fbpx
مختارات

أقباط مصر بين الطائفية والتأميم

 

أزمة الأقباط في مصر هي جزء كبير من أزمة المواطنة بشكل عام، حيث يفقد الكثير من المواطنين المصريين الحد الأدنى من حقوقهم وحرياتهم مرغمين تحت دعاوى الاستثناء والمؤامرة والوطنية، وفى قلب هذه الأزمة يعاني الأقباط بشكل مضاعف لكونهم مواطنين مصريين أولا ويدينون بديانة مخالفة لديانة الأغلبية ثانيًا.

على مستوى كونهم مواطنين مصريين، يعاني الأقباط من كل ما يعاني منه المواطنون المصريون، فالحقوق مهدرة والحريات مقيدة والطموحات محدودة. قد يبدو الأمر طبيعي في ظل دولة تعاني بشدة اقتصاديا ومن ثم تتضاءل فرص العيش الكريم لشعبها، لكن الأمر في مصر يبدو أكبر من ذلك، حيث تغيب السياسة لصالح الأمن، ويُرهن رغيف العيش بالحرية، وتسكت النخب أو حتى تشترك في هذه المعادلة لتحقيق مصالحها الضيقة.

أما على مستوى كونهم أقباط فيعانوا من هيمنة خطاب وسياسات ثلاثة فاعليين رئيسيين:

الفاعل الأول: الإسلاميون

حيث يعاني الأقباط كثيراً من الخطاب العام الإسلامي الذي تغول على حقوقهم، وعمد إلى تهميش ذواتهم ونعتهم بما ليس فيهم، فتم اعتبار الأقباط صفر على هامش الأمة؛ يعاملون كذميين لا كمواطنين لهم نفس الحقوق والحريات. فمنذ ما عرف بالصحوة الإسلامية في العالم العربي، يعاني غير المسلمين عموما وأقباط مصر خصوصا من خطاب تحريضي طائفي بامتياز. ورغم أن بعض الأصوات الإسلامية العاقلة حاولت بالفعل الدفاع عن حق غير المسلمين إلا أن الخطاب الإسلامي العام تمكن من الانتصار؛ بدءًا من الخطاب الشعبوى الذي يحرض عليهم في خطب الجمعة وفى فتاوى المساجد والزوايا وصولا إلى الخطاب المتطرف الذي يسمح بقتلهم وسبي نسائهم، مرورا بالخطاب “الوسطى” الذي يقول معسول الكلام ولكن وقت الجد فإنه ينحاز طائفيا وخصوصا إذا ما تعلق الأمر بأمور مثل الجزية أو الردة أو حرية ممارسة الشعائر فضلا عن حق الترشح للمناصب الهامة!

بسبب هذا الخطاب فقد تولدت قناعات شعبية إسلامية غير متسامحة مع الأقباط، تصورات غير عقلانية عن العلاقة بين آباء الكنيسة والسيدات المسيحيات، أو عن أن الكنائس والصلبان “تٌنجس” المكان الذي تبنى فيه، أو عن محاولة الفتيات المسيحيات بتعليمات من الكنيسة إفساد صيام المسلمين في نهار رمضان، فضلا عن كم هائل من “النكت” التي تقال جهارا على المعتقدات المسيحية!

الفاعل الثاني: الدولة:

بالإضافة إلى هذا الخطاب الإسلامي غير المتسامح في مجمله فإن خطاب الدولة وسياساتها غير متسامحة أيضا، وتتعامل مع الأقباط باعتبارهم أقلية طائفية متماسكة يمكن تأميمها بسهولة. منذ بدء الجمهورية على الأقل تتعمد أنظمة الحكم المتعاقبة أن تتعامل مع الأقباط من خلال وسيط، هذا الوسيط هو الكنيسة المصرية بكل تأكيد.  حرص كل رؤوس الدولة على التمتع بعلاقات طيبة مع البابا لا مع المسيحيين، ظل هذا هو النمط السائد عبر أكثر من ٦ عقود ربما لم يشذ عليه سوى السادات فى العام الأخير من حكمه ومرسى فى العام الوحيد لحكمه، لكن علاقة البابا بالرئاسة لم تنعكس أبدا بالإيجاب على أحوال المسيحيين فى العموم، بل ظلت علاقة خاصة بين الرئاسة والكنيسة باعتبار أن الأخيرة أداة سلطوية لتأميم الوعى العام للمسيحيين، وبهذا تحققت رغبات الكنيسة لا رغبات عموم الأقباط! ظلت مشاكل بناء الكنائس وحقوق وحريات الأقباط مهدرة عبر كل هذه السنوات وسط مشاهدة ومباركة أو صمت من الجميع!

الفاعل الثالث: الكنيسة

يقع الأقباط فى النهاية ضحية للكنيسة والتي تحولت من كيان روحي إلى مؤسسة سياسية تلعب أدوارا سلطوية بامتياز فتعمق أزمات “شعبها” بشكل أكبر. فى كل حادثة طائفية يتم دعوة البابا لمقابلة السلطة وكأن الطائفية ستنتهى بهذا اللقاء! في كل حدث سياسى لا يدخر البابا جهدا ليلقى برأيه والذي يتحول من مجرد رأى إلى رسالة سماوية مقدسة على عموم المسيحيين الالتزام بها وتنفيذها! بل أن الكنيسة كانت ومازالت جزء لا يتجزأ مما يعرف بالجلسات العرفية والتي تتحول إلى وسيلة لتفريغ مشاكل الأقباط من مضمونها وتسويف الحلول وتحول الجانى إلى ضحية!

الأقباط والبحث عن حل

وهكذا يقع أقباط مصر دائما كضحايا للطائفية المدعومة من الخطاب الإسلامي. بما فيه الخطاب الوسطى المتسامح. وللتأميم من قبل أجهزة الدولة وبيد الكنيسة! هنا يكون السؤال المتكرر دائما ما الحل؟

الحل، يبدأ من عند الدولة، من عند النظام الحاكم، إرادة سياسية تصمم على كسر حاجز الطائفية والتأميم وتنتصر بالقانون والدستور لحقوق كل المواطنين الأقباط بلا تمييز. مطلوب من الدولة أن تصدر قانونا موحدا لدور العبادة وليس فقط لبناء الكنائس، قانون ينظم عملية بناء أي مصلى لعبادة الله، سواء كان مسجدا أو كنيسة أو غير ذلك.

مطلوب من الدولة ثانيا أن تنهى الهزل المسمى بالجلسات العرفية، لا عرف طالما هناك قانون، على الدولة أن تحمى الأقباط من أي هجمات عشوائية تتعرض لها منازلهم أو كنائسهم، أن تتوقف عن عملية التهجير القسرى والعقاب الجماعى الذى يعامل الأقباط كقطيع أو كطائفة وليس كمواطنين لهم كل الحقوق والحريات.

على الدولة ثالثا أن تطبق القانون على أى شخص يقوم بالتحريض كتابة أو خطابا أو فعلا ضد الأقباط، وعلى الدولة أخيرا أن تقوم بتمكين كل مواطنيها من كل المناصب مهما كانت حساسيتها ومسئولياتها. نريد أن نرى محافظين ووزراء ومسؤولين شرطيين وآمنين من غير المسلمين، نريد أن نرى قبطيا رئيسا للوزراء أو حتى رئيسا، الدولة هى المسؤول الأول عن عملية التمكين وإنهاء عبثية الطائفية والتأميم.

الحل أيضا فى وعى المواطنين، مسلمين وغير مسلمين، وعى يقر بالتعددية، يقر بالمواطنة، يقر بتغير الأزمنة والأمكنة، وعى يقر بأن مفهومي الدولة والمواطن تغيرا كثيرا عما كان الوضع عليه قبل قرن واحد مضى فما بالنا بأربعة عشر قرنا! وعى يرفض الإشاعات الكاذبة، وعى يقر بأن الكنيسة بالنسبة للمسيحي هى كالمسجد بالنسبة للمسلم، مكان للصلاة والتطهر لا للنجاسة، أن قصة “الصليب” ورمزيته هى قصة خلافية لم يشهدها أحدا ممن يعيشون فى عصرنا الحالى وبالتالى فالإيمان أو الكفر بها هى خيارات عقائدية يجب أن تكون حرة، وعى يتفهم أن طبيعة الله فى الإسلام غير طبيعته فى المسيحية وأن هذه أمور إيمانية غيبية قائمة على القناعات الروحية لا على المساجلات والمناظرات المادية، وعى يقر بأن المساحة التى تتخطى فيها الكنيسة الدور الروحى إلى الدور السياسى هى نفسها  المساحة التى تخصم من حقوق المواطنة للأقباط لأنها تلعب دور الوسيط الذمى بين الدولة والأتباع!

الحل أخيرا بأن نضع جميعا، شعبا ودولة، علماء الدين ورجاله والمتحدثين باسمه في حجمهم الطبيعي، في مساحتهم الصحيحة، وهى مساحة الوعظ والتبشير والتواصل الروحي لا مساحة صنع القرار أو الوساطة، إمام المسجد أو كاهن الكنيسة من المنظور المدني هم أشخاص عاديون، مواطنون تُقيم وطنيتهم بمدى الالتزام بالقانون والدستور، تُحسب إنسانيتهم بمقدار رقيهم الحضاري، ويصنفون علميا بمقدار تبحرهم في العلوم المدنية كما العلوم الشرعية أو الدينية، قد يفقهون في الدين لا في العلم، وإن فقهوا في العلم فهذا يتوقف على مقدار ما نهلوا منه، لبس العمامة أو الصليب لا يعنى أفضلية مدنية، وبالتالي فالجميع يجب أن يكونوا متساويين طالما نزلوا للساحة المدنية.

مشكلة الأقباط هى جزء من مشكلة المواطنة، والأخيرة هي جزء من مشكلة الحقوق والحريات فى مصر، ولا مجال لحل كل ذلك إلا بإصلاحات سياسية جذرية وحالة، فمتى نرى ذلك؟ (1).

————————————-

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”، والمقال كتبه: د. أحمد عبد ربه، ومنشور على شبكة “سي إن إن عربية“، بتاريخ 31 يوليو 2016. (تاريخ زيارة الموقع: 23 سبتمبر 2016)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close