fbpx
مختارات

أوباما والفراغ في الشرق الأوسط

دينيس روس

المصدر: دينيس روس، كيف أوجد أوباما فراغاً في الشرق الأوسط ، معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدني، 10 يناير 2016، الرابط

قلةٌ من القضايا طرحت أمام الرئيس أوباما معضلةً أصعب من المعضلة السورية. فقد أتيحت للرئيس على مدى الأعوام الخمسة تقريباً للحرب السورية الداخلية عدة خيارات حول طريقة الرد الأمريكية ولكنه آثر في كل مرة الاكتفاء بالحد الأدنى. فمنذ البداية، حين ردّ الرئيس بشار الأسد على دعوات الإصلاح بالقسوة والتشدد لتتحول بذلك التظاهرات السلمية إلى انتفاضة، كان التلافي هو الرد الغريزي الأول للرئيس أوباما، إذ أنه نظر إلى سوريا ورأى فيها سبيلاً للتورط في صراع متواصل آخر في الشرق الأوسط حيث سيكون تورط الولايات المتحدة مكلفاً ولا يوصل إلى شيء لا بل قد يزيد الطين بلة. وقد كان له سؤالٌ واحد في جميع الاجتماعات تقريباً التي انعقدت حول سوريا وطُرحت فيها عليه الخيارات الممكنة للتأثير على الحرب الأهلية السورية، ألا وهو: “أخبروني ما سيؤول إليه في النهاية هذا الخيار”.

والرئيس محقٌّ حتماً في سؤاله هذا، لكنه أغفل طرح السؤال الملازم له، وهو: أخبروني ما سيحدث إذا لم نتصرف؟ لو أنه عرف أن الامتناع عن التصرف سيوجد فراغاً تقع فيه كارثة إنسانية وأزمة لجوء مروعة وحرب بالوكالة متفاقمة ويتنامى فيه تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») في العراق وسوريا، لربما كانت ردوده لتختلف. مع ذلك، كان من الصعب عليه طرح ذاك السؤال لأنه حين نظر إلى سوريا رأى فيها العراق.

وليس ذلك بالمستغرب منه نظراً للتبعات المؤلمة التي خلّفتها الحرب في العراق. فالعراق بنظره خطأ فادح. وقد ترشح ضد هذا المسار، وانتُخب ليخرج الولايات المتحدة من حروب الشرق الأوسط لا ليدخلها فيها. ولكن هل حالة سوريا هي نفسها حالة العراق؟ بصفتي شخصاً اعتقَدَ (خطاً) أن صدام حسين كان يملك أسلحة دمار شامل، ارتكبتُ خطأ دعم الحرب العراقية. ويفترض حتماً بمناصري الحرب الآخرين أن يكونوا مستعدين للاعتراف الآن بأنه كان من الخاطئ السعي إلى تغيير النظام بدون استيعاب الفراغ الذي قد تحدثه الولايات المتحدة بفعل هذا التغيير، وكان من الخاطئ الدخول في حرب بدون خطة جدية ومدروسة بعناية لما يلزم من أجل إحداث انتقال معقول، بما يتضمنه ذلك من قوات برية لازمة على الأرض – من الجيش والشرطة ككل – لضمان الأمن وسبل إرساء الحكم؛ وكان من الخاطئ أن تتولى الولايات المتحدة إدارة العراق وتصبح رمزاً للاحتلال عوضاً عن تكليف الأمم المتحدة بمهام الإدارة الانتقالية؛ وكان من الخاطئ الدخول في الحرب بدون التفكير ملياً بعواقب إطلاق العنان للصراع الشيعي – السني، هذا الصراع الذي قد لا ينحصر بالعراق فقط.

ولكن لطالما كانت مسألة سوريا مختلفة. فهي ليست عبارة عن اجتياح أمريكي لدولة ما، إنما هي انتفاضة داخلية ضد قائد مستبد. وقد عمد الأسد إلى جعلها صراعاً طائفياً معتقداً أنه لن يتخطاها إلا إذا اعتبر العلويين وغيرهم من الأقليات أن بقاءهم من بقاء الأسد. ولكنها سرعان ما تحولت بعد ذلك إلى حرب بالوكالة تقف فيها المملكة العربية السعودية وتركيا إلى حد كبير ضد إيران. ولم يحدث الفراغ بسبب قيام الولايات المتحدة باستبدال نظام الأسد بل بسبب ترددها في فعل ما هو أكثر من التصريحات – فعلياً بسبب إفراط واشنطن في تعلم الدروس من العراق. وإذا بهذا الفراغ يُملأ من قبل أطراف أخرى، هي إيران و«حزب الله» والمليشيات الأخرى العاملة بوكالة إيرانية من جهة، والمملكة العربية السعودية وتركيا وقطر من جهة أخرى، بالإضافة إلى «تنظيم الدولة الإسلامية». وما لم تتخذ الولايات المتحدة الآن خطوات إضافية لسد هذا الفراغ، سيخرج الوضع عن السيطرة بشكل أكبر.

والواقع أن الفراغ الحاصل في سوريا قد تفاقم من عدة نواحٍ بسبب الإحساس بتقلص دور الولايات المتحدة في المنطقة، مما أوجد فراغاً أكبر فتح المجال أمام نشوء المنافسة المتزايدة بين إيران والسعودية. إذ اعتبر الإيرانيون أن الولايات المتحدة لا تشكل خطراً يذكر عليهم فيما رفعوا درجة أعمالهم القائمة على مذهب الفعّالية  في المنطقة ومنحوا «فيلق القدس» – الذراع العملياتي للحرس الثوري الإيراني خارج إيران – دوراً أبرز في الصراعين السوري والعراقي. وبالفعل فإن قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني الذي كان في السابق شخصية غامضة، بات اليوم شخصاً ذا حضور علني كبير حيث يظهر أحياناً في الميدان خلال المعارك الدائرة على تكريت في العراق والقصير في سوريا وغيرها من المناطق في كلا البلدين. أما السعوديون فقد وجدوا في الاتفاق النووي والتدخل الإيراني الأوسع في المنطقة مبرراً للفكرة التي يملكونها بأن إدارة أوباما ليست جاهزة لفرض أي حدود فعلية على إيران – أو التصرف على أساس خطوطها الحمراء. بالنتيجة، قررت السعودية رسم خطوطها الخاصة، وهذا ما فعلته في اليمن، مع العلم بأنه سيكون صعباً عليها على الأرجح أن تخرج نفسها من هذا الوضع. لعل السعودية قامت بإعدام رجل الدين الشيعي نمر النمر لأسباب محلية، وخصوصاً بالنظر إلى عدد العناصر السنّية التابعة لتنظيم «القاعدة» الذين أعدموا في الوقت نفسه، لكن السعودية كانت تعلم أن إيران ستأتيها بالرد، فهذه الأخيرة كانت قد توعدت السعوديين بالعقاب إذا ما أقدموا على إعدامه.

والأرجح أن المنافسة السعودية – الإيرانية لن تتصاعد لتصل إلى صراع مباشر، ولكنها ستدفع الطرفين إلى النظر إلى الحروب الجارية بالوكالة كحروب لا ربح فيها ولا خسارة. وبالتأكيد سيكون من الصعب على كليهما القبول بالتراجع في سوريا، ما سيعقّد الآمال التي تعقدها الإدارة الأمريكية باستخدام المساعي الدبلوماسية في فيينا من أجل “إرساء السلام والأمن في سوريا” على حدّ تعبيرها. وحتى لو لم يكن الانقسام المتعاظم بين السعودية وإيران موجوداً، لما كانت حظوظ مساعي فيينا كبيرة، وهي على أي حال تعتمد اعتماداً أكبر على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: فهو القادر على إرغام نظام الأسد على الالتزام باتفاق وقف إطلاق النار، وإيقاف البراميل المتفجرة، والسماح بإنشاء ممرات إنسانية لإيصال الغذاء والدواء إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة من غير تنظيم «داعش». في هذه الظروف فقط سيكون بالإمكان دفع السعوديين والأتراك وغيرهم ممن يدعمون المعارضة إلى إقناع قوات الثوار بتطبيق اتفاق وقف إطلاق النار – وهو الشرط الأساسي لتحقيق أي إنجاز من خلال مباحثات فيينا، وعنصر جوهري في استراتيجية أوباما للقضاء على «داعش». في الواقع، في غياب أي اتفاق فعلي لوقف إطلاق النار بين نظام الأسد وقوات المعارضة من غير «داعش» في سوريا، لن تنضمّ الدول والعشائر السنية فعلياً إلى الحرب ضد «داعش». (ليس لأي سبب آخر سوى أن يظهروا أن الهجوم ضد السنة في سوريا قد توقف وأنهم نجحوا في حمايتهم).

وفي حين يرى الرئيس أوباما سوريا كمأزق، لا يشاركه بوتين حالياً النظرة نفسها. إذ لا يزال يعتقد أن تحقيق مآربه في الحرب أهم من ضمان نجاح مباحثات فيينا في هذه المرحلة. علاوةً على ذلك، بينما يعتبر الرئيس الأمريكي أن بوتين لن يرغب في تكرار أخطاء أفغانستان وأنه سيتبيّن في مرحلة ما الحاجة إلى إخراج روسيا من سوريا، لا يبدي بوتين ما يدل على أن قراءته للتدخل الروسي في أفغانستان تشكل أي رادع أمامه – ربما لأنه يعلم أنه لا ينوي نشر قوة برية كبيرة على النحو نفسه وربما أيضاً لأنه يعتقد أن الولايت المتحدة لن تكبّده تكاليف أكبر بكل بساطة. وصحيحٌ أن التاريخ قد يكون حافزاً له، لكن ما يحرك بوتين هو حاجته للتعويض عن فترة الضعف الروسي والتفوق الأمريكي؛ فهو يريد أن يثبت أن روسيا قوة عظمى وكلمتها مسموعة في الأحداث. من هنا يرى في تقلص الدور الأمريكي والفراغ الناتج عن ذلك فرصةً لإعادة تأكيد النفوذ الروسي في الشرق الأوسط.

بالنسبة للرئيس أوباما، لا تزال التجربة العراقية تلقي بظلالها على حساباته. فهو، شأنه شأن الرؤساء الذين سبقوه، يسترشد بقراءته للحالات المشابهة. ولا عيب في ذلك بتاتاً، شرط أن يكون التشابه صائباً.

فالرؤساء ومستشاروهم يستعينون بالتشابهات لصياغة الأحكام، خصوصاً حين يواجهون خيارات صعبة تستلزم التدخل. بالنسبة للرئيس ليندون جونسون، كانت “ميونيخ” هي الحالة المشابهة التي قادته بشكل كارثي في فيتنام: فإذا لم تضع الولايات المتحدة حدّاً للشيوعيين هناك – إذا “استعطفتهم” هناك – لكانت ستواجه تهديداً أكبر وأخطر في ما بعد. في العالم الثنائي القطبين الذي كان سائداً خلال الحرب الباردة، كانت حالة “ميونيخ” قوية وأعمت أبصار الرئيس جونسون ومَن حوله عن حقيقة أن الشيوعية ليست موحدة، وأن السوفيتيين والصينيين كانوا خصوماً، وأن الحرب في فيتنام كانت حرباً قومية. حتى الرئيس جورج هـ. و. بوش استرشد بهذا المرجع التاريخي حين ردّ على صدام حسين عام 1990. وبالفعل سمعتُه يستخدم تشبيه “ميونيخ” خلال اجتماعات المكتب البيضاوي فيما كانت الولايات المتحدة تعبّئ العالم ضد الزعيم العراقي بعد احتلاله الكويت؛ فقد اعتبر بوش الأب أنه لا يمكن للولايات المتحدة السكوت عن مثل ذلك الاعتداء خوفاً من أن يحل قانون الغاب محل آماله بنظام عالمي جديد في أعقاب الحرب الباردة. ولعل الرئيس بوش استعان بهذا التشبيه، لكنه وضع كذلك هدفاً محدداً وواضحاً هو دحر الاعتداء على الكويت وعدم التسبب بتغيير النظام في العراق. وقد كانت الأساليب المتبعة مطابقة للهدف المعلن.

لا مهرب من استخدام التشابهات، ولكن يجب على هذه التشابهات أن تجسّد دروساً حقيقية. والحقيقة هي أن واشنطن لم تجرِ في أي مناقشة جدية في الولايات المتحدة حول الدروس المستقاة من الحرب العراقية. فمنتقدو الحرب لم يقرّوا يوماً بوجود ما يدعو للنقاش، لا بل اعتبروا أن مناصري تلك الحرب كانوا مضللين في الأساس. أما مؤيدو الحرب فكانوا منهمكين بالدفاع عن موقفهم إلى حد أنهم ترددوا في الإقرار بما أخطأوا به وكيف كان يمكن التصرف بشكل مغاير.

لا بد لتجربة الفشل العراقي أن تخفف من رغبات الولايات المتحدة وآمالها، إنما لا يجدر بها الإفراط في استخلاص الدروس من الحرب وإساءة تطبيقها. فليست جميع النزاعات في الشرق الأوسط نسخة عن العراق – ولا ينبغي أن تنحصر خيارات الرد لدى واشنطن إما بالامتناع عن التصرف أو بنشر أعداد هائلة من الجنود على الأرض.

قد لا يسهل إيجاد الحل الوسط حيث لا تفرط الولايات المتحدة في التدخل كما حصل في العراق ولا تحدّ من تدخلاتها ما دون اللزوم كما هي الحال في سوريا، ولكن إلى حين إقامة نقاش جدي حول العراق (وسوريا بالقدر ذاته من الأهمية) والتفكير في ما يجب تعلّمه من هذه الصراعات، ستظل واشنطن تتخبط وتستخدم التشابهات المغلوطة وتصدر الأحكام الخاطئة. من هنا، قد يفيدها وضع مبادئ توجيهية للتدابير العسكرية التي قد تكون مستعدة لاتخاذها – على غرار الاستعداد لنشر قوات على الأرض، بما في ذلك نشر فرق الاستطلاع لتوجيه الضربات الجوية، وإدخال القوات في صفوف الشركاء المحليين، ربما وصولاً إلى مستوى الكتائب، بالإضافة إلى استخدام عناصر العمليات الخاصة في الغارات القائمة على مبدأ الهجوم والانسحاب المتتاليين، فهذه الأمور قد تساعد الولايات المتحدة في إدارة تدخلها مع تفادي خطر تدهور الوضع الذي يخشاه الرئيس الأمريكي.

وبالطبع لا بد من أن تنطلق هذه المبادئ التوجيهية من أسئلة صعبة يجب أن تطرحها الولايات المتحدة أولاً في كل حالة عن رهاناتها وعمّا إذا كان يجدر بها التصرف أم لا، وبأي أشكال تتصرف. من الواضح أنه من الأفضل لا بل من الضروري أن يتحمل شركاء واشنطن المحليون مسؤولية كبرى في صراعات الشرق الأوسط، والرئيس أوباما محقٌّ في هذا الصدد. لكن يجدر بالولايات المتحدة أيضاً أن تعلم العوامل التي تولدت منها هذه الصراعات – من قد يقاتل فعلياً، وأين، وما هي حوافزهم، وما الذي قد يحتاجونه من واشنطن، وما إذا كانوا يعتقدون أن الولايات المتحدة ستقف إلى جانبهم، وما إذا كان لها أو لغيرها تأثيرٌ عليهم. في كل حالة، يجب على واشنطن تقييم نطاق الخيارات العسكرية المتاحة أمامها. عليها أن تحذر ممّا يسميه البنتاغون “تمادي المهمة إلى ما بعد أهدافها الأصلية”، وهو أمر يمكن أن تتجنبه الولايات المتحدة بدرجة أكبر إذا حذت حذو جورج و. بوش وحددت أهدافها بشكل واضح منذ البداية وحرصت على انسجامها مع الأساليب التي هي مستعدة لاستخدامها.

في زمنٍ يسود فيه إجماعٌ عام على الحاجة إلى مكافحة «داعش» إنما يغيب فيه الإجماع حول كيفية مكافحته، تشكّل التبعات العراقية ودروسها المشكلة الجلية التي تتحاشاها الولايات المتحدة. لذلك فإن مواجهتها وإقامة نقاش مفتوح حولها – لا سيما في عام الانتخابات – قد يمثلان عنصراً ضرورياً من العناصر اللازمة لوضع استراتيجية مجدية، لا بل قد يكونان أيضاً جوهريين لكي تُبين واشنطن للأطراف داخل المنطقة وخارجها أن تبعاتها لن تمنعها بعد اليوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close