تهدف لتحقيق غايات محددة.

أزمة النموذج المعرفي:

تنبع مصدر أزمة النماذج المعرفية، في جانب منها، من الأفكار والاكتشافات الجديدة، فالاكتشافات العلمية الجديدة تمثل مرحلة وسيطة بين النموذج المعرفي السائد وبين النموذج المعرفي المنبثق، وبتعبير “توماس كون” فإن هذه الاكتشافات تمثل “عوامل بناء” مثلما تمثل “عوامل هدم“.

فهي عوامل هدم لنموذج معرفي سائد، وبداية عوامل بناء لنموذج معرفي قادم. وتكتسب النماذج المعرفية مكانتها من قدرتها على حل المشكلات. ومع هيمنة نموذج معرفي واحد على مختلف أبعاد ومكونات المجال المعرفي، تظهر الأزمات العلمية، وتكون هذه الأزمات بداية لظهور نظريات جديدة، تكون مقدمة لنظام جديد.

والنظريات الجديدة، ترتبط بمرحلة من عدم الاستقرار الفكري، يغلب فيها على الباحثين والمفكرين والمهتمين شعور بالقلق وعدم وضوح الرؤية، ثم يتزايد هذا الشعور بسبب الإخفاق الطردي من جانب “النموذج المعرفي” القائم وبنيته النظرية القائمة في الوصول إلى النتائج المتوقعة من عمليات الوصف والتفسير والتحليل والتنبؤ، ومن ثم فإن إخفاق القواعد القائمة هو مقدمة للبحث عن قواعد جديدة. وتصبح عملية الانتقال إلى نموذج معرفي جديد أو بديل فقط زمنية، وبالتالي تكون من وجهة نظر الكثيرين أبعد ما تكون عن أنها “عملية تراكمية”، فهي عملية إعادة بناء فوق قواعد أساسية جديدة، من شأنها تغيير بعض القواعد النظرية الأساسية، وتجديد بعض مناهج وتطبيقات البحث.

وفي ظل هذه الخصوصية، ذهب البعض إلى القول بأن الأزمات المعرفية تنتهي بعدة أشكال، من بينها:

1ـ سيناريو الثبات: أن يثبت “النموذج المعرفي” القائم قدرته على معالجة المشكلات التي أدت لبروز مثل هذه الأزمات، وبالتالي احتواء موجات الغضب المتصاعدة بين الباحثين الذين وصل بعضهم لمرحلة القول بأن هذه الأزمات ستكون خاتمة النظام القائم.

2ـ سيناريو التأجيل: ويقوم على ترسخ قناعة بين الباحثين والمتخصصين بأنه لا أمل مستقبلاً في الوصول إلى أي حل من خلال مجال بحثهم وهو بحالته الراهنة، ويكتفون بعمليات الوصف والرصد ويتركون قضية تشكيل أو بناء “نموذج معرفي” جديد.

3ـ سيناريو التغيير: ويقوم على أزمة النموذج المعرفي ستنتهي ببناء نموذج جديد يحل محل النموذج القائم، بعد أن ينجح الباحثون في وضع البنية النظرية القادرة على تجاوز الأزمة، وفق أطر جديدة وأدوات جديدة.

طبيعة النموذج المعرفي في العلاقات الدولية:

تحفظ توماس كون” في تقديمه لمفهوم النموذج المعرفي على إمكانية وجود نموذج في العلوم الاجتماعية، وذهب إلى أن العلوم الاجتماعية تمر بمرحلة ما قبل النموذج المعرفي، إلا إن هناك بعضاً من باحثي العلوم الاجتماعية طبقوا مفهوم النموذج المعرفي في العلوم الاجتماعية ومن بينها علم السياسة، والعلاقات الدولية.

ونظر البعض إلى المنظور الواقعي والمنظورات السلوكية وما بعد السلوكية باعتبارها نماذج معرفية في العلوم السياسية عامة والعلاقات الدولية خاصة، واتجه أنصار المنظور السلوكي إلى اجزم بأنهم يمثلون (العلم القياسي التجريبي) وأن نموذجهم المعرفي، هو الأقرب للنماذج العلمية التي تناولها توماس كون بالدراسة والتحليل.

وفي هذا السياق يري “ديفيد ترومان” أنه منذ عام 1880م وحتى منتصف القرن العشرين، كان هناك ما يمكن وصفه بالنموذج المعرفي في “علم السياسة”، ولكنه لم يكن محلاً للاتفاق أو التبلور كما هو الحال في العلوم التجريبية، ولكن توافرت فيه الخصائص التي يحتاجها النموذج المعرفي، ومن ذلك: عدم التركيز على النظام السياسي كنظام يمثل وحدة تتفاعل مكوناتها، بل تم التعامل مع مكوناته وجزئياته كأشياء مسلّم بها مفردة وليست جزءاً في الكل.

لكن رفض البعض هذا من منطلق أن العلم مجال يتسم بالغموض المفاهيمي وعدم التحديد حتى في المفاهيم الأساسية التي تم تناولها بصورة واسعة، مثل التغيير السياسي والتنمية السياسية، والتجاهل شبه التام للنظريات، بأي معنى وبأي شكل، والتعصب لمفهوم العلم الذي نادراً ما تجاوز الإمبريقية الأولية، والانحصار والتقيد الضيق، مما قضى على إمكانية تطوير منهجية مقارنة، والاقتصار على الوصف الدقيق دون التحليل.

وذهب جابريل ألموند، في تعاطيه مع قضية النموذج المعرفي، إلى القول بأنه كانت هناك صياغة نظرية متجانسة في النظرية السياسية الأمريكية خلال القرنين 18 و19، وأن تطور علم السياسة المتخصص في الولايات المتحدة منذ بداية القرن العشرين، حتى الخمسينيات منه كان قائماً على نموذج معرفي واضح، لأن معظم التغيرات النظرية المهمة خلال هذه المرحلة أفرزت متغيرات تم التأكد من قدرتها على الوصف والتفسير والتحليل. وفي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، ظهر نموذج معرفي راسخ محوره “النظام السياسي”، يقوم على أربعة منطلقات أساسية:

الأول: تعدد المتغيرات التحليلية: ساهمت في وجود اقتراب إحصائي للنظم السياسية في العالم، حيث لم يعد يتم التركيز على القوى العظمى فحسب، بل تم أخذ نماذج وخبرات من معظم دول العالم، وتم التركيز على متغيرات معينة تتم المقارنة بينها لتحديد تأثير البيئة في السياسة والتفاعل بين المتغيرات.

الثاني: التمايز بين المتغيرات والافتراضات، وتحديد العلاقات الاحتمالية والمرنة بينها، حيث يرى ألموند أنه في سبيل تأسيس مكونات النظم السياسية المقارنة، لا بد من فصل الأبنية عن الوظائف، والأبنية عن الثقافة، والنظم الاجتماعية عن النظم السياسية، والمكونات الإمبريقية عن العلم.

الثالث: الإطار التحليلي: حيث يرى ألموند أن مفهوم النظام أصبح بمثابة إطار تحليلي يمكن في إطاره التصنيف على مختلف المستويات، كما يمكن تحديد قدراته التحويلية والتكييفية وبيان العناصر والمتغيرات البيئية الحاكمة لعلاقاته وتفاعلاته المختلفة.

الرابع: نجاح العلم في تطوير عدد من الفئات الوظيفية التي يمكن استناداً إليها القيام بعملية الوصف والمقارنة بين النظم السياسية ومستوياتها المختلفة.

وفي مقابل السلوكيين برزت مجموعة من الرافضين لوجود النموذج المعرفي في علم السياسة، ومن بين هؤلاء “فيليب بيردسلي”، حيث يرى أن ما أطلق عليه ألموند نموذجاً معرفياً في النصف الأول من القرن العشرين، ليس إلا قوالب جامدة كانت سائدة آنذاك، وقد وصفها الموند نفسه بالتقليدية والمحافظة والجمود. أما ما اعتبره نموذج معرفي في الخمسينيات والستينيات فلا يمكن اعتباره كذلك، لأنه لا يستجيب لأيٍّ من الخصائص التي حددها “كون”، ولا يحقق أهدافه.

وذهب بيردسلي إلى القول كذلك أن مفهوم النظام السياسي، يتصف بالغموض، نتيجة لاختلاف وجهات النظر حول ماهيته، ولأنه لا يقدم تفسيراً للظواهر السياسية، وإنما يراكم المعلومات والبيانات إلى درجة تصل إلى مجرد كيان تجميع عشوائي للمعلومات.

ويخلص “بيردسلي” إلى أنه رغم قبول أو رفض وجود النماذج المعرفية في علم السياسة بالمعنى المستخدم عند “كون” إلا إنه من خلال متابعة التطور التاريخي لعلم السياسة يمكن القول بوجود نماذج معرفية فيه، ولكن ليس بالضرورة أن تكون من حيث الدقة والصرامة والتوصيف تخضع للصورة التي نادي بها كون، وإنما بشكل يتلاءم مع علم السياسة في صورة من قطيعة معرفية وفق مفهوم النموذج المعرفي ومستويات من التراكم والتداخل بخلاف مفهوم النموذج المعرفي.

وبين الرافضين والمؤيدين يمكنني القول: أن النموذج المعرفي هو جوهر البنية النظرية للعلم، هذه البنية التي تقوم على مجموعة من “المنظورات” تتعدد في إطارها “المدارس الفكرية”، وداخل كل مدرسة تتعدد “النظريات”، وتعتمد كل نظرية في إثبات صحة فرضياتها على عدد من “المناهج” و”الأدوات”، وهذه العناصر في مجموعها تشكل النموذج المعرفي، وهي بدرجات كبيرة قائمة وراسخة فى إطار الحقل المعرفي للعلاقات الدولية، وشهدت نموا هائلاً خلال النصف قرن الأخير، أبرز مظاهره هذه الجدالات الكبرى بين المنظورات الفكرية، وهذا التنوع والتشابك في النظريات الوصفية والتفسيرية والتحليلية، الكلية والجزئية التي رسخت من وجودها في علم العلاقات الدولية، ولكنها في ظل الطبيعة شديدة التحول للظواهر التي يتناولها هذا العلم بالدراسة والتحليل، تحتاج المزيد من الجهود، حتى تصبح أكثر قدرة على التعاطي مع هذه الظواهر وتحولاتها المتسارعة.

مراجع وقراءات إضافية:

( 1 ) د. مصطفى محمود منجود، القيم والنموذج المعرفي” في الفكر السياسي: رؤية مقارنة في إسهامَي الغزالي ومكيافيللي، مجلة إسلامية المعرفة، واشنطن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، عدد 19.

توماس كون، بنية الثورات العلمية، ترجمة، شوقي جلال، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون-سلسلة عالم المعرفة عدد 168، 1992).

( 2 ) أنور محمد فرج، نظرية الواقعية في العلاقات الدولية: دراسة نقدية مقارنة في ضوء النظريات المعاصرة، رسالة دكتوراه غير منشورة، الخرطوم، جامعة النيلين، كلية التجارة والدراسات الاقتصادية والاجتماعية، 2005.

( 3 ) د. نصر محمد عارف، نظريات السياسة المقارنة ومنهجية دراسة النظم العربية مقاربة ابستمولوجية، فيرجينيا: جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية، 1998.

ـ كنعان حمة غريب، مفهوم النموذج المعرفي وإمكانية تطبيقه على علم السياسة، مجلة أفكار جديدة، الخرطوم، عدد 17، الرابط

( 4) Ronald.  H. Chileote: Theory of Comparative Politics: the Search for a Paradigm Reconsidered. (San Francisco: West-View Press, 1994).

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close