fbpx
الحركات الإسلاميةكتب إليكترونية

الجزء التاسع الخلافات البينية بين القاعدة وتنظيم الدولة

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

 

لا يمكن فهم نقاط الالتباس بين داعش والقاعدة إلا من خلال عرض مجموعة من المقاربات تناولها الدكتور “معتز الخطيب” حين حلل نقاط الافتراق والالتقاء بينهما من خلالها ،ويقول لقد خضع تنظيم “الدولة الإسلامية” لمقاربات مختلفة سعت إلى تفسيره، “ويمكن حَصْرها في أربع: تجد الأولى في السياق وعوامل التشكل والأدوات التي تُعين في فهم وتفسير الظاهرة، والسياق هنا يشتمل على أبعاد متعددة، فمن الناحية الاجتماعية ثمة الانفجار الديمغرافي والبطالة ومستوى التعليم وغيرها، ومن الناحية السياسية هناك الاستبداد السياسي (خصوصًا في أرض التنظيم: العراق وسوريا)، وفشل الدولة الوطنية في التنمية والمواطنة وإدارة العلاقة بين الهويات المختلفة، ومن الناحية التاريخية هناك المجازر وأهوال السجون والتعذيب والحروب الأهلية. فهذا السياق المركب يحيل إلى عقود من تاريخ المنطقة حافلة بالتغيرات والأحداث، ولكنه يهمِّش البنية الفكرية للجهاد العالمي ونصوصه وحججه، وقد يوهم بأن الجهاديين منفعلون بالبيئة ولا مدخل لهم في الفعل نفسه؛ فالمقاربة السياقية تقصِّر في شرح العملية المعقدة التي تتولد فيها الظاهرة.

أما المقاربة الثانية تحيل إلى النصوص الدينية أو الفقهية حتى لَيغدو النص -بذاته-مولِّدًا للظاهرة، ولكنها لا تفسر لنا لماذا هي ظاهرة حديثة رغم أن النصوص قديمة، ولماذا لم تُنتِج النصوص مثل هذه الظواهر من قبلُ. أما المقاربة الثالثة فهي المقاربة الاجتماعية والنفسية، والتي تركز على الفاعلين وتكوينهم الاجتماعي وبيئاتهم وتجاربهم وبنائهم النفسي، ولكن هذه المقاربة تكاد تُخفق في شرح تعقيدات الفعل والانفعال، بمعنى: هل هؤلاء الأشخاص هم نتاج البيئة أم مؤثرون فيها ومسهمون في صياغتها وصناعة ظروفهم، أو هما معًا؟

أما المقاربة الرابعة فتحاول أن تخرج خارج المألوف عبر القول: إن “داعش” طَفْرة في تاريخ جماعات الجهاد العالمي، ومن ثم فالقوالب التفسيرية وأدواتها المألوفة تعجز عن استيعابها.

إن المقاربة التي نراها أَجدى تبدأ بأمرين: تَجَاوز فكرة “تَفَرد” التنظيم التي تعزله عن حركة الجهاد العالمي، والتحرر من قَيد كونه “تهمة” يتم إلصاقها بفكر أو جهة، أو “تهمة” يتم دفعُها ونفيها عن دين أو أناس بعينهم، وهذا يتجسد في تحليل البِنية الفكرية للتنظيم (جذورها وتطوراتها وأصولها وفروعها) من جهة، وفي تحليل الواقع المعقد الذي ظهرت فيه تلك الأفكار من جهة أخرى. فهذه المقاربة تبني على أن الأفكار تتشكل في سياقات مركبة تؤثر فيها وتتأثر بها في عملية معقدة لا ينفك فيها النص عن الواقع، بغض النظر عن أيهما أسبق في ذهن الجهاديِّ: النص أم الواقع؛ لأن هذه الأسبقية تؤثر في تحديد طبيعة ونوع العلاقة بالنص وبالواقع هل هي علاقة صدور عن النص أم هي عودة شعائرية إلى النص، وهل النص حاكم أم مجرد غطاء يُتَوسَّل به من أجل الشرعية الدينية، ولكنها -الأسبقية-لا تؤثر في أن الناتج هو مركَّب منهما ونتاجُ تفاعل بينهما؛ وفق شروط خاصة بعضها نفسيٌّ.

لا مناص في هذه المقاربة من العودة إلى النصوص الأصلية لفقهاء الجهاد العالمي (نسميهم فقهاء تَجَوُّزًا)، والإنصات بعناية إلى تصريحات قادتهم، بالإضافة إلى مراقبة سير وتطور الأحداث على وقع العلاقات التنظيمية دون الخوض في تفاصيلها، مع تأمل السياق الدولي من جهة وسياق المشاريع الإسلامية الحركية الأخرى من جهة أخرى.

فلا يخرج تنظيم الدولة عن منظومة فكر الجهاد العالمي الذي يقوم على أصول وفروع، فالأصل الذي تُجمِع عليه تنظيماته كافةً يتلخص في تحكيم “شرع الله”، وإقامة “الحكم الإسلاميِّ” المتمثل في الخلافة/الدولة الإسلامية، ولا يتحقق ذلك إلا بالجهاد، ومن هذا الأصل القطعي لديهم تتناسل كل المفاهيم والتفاصيل والإجراءات التي سميناها فروعًا ويقع فيها الخلاف. يتجلَّى هذا المعنى بوضوح في التصريحات المتعاقبة لقيادات القاعدة وتنظيم الدولة والنصرة منذ ظهر الخلاف بينهم إلى العلن، فنجده يتكرر في تصريحات أيمن الظواهري وأبي بكر البغدادي وأبي محمد العدناني والجولاني فضلاً عن أدبياتهم المكتوبة.

إن تقدِّم الجدالات الشفوية والمكتوبة بين تنظيم الدولة والقاعدة مادة نموذجية للتحليل، فهي تُظهر الاتفاق أكثر مما تُظهر الخلاف، فالتصريحات تُظهر اتفاقهم على إقامة مشروع “الدولة الإسلامية في الشام” ثم إعلان “الخلافة”، كما في تصريح الظواهري، وأن هذا المشروع يواجه مشروعين: مشروع إقامة دولة مدنية ديمقراطية وهو مشروع علماني، ومشروع إقامة دولة محلية وطنية تسمى إسلامية، وحقيقته أنه مشروع دولة وطنية تخضع للطواغيت في الغرب يَهدف إلى حَرْف مسار الجهاد كما يقول العدنانيُّ، والجميع متفقٌ على أن العلمانية والقومية والوطنية والديمقراطية “كفرٌ بَوَاح مناقضٌ للإسلام مُخرجٌ من الملة”.

وتكشف المساجلات بين العدناني والظواهري شكل العلاقة بين تنظيم الدولة والقاعدة، ووجود مراسلات مستمرة بينهما حتى الشهر الأول من عام 2014، وتفيد بأن تنظيم الدولة تابع للقاعدة وقدَّم لها البيعة والتزم بأوامرها في شؤون الجهاد -كما يفيد الظواهري-ولكنْ “خارج حدود الدولة” على الأقل كما يوضح العدناني، ولكنَّ انشقاق تنظيم الدولة عن القاعدة وقع لأسباب منهجية بحسب العدناني، فـ”القاعدة لم تَعُد قاعدة الجهاد”، بل باتت قيادتها “مِعْولاً لهدم مشروع الدولة الإسلامية والخلافة القادمة بإذن الله”.

الاختلاف بين تنظيم الدولة والقاعدة يظهر في التقديرات والحسابات السياسية خصوصًا مع حنكة وخبرة القاعدة وصِدَامية تنظيم الدولة؛ فمشروع الجهاد العالمي هو إقامة الدولة الإسلامية، والطريق الوحيد لذلك هو الجهاد، وفي عقيدة تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين أن الجهاد “ماضٍ إلى قيام الساعة بوجود الإمام وعدمه… وينبغي لكل مؤمن أن يجاهد أعداء الله تعالى وإن بقي وحدَه”، فإن عطَّل الإمام الجهاد قام الواحد والجماعة بالفرض المعطَّل، كما أن “الرافضة طائفة شِرْك وردَّة”، و”قتال المرتدين أولى عندنا من قتال الكافر الأصلي” ، وقد شخَّص الجولاني زعيم النصرة الصراعَ بأنه “صراع بين المسلمين وبين اليهود والقوى الصليبية وبين الصفويين والقوى الدولية”، وأنه “صراع طائفي” ، وتفيد الرسالة المنسوبة للظواهري أنه يتفق مع الزرقاوي في حكم الشيعة، ولكنه لا يرى مصلحة في استهدافهم، وأن من مصلحة القاعدة وإيران أن نكفَّ عنها وتكفَّ عنَّا؛ خصوصًا مع وجود نحو مائة معتقل من القاعدة في إيران.

مظاهر الخلاف الأيديولوجي الذي نشأ بين الفصيلين:

بالنسبة للقاعدة

  1. تتهم تنظيم الدولة بالمبالغة في التكفير وعدم أهليته لتنزيل الأحكام الشرعية موضعها، وأن “الشرعيين” الذي يقودونه “حدثاء الأسنان” لا يفقهون تنزيل “كفر النوع” على “العين”، سواء في حق المسلمين من أهل السنة أو من أصحاب المذاهب الأخرى.
  2. تتهمه بأنه يُكفِّر عمليًّا مخالفيه من التنظيمات الجهادية الأخرى بسبب الاختلاف معهم وكأنه هو جماعة المسلمين دون غيرهم، وأنه يستهين بالدماء ويبالغ في قتل كل من خالفه من المسلمين.
  3. ترى أن البغدادي أعلن الخلافة من دون تمكين، وأنه اقتصر على بيعة بعض من تنظيمه في العراق وكانت من غير شورى المسلمين، وأن أبا بكر البغدادي مجهول غير معلوم، وغير ذلك مما تحمله كتب الفقه من نواقض أو شروط ينتقص عدم توفرها من خلافة البغدادي، ويرى أن كل بيعة أُعطيت للبغدادي لاسيما من بعض التيارات الجهادية هي باطلة ولا صحة لها.

أما بالنسبة للتنظيم فمن أبرزها

  1. قبول الظواهري عمليًّا بالديمقراطية التي هي كفر بواح، وإقراره للثورات العربية ونهجها “السلمي في التغيير”، وهو نهج الإخوان الذي فرَّت منه القاعدة بل وُجدت لتكون بديلاً له.
  2. وقوف الظواهري إلى جانب “الطاغوت” الرئيس محمد مرسي -بعد دخوله السجن-الذي قبل بالديمقراطية، وعدم تكفيره له، لا بل شكره، أي: الظواهري، مرسي لمَّا أعلن الأخير عن عزمه العمل لاستعادة الشيخ عمر عبد الرحمن من سجون أميركا، والتنظيم يقول بأن منهج القاعدة نفسه يقول “بكفر من يتحاكم للطاغوت”، أي: الديمقراطية في هذا العصر، وأن القاعدة بقيادة الظواهري لا تكفِّر كُبَراء الإخوان وهم “شَرٌّ من العلمانيين” كما وصفهم أبو محمد العدناني (طه صبحي) الناطق باسم التنظيم.
  3. تلبُّس القاعدة بمذهب الإرجاء والجهمية، أي: إنها لا تكفِّر من وجب تكفيره من “المسلمين” الذي اقترفوا أعمالاً تخرجهم من الدين، وذلك في معرض الرد على تهمة القاعدة للتنظيم بأنه يكفِّر المسلمين ويقتلهم لأنهم خالفوه في بعض الأمور الاجتهادية أو لأتفه الأسباب.
  4. استعمل التنظيم “وصف” السرورية في معرض ذمِّه للقاعدة، أي: إنها استحالت تشبه تيار محمد سرور زين العابدين الذي جمع بين “العمل السياسي” ومشروعيته وفق المنطق الإخواني إضافة إلى خصالهم في التعامل مع المخالف، ويلتزمون السلفية في الاعتقاد، وهذه “المذمة” بهذا الوصف للقاعدة يُقصد بها اشتغال الأخيرة بالسياسة والسلمية أكثر من الجهاد.

 

مسؤوليات مشتركة في ميلاد داعش المتوحش :

تعود بي الذاكرة ونحن نتحدث عن سؤال مركزي في هذا المقام وهو من المسؤول عن نشوء داعش المتوحش بهذه الصورة العملاقة ،الى بعض الافلام الامريكية التي تدور حلقاتها في المخابر ويقودها اطباء مختصين في علم الاستنساخ ،وتستوقفني صورة ذلك الرجل القوي الذي يستخدم في تحقيق الانتصارات الكبيرة ولايمكن ان يتغلب عليه احد ،ثم تدور الدائرة على هؤلاء الاطباء ومن خلفهم السياسيين عندما يتحول ذلك الشخص المستنسخ الى اهم عدو لهؤلاء ولا يستطيع لا الطبيب ولا السياسي ولا العسكري المخابراتي ان يتحكم في ذلك الشخص المستنسخ وتحدث الكارثة في نهاية الفيلم الامريكي الهوليودي، وهو نفس الامر بالنسبة لتوحش داعش اليوم.

فقد تمّ تعبيد الطريق الإعلامي والسياسي والعسكري لخروج تنظيم “داعش” إلى النور كقوةٍ مسلحةٍ عقائديةٍ إقليمية، في إصرار السلطة السورية وبعدها العراقية على الحل الأمني والعسكري في مواجهة ما يحدث مع سياسةٍ تركية وخليجية وغربية فاشلة ووكلاء سوريين صغار وعددٍ من السماسرة الإقليميين الذين أعماهم الحقد وغطّى على بصرهم وبصيرتهم الخوف من حراكٍ شعبي واعد أرادوا قتله في بلاد الشام ولو استتبع ذلك تمزيق الأوطان وتحطيم الإنسان.

بهذه الصورة، لخّص رئيس المعهد الاسكندنافي لحقوق الإنسان الدكتور هيثم مناع بروز ظاهرة تنظيم “داعش” في العراق وسورية في دراسةٍ معمّقة لخلافة “داعش”، دراسة من خمسة أجزاء تبدأ من هجرات الوهم إلى بحيرات الدم، صناعة التوحش، إضطرابات الرؤية، وغشاوة البصيرة، شبكات التمويل والدعم.

هذا التنظيم بدأت حقيقة بذوره بعد الإحتلال الأمريكي للعراق. بعد هذا الإحتلال دخل عدد كبير ممّا نسميه عادة بالأفغان العرب إلى العراق، بعضهم دخل قبل الإحتلال الأمريكي بعام أو عامين، ووصل الزرقاوي وبدأت ما يمكن تسميته فرع القاعدة في العراق بالعمل، وبنفس الوقت عدد كبير من ضباط الجيش العراقي السابق قاموا بعمليات أحيانًا منفردة في مجموعات صغيرة من الذين كانوا في وحداتهم أو في تنظيماتٍ تشكلت على عجالة وغالبها بطابع إسلامي.

المجموعة من هذه وذاك تمّ التنسيق بينها عندما اعتقِل الجميع في سجن بوكا. بوكا طبعًا سجن باسم إطفائي كان في 11 سبتمبر من ضحايا 11 سبتمبر. هذا السجن وخلال أربع سنوات كان عملية التنسيق وإعادة الرؤية والعمل المشترك وتعلم الدين.

وزواج السفاح ما بين عناصر أساسية من الجيش العراقي السابق ومجموعة من السلفيين الجهاديين التكفيريين، وهنا بدأ المطبخ يعمل بشكلٍ جيّد لأنّ الضابط العراقي الذي لديه خبرة في عدّة حروب، وبنفس الوقت لديه خبرة أيضًا في مواجهة مجموعات مسلحة كما كان يحدث في شمال العراق، هذا الضابط وضع خدماته تحت تصرّف التنظيم، وبنفس الوقت حاول من يسمّي نفسه بفقيه أو قارئ أو متعلم للدين أن يعلم هؤلاء قليلا من الدين حتى يغطي على الأقل على المظهر.

وبعد ذلك بثلاثة أعوام تمّ القرار بأن تقوم هناك دولة، دولة العراق الإسلامية. كان المطبخ قد نضج، العناصر الاساسية قد حصلت، مصادر التمويل كانت قد وفرت الأرضية التحتية، والضباط قد وفروا السلاح بالعديد من المعسكرات التي يعرفونها أكثر من الأمريكي وأكثر من الهيكل الجديد الذي تكوّن للجيش العراقي،الذي مثلا في عمليات كبيرة مثل في الـ2005 لفقدان الذخيرة، فقِد فيها كميات تكفي للقيام بعمليات عسكرية لعشر سنوات. من هنا، المسألة العسكرية كانت سهلة، هناك توفر للسلاح، المسألة المالية كانت أصعب ولكن أيضًا كان هناك دعم كبير وضخ كبير، بعضه من شخصيات من النظام القديم أخذت من البنك المركزي كما هو معروف حوالى ملياري دولار وقدّمت قسمًا منها للتنظيم وقسمًا لغيره من التنظيمات المسلحة وقسمًا أساسيًا لفرق حزب البعث العراقي عزت الدوري. فإذاً هناك أرضية مالية وأرضية عسكرية.

كان العراقيون بكل فئاتهم أبعد الناس عن “القضية الأفغانية”. فقد ورطتهم حكومتهم بحروب شغلتهم عن العقد الزمني الأفغاني. ومنعهم طلب البقاء على قيد الوجود في ظل العقوبات والدكتاتورية من ترف “السياحة الجهادية”. ويمكن القول أن التحرك الجدي باتجاه العراق تبع حالة الفوضى التي حملتها قوات الاحتلال والقرارات المدمرة التي اتخذها بول بريمر الحاكم الأمريكي في العراق بضرب بنية الدولة العراقية وحل الجيش العراقي. الأمر الذي لم يجد معارضة من الطرف الكردي الذي احتفظ لنفسه بقوات البيشماركة أو الأحزاب الإسلامية الشيعية التي وجدت في ذلك فرصة لإعادة بناء الجيش من المجموعات المسلحة التي تشكلت في إيران أثناء الحرب العراقية الإيرانية وما بعدها.

بهذا المعنى تتحمل قوات الاحتلال المسئولية الأولى عن خلق كل العناصر الموضوعية لتشكيلات عسكرية واسعة خارج نطاق الاحتلال. بكل ما أصلت من استئصال واجتثاث وإبعاد لكل من كان بصلة عسكرية أو سياسية مع النظام السابق. ولم يمتلك أبو مصعب الزرقاوي في جعبته السياسية والإيديولوجية ما يسمح له بدور هام في مقاومة الاحتلال أو تقديم تصورات خلاقة لواقع ومستقبل الإنسان في العراق. وقد غطى ضحالته الفكرية بشراسته العسكرية. ويمكن القول أنه التعبير الأفضل لما يسميه علماء النفس حالة النكوص إلى الإحيائية، هذه الحالة التي تتجسد في ادعاء الحق المطلق وامتلاك القدرة على فرضه من حوله. وإسقاط كل شبهات ضعف الذات بيقين شيطنة الآخر.

لذا أطلق منذ البدء فكرة مسئولية “عوام الرافضة” (الشيعة) عن الاحتلال وعن ابتعاد المسلمين عن دينهم. الأمر الذي فتح له باب العمليات العسكرية السهلة التي تستهدف المدني والعسكري، الطفل والبالغ، المرأة والرجل… كذلك صنف أي فكر غير جهادي-سلفي في خانة الكفر. ولا شك بأن ما حدث من انقلاب جذري في وجود العراقيين بعد إلغاء الدولة والنظام قد هزُّ النسيج المجتمعي في أعماقه وصدّع أركان الوعي الجمعي للناس وزعزع مقومات الاستقرار النفسي للأشخاص وفتح الباب واسعا بعد عقود التصحر السياسي والحروب الدموية والحصار اللا إنساني لنمو النزعات الغريزية والعصبية وبداهة التوحش.

وجدت الإدارة الأمريكية في ضرورة ارتقاء جماعة الزرقاوي لسلم عدو الاحتلال الأول فرصة ذهبية قزّمت وهزّلت فيها صورة أطراف المقاومة المدنية والعسكرية الأخرى. وغطت بالتالي على جرائمها السياسية والإدارية والعسكرية في البلاد.

إلا أن استئصال كوادر المؤسسة العسكرية العراقية في النظام السابق من عملية إعادة  بناء الجيش العراقي دفعت بعدد غير قليل من الضباط السابقين للتوجه نحو التعبير الأكثر تعصبا وشراسة في الموقف من العملية السياسية وعملية إعادة بناء أجهزة الأمن والجيش. وقد بدأ التنسيق والتقارب بين أوائل المنتسبين من العراقيين للقاعدة مع هؤلاء الضباط مبكرا للاستفادة من خبراتهم العسكرية ثم بدأت عملية التقارب الإيديولوجي تتسارع في معتقلات الجيش الأمريكي بحيث يمكن القول بأن الكيمياء الحالية لما يسمى بداعش اليوم هي الوليد النغل لسجن بوكا وأبو غريب وسنين الاعتقال في ظل الاحتلال. ولا شك بأن الإنسان العراقي الذي فتح عينيه على حربي الخليج الأولى والثانية بكل ما تحملان من عدمية، وكحّلها بعقوبات لا إنسانية لا ناقة فيها للمواطن العراقي ولا جمل، وفقأها بمحتل حطم آخر ما تبقى من الدولة العراقية بعد الكولونيالية قد تمزقت لديه كل علامات التواصل مع الحداثة.

ولم يكن بإمكان التكوين الهجين لدولة العراق الإسلامية تحقيق الانسجام الداخلي دون تأصيل التعصب قاعدة والغلو فقها والصرامة والرعب منهجا. وهنا يبرز الطابع الفصامي لداعش. فهي تمارس كل أشكال استبدال المثًلُ بالمقايضات النرجسية ( تعسف السلطة، الانتهازية، السرقة، القتل، الخطف، الانتقام، الثأر، الاعتداء على المحرمات..). وتعلن جهارةُ كفر أو ردة كل من يعترض طريقها.

لا يمكن إقامة الفصل بين المقاتل العراقي والغريب القادم من أصقاع الدنيا للجهاد في سبيل الله. ونجد قصة حياة أبو مصعب الزرقاوي تتكرر عند الجانح المهمّش التونسي (الذي لم تقدم له “التريوكا” الحاكمة لا شغل ولا خبز ولا أمل وأغمضت العين لأشهر عن سفر الشباب التونسي لسورية)، والذي أراد تخليص الشعب السوري من  نظام يسمع ليلا نهار على كل القنوات الفضائية غربية وخليجية أنه “يقتل الأطفال ويغتصب النساء”. فوجد فيمن دفع له كلفة السفر ودفعه للجهاد محسنا مجاهدا في سبيل الله والعدالة.

يتحمل المجتمع المشهدي، بتعريف غي ديبور له، مسئولية كبيرة في انتاج التطرف وتمجيد العنف. فهل كان بإمكان أي عمل غير “الهجرة والجهاد” أن يحوّل جماعة مهمشة وجدت نفسها خارج المنظومة الرأسمالية قبل أن تكوّن وعيا تختار به موقفها منها، إلى عناوين الصحف ومقدمة نشرات الأخبار، غير هذا العنف الذي حول محمد وسفيان ورشيد وسليم… من مجرد منبوذين من جيرانهم إلى أبو البراء البلجيكي وأبو لقمان الألماني وأبو محمد الفرنسي وأبو أسامة البريطاني… إن الشهرة التي تمنحها وسائل الإعلام تعطي منسوب المجتمع الأوربي الأهمية وقوة الحضور وجاذبية “دور البطل”. ولا ينسى هؤلاء “المهاجرين” التذكير في كل مناسبة بأنهم قد هجروا “الديمقراطية المجرمة والعلمانية الكافرة ومجون الغرب” من أجل خلافة طهرانية تعيد الناس إلى دينهم أو شهادة ترتقي بهم إلى ملكوت السماء…

بالتأكيد أن الجميع مسؤول عن نشوء ظاهرة داعش، وتختلف المسؤولية بين طرفٍ وآخر. الإحتلال الأمريكي هو أحد المنتجين الأساسيين لداعش بشكلٍ غير مباشر، عندما حلّ الجيش وحلّ الدولة العراقية، جعل هناك فقدان بوصلة لأشخاص كانوا ضباطًا خلال أكثر من خمسة عشر عامًا أو عشرين عامًا وخاضوا حربًا ضد إيران، خاضوا حروبًا كبيرة، وهؤلاء بلحظة ما أصبحوا نكرة وعدم، والمسألة الثانية أحداث 2011. مع العام 2011، جاءت الأرض الصالحة للفوضى. نحن في بلداننا للأسف، أيّ تحرّكٍ مدني يوجد محاولات لاغتياله بالتسلح.

رأينا ذلك في ليبيا، رأينا ذلك في اليمن، رأيناه في سورية بشكلٍ جلي. عندما يخرج العمل والنضال المدني من الإطار السلمي، يصبح المجال مفتوحًا للعناصر الأكثر تطرّفًا. من هنا وجدت داعش والتي كان اسمها “داع”، وجدت الأرض خصبة وأرسلت كما يُقال موفدوها الأوليون بما فيهم أبو محمد الجولاني لتشكيل فرع في سورية وهو جبهة النصرة. إذاً هي استفادت من الأوضاع الجديدة.

نأتي إلى دول الإقليم. دول الإقليم كلها كان لها بشكلٍ أو بآخر مصلحة في هزّ النظام الجديد في العراق وبنفس الوقت في المواجهة مع النظام السوري. لذا فتحت حدودها وتركت خلال عامين تقريبًا المجال مفتوحًا، بالعكس هناك سجناء في سجن الحاير أخرِجوا من السجن ثم قرأنا أسماءهم في لوائح الشهداء عند هذه التنظيمات في سورية.

فهناك مجموعات كبيرة بلغ عددها أكثر من ثلاثة آلاف شخص مثلا فقط بين العامين 2011 و2014 جاءت من المملكة العربية السعودية، نفس العدد تقريبًا من تونس، أعداد أقل من ليبيا ومصر والبلدان الأخرى. لكن القوقاز مثلا أعطانا حوالى ألفي مقاتل، مجموع عدد المقاتلين وصل في لحظةٍ ما، الأجانب، إلى 18000، فكلّ هذه المجموعات بالتأكيد لم تسقط من المريخ ولو لم يكن هناك إغماض عين وتواطؤ وتسهيلات أحيانًا من قبل السلطات التركية والأردنية في فترةٍ معيّنة وطويلة واللبنانية بسبب الفوضى في لبنان، لم يكن بالإمكان دخول هذا العدد الكبير من المقاتلين غير السوريين.

كلّ هؤلاء كان لهم حساب يصفّونه مع أنظمة سياسية في العراق وسورية، وتمّت عملية تسهيل أمر هؤلاء باعتبار أنه أولا نسقِط النظام ثمّ في ما بعد نتخلص منهم، نفس الفكرة التي كانت موجودة عند العديد من القوى المسلحة السورية، أنّ الأساس هو إسقاط بشار الأسد ثمّ نأتي إلى هذه المجموعات ونتخلص منها لأنها لا تملك أرضية وحاضنة اجتماعية في بلد وسطي ومعتدل مثل سورية، فضمن هذه الأطروحات تمّ تسهيل قدوم هؤلاء. نحن نعرف أنّ معظم جوازات السفر التي أمسكتها  وحدات حماية الشعب عليها ختم مطار أتاتورك، وبالتالي كانوا يدخلون بشكلٍ رسمي وطبيعي من مطار أتاتورك ثمّ ينتقلون إلى عنتاب وإلى مدنٍ أخرى، إلى العثمانية، ثمّ ينتقلون إلى الأراضي السورية وكانت سورية غالبًا المعبر إلى العراق.

 

أساليب الضغط والابتزاز القسرية:

وفق معلومات مجلس العلاقات الخارجية بالولايات المتحدة قامت حركة داعش بعد سيطرتها على الموصل بفرض حوالي 8 مليون دولار شهريا كطريقة للابتزاز النقدي ودفع ضريبة لصالحها من جانب الشركات المحلية، ومع استيلاء الحركة على مساحات واسعة من العراق تقوم بفرض مزيد من الضرائب على كافة المدن مما زاد من نسبة الأموال المتدفقة عليها بدخولها مزيدا من المدن.

وكانت قد طبقت الأسلوب نفسه في مدنية الرقة السورية وشمال حلب. وقبل دخول الموصل كانت داعش تحصل على إتاوات شهرية من عدد من أصحاب المشاريع، مقابل عدم التعرض لهم بأعمال إرهابية. كذلك يدفع عدد من السياسيين والأغنياء العراقيين في مناطق تواجد داعش إتاوة مقابل ضمان أمنهم الشخصي أو أمن محيطهم وأعمالهم.

 

السوق السوداء وتجارة الممنوعات:

تلجأ داعش إلى كل أشكال التعامل غير الرسمي لتبييض الأموال وبيع الممنوعات بما في ذلك تجارة المخدرات على المبدأ الطالباني (Not for Muslims). وثمة حوادث مازالت محدودة لبيع الأعضاء البشرية لجأ إليها عناصر من داعش والنصرة على الأراضي التركية.

ولم يتورع التنظيم عن بيع النساء والأطفال كسبايا. وثمة خبرات تذكر بشبكات المافيا في كل ما يتعلق ببيع أشياء ثمينة كالمجوهرات المسروقة، وقد أكدت شهادة مراسل شبكة “ديلي بيست جوش روجين” لشبكة “سي إن إن بأن”، من أنّ داعش متفوقة بالفعل في أنشطتها الإرهابية التي امتدت حدّ الخطف والسرقة والقتل والتهديدات فضلا عن تجارة المخدرات ومخططات غسيل الأموال”، ولعل دفع فدية إطلاق سراح المخطوفين من أكثر هذه الوسائل شيوعا لدي التنظيم، وقد اتسعت لتشمل مواطنين من بلدان العالم الثالث وأغنياء محليين.

 

تجارة الطاقة:

شكل النفط والغاز والكهرباء هدفا إستراتيجيا لتنظيم داعش منذ نشأته. ويحرص التنظيم على الاستيلاء على مواقع الطاقة مهما كانت الخسائر البشرية وهو يعتمد تكتيكا معروفا يقوم على عدة عمليات انتحارية تمهد الطريق للسيطرة على بئر أو سد أو منشأة أو مخازن للحبوب والمواد المعيشية، يستعمل فيها الشباب الأجنبي

 

الغنائم قبل القيم:

لم يتشوه وينحدر مفهوم الغنائم في التاريخ العربي الإسلامي يوما، كما يحدث اليوم على يد داعش والمجموعات الجهادية التكفيرية. فقد ألغت داعش المكان والزمان والمفهوم القرآني لصالح نظرة وضيعة تجعل الغنائم في مركز يتجاوز كل القيم والمفاهيم الإسلامية.

فليس هناك شرف المواجهة في القتال ولا شرف الأمانة في التعامل أو أخلاق الحد الأدنى في الديانات الثلاث التي زرعت ثقافة تكريم الإنسان. الغدر والسرقة وانتهاك الحرمات والممتلكات والاعتداء على سلامة النفس والجسد في كل الأعمار وللجنسين بدعوى تحويل الضحايا إلى موضوع غنائم حرب، هي العقلية السائدة عند مقاتلين آثروا الثأر والحقد والسيطرة، على احترام قوانين الحرب التي عرفتها البشرية في مختلف مجتمعاتها ومنذ أكثر من ألفي عام، ومن هنا وصفنا تصرفات تنظيم داعش بصناعة التوحش.

وتبلغ الاستباحة عند هذا التنظيم قمتها في استهداف الجماعات الإيمانية التي يصنفها كافرة أو مرتدة. وإن كان الوجه الظاهر هو محاربة الشيعة والإيزيدية والمسيحية، فضحايا داعش من السنة كانوا أكثر عددا منذ ولادة التنظيم وحتى اليوم، سواء بشكل مباشر عبر التعرض لكل من يرفض سلطته وبيعته، أو بشكل غير مباشر حيث يحوّل سكان المناطق ذات الأغلبية السنية التي يسيطر عليها إلى دروع بشرية ورهائن بالجملة ورعية تذل وتهان. وبقدر ما زادت ثروة التنظيم بقدر ما حوّل البنيات التحتية لمناطق الضحايا إلى خراب.

أصدر التنظيم العديد من القرارات بمصادرة بيوت وأملاك من قاتلهم على مبدأ الغنيمة وقام بتوزيعها على عناصره. كذلك لم يسلم عناصر تنظيمات تحالفت معه منذ احتلال الموصل من قرارات المصادرة. وقد وجه المتحدث باسم التنظيم، نداء إلى كل من يرغب بالهجرة إلى أراضي “الدولة” (على طريقة الهجرة الصهيونية إلى فلسطين).

وعمد تنظيم دولة البغدادي إلى استقدام عائلات المهاجرين من جميع أنحاء العالم من؛ أفريقيا وجنوب شرق آسيا والشيشان ومصر بشكل خاص، وإسكانهم في البيوت التي صادرها من عائلات تم ترحيلها من مختلف الطوائف، بل وجرى استهداف بيوت عناصر في الجيش والشرطة في الموصل والرقة، ووصل الأمر إلى باقي التشكيلات العسكرية المعارضة للسلطة السورية التي طردها من المناطق التي سيطر عليها.

وقد شرع التنظيم مؤخرا في مصادرة أملاك كل من يملك بيتا ثانيا خاليا، تحت حجة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، علما بأن التفاوت في الموارد بين قادة التنظيم وعناصره كبيرة جدا والإمكانيات الموضوعة تحت تصرف القياديين خيالية أحيانا بالنسبة إلى مرتب صغير يدفع مقابله شاب مضلل به قادم من بلد آخر حياته ثمنا له. ويوزع التنظيم بسخاء السيارات المصادرة والبيوت والمحالات التجارية.

ومن المؤكد أن المبالغ المالية التي يتلقاها المقاتل في “داعش”، تفوق ما يتلقاه أيّ مقاتل في المجموعات المقاتلة الأخرى، أو حتى في الجيوش النظامية. وبهذا المعنى يتعرى مفهوم الجهاد ليحل محله مفهوم المرتزقة وفق البروتوكول الأول الملحق باتفاقيات جنيف الأربع، والذي يعرف المرتزق بالقول: “أي شخص ليس مواطنا من مواطني طرف من أطراف نزاع وُعد بتعويض مادي أكثر مما يُدفع للقوات المسحلة”.

وهكذا يبدو أن لـ “داعش” سبل عديدة للتمويل الذاتي، أبرزها على الإطلاق، السيطرة على المعابر الحدودية، وآبار النفط، ناهيك عن التمويل الذاتي لبعض مقاتليها، إذ يأتي بعض “المجاهدين” للانضمام إليها بأرواحهم وأموالهم، إيماناً منهم بأنهم في حالة “جهاد”.

ويمكن تقييم نظريات تمويل “داعش” البارزة على الشكل الآتي:

1ـ نظرية “التمويل الأسدي – الإيراني” تتمتع بمقومات منطقية عالية، تدعمها معطيات ميدانية، لكن دون أدلة موثّقة.

2ـ نظرية “التمويل الخليجي الرسمي” لا تتمتع لا بمقومات منطقية ولا بمعطيات ميدانية.

3ـ نظرية “التمويل الخليجي غير الرسمي” تتمتع بمقومات منطقية عالية، وحوادث سابقة متواترة وعديدة في أفغانستان والبوسنة والعراق واليمن، تدعمها.

4ـ نظرية “التمويل الذاتي لتنظيم القاعدة” فهي أقوى النظريات من ناحية المنطق، ومن ناحية الأدلة الموثّقة التي تُثبتها وقائع على الأرض، وتجارب تاريخية سابقة ومتواترة أيضاً.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close