fbpx
قلم وميدان

أردوغان يواجه تحالف الحقبة المنقضية

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

تنويه:

هذا المقال تم نشره قبل إجراء الانتخابات التركية، التي تمت الأحد 24 يونيو 2018، وكان مقرراً نشره على موقع المعهد المصري للدراسات، قبل الانتخابات، ولكن تعذر النشر لاعتبارات فنية، وننشره بعد الانتخابات بغض النظر عن نتيجتها، لأهمية الفكرة التي تضمنها، وإلى نص المقال.

هناك حقبة بأكملها قد انقضت؛ هذا ما جاءت نتيجة الانتخابات البرلمانية التركية التي جرت في ديسمبر/كانون الأول 1995 لتفصح عنه، وهو ما أدركه رجب طيب أردوغان رئيس بلدية إسطنبول آنذاك، ليبدأ مع رفاقه تأسيس حقبة جديدة تنقله إلى منصب “رئيس الجمهورية التركية”، وتنقل المنصب إلى سدة القيادة، والحزب الذي يرأسه إلى موقع الكيان الذي قوّض هيمنة العسكر على الحكم.

ومع ذلك كله؛ تنقل تركيا إلى بلد ناتجه القومي الإجمالي 849.5 مليار دولار في 2017، بعد أن كان 232 مليار دولار في 2002؛ وموازنته تحمل رقم “صفر” في بند الديون للمرة الأولى منذ 52 عاما، بعد أن كان بلدا تثقله الديون ويعاني أكثر من نصف سكانه الفقر.

وبذلك تصبح تركيا بلدا هو الأسرع نموا بين مجموعة العشرين، على نحوٍ لم يكتف باستيعاب الزيادة السكانية الهائلة، بل حوّلها من “عبء” إلى “قوة عمل” بفضل توفير برامج التدريب وأدوات الإنتاج.

انتخابات 1995 قرأ الكثيرون نتيجتها بنظرة تفرض الإحباط على أنصار الديمقراطية، خاصة من الإسلاميين الذين “فشل” حزبهم (حزب الرفاه) بقيادة د. نجم الدين أربكان في الحصول على استحقاقات ما “نجح” في تحقيقه.

فقد فاز “الرفاه” بأكثرية تجاوزت خُمُس مقاعد البرلمان، لكنه وُوجه برفض الائتلاف معه من الأحزاب الأخرى، التي تصرفت في رفض “الرفاه” كأنها كتلة متماسكة تتصدى له، وهو ما تمكن “أربكان” من إدارته مرحليا بالتخلي عن كتاب التكليف بتشكيل الحكومة بسرعة (لم ينتظر حتى تنتهي المهلة الدستورية المتاحة ورده إلى رئيس الجمهورية بعد أيام قلائل)، ليعود إليه التكليف -بعد شهور- منقادا، ويشكل وزارة ائتلافية يقف هو نفسه على رأسها.

لكن الحكومة انهارت -أيضا بعد شهور- بما عُرف بـ”انقلاب ما بعد الحداثة”، ليخرج أربكان كالعادة من مبنى مجلس الوزراء إلى السجن، ويخرج “الرفاه” من لائحة الأحزاب المسموح بها إلى لائحة الأحزاب المحظورة، مجاورا حزبيْ أربكان السابقيْن: “النظام” و”السلامة”، ومستقبلا -بعد قليل- حزب “الفضيلة” الذي لاقى مصير الحل والحظر في سياق تداعيات الانقلاب نفسه.

وبين فريقين أحدهما أعلن “الاستسلام” والثاني تمسك بخيار “المقاومة” بمنطق “الصمود” والحفاظ على “الثوابت”؛ فإن فريقا آخر على رأسه “أردوغان” تبنى رؤية أثبتت الأيامُ صحتَها، مؤدّاها أن معطيات المعركة قد انقلبت رأسا على عقب، وطرفها الآخر لم يعد موجودا؛ وبالتالي فإن الاستسلام له كالصمود أمامه.. كلاهما لم يعد واردا!

كان هناك رقم هو الأبرز في انتخابات 1995، ومع ذلك غاب عن المعنيين -في خضم التفاصيل- الالتفات إلى دلالته الواضحة، والتي كانت -بكل بساطة- هي “نهاية الأتاتوركية”.

ذلك أن الأحزاب الثلاثة التي تصدرت الانتخابات (وهي على الترتيب: الرفاه، والطريق القويم، والوطن الأم، وحصدت 60% من مقاعد البرلمان) هي أحزاب “لا أتاتوركية” إن صح التعبير، وقد تأسست ثلاثتها في 1983، أي بعد انقلاب كنعان إيفرين الذي اعتقل أربكان وعصف بحزبه الإسلامي السابق “السلامة الوطني”، ليأتي الرفاه -بعد ثلاث سنوات- مجرد لافتة جديدة ترتفع فوق الصرح نفسه.

وفي العام نفسه؛ تأسس حزب “الوطن الأم” على يد تورغوت أوزال الذي هو نظير أربكان في العمل السياسي على أسس إسلامية، ويُرجح المقربون منه أنه توفي -وهو رئيس للجمهورية- بسمّ دُسّ له في كأس من عصير الجوافة قُدّمت إليه.

أما حزب “الطريق القويم” فأسسته في العام نفسه مجموعة من الرأسماليين المحافظين، بقيادة سليمان ديميريل الذي تبنى -منذ منتصف الستينيات- شعارات إسلامية في سياق التنديد بالشيوعية، وكان رئيسه أحمد نصرت طونا هو الأول بين ستة رؤساء تعاقبوا على قيادته في 12 عاما (بينهم ديميريل نفسه) بمعدل رئيس كل سنتين، تعبيرا عن بنية ترفض هيمنة “الزعيم الواحد”.

ويضيف ذلك الرفض سببا آخر لابتعاد الحزب عن “الأتاتوركية” وحجر زاويتها “الزعيم” مصطفى كمال أتاتورك، الذي هيمن على مقاليد الحكم والحزب الأوحد (الحاكم) طيلة 23 سنة كان يمكن أن تمتد لولا موته!

هكذا إذن؛ كان خيار الشعب التركي عام 1995 “ضد الأتاتوركية” بنسبة 60%، مقابل 11% فقط لصالح أتاتورك حصل عليها “حزب الشعب”، والباقي ذهب لأحزاب هامشية؛ وهو أمر يخطئ من يراه مجرد رفض لمنهج أو مسار دكتاتوري، فهو شهادة وفاة لحقبة بأكملها لم تكن “الأتاتوركية” فيها مجرد “وجهة” بل كانت “البوصلة” التي تحدد الاتجاهات.

فبحافز الأمل في تجاوزها؛ نجح عدنان مندريس في الحصول لنفسه ولحكومته على الأغلبية المطلقة وتأييد شعبي لم يفتر طوال عشر سنوات، ونجح تورغوت أوزال في أن يصل إلى رئاسة الدولة، واستطاع أربكان أن يغير وجه الحياة السياسية وينتزع ثلاثة أحزاب من براثن العسكر، ويصبح نائبا لرئيس الحكومة ثم رئيسا لها.

وفي المقابل؛ فإنه وبتهمة الاختلاف معها انتهى عدنان مندريس مشنوقا، وعانى أربكان الاعتقال والحل والحظر المتتالي لأحزابه.

لكن انتخابات 1995 جاءت لتقول: انتهى الأمر، وانقضت حقبة الأتاتوركية بموالاتها ومعارضتها، فلا الأتاتوركية قادرة على الاستمرار، ولا معارضتها تكفي مسوغا للحصول على تأييد الجماهير، وعلى الجميع أن يبحث عن “بوصلة” جديدة، بعد أن أصبحت هذه البوصلة عاجزة عن تحديد المواقع والاتجاهات.

كان منهج أربكان “ملي غوروش” (أو “الرؤية الوطنية”) يُقدَّم -منذ سبعينيات القرن العشرين- بوصفه بديل الأتاتوركية، وبديهي أن سقوط الأصل يعني سقوط بديله أيضا، أو أن عليه البحث عن “شرعية” جديدة لا تستند إلى شبح لم يعد موجودا، وكان الاستمرار في الاحتشاد لمواجهته محض عبث، ليس أفدح منه إلا عبث التفكير في الاستسلام له!

هذا ما لم يدركه أربكان فاستمر ـرحمه الله- في خوض معركته ضد “طاحونة هواء” الأتاتوركية بالاحتشاد نفسه، الذي كان -على الأرجح- مصدرَ حياة وحيدا أبقى على وجود “الشبح” لبعض الوقت، ولو في دائرة الوهم ومسرح المخيلة.

وليس مصادفةً أن أحزاب هذه الحقبة قد انتهت كلها؛ فحزب “الرفاه” تم حله، وحزب “السعادة” وريثه -بحكم زعامة أربكان له ليس إلا- يخوض الانتخابات الحالية عضوا في التحالف القومي، الذي يقوده حزب أتاتورك نفسه “الشعب الجمهوري”؛ وهل هناك نهاية أوضح من أن تصبح تحت قيادة خصمك التاريخي؟

وضمن هذا التحالف نفسه يأتي “الحزب الديمقراطي” الذي تأسس عام 2009 من اندماج حزبيْ الطريق القويم والوطن الأم، وهكذا نجد أحزاب “الحقبة المنقضية” في تحالف واحد يجمع موالاة الأتاتوركية ومعارضتها، وهي نتيجة تبدو متسقة جدا مع منطق التاريخ، الذي يثبت دائما أنه الأكثر صدقا والأقدر على فرز غث الممارسات السياسية من سمينها.

ومع هذه الأحزاب نجد حزب “الخير” (المنشق على حزب الحركة القومية) بزعامة ميرال أكشينار وزيرة الداخلية السابقة في الحكومة الائتلافية التي رأسها أربكان، وكانت آنذاك تمثل حزب الطريق القويم، وعندما وقع انقلاب فبراير/شباط 1998 ضد حكومة أربكان رفضت الانضمام للعسكر، وهو ما كلفها منصبها؛ لكنها -في المقابل- تتبنى موقفا معاديا للأكراد.

والأسوأ أن هذا التحالف بأكمله يقع في الخطأ التاريخي للمعارضة في دول العالم الثالث (ومن بينها الدول العربية)، إذ يكتفي بمعاكسة ما يطرحه الخصوم ولا يقدم رؤية مستقلة. فهو مثلا لا يقبل الاعتراف بالهوية الكردية، لكنه لا يصرح بالبديل الذي سيذهب إليه: أهو الحرب؟ أم الاضطهاد؟ أم الإجبار على تبديل الهوية؟ أم الترحيل؟ أم السماح بالانفصال؟ وواضح أنها بدائل تنتقل بين السيئ والأسوأ.

كما أنه يطرح العودة إلى النظام البرلماني (بدلا من الرئاسي الذي أقره الشعب التركي في الاستفتاء على الدستور 2017)، لكنه لا يقول أي نمط من النظام البرلماني يعتمده؟ أهو النمط نفسه الذي فشلت أحزاب التحالف مجتمعة في إدارته من قبل؟

والأكثر أهمية أنه لا يتحدث عن الطريقة التي سيتجاوز بها دستورا أصبح قائما فعلا، وستجري الانتخابات في ظله، ويصعب جدا تغييره بسرعه إلا بانقلاب؛ فهل هذا ما تراهن عليه أحزاب “الحقبة المنقضية”؟ وهل تخوض الانتخابات باعتبارها مجرد مقدمة لانقلاب؟

إن الانقلاب أمر صعب، لأن هذه الأحزاب نفسها كانت موجودة بالفعل عندما وقعت المحاولة الانقلابية الأخيرة، والتي وُئدت بفضل إجماع شعبي وسياسي على رفضها، لم تملك هذه الأحزاب إلا الانخراط فيها.

وفي ذلك دلالة أخرى -لا تخطئها العين- على نهاية الحقبة الأتاتوركية، التي كانت الانقلابات المتتالية (كل عشر سنوات تقريبا) إحدى السمات المميزة للشطر الأخير منها، حتى نجح حزب “العدالة والتنمية” في بناء حالة مؤسسية تستبعد “الانقلاب” من طروحات الحياة السياسية التركية.

وفي المقابل؛ هناك تحالف الشعب بقيادة “حزب العدالة والتنمية” ومعه حزب الحركة القومية وحزب الوحدة الكبرى، وهو التحالف نفسه الذي رأيناه في البرلمانات السابقة. وتأكيدا لرسوخه نجده يخوض الانتخابات البرلمانية والرئاسية أيضا ككتلة واحدة، يعبر عنها في الانتخابات الرئاسية مرشح واحد هو الرئيس رجب طيب أردوغان.

بينما نجد تحالف أحزاب “الحقبة المنقضية” منقسما بين ثلاثة مرشحين: محرم إينجه عن حزب الشعب الجمهوري، والذي حاول استرضاء المسلمين (تأكيدا لنهاية الحقبة الأتاتوركية) فوقع في فضيحة التصريح بأنه يصلي الجمعة كل يوم! وميرال أكشينار التي أشرنا إليها من قبل عن “حزب الخير”.

أما المرشح الثالث فهو تيميل كرم الله أوغلو عن حزب السعادة، ويعدّ أكبر المرشحين سنا إذ فاز بعضوية البرلمان ثلاث مرات، ورأس بلدية مدينة سيواس 1993 عندما تعرضت لحريق أدى لمقتل 37 شخصا بينهم كتاب ومفكرون.

وواضح أن التحالف فشل في حسم أمره والإجماع على مرشح واحد، وأن أقصى طموحاته هو وصول أحد مرشحيه إلى مرحلة الإعادة أمام أردوغان؛ والسؤال المطروح هو: ما مدى ثقة الناخب في تحالف يدير أموره بهذه الذهنية؟

وماذا لو قلل الثلاثة فرص بعضهم بعضا (وهذا منطقي) وفوجئوا بأن الانتخابات وصلت إلى مرحلة الإعادة فعلا، لكنها بين أردوغان من ناحية، وأي من المرشحين الباقيين من جهة أخرى: صلاح الدين دميرطاش، مرشح حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي) الذي يخوض الانتخابات من محبسه؛ أو دوغو برينتشيك مرشح حزب الوطن اليساري؟

فهل سيتجه تحالف “الحقبة المنقضية” -بقياداته التي ترفض الأكراد ويرفضونها- إلى تأييد المرشح الكردي المتهم بقتل الأتراك؟ أم سيتجه التحالف بقياداته -التي طالما أدانت اليسار سواء بدعوى الإلحاد أو الإرهاب- إلى تأييد المرشح اليساري؟

أحسب أن الأمر واضح، وأن أردوغان نجح فعلا في تأسيس حقبة جديدة بات النكوص عنها صعبا جدا، وأننا بصدد مواجهة بين مستقبل يسعى إلى استكمال منجزه الذي يحميه الشارع وتتبناه مؤسسات الدولة، وماض انقضى ولم يعد لدى من ينتمون إليه إلا المناوشة، وليس أمامهم -إن أرادوا البقاء- إلا البحث عن صيغة جديدة ومشروع قادر على إعادتهم للحياة مرة أخرى.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close