قلم وميدان

“أولاد الحلال”السنيما الجزائرية وقوتنا الناعمة الصاعدة

جرت العادة أن يستقبل الجزائريون الشهر الفضيل بباقةٍ من المسلسلات الدرامية والكوميدية التّي تتنافس لأجل جذب المشاهد الجزائري، إلاّ أنّها تفشل في كثيرٍ من الأحيان بإستثناء بعض الأعمال الكوميدية. إلاّ أنّ رمضان هذا العام عرف إستثناءاً نوعياً حينما فاجأت إحدى القنوات الخاصة المُشاهد بمسلسلٍ جذّابٍ إسمه “أولاد الحلال” يحكي قصة أخويْن يتيميْن يبحثان عن إختهما المفقودة بأحد أكثر الأحياء شعبيةً وفقراً والمتواجدة بمدينة وهران، أجمل مدن غرب الجزائر. يتميّز المسلسل بتصويرٍ إحترافيٍ جذّابٍ لواقعٍ مجتمعيٍ بئيسٍ ولكنّه مليئٌ بقيم الشهامة والرجولة والصدق، والأهم من ذلك كان الآداء المتميّز لممثّلين شباب ذوي مواهب فنّية متميزة جعلت كثيراً من المشاهدين يدمنون السلسلة بشخصياتها وهي في طور البداية.

وبالرغم من الإنتقادات التّي يُسجلها البعض عن حبكة السلسلة أو مستوى الحوارات أو حتّى تعريتها للواقع المُظلم التّي تعيشه كثيرٌ من أحياء الجزائر العميقة، إلاّ أنّنا نرى فيها إنطلاقةً قويّةً لمشروعٍ قومي من شأنه أن يعزّز من إشعاع الجزائر الخارجي، أو بالأحرى أن يُروّج لقوتّها الناعمة الصاعدة في المستقبل المنظور.

يذكر جوزيف ناي صاحب مصطلح القوة الناعمة أنّ الأمريكيين أقوياء لأنّهم يستطيعون “إلهام أحلام الآخرين ورغباتهم بفضل إتقانهم للصورة العالمية عن طريق الأفلام والتلفزيون”1، فلقد بلغ التأثير الأمريكي أوسع مدى عبر التاريخ البشري بفضل قوة هوليود لا قوة البارود وحسب، سُئل الشاعر كارل ساندبيرغ عام 1961: “هل هوليود أهمّ من هارفارد؟ فأجاب: “إنّ هوليود ليست لها نظافة هارفارد، ولكنّها مع ذلك أقدرُ من هارفارد على الوصول إلى أمدٍ أبعد.” 2

هكذا هي الأعمال السنيمائية بإمكانها أن تصنع تأثيراً قويّاً للدولة في الخارج بشكلٍ لا تقدر عليه وسائل الدول التقليدية في الفعل والـتأثير.

فبعدما تأسر السلسلة المُشاهد بقصتّها المشوّقة المُحاكية للواقع، تُظهر بفضل تقنيات التصوير الحديثة المستخدمة بين الفينة والأخرى مَشاهداً لمناطقٍ ساحرةٍ تشتهرُ بها البلاد على غرار ساحل مدينة وهران البهي أو صور علوية “لمقام الشهيد” وما حوله بالعاصمة أو ما شابه وكلّها مشاهدٌ من شأنها أن تصنع ترويجاً قويّا للجزائر في الخارج وتُحفّز الأجانب على إكتشافها بعدما أنهكتها حقبة الإرهاب ثمّ الفساد طيلة العقود الثلاث الماضية فصارت البلد الذّي يجهله أهله قبل الجيران.

إلى جانب “أولاد الحلال”، تمّ عرض مسلسلٍ درامي آخر مشترك الإنتاج بين فنّانين جزائريين، أتراك وتوانسة إسمه “مشاعر”، لا يختلف من حيث سحر الصورة عمّا تُنتجه تركيا من مسلسلاتٍ درامية، تمّ تصوير لقطاتٍ منه في الجزائر وتونس. ينطلق المسلسل بمشهدٍ لحفل زفافٍ تقليديٍ جزائريٍ بإحدى مدن صحراءنا الساحرة، تُظهر اللقطات الأولى جانباً من ثقافتنا العريقة في الملبس والفنون، فتُظهر البرنوس الرجالي والكاراكو النسائي الجزائريين وشيءٍ من طبوع الفنون بأعراس أهل الصحراء، إنّنا نرى في ذلك أضخم عملية ترويجٍ للقيم والثقافة الجزائرية يُمكن أن تستفيد منها الجزائر في سياستها الخارجية مستقبلاً، خاصّةً في وقتٍ أظهرت فيه الصور والفيديوهات القادمة من ميادين الحراك المليوني الذّي تشهده البلاد هذه الأيام للعالم مشاهداً غاية في الجمال والتنوع لمدن الجزائر من السماء أو لطبيعة، لغة وشخصية الفرد الجزائري على حدٍّ سواء.

السؤال الذّي نطرحه هنا أيضاً، كيف تستفيد جزائرُ الغد من تنوّعها الثقافي وتاريخها العريق، فتُحييه وتُروّج له فتصنع منه قوةً ناعمةً فاعلةً في سياستها الخارجية؟

إجابةً عن ذلك، فإنّنا نتساءل هنا عن حجم الميزانية التّي خصّصتها الجزائر لأجل ترجمة الكتب التّي تتحدّث عن ثورتها المجيدة مثلاً وسير أبطالها خصوصاً أو تاريخها الحافل بالمقاومة الممتد إلى القرن الثالث قبل الميلاد أو عن مجهودات السلطة في تمويل حركة الكتابة في الموضوع بشتّى اللغات؟ هل تعمل الجزائر على تدريس طلبتها ثورتها المجيدة بالشكل الأنسب أو تستقدمُ طلبةً من دولٍ بعينها عبر منحٍ شاملةٍ لأجل تدريس التجربة الجزائرية هذه؟ كم تبلغ الميزانية المخصّصة للدعاية السنيمائية والإعلامية لهذا التاريخ ورموزه أو قيمه وثقافاته المتعدّدة؟ هل عمل صنّاع القرار على بناء مشروعٍ سنيمائي إحترافيٍ بكادرٍ محترفٍ وإمكانياتٍ عصريةٍ (مسلسلات أو أفلام) لأجل هذا الغرض؟

لقد أدركت أممٌ كثيرةٌ أنّ مُستقبلها مرهونٌ بمدى قدرتها على إحياء تاريخها المُشرق في الوعي الجمعي لشعوبها، على سبيل المثال لا الحصر، تُباشر دولة كتركيا مشروعاً سنيمائياً ضخماً لأجل الترويج لأيقوناتها التاريخية لدى الشعب التركي وجيرانه المسلمين كوسيلة لبناء قوّة ناعمةٍ فاعلةٍ في سياستها الخارجية، الآن يُشاهد الملايين مسلسلاتٍ تاريخيةٍ مُؤثّرةٍ كمسلسل إنبعاث إرطغرل أو مسلسل السلطان عبد الحميد الثاني أو مسلسل آخر عن العالِم المتصوّف التركي يونس إيمره وغيرها، تُرصد ميزانياتٌ ضخمةٌ ويتّم تكوين كادرٍ تركيٍ محترفٍ (لا أجنبي) لأجل هذا المشروع.

في هذا الصدد ذكرت صحيفة الديلي صباح التركية في مقال لها بأنّ صادرات المسلسلات التركية إلى 100 بلدٍ وصلت إلى حوالي 350 مليون دولار سنة 2015 جاعلةً من تركيا ثاني أكبر مُصدّرٍ للمسلسلات في العالم في تلك السنة،3 أمّا المسلسل التاريخي الأشهر حالياً في تركيا “قيامة إرطغرل”، فيتّم تخصيصُ ميزانيةٍ قدرها على الأقل مليون و 100 ألف ليرة تركية للحلقة الواحدة (أكثر من 250 ألف دولار) في حين يتقاضى الممثل الرئيسي للمسلسل السيد إنجين ألتان دوزيتان حوالي 400 ألف ليرة شهريا (حوالي 75 ألف دولار). 4 تُقدّر ميزانية وزارة الثقافة التركية حوالي 3 مليار و 997 مليون ليرة تركية (أكثر من 750 مليون دولار).5

أمّا إذا قارنا الأرقام السابقة بالميزانية التّي تُخصّصها الجزائر لوزارة الثقافة فسنجد فرقاً شاسعاً جدّاً، فحسب قانون ميزانية 2018 حصلت وزارة الثقافة على غلاف قدره 15 مليار دينار وحسب (حوالي 126 مليون دولار)،6 بمعنى أنّ مدخول المسلسلات التركية لوحده أكبر من ميزانية وزارة الثقافة الجزائرية بأكملها، في حين تظل ميزانية الدفاع الجزائرية هي الأعلى بين البقية، إذ قُدّرت سنة 2018 ب 9,92 مليار دولار أي ما نسبته 25% من الميزانية العامة، وهي لا تكاد تختلف عن ميزانية الدفاع التركية التّي بلغت 13 مليار دولار سنة 2018 7(مع توقّع الخبراء إرتفاعها إلى أكثر من 18 مليار دولار مثلما يتوقّع خبراء جزائريون زيادةً في ميزانية الدفاع الجزائرية لتصل إلى 14 مليار دولار العام القادم وقد وصلت من قبل).

نلاحظُ هنا كيف تتقارب ميزانيات الدفاع بين البلدين كثيراً، في حين يتباعد حجم ميزانية الثقافة (والسياحة) بينهما بشكلٍ شاسعٍ لصالح تركيا، بمعنى أوضح، أنّ تركيا تُولي أهميّةً كبرى لوسائل القوّة الناعمة في سياستها الخارجية، فهي مُدركةٌ جيّداً بأنّ وسائل التأثير التقليدية الصلبة غير قادرةٍ لوحدها على تحقيق الغايات الكبرى للسياسة الخارجية، أي التأثير والنفوذ، لذا فميزانية الثقافة عموماً والميزانية المخصّصة للأعمال السنيمائية التاريخية والوطنية بالأخصّ مرتفعةٌ بهذا الشكل، في حين يبقى صنّاع القرار الجزائريون يتعاملون بطريقةٍ كلاسيكيةٍ مع عالمٍ جديدٍ تتغيّر فيه مفاهيم القوة والتأثير بشكلٍ جذري.

جدير بالذكر هنا، أنّ هناك قائمةً من الأفلام التاريخية الجزائرية التّي ترصد ملحمة الثورة أو المقاومات الشعبية قبل ثورة نوفمبر إلاّ أنّها تتصّف في الغالب بالقِدم والبساطة وغياب الجاذبية والمحليّة المُفرطة، كما أنّ هناك مشاريعاً ضخمةً لإنتاجٍ سنيمائيٍ محترفٍ -نظرياً- تُرصَد لها ميزانياتٌ مناسبة، لكن ونظراً للفساد الذّي ينخر في مؤسّسات الدولة فإنّ أموالها تذهب هباءً كما حدث مع قضية فيلم “الأمير عبد القادر” الذّي بقي على الورق وصُرفت ثلاثةُ أرباع ميزانيته (12 مليون دولار من أصل 20 مليون دولار) من دون تصوير لقطةٍ واحدة8.

أمّا القطاع الخاص في هذا المجال فهو شبهُ منعدمٍ، كما يبقى طموح إنشاء مُدنٍ للإنتاج السنيمائي (هوليود الجزائر) أشبه بالحلم في هذه اللحظة. وللتنبيه، فإنّنا لم نتحدّث هنا عن توسعة مجال الأعمال السينمائية لتشمل مسلسلات وأفلام الجوسسة، وتضحيات الجيش عبر حدود الوطن في محاربة الإرهاب والمخذّرات مثلاً أو حماية الأمن القومي للبلاد، حقبة العشرية السوداء وما شابه، فالأرشيف الوطني والتاريخي غنيٌّ بما فيه الكفاية لكي يتّم الإستفادة منه بالشكل المناسب في هذا الصدد، وقد عاشت الجزائر حقباً تاريخيةً متمايزةً يُمكن تجسيد نقاطها المضيئة عبر أعمالٍ سينمائيةٍ إحترافيةٍ كثيرة، فضلاً أنّ الأمثلة التطبيقية الواقعية لهذه الأفكار موجودةٌ بكثرة تُقدّمها دولٌ أخرى متقاربةٌ في إمكانياتها الخام مع الجزائر كتركيا مثلاً.

لذا، فإنّ بناء مشروع سينما جزائري إحترافي على النحو المذكور لهو أمرٌ حتميٍ إذا أرادت الجزائر أن تستثمر في تاريخها العظيم أو في ثراءها الثقافي فتُولّد منه قوّةً ناعمةً فاعلةً في سياستها الخارجية في المستقبل المنظور، ربّما سوف يُلهم نجاح مسلسل “أولاد الحلال” القائمين على وزارة الثقافة أو القطاع الخاص في هذا الصدد على إنتاج أعمالٍ مشابهةٍ منافسة تُعرّف الجيران والعالم أكثر بهذا البلد-القارة الثريّ بثقافاته، لغاته المتعدّدة وتاريخه العريق، وتُخرج السنيما الجزائرية من محليّتها المُفرطة إلى الإقليمية والعالمية، ولعلّ ما تشهده الجزائر اليوم من حراكٍ شعبيٍ مليونيٍ ضدّ الفساد من شأنه أن يكون بمثابة الفرصة التاريخية الأنسب لوضع البلد على السكة الصحيحة حتّى تحظى بمكانة القوة والتأثير اللائقة بحجمها وتاريخها الحضاري بين الأمم. [1]


1 – جوزيف ناي، القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية، ترجمة: محمد توفيق البجيرمي، مكتبة العبيكات، الطبعة الأولى 2007، الممكلة العربية السعودية، ص: 29.

2 – المرجع نفسه، ص: 81.

3 – Turkish TV series exports to exceed $350M in 2015, DAILY SABAH, March 27, 2015, Istanbul-Turkey.
الرابط

4 – Erdoğan’ın dizisi ‘Diriliş: Ertuğrul’un bölüm başı maliyeti en az 1 milyon 100 bin!, Haber Sol, 16 Kasım 2016.
الرابط

5 – İşte Kültür ve Turizm Bakanlığı’nın 2018 bütçesi, Turizm Güncel, 18.10.2017.
الرابط

6 – Abdou Semmar, Budget 2018 : comment sont répartis les 45 milliards de dollars des dépenses de fonctionnement de l’Etat algérien? Algerie Part, 15/11/2017.
الرابط

7 –  Jane’s Editorial Staff, Turkey’s Defence Budget – the fallout from high inflation and a weak lira, IHS Markit,10 April 2018.
الرابط

8– عمّار قـردود، تبخر 150 مليار من فيلم “الامير عبد القادر”، موقع الجزائر1،  14 أغسطس، 2018.
الرابط

[1] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى