fbpx
دراسات

أوهام العولمة وعودة جيوبولتيكا العالم القديم

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

ملخّص:

تُحاجج هذه الورقة بأنّ العولمة بكلّ مخرجاتها المختلفة وبالرغم ممّا أحدثته من “تحوّلات عميقة” سجّلها باحثون منذ نهاية الحرب الباردة تقريبا، إلاّ أنّها لم تتمكّن من إنهاء مظاهر العالم القديم بقدر ما كرّستها أكثر من ذي قبل، فالحديث عن نهاية التاريخ وانتصار النموذج الليبرالي على حساب “البقيّة”، موت الجغرافيا وانتهاء حقبة الطموحات الجيوبولتيكية، تقويض السيادة، تراجع دور الدولة كفاعل رئيسي لصالح فواعل أخرى وبداية عصر التجارب التكاملية وغيرهما من الادعاءات العولمية الليبرالية لم تكن إلاّ مجرّد “أوهامٍ عابرة” كما تصفها هذه الورقة، فالنصف الثاني من القرن الحادي والعشرين مُقبلٌ في نظرنا على عودة قويّة لمظاهر العالم القديم، عالم ما قبل العولمة أين ستسود بقوة مظاهر التنافس لأجل البقاء، زيادة القوة وبسط الهيمنة، العسكرة وهوس الأمن، الحسابات الجيوبولتيكية الضيّقة للدول، تراجعٌ للتجارب التكاملية التّي ستُعبّد الطريق لصعود نَزَعاتٍ قوميةٍ شديدة مكبوتة لدى الشعوب تُساهم زَعَاماتٌ رجولية كاريزماتية لكثير من القادة الطموحين في تحريرها. باختصار، إنّنا بصدد عودة التاريخ من جديد، “عودٌ أبدي” إلى عالم ثيوسيديدس القديم.

1. وهم العولمة، انتصار الجغرافيا وعودة الطموحات الجيوبولتيكية:

في كتابه “في ظلّ أوروبا”، يذكر روبرت كابلان موقفا حدث مع المفكر الفرنسي الشهير فولتير، ففي سنة 1755 حدث زلزالٌ كبير في لشبونة دمّر ثلاثة أرباع المدينة وقتل عشرات الآلاف من الناس، قابل فولتير الزلزال باعتراض شديد ولم يتقبّله باسم العقل والثقافة، وراح يُقدّم نقده اللاذع لكلّ القوى الطبيعية التّي لا يتحمّل الإنسان مسؤوليتها، إذ كان يردّد بأنّه لا يجب علينا أن نُسلّم أمرنا للطبيعة وأن نكون أقوياء لنتحدّى مثل هذه الأقدار المفروضة علينا. بعد قرنين من الزمن، وفي سنة 1953، كتب البروفيسور بجامعة أوكسفورد إسحاق برلين (Ishaiak Berlin) مقالاً مهمّا نُشر لاحقا تحت عنوان “الحتمية التاريخية”، كان مقالا قويّا جدّا ضدّ القوى غير الفردانية الواسعة، على غرار الجغرافيا، الخصائص الإثنية والثقافية، البيئة، الديمغرافيا، الاقتصاد، مُلحّا على الفرد بعدم تقبلّها أو البقاء رهينا لها، فما عليه سوى الصراع ضدّها وألاّ يقبل أيّ فلسفات قد تبدو بأنّها تستسلم لهذه القوى. إنّها النزعة الليبرالية في جذورها الأولى التّي يُقدّس فيها الليبراليون النزعة الفردانية مُعتقدين بأنّ الإنسان بوسعه تجاوز هذه الأقدار، أو الحروب كما يحدث اليوم في ليبيا أو سوريا، فما على الأفراد سوى أن يكونوا عازمين ساعين لذلك.1

مع نهاية الحرب الباردة، وجدت النزعة الليبرالية هذه مناخها الأنسب، إذ عرف العالم آنذاك تحوّلات بنيوية عميقة مسّت العالمين الأكاديمي والواقعي على حدّ سواء، وكانت للجغرافيا كعامل حاسم وللجيوبوليتيك كعلم مرتبط بالسياسات العليا للدول، حظّهما من النقاشات والقراءات النقدية، فقد تنامت الأفكار والطروحات المنادية “بموت الجغرافيا” وانتهاء عصر الجيوبولتيك وبداية عصر جديد لم تعد فيه للأرض والجغرافيا أيّة أهمية تُذكر، عصر صار فيه العالم “قرية كونية” وتغيّرت فيه مفاهيم الزمان والمكان بشكلٍ جذري، فقد رأى أصحاب هذه الطروحات بأنّ العولمة عمّقت فعلاً من الارتباطات والاعتماد المتبادل بين الشعوب عبر العالم، ما أدّى نتيجةً لذلك إلى خلق مستوى أعلى من الترابط اصطلح على تسميته “بالمجتمع المدني الكوني” بعيداً عن كلّ أهواء الغزو ومحفزّات الجغرافيا، كما حاججوا بأنّ هذا الوضع يُعدُّ في الحقيقة مختلفا عن سابقه التقليدي والذّي كانت فيه الدولة ذات السيادة اللاعب المهمين الوحيد على المسرح العالمي، اليوم صارت مفاهيم من قبيل القرية الكونية، المجتمع الدولي والمجتمع العالمي القائم على حكم الرشادة العالمية مفاهيما مخفِّفة لحدّة الفوضى التّي تعتري بنية النظام الدولي.2 يُعّد الكاتب الأمريكي توماس فريدمان بمثابة “نبيّ العولمة” في أمريكا والعالم، لقد استغل منصبه ككاتب عمود الشؤون الخارجية في صحيفة عالمية مرموقة كالنيويورك تايمز “ليبشّر” قرّاءه ويوصل رسائل لهم مفادها أنّنا نعيش العصر الرقمي، أين يعمل الديجيتال جنبا إلى جنب مع انتشار الأسواق العالمية على إحداث تحوّل في النظام الدولي، وقد شرح ذلك بشكل مفصّل في كتابه: “سيارة ليكسيس وشجرة الزيتون، محاولة لفهم العولمة”، جاعلا من العولمة الملمح الأكثر بروزا في هذا العصر الجديد (The One Big Thing)، وليس الجغرافيا مثلما كان سائدا في السابق، بعدما وحّد (World Wide Web)، الجميع، وقوضّت الأسواق والشركات العالمية، الآلة والتكنولوجيا من سيادة ودور الدول على المسرح الكوني.3

في المجال العسكري، أظهر العولميون كيف قضت الطائرات النفاثة والصواريخ الباليستية العابرة للقارات على أهميّة الجغرافيا وميّعت الأرض، وكيف صار التطوّر التكنولوجي الرهيب عاملا رئيسيا ينبغي وضعه في الحسبان عند تحليل موازين القوى الدولية، فقد كانت هذه الموازين، كما يشرح البروفيسور تشارلز كابشان، خلال الحرب الباردة بين الشرق والغرب بدرجة أولى نتيجةً للمخرجات الصناعية وحجم الترسانات التقليدية والنووية للطرفين، اليوم صار فيروس الكمبيوتر ربّما أكثر الأسلحة فتكا حتّى من طائرات F16.4 وبسبب هذا الوضع الجديد بدا للعديد من الباحثين “أنّ مسار العولمة قد نزع سلاح الجيوبوليتيك”، وأنّه ينبغي التركيز على حقل الاقتصاد بدلا من الجغرافيا، وعلى التعاون الدولي والأسواق العابرة للقوميات بدلا من دراسات التنافس القائم تقليديا على الأرض، فالعولمة إذن حسب طرح هؤلاء الباحثين قد “قتلت الجيوبوليتيك بالفعل”.5 كلّ هذه العوامل حتمّت على باحثي الجيوبوليتيك والمنظرين المهتمين بدور الجغرافيا في علاقاتها بالتفاعلات الدولية وبنية النظام الدولي أن يطوّروا معنى ومضمون العامل الجغرافي في التحليل لكسب الحجّة في مناقشة النظريات الجديدة، لاسيما تلك المنتمية إلى المنظور المابعدي أو تلك المروِّجة لمقولات العولمة وعصر الاقتصاد على غرار النظرية الليبرالية بفروعها العديدة.

لقد دخل باحثو الجيوبوليتيك في مهمّة المحاججة بأهميّة الجغرافيا في عصر العولمة والتكنولوجيا مع نهاية الحرب الباردة، صاحبتها عملية إعادة تأهيل هذا الحقل المعرفي ليتناسب مع الطروحات الجديدة والتحوّلات الناجمة عن التغيّر في بنية النظام الدولي وطبيعة التفاعلات العالمية، فعلى المستوى الأكاديمي “سطع نجم” الجيوبولتيك النقدية أو الجيوبولتيك البديلة أو جيوبولتيك ما بعد الحداثة، وكلّها تسميات لذات التخصّص، حاجج أصحاب هذا التخصّص على رأسهم كلّ من جيروا أوتواثيلا، كلود دودس، جون أكنبو، سيمون دالبي، وغيرهم بأهميّة البنى التاريخية والاجتماعية في تحليل العلاقات الدولية بدلاً من الارتكاز على العوامل المادية في التحليل على غرار الجغرافيا أو النتائج الحتمية للطبيعة البشرية أو سمة الفوضى الدولية التّي روّج لها الوضعيون باعتبارها معطى حتمي. كما عرفت الجيوبولتيك النقدية فروعا واهتمامات عديدة نظرا لتوسِعتها مجال الاهتمام ومتابعة النشاطات الإنسانية بمختلف مجالاتها، فظهر على سبيل المثال الجيوبوتيك الشعبية، الجيوبولتيك الماورائية، الجيوبولتيك الافتراضية، جيوبولتيك الأفلام والمسلسلات، جيوبولتيك الرياضة وكرة القدم وغيرها، وبالرغم من الثراء والتنويعات المثيرة التّي قدّمها أصحاب مثل هذه الطروحات من جهة ومحاولتهم الإبقاء على حضور وأهميّة حقل الجيوبولتيك من جهة أخرى إلاّ أنّ السؤال الذّي ظلّ مطروحا بقوة بعد كلّ هذه التنويعات: هل بقيت الجيوبولتيك جيبوليتكاً؟

لكن، من المؤكّد أنّ الوقائع الجديدة التّي يعرفها العالم المعاصر ساهمت إلى حدّ بعيد في توفير الحجج الإمبريقية لباحثي الجيوبولتيك ودفعهم نحو إنقاذ الطروحات الوضعية العلمية لهذا الحقل المتشتّت بين ضربات العولمة من جهة، وما أحدثته النزعة التهديمية التفكيكية التّي حملتها التيارات ما بعد الوضعية من جهة أخرى، الأمر الذّي أدّى إلى إحياء الطروحات الجيوبولتيكية الكلاسيكية من جديد التّي حاججت باستمرار الدور الفاعل لعامل الجغرافيا في تفسير عالمنا المعاصر بنفس الطريقة التّي كانت تفعل في عالم ما قبل العولمة والثورة التكنولوجية.

لقد نظر الجيوبولتيكيون الجديد إلى الطروحات العولمية المشار إليها سابقا باعتبارها مجرد أوهام معرفية، بل إنّ بعضهم رأى أنّ العولمة كان لها أثر إيجابي على الجيوبوليتيك، في هذا الصدد يحاجج الباحث ستانيسلاو بيلين (Stanislaw Bielen) بأنّ كلاّ من العولمة والجيوبوليتيك ما هما إلاّ وجهان لعملة واحدة كما يُقال، فكلاهما يُعدُّ مهمّا ومركزيا في عملية تحليل العلاقات الدولية، فالجيوبوليتيك تهتّم بتوازن القوى الذّي تشكّلها الآن –أو من المحتمل أن تشكّلها مستقبلا- القوى العظمى، في حين تقوّي العولمة في الحقيقة من عملية نمو الاعتماد المتبادل، التعاون الدولي وعملية إنضاج التكاملات الدولية والإقليمية، فهي تقلّل إذن من المنافسات الجيوبوليتيكية لكنّها لا تُلغيها.6 لذلك، فالجغرافيا لا تزال مستمرة التأثير معنا في هذا العصر، من الممكن أنّه قد تمّ “نسيانها لكنّها لم تُهزم بعد” على حدّ تعبير عالم الجغرافيا بجامعة جونز هوبكينز الأستاذ ياكوب ج. غريجل (Grygiel)، كذلك يُحاجج السيد كولن س. غراي (Gray) والذّي عمل مستشارا للشؤون العسكرية في الحكومتين الأمريكية والبريطانية، بأنّ: “إلغاء التكنولوجيا للجغرافيا يتضمّن ما يكفي تماما لأن يُطلق عليه تسمية مغالطة معقولة”، ويضيف محاججا بما حدث في حربي أفغانستان والعراق بقوله: “لقد رأينا ما حدث في العراق وأفغانستان، يتطلّب الأمر –دوما- ممارسة النفوذ أو السيطرة المستمرة على الأرض.. فالوجود المادي لأفراد مسلّحين في منطقة معيّنة يُعدّ أمرا ضروريا”، هذا ما جعل روربت كابلان يرى بأنّ أي شخص قد يعتقد حقّا أنّ الجغرافيا قد تضاءلت أهميّتها بصورة محورية فهو شخص شديد الجهل بالخدمات اللوجيستية العسكرية، وهي السبيل المعني بنقل كميات كبيرة من الرجال والعتاد من قارة إلى أخرى، ففي تحليل حصيفٍ نُشر سنة 1999، كتب المؤرخ الأمريكي وليامسون موراي (Murray) أنّ القرن الجديد الذّي يوشك على البدء من شأنه أن يجعل الولايات المتحدة تواجه مرّة أخرى “الواقع الجغرافي القاسي” المفروض من المحيطين، ممّا قد يقيّد على نحو مذهل من تكلفة نشر قواتنا البرية في أماكن بعيدة. وفي حين يمكن إنهاء بعض الحروب ومهام الإنقاذ بسرعة عن طريق “الإغارة” المحمولة جوّا، فإنّ التضاريس تلعب هنا دوما مهمّا في تسهيل أو عرقلة العملية (وهنا يشير كابلان كمثال على ذلك إلى الهجوم الإسرائيلي على مطار عنتيبي بأوغاندا سنة 1976 لإنقاذ ركاب طائرة مختطفة). تحدّد التضاريس إذن وتيرة القتال وطريقته، فقد نشبت حرب الفوكلاند سنة 1982 ببطء بسبب البيئة البحرية، في حين عملت الصحاري المسطّحة للكويت والعراق في حرب الخليج سنة 1991 على تضخيم تأثير القوة الجوية، على الرغم من أنّ السيطرة على مساحات شاسعة وعالية الكثافة السكانية في العراق إبّان حرب الخليج الثانية أظهرت حدود القوة الجويّة، وبالتالي جعلت القوات الأمريكية ضحيّة للجغرافيا كما يضيف كابلان، يمكن للطائرات أن تقوم بالقصف لكنّها لا تستطيع نقل البضائع بكميات كبيرة ولا ممارسة السيطرة على الأرض، وبالإضافة إلى ذلك تتطلّب الطائرات وجود قواعد قريبة بشكل معقول في كثير من الحالات. 7

كمثال أخير، يُقدّم كابلان في إحدى دراساته منطقة شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي بالضبط كمثال يُحاجج من خلاله باستمرار دور عامل الجغرافيا في تحديد طبيعة ومسار الحروب والنزاعات المستقبلية بالرغم من كلّ المعطيات الجديدة التّي حاولت العولمة فرضها، يقول: “تُعّد منطقة شرق آسيا منطقة واسعة، تتجّه نحو الاتساع فتقترب من القطبين الشمالي والجنوبي –من جزر الكوريل في الشمال إلى نيوزيلاندا جنوبا- متصِّفة بمجموعة من الخطوط الساحلية والجزر المعزولة. حتّى لو تمّ الأخذ بعين الاعتبار كيف تمكنّت التكنولوجيا من التقليص الدراماتيكي للمسافة، فقد بقي البحر يشكّل في حدّ ذاته حاجزا عائقا أمام الاعتداء، على الأقل مقارنة بما تفعله اليابسة. لقد خلق البحر، لا الأرض، حدودا واضحة مُعرّفَة، منحته إمكانية تقليص احتمالية النزاع. فحتّى أسرع السفن الحربية فإنّها تُسافر ببطئ نسبيا، فلنقل بسرعة 35 عقدة بحرية، ممّا يتيح إمكانية تقليص الحسابات الخاطئة، ومنح الديبلوماسيين ساعات أكثر، وربّما أيام، ليعيدوا النظر في قراراتهم. لا تحتل السفن الحربية البحرية وكذا القوة الجوية الإقليم الأرضي بالشكل الذّي تفعل الجيوش. فبسبب إحاطة البحار بشرق آسيا –مركز الصناعات الكونية، مثلما هو مركز المقتنيات العسكرية المتصاعدة- فإنّ للقرن الحادي والعشرين حظّا أكبر من سابقه في تجنّب الحرائق العسكرية الكبرى”.8

هناك العشرات من الأمثلة التّي يُمكن تقديمها هنا للمحاججة باستمرارية تأثير عامل الجغرافيا الحاسم في تشكيل وتوجيه عالم اليوم، لأجل كلّ ذلك فقد كتب الإنجليزي غوردون إيست معترفا بالوضع المركزي للجغرافيا يقول إنّ: “الطبيعة تفرض والإنسان يُنفّذ”، من المؤكّد أنّ أفعال الإنسان تكون مقيّدة بالمُحدّدات (Parameters) التّي تفرضها الجغرافيا.9 صحيح أنّ الإنسان هو الذّي يبادر ويستخدم الجغرافيا أو يُعطلّها، لكنّ الجغرافيا هي التّي تحدّد مصيره، هذا ما لخصّه ماكيندر في جملة واحدة حينما قال أنّ: “الإنسان هو من يبادر وليس الطبيعة، لكن الطبيعة هي التّي تتحكّم بشكل أكبر”.10

2. لا يقين متأصّل، مصيدة ثيوسيديدس وعودة سياسة توازن القوى:

منذ نهاية الحرب الباردة تنامت الأصوات المُبشّرة “بنهاية التاريخ” مع الانتصار الساحق لليبرالية الغربية باعتبارها النموذج الأمثل للسعادة الإنسانية، فلم يتبّق في هذا العالم الجديد مُحفزّاتٌ تدفع بالأمم إلى التنافس وإثارة النزاعات حسبما ادّعى هؤلاء، فالعالم يتجّه بشكل ثابتٍ نحو التوحّد والتشكّل على الطريقة الليبرالية الغربية، كما أنّ الديمقراطيات الغربية لا تُقاتل بعضها بعضا لطالما تُوحدّها ذات القيم التّي تصنع بدورها رؤىً ومصالح مشتركة لهذه الدول، لقد صار العالم حسب الطروحات العولمية الليبرالية قريةً كونيةً واتجهت الشعوب تبعا لذلك نحو المجتمع العالمي الذّي يكون فيه تراجع دور الدولة كفاعل رئيسي أحد أبرز مظاهره، كما بشّر هؤلاء بملامح عالمٍ يسوده الاعتماد المتبادل بين الأمم ويصير فيه السعي نحو توحيد الاقتصاد والمعرفة مبلغا لهذه الأمم بدلا من الطموحات الجيوبولتيكية الضيقة الساعية نحو مجالات حيوية بعينها لأجل الهيمنة.

لكن، لم يدم “وهم العولمة الليبرالي” هذا عقدا من الزمن حتّى عادت السياسة الواقعية من جديد (Realpolitik) تُحدّد سلوكات الدول التّي لم تتمكّن المؤسّسات الاقتصادية والمنظمات الدولية من القضاء على هوس التنافس فيها والسعي نحو القوة والبقاء، لقد كانت وعود التقليل من حدّة الشكّ واللايقين في التفاعلات القائمة بين الأمم وعودا كاذبة كما لخصّها البروفيسور جون ميرشايمر في دراسته الناقدة آنذاك “الوعود الكاذبة للمؤسّسات الدولية”.11 بدا ذلك واضحا منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، الحرب العالمية على الإرهاب والغزو الأمريكي لأفغانستان ثمّ العراق وما تسبّب فيه هذا الغزو من تحوّلات على مستوى النظام الدولي، حتّى يمكن القول بأنّ الفترة التّي ساد فيها “وهم العولمة” هذا كانت هي ذات الفترة التّي عاش فيها النظام الدولي مجرّد فترة انتقالية وحسب من الأحادية القطبية، زال فيها هذا الوهم بمجرّد حدوث تراجع نسبي في وضع الهيمنة الأمريكية مرفوقا بتعافي القوى المنهزمة في التاريخ أي كلّ من روسيا-القيصرية والصين-المملكة الوسطى، فضلا عن ألمانيا واليابان باعتبارها قوى مدنية عظمى صاعدة.

عقدان من الزمن منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت كافية لإنهاء “لحظة الأحادية القطبية” التّي بشّر بها تشارلز كروثامر يوم انهزم السوفيات، لقد صارت ملامح هذه النهاية بادية للعيان مع كلّ حرب جديدة تُشن، أو حلف جديد يُعقد أو اعتراض فيتو مشترك في مجلس الأمن على إرداة الولايات المتحدة في مسألة دولية ما، حتّى صرنا نتحدّث اليوم عن ميزان قوى جديد يقسم العالم نصفين تقف في نصفه الشرقي قوى منافسة صاعدة تُوصف بالتعديلية على غرار الصين وروسيا في مواجهة قوى مقابلة تمثّلها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون تجد مصالحها محفوظة عبر الإبقاء على وضع الهيمنة قائما في النصف الغربي من العالم ومنع قوى الشرق من أن تُحاكي نموذجها في الهيمنة12، يُذّكرنا هذا الوضع تماما بالتوصيف الذّي قدّمه ثيوسيديديس في القرن الخامس قبل الميلاد في كتابه “حروب البيلوبوناز”، فقد اندلعت الحروب وتغيّرت موازين القوى في بلاد الإغريق القديمة حينما ترافق صعود أثينا وازدهارها مع خوف عميق تملّك إسبرطة على وضع الهيمنة والقوة التّي حظيت به حقبةً من الزمن، هذا ما يُسمّيه الباحثون المعاصرون “بفخّ ثيوسيديديس”(Thucydides’s Trap) ، يُفصّل البروفيسور غراهم أليسون (Graham Allison) هذه المسألة جيّدا في كتابه الحديث “مُقدّرٌ للحرب: هل بإمكان الولايات المتحدة والصين الفرار من مصيدة ثيوسيديديس؟” (Destined for War: Can America and China Escape Thucydides’s Trap?) ، إذ يرى أليسون أنّه وخلال ال 500 سنة الأخيرة وُجِدت 16 حالة شكّلت فيها قوى صاعدة حالة تهديد بإزاحة قوى قائمة من وضع الهيمنة، 12 حالة منها انتهت بخوض حروب طاحنة، فمصيدة ثيوسيديديس تُشكّلها أساسا حالة الخوف الذّي يُعزّزه سوء الإدراك بين الأطراف وعدم القدرة على تحديد النوايا بوضوح، إنّها حالة مستمرة رغم ما تُتيحه مخرجات العولمة من إمكانية للتواصل والاتصال.13

لم تشفع إذن المخرجات الإيجابية للعولمة كالمؤسّسات الدولية والاعتماد المتبادل والترابط الثقافي بين الأمم من القضاء على هوس الهيمنة والشعور بالخوف والاتجاه نحو تعزيز وضع الهيمنة والنفوذ بين الدول وإحياء سياسات توازن القوى والتصوّرات الواقعية المحضة لطريقة سير العالم كما كان من قبل، ولعلّ الأمثلة كثيرة يصعب حصرها هنا، تكفي الإشارة إلى التنافس الحاد بين الصين وجيرانها من جهة، والصين والولايات المتحدة من جهة أخرى في منطقة بحر الصين الجنوبي، عودة التهديدات النووية وتوازن الرعب في شبه القارة الهندية بين الهند وباكستان، التدخلات العسكرية التركية المتكرّرة عبر الحدود مع سوريا والعراق بغية تأمين أرض الوطن، المعضلة السورية التّي شكلّت مختبراً فعليا عزّز طروحات السياسة الواقعية REALPOLITIK)) وانكشفت فيه الوعود العولمية الليبرالية الزائفة والمبشّرة بعالم متجانس، حرب اليمن والتنافس بين الحليفين السعودي والإماراتي ذاتهما هناك فضلا عن حرب الوكالة التّي يخوضانها وإيران في اليمن، العراق، لبنان وسوريا، أزمة مضيق هرمز الأخيرة، التنافس المصري-الإريتيري الراهن، الحرب في ليبيا، المعضلة الأمنية بين الجزائر والمغرب وغيرها الكثير.

يبدو بأنّ العولمة لم تتمكّن من القضاء على سياسات توزان القوى والسياسة الواقعية التقليدية بقدر ما أدّت إلى تعزيزها أكثر، بل وصبغها بأشكال جديدة وحسب، فتراجع دور الدولة مثلا حسبما بشّر به هؤلاء صاحبه تحوّلٌ طبيعي أيضا في المفاهيم المركزية التّي قامت عليها الدولة الويستفالية وعلى رأسها مفهوم الأمن، فالأمن في هذا العالم الجديد لم يبق مرتبطا بالدولة وجيوشها ورؤاها الاستراتيجية، بقدر ما صار متعلّقا بالأفراد وحاجياتهم اليومية المتنوعة، كما لم تبق الدولة أصلا المُحتكر الوحيد لوسائل القهر المادي بعدما برزت الجماعات المقاتلة والإرهابية العابرة للحدود وجيوش المرتزقة وشبكات “الدارك ويب” وشركات الأمن التّي تستنجد بها الدولة ذاتها وقت الحاجة، هكذا تسبّبت العولمة في زيادة هوس الأمن في هذا العالم وتنويع أشكاله وتوسِعت مضامينه بدلا من التقليص منه أو تجاوز مسبّباته.

لذا، ستبقى الدول في القرن الحادي والعشرين في حالة تنافس وصراع من أجل المكانة والهيبة والنفوذ في عالم تحكمه السياسة الواقعية وحسابات توازن القوى، يُلخّص الفيلسوف الألماني أكسيل هونيث هذه القصة القديمة-المتجدّدة في عنوان كتابه الأشهر: “الصراع من أجل الاعتراف”، إنّه صراعٌ دائم لأجل الاعتراف.

3. دولُ الهَيْبَة، هَوَسُ الأمن وجاذبية القوة الصلبة:

في كتابه الأشهر “القوّة الناعمة، وسيلة النجاح في السياسة الدولية” سنة 2004، عبّر المنظّر الأمريكي جوزيف ناي بمصطلحه هذا عن المضمون الجديد الذّي أخذه مفهوم القوّة مع نهاية الحرب الباردة وما تبعها من تحولاتٍ، فلم يبق هذا المصطلح المفتاحي (أي القوة) في حقل العلاقات الدولية مرتبطاً بمعناه التقليدي المادي المنحصر في المجاليْن العسكري والاقتصادي فحسب، ولكنّه اتسّع ليعبّر أيضاً عن مضامينٍ ثقافيةٍ، معرفيةٍ وقيْميةٍ غير حسيّة، فالدول الطامحة إذا أرادت أن تبقى قويّةً أو تزيد من قوتّها فإنّ عليها أن تلتفت إلى قوتّها الناعمة مثلما يشير ناي، بمعنى أوضح، فإنّ القوّة الناعمة هي وسيلةٌ تُحقّقُ عبرها الدولة في سلوكها الخارجي تجاه الآخرين النتائج التّي تريدها وبتكاليفٍ أقلّ من دون أن تضطر إلى استخدام وسائلها العسكرية -كالحرب أو التهديد بشنّها، أو الإغراء بمكاسبٍ عسكريةٍ ما- أو استخدام وسائلها الاقتصادية -كالعقوبات الاقتصادية، الحصار التجاري أو التهديد بهما أو الإغراء بمكاسبٍ اقتصادية ما- تجاه هؤلاء كما كانت تفعل في الماضي. يقول جوزيف ناي: “يُمكن أن تتركّز القوّة الصلبة على المغريات (الجزرات) أو على التهديدات (العصيّ)، ولكنّك أحياناً تستطيع أن تحصل على النتائج التّي تريدها دون أيّة تهديداتٍ مملموسةٍ أو رشاوى، والطريقة غير المباشرة للحصول على ما تريد تُسمّى أحياناً ‘الوجه الثاني للقوة’. فقد يتمكّن بلدٌ ما من الحصول على النتائج التّي يريدها في السياسة العالمية، لأنّ هناك بلداناً أخرى –مُعجبةٌ بمُثله، تحذو حذوه، وتتطلّع إلى مستواه من الازدهار والانفتاح- تريد أن تتبعه. وبهذا المعنى، فإنّ من المهّم أيضاً وَضعُ جدولِ أعمالٍ واجتذابٍ الآخرين في السياسة العالمية، وليس فقط لإرغامهم على التغيير بتهديدهم بالقوّة العسكرية أو العقوبات الاقتصادية، فمعنى القوّة الناعمة -جَعْلُ الآخرين يريدون ما تريد- أي أن تجعلهم في وضعِ اختيارٍ بدلاً من إرغامهم.. والقوة الناعمة ليست شبيهةً بالتأثير فقط، إذ أنّ التأثير قد يرتكز على القوة الصلبة للتهديدات والرشاوى، كما أنّ القوّة الناعمة أكثر من مجرّد الإقناع أو القدرة على استمالة الناس بالحجّة، ولو أنّ ذلك جزءٌ منها، بل هي أيضاً القدرة على الجذب، والجذب كثيراً ما يُؤدّي إلى الإذعان.”14

فمنذ أن صكّ جوزيف ناي مصطلحه الأشهر هذا ارتبط مدلول الجاذبية بالأدوات الثقافية والقيمية التّي توّلدها الدول عبر تطوير نماذج خاصّة تجعلها مغرية بالاتباع والإذعان، كوسيلةٌ تُحقّقُ عبرها الدول في سلوكاتها الخارجية النتائج التّي تريدها وبتكاليفٍ أقلّ من دون أن تضطر إلى استخدام وسائلها العسكرية (أي قوتّها الصلبة) التّي تكون في العادة مكلفةً جدّا. لقد أحدث هذا المفهوم مذ ذاك الحين أثرا كبيرا على المستويات الرسمية والأكاديمية، فكثير من الدول اتجهت للبحث عن مصادر قوتّها الناعمة ‘لتضرب في السياسة الدولية بقوة وبتكاليف أقلّ” على حدّ تعبيره، لكن ما تفعله بعضٌ من الدول الصاعدة في القرن الحادي والعشرين على غرار روسيا-بوتين يبدو مختلفا، كلاسيكيا جدّا، إنّها تولّد جاذبيةً جديدة من مصادر تقليدية للقوة بشكلٍ صار مغريا بالجذب والمحاكاة. 15

في تعليق له على سؤال ورادٍ بخصوص إمكانية مساعدة روسيا للمملكة العربية السعودية بعد هجمات أرامكو، قال الرئيس بوتين جملة ذات دلالات عميقة: “يكفي أن تتّخذ القيادة السياسية في المملكة العربية السعودية قراراً، كما فعل قادة إيران، وهو شراء منظومة إس-300، أو كما فعل الرئيس أردوغان الذّي اشترى من روسيا أحدث منظومة للدفاع الجوي إس-400.. بذلك سيتمكنون من حماية البنى التحتية في المملكة”، جاء تعليقه مرفوقا بابتسامة ثقة عالية ارتسمت على وجهه متبوعة بضحكات وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف باجتماع ثلاثي عُقد بأنقرة شهر سبتمبر 2019 ضمّ كلاًّ من القادة أردوغان، بوتين وروحاني.

يبدو أنّ ثقة الرئيس بوتين هذه نابعة من إدراكه العميق بأنّ بلاده دخلت مرحلة التفوّق النوعي على حساب منافسها الأول الولايات المتحدة، على الأقل في مثل هذه المجالات العسكرية الاستراتيجية التّي لم تبق كما كانت في الماضي حكراً على الغرب المتطوّر، خاصّة بعدما أثبتت منظومات الدفاع الروسية في ساحات معارك الشرق الأوسط نجاعتها الردعية خلافا لمنظومة باتريوت الأمريكية، حتّى صار حلفاء أمريكا أنفسهم يتقدّمون الواحد تلو الآخر بطلبات علنية وسرّية لشراء منظومة أس-400 الروسية، بل لن يتوّقف الأمر في نظرنا مستقبلا على مجرّد شراء بعض الدول للمنتجات العسكرية الروسية وحسب وإنّما قد تتجّه بعض منها إلى مُحاكاة النموذج الروسي في الحكم كما حدث ويحدث الآن في الجزائر، الأمر الذّي يجعلنا نُحاجج هنا بقدرة الدول في القرن الحادي والعشرين على خلق نموذج مغري بالتقليد وبوسائل تقليدية واقعية محضة أو بالأحرى، توليد جاذبية وإغراء عبر قوتّها الصلبة خلافا لما صار مألوفاً منذ شيوع أسلوب القوة الناعمة الليبرالي بين الدول.

تُعتبر كلّ من الصين، سوريا، إيران، الجزائر -ثمّ تركيا وباكستان السائرة في الطريق- نماذجا راهنةً عن دول تتجّه إلى محاكاة النموذج الروسي في القيادة أو التسلّح أو حتّى في طبيعة التصوّرات الاستراتيجية الكبرى لها، قد يبدو الأمر أكثر وضوحا بمراجعة العقائد العسكرية لهذه الدول ومقارنتها أو من خلال مقارنة القيم والهواجس المُحرّكة لنخبها الحاكمة، أو بمقارنة الثقافة السياسية لدى شعوب هذه الدول (نظرتها للديمقراطية الليبرالية مثلا)، أو كما ذكرنا في مقال آخر من خلال ملاحظة العلاقة القائمة بين جغرافية هذه الدول وطبيعة نظم حكمها.

وبالرغم من التفوّق العسكري الأمريكي العالمي إلاّ أنّ التكنولوجيا العسكرية الأمريكية لا تغري اليوم بالاقتداء والاقتناء كما تفعل نظيرتها الروسية، ربّما لكوْن الولايات المتحدة بترسانتها الخارقة لم تبق بالنسبة لدول كثيرة مصدرا للأمن والأمان، خلافا لروسيا التّي تحرص دول كثيرة كالتّي ذكرناها آنفا على إبقاء أو نسج علاقات استراتيجية معها، ربّما يرجع ذلك إلى الالتزام الروسي العملي بالدفاع عن الحلفاء كما حدث مع النظام السوري مؤخّرا، في مقابل السلوكات الأمريكية عبر التاريخ في خذلان حلفاءها لحظات الحاجة المُلحّة، والاستثمار لصالحها في الأزمات التّي يتعرّض لها هؤلاء الحلفاء عبر أسلوبها المعهود في إدارة الأزمات لا حلّها، خاصّة منذ وصول ترامب للبيت الأبيض وتبنّيه لمبدأ “أمريكا أولّا” وهو المبدأ الذّي يجعل الولايات المتحدة تسحب تدريجيا التزاماتها من مناطق عديدة في العالم، الأمر الذّي يثير مخاوف حلفائها التقليديين الذّين يعتمدون بشكل حسّاس على التواجد العسكري الأمريكي على أراضيهم أو في جوارهم الإقليمي، مخاوفٌ زادت من جدّيتها خطابات ترامب الحادّة سابقا تجاه اليابان، كوريا الجنوبية، الدول الحليفة في بحر الصين الجنوبي، وأوروبا الغربية، فضلا عن حلفاءها الخليجيين.

لقد أشار الباحث بيركشير ميلر (Miller J, Berkshire) في إحدى مقالاته إلى خطورة تعرّض المصداقية الأمريكية في مثل هذه الأقاليم الحسّاسة إلى التآكل، مُحيلا المتابعين إلى تصريح ذي دلالة مخيفة لرئيس الوزراء السنغافوري بشأن احتمال تخلّي واشنطن عن اتفاقيّة التجارة حينما قال: “كيف يمكن لأيٍّ كان –في الإقليم- أن يُؤمِن بالولايات المتحدة أكثر؟” هنا يؤكد ميلر أنّ هذا التآكل في الإيمان بالولايات المتحدة ليس مرتكزا لوحده على التجارة، “ولكنَّ الشكّ الأعظم متعلّق بمدى رغبة واشنطن في البقاء باعتبارها الفاعل الأساسي في تشكيل المشهد السياسي والأمني في الإقليم”.16

في نظرنا سوف يُساهم التراجع النسبي للولايات المتحدة لا محالة في تنامي جاذبية القوى الصاعدة على غرار روسيا والصين، جاذبيةٌ أساسها “الرغبة أو الرهبة” لا يهمّ، لكنّها جاذبية تجعل كثيرا من القوى الثانوية والمتوسطة على المسرح الدولي تلتّف حول هذه الدول وتنحو إلى تقليد نموذجها في الحكم والدفاع. هذا ما يتّفق معه الباحث كويك (Kuik Cheng-Chwee) أستاذ الدراسات الاستراتيجية والعلاقات الدولية بالجامعة الوطنية الماليزية في سياق حديثه عن صعود الصين ومنحى السلوك الذّي تأخذه القوى الثانوية والمتوسطة المحيطة بها لاسيما في منطقة بحر الصين الجنوبي وذلك حينما يرى “أنّ تنامي قوة الدولة الصاعدة قد يكون مصدرا لتصاعد مخاوف الدول الصغرى لكنّه في الوقت نفسه قد يكون مصدر جذبٍ وإغراء لها تجاه هذه القوة”17، كما أنّ ما يجعل القوة الصاعدة (على غرار روسيا أو الصين) قوة جذّابةً أو مخيفةً بالنسبة للدولة الصغيرة هو تدخّل عامل آخر متعلّق بالنخبة ومدركاتها على المستوى الداخلي لكلّ دولة، وإرادتها الذاتية في شرعنة وتبرير وكسب التعاطف مع السلطة السياسية الداخلية التّي تقودها، كما حدث تماما في الدول آنفة الذكر.

سوف تستمر القوة الصلبة الروسية في الجذب ودفع الآخرين إلى محاكاة خيارات الدفاع الروسية، تصوّرات الروس عن الأمن والسلم العالميين بل وحتّى محاكاة النموذج الذّي ضربه بوتين في الحكم على المستوى الداخلي أيضا، ما دامت النخبة الروسية الحاكمة سائرة في تطوير نموذج حكمٍ خاصّ مستقر يحقّق ازدهارا نسبيا على المستوى الداخلي ونجاحا نسبيا في تحدّي الهيمنة الأحادية للولايات المتحدّة على المستوى الخارجي واللعب بخطوات عقلانية براغماتية من دون خذلان ثقة الحلفاء والأصدقاء.

لذلك، وبالرغم من المكاسب الهائلة التّي تُحقّقها القوة الناعمة التّي يطرحها الليبراليون والعولميون كبديل -عن قوة الصلبة الكلاسيكية- أكثر تناسقا مع خصائص عصر العولمة الذّي يبشّرون به، إلاّ أنّ القوة الناعمة للدول قد تتوقّف عن الإشعاع لمجرّد إرتكاب خطأ جسيم على المستوى الداخلي (تدهور حالة الديمقراطية) أو الخارجي (التوّرط في حرب ما)، كما قد لا تكفِ القوة العسكرية الخارقة لوحدها لتصير الدولة نموذجا جذّابا، لكن إذا ارتبطت القوة العسكرية للدولة بالتزام جدّي تُبديه تجاه الأصدقاء فستصير ذا هيبةٍ جاذبةٍ في عالم يبقى فيه الأمن والبقاء أوليةً حيويةً لدى الدول، هذا ما تُعلمنّا إيّاه جاذبية القوة الصلبة المهيبة لروسيا المعاصرة، في هذا الصدد، يبدو بأنّ نصائح ميكيافلي لأمير فلورنسا في العالم القديم تُطبّق حرفيا في القرن الحادي والعشرين من قِبل قواه الصاعدة وكأنّه يكتبها لأجل الرئيس بوتين وبلده روسيا، “فالأفضل أن تكون مرهوبا على أن تكون محبوبا، ولا يكون الخوف منك مرتبطا بالحقد عليك، عليك أن تكون أسدا وثعلبا في نفس الوقت، لا تولي ثقتك بالمرتزقة، لا تبق على الحياد بينما جيرانك يخوضون حربا”، هكذا تكلّم ميكيافلي.

4. أفول التكاملات وعودة العنصريات القديمة:

من تجليّات العولمة التّي كرّس لها الليبراليون كثيرا من أعمالهم ظاهرة التكاملات، فمنذ سقوط جدار برلين صارت التكتّلات والتجارب التكاملية الإقليمية موضة العصر روّج لها الليبراليون في كثيرٍ من الأحيان باعتبارها بديلا ممكنا للدولة في المستقبل المنظور، لاسيما بعدما قدّم الأوروبيين مثالا ناجحا في تحقيق الازدهار والتنمية بين شعوبهم ونزع فتيل الحروب والإنقاسامات التّي عرفتها أوروبا منذ سقوط روما القديمة. لقد ساهمت هذه التجربة في إحياء أو تعزيز كثير من المحاولات التكاملية في أقاليم عديدة من العالم من “آسيان” في جنوب شرق آسيا إلى “الماركيسور” في أمريكا اللاتينية، كما ساهمت مخرجات العولمة في تسهيل الأهداف التكاملية للدول عبر ما وفرّته شبكات الاتصال والتواصل من خدمات حتّى صار الباحثون يتحدّثون عن نمط جديد من التكاملات العابرة للأقاليم الجغرافية البعيدة أو ما يُسمى بالإقليمية الجديدة التّي لا تتطلّب تقاربا جغرافيا بين الدول الراغبة في التكامل أو الشراكة كما كان الأمر عليه في الماضي ولعلّ أحسن نموذج لذلك كان منظمة آسيا-الباسيفيك “الآبيك”، أمّا “الخدمة الجليلة” الأبرز التّي قدّمتها هذه التجارب التكاملية فهي منع تطوّر الخلافات السياسية بين الدول إلى حروب ونزاعات طاحنة كما كان يحدث في الماضي، في العالم القديم، بعدما تمكّنت من خلق مساحات ربح ومكاسب مشتركة وتأثير متبادل إيجابا وسلبا (interdependence, vulnerability and sensitivity) تجعل الدول تفكّر ألف مرّة قبل اتخاذ قرار الحرب، إلاّ أنّ السؤال الأهمّ الذّي نطرحه هنا: إلى أيّ مدى ستتمكّن من إطالة هذا الوضع؟

في نقاشه لادعاءات الليبراليين المؤسّساتيين، يُحاجج البروفيسور جون ميرشايمر أنّه لمن الصعب إيجاد دارس جدّي يبرهن بأنّ الأمم المتحدة أو أيّ مؤسّسة دولية أخرى بإمكانها أن تكره القوى الكبرى على فعل ما أو من المحتمل أن تحملها على ذلك في أيّ وقت قريب، كما لا يوجد إلى الآن بديل أنسب عن الدولة في الأفق القريب يضع على سبيل المثال إعداداتٍ سياسية عوضا عنها (على غرار الاتحادات التكاملية مثلا)، بالطبع فليس هناك شيء يستمر للأبد، لكن هناك سبب قويّ يدفع للإعتقاد بأن زمن سيادة الدولة لم ينته بعد، كما يقول.18

إنّ أحد الأسباب الكامنة وراء ذلك هو عامل القومية (Nationalism) الذّي يرى فيه ميرشايمر وكثير من الباحثين بمثابة “الإيديولوجية الأكثر قوة في القرن الحادي والعشرين” كما كان من قبل دوما، فهذا العامل يرتبط أساسا بالدولة القومية (Nation State) التّي تبقى بمثابة الفاعل الأساسي في النظام الدولي كما تبقى الشعوب عبر العالم موالية بعمق لدولها، أمّا الشعوب التّي لا تحظ بدولة، كالفلسطينيين مثلا، الأكراد والشيشانيين، فإنّها عازمة على خلق واحدة على حدّ تعبير ميرشايمر، وليس هناك سوى علامات قليلة توحي بتلاشي مبدأ القومية أو الدولة القومية في أيّ وقت قريب، يضيف أيضا بأنّ عددا كبيرا من شعوب العالم تتمسّك بالدولة نظرا لتطلّعها لتحقيق الأمن الإنساني، فالشعب الذّي لا يحظ بدولته الخاصّة يكون مُعرّضا في العادة إلى السلب والافتراس من قِبل الآخرين. كما أنّ ترجيح الشعوب لمبدأ القومية على مبدأ الديمقراطية الليبرالية يُعدّ أبرز الأسباب التّي تقف وراء إنهزام الجيشين الأمريكي والبريطاني في العراق، وتقويض مشاريع ترويج الديمقراطية التّي حاولت الإدارات الأمريكية تجسيدها في مناطق على غرار الشرق الأوسط، شرق أوروبا أو جنوب شرق آسيا كذلك. 19

يُعرّف الباحث فلوريان بييبر (Florian Bieber) القومية بأنّها: “إيديلوجية ضيّقة مرنة تُعطي قيمة لعضوية الفرد في الأمّة ‘Nation’ بناءً على جنسه، حزبه، مجموعته السوسيو-اقتصادية وغيرها، تسعى إلى التميّز عن القوميات الأخرى وتعمل جاهدة للحفاظ على الأمّة، وإعطاء التمثيل السياسي للأمة عبر الأمة”، ويميّز بييبر بين القومية الكامنة والمتواجدة بشكل طبيعي في كلّ مكان وبين تلك التّي تستبعد المهاجرين وتُقصي الأقليات وتتسّم بكونها “قومية مبتذلة شريرة” كما يصفها الأستاذ مايكل بيليج Michael Billig))، 20 تُساهم عوامل عديدة في صعودها على غرار الشعور بالفخر الزائد بالتميّز القومي الضارب في التاريخ، العزلة عن المجتمعات الأخرى، تدنّي الثقة في الهويات الأخرى، صعود إشكالية الدولة والهويات الإثنية الأخرى وغيرها.21

لقد صارت النزعة القومية اليوم ظاهرة سائدة في كلّ بقعة من بقاع الأرض، فلنلاحظ شعارات ترامب منذ وصوله للبيت الأبيض “أمريكا أولا”، الرغبة المُلحّة لبوريس جونسون في الخروج ببريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الخطابات الشرسة المشبّعة بروح القومية لقادة الهند وباكستان ضدّ بعضهما البعض، النزعة التحرّرية المُتحدّية التّي يُبديها الرئيس أردوغان في خطاباته المتكرّرة والتّي تحرص على جعل تركيا والأتراك طرفا فاعلا لا تابعا للهيمنات الأجنبية في النظام الدولي، “فالعالم أكبر من خمسة” كما يردّد دوما، فضلا عمّا تبديه دول على غرار اليابان، كوريا الشمالية، الفلبين، روسيا والصين من طموحات تحرّرية تجعل من قومياتها مركزا للعالم محاولةً كسر مركزية الغرب في كلّ مرّة يُتاح لها ذلك. إنّ نَزَعاتٍ قومية كهذه تبدو بشكلٍ أوضح حينما تفشل الدبوماسية وتبدأ الحرب، فالشرق الأوسط وأزماته صار مختبرا فعلياً لملاحظة صعود القوميات الإثنية الصغيرة التّي تُروّج لنفسها باعتبارها كيانا متميّزا ومستقلا، بشكل يجعل من مهمّة الحفاظ على وحدة الدولة هناك مهمّة صعبة جدّا لصنّاع القرار فضلا أن تُتاح لهم فرصة التفكير في تجسيد تكاملات أو اتحادات عابرة للقوميات والحدود ينتقل فيها ولاء الفرد بشكلٍ تدريجي نسبي من الدولة إلى المؤسّسات الاتحادية العليا.

حتّى ولو أخذنا الاتحاد الأوروبي باعتباره النموذج الأمثل لطروحات التكامل والاندماج العولمية الليبرالية وأردنا أن نتفحّص وضعه الراهن ومآلاته القادمة بعد مرور عقدين ونصف تقريبا من تأسّسه ونجاحاته، فإنّ الملاحظة الأبرز التّي تكشف نفسها لنا بوضوح هي صعود القوميات المتطرّفة ونزَعات “البريكسيت” الانفصالية، زيادة العداء والخوف من الأجانب (Xenofobia) وانتشار “الإسلاموفوبيا” والخوف من ضياع “الهويّات الأصيلة” بين الأوروبيين، إذ لا تكاد دولة أوروبية تخلو من إحدى هذه المشكلات أو من تنامي تيّارات سياسية تحشد نحو هذا الاتجاه وتجد تعاطفا لا بأس به من فرنسا إلى إيطاليا، فألمانيا وهولندا إلى بريطانيا العظمى، وذلك بالرغم من المخرجات الإيجابية للعولمة التّي من المفترض أنّها قرّبت مسافات التعارف بين الشعوب، زادت من نسب التعلّم بين الأفراد وقلّلت بما تتيحه من تدفّق للمعلومات وتقارب للثقافات من شعور الخوف اللا مبرّر تجاه “الآخر المجهول”، أليس هذا هو الوضع القديم الذّي كان عليه عالم ما قبل العولمة بالضبط، أين سادت العنصريات القديمة بقوة مدفوعة بتبريرات أنثروبولوجية أو بيولوجية وضعية؟ إنّه زمن العنصريات القديمة المتدثّرة بثوب جديد اسمه النَزعة القومية.

يرتبط صعود هذه الظاهرة وتراجع الاتحادات التكاملية بشكلٍ عضوي بالعناصر الأربعة السابقة، لاسيما مسألة عودة سياسة توازن القوى التقليدية، فالأروبيون على سبيل المثال ومنذ سقوط جدار برلين وتأسّس دولة روسيا الفدرالية اعتقدوا -مدفوعين بوعود المؤسّسات الليبرالية وأوهام العولمة والقرية الكونية الواحدة- بأنّ روسيا تمرُ بفترة تحوّل جذري فيما يتعلّق بتصوّراتها للسياسة الدولية، إذ أدرك قادتها بأنّ مواصلة السعي للقوّة هدفٌ لن يعزّز الأمن الروسي في الغالب، وهذه اللحظة أفضل فرصة في نهاية المطاف لتحقيق العمل المشترك مع الغرب جنبا إلى جنب من أجل إيجاد نظام أمني سلمي عبر كامل أوروبا، الأكثر من ذلك يُحاجج البعض أنّه مع اندلاع الحرب الباردة فقد جهّزت دول الاتحاد الأوروبي الحالية الأسّس من أجل إقامة نظام سياسي مستقر في غرب أوروبا وعبر القارة بأكملها. لكن يبدو جليّا أنّ هذه المسائل خرجت عن هذا المسار في أوروبا، فقد جهّز حلف الناتو لا الاتحاد الأوروبي قواعد الاستقرار في النصف الغربي من القارة، والناتو كما هو معروف عبارة عن مؤسّسة عسكرية، الأكثر من ذلك فقد أزعج توسّع الناتو شرقا الروس الذّين بدأوا يفكرون ويتصرّفون تماما بمنطق الواقعيين القدماء، كما يُحاجج ميرشايمر. يكفي التأمّل فيما قاله الرئيس فلاديمير بوتين سنة 2000 في صدد حديثه عن مفهوم الأمن القومي الروسي الحديث حينما وصف العلاقات الدولية الراهنة بأنّها ذات طبيعة “مصحوبة بالتنافس وأيضا بطموح عدد من الدول من أجل التمكّن من تقوية مدى تأثيرها في السياسة العالمية بما فيها تحصيل أسلحة الدمار الشامل”، ليُؤكّد بأنّ: “القوة العسكرية والعنف يُمثّلان المظاهر المادية للعلاقات الدولية اليوم”.22

الدليل الآخر الذّي يُقدّمه الواقعيون خصوصا للمحاججة بعدم اختفاء سياسة القوة بعد من أوروبا رغم تجربة التكامل المثالية التّي قدّمها الأوروبيون، هو إحتفاظ الولايات المتّحدة الأمريكية بمائة ألف جندي في المنطقة هناك، والتّي تُعدُّ منطقة ذات أهمية كبرى في إبقاء الناتو حيّا ونشطا في آن”، فلو أُسّست أوروبا على السلام الديمقراطي كما يدّعي الليبراليون العولميون فإمكان الناتو أن يُسرَّح وأن تُرسل القوات الأمريكية إلى الديار. في الحقيقة، وكما يُحاجج ميرشايمر: “فإنّ تمركز الولايات المتحدة في المنطقة راجع إلى احتمال اندلاع تنافس أمني شديد في أوروبا وقد حسمت الولايات المتحدة الأمريكية أمرها في الحفاظ على الأمن والحيلولة دون انفلاته هناك”. إلى جانب ذلك يتسائل ميرشايمر: “لماذا تُنفق واشنطن كلّ عام مئة مليون دولار للحفاظ على حضور عسكري واسع في أوروبا؟” ليُجيب: “يبدو بأنّ الكثير من الأوروبيين يعتقدون أنّ الولايات المتحدة تُحافظ على غطاء التنافس الأمني في إقليمهم، فما بين سنيْ 1990 و1994 قام روبت آرت بأكثر من مائة مقابلة مع نخب سياسية عسكرية أوروبية، فوجد بأنّ الأغلبية تعتقد بأنّه: “إذا ما سحب الأمريكيون مظلّتهم الأمنية من أوروبا فإنّ دول غرب أوروبا بإمكانها العودة بسهولة إلى سياسة القوة الهدّامة التّي قضى الأوروبيون للتو الـ 45 سنة الأخيرة محاولين إبعادها عن قارتهم”، هذا ما جعل كريستوف برترون ((Christoph Bertron المدير السابق للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن وأحد مفكري الاستراتيجيات الأساسيين في ألمانيا يكتب سنة 1995 قائلا: “بتسريح الناتو سوف نُعرّض أوروبا إلى حالة عميقة من اللاأمن… بإمكان ذلك أن يكون كارثة استراتيجية فعلا.. وفي حالة ما إذا أدارت الولايات المتحدة الأمريكية ظهرها لأوروبا سوف ينهار الناتو وستصل أوروبا إلى نقطة اللاتكامل، سوف تبرز ألمانيا كقوة مهيمنة في غرب أوروبا، بينما ستبرز روسيا كقوة مزعجة في شرقها، سوف تفقد الولايات المتحدة الأمريكية الكثير من سلطتها الدولية، لذلك فهو الوسيلة الأمثل للمساعدة على حماية الإستقرار الأوروبي من النزاعات الدولية المشتعلة مجدّدا”.23

5. “دولة الرجولية” (The Manhood State)، تراجع المؤسّسات وعودة الزَعامات الفردية:

الهزائم المتتالية التّي ألحقتها الليبرالية بالفاشيات الأوروبية مع نهاية الحرب العالمية الثانية ثمّ بالشيوعية السوفياتية مع سقوط جدار برلين، كرّست إنطباعا بأنّ عصر الزعامات الكاريزماتية التّي تقود الدول والشعوب نحو التحدّيات، التحرّر فالأزمات والحروب مدفوعة بطموحات فردية عصرٌ قد انتهى إلى غير رجعة، فنحن مُقبِلون على حقبة جديدة تحكمها عقلانية البيروقراطيات ومؤسّسات الحوكمة الرشيدة أين يصير فيها رأس الدولة محكوما بدساتير ومؤسّسات راسخة وبرلمانات ديمقراطية ليبرالية تحمل صوت الشعوب فيصير القرار مُخرجاً جماعيا يتشارك في صنعه الجميع، الأكثر من ذلك، فإنّنا متوجّهون إلى رشادة أو حوكمة عالمية ومجتمع عالمي ذا قيمٍ ومصالح إنسانية واحدة مشتركة.

لقد أثبت النصف الأول من القرن الحادي والعشرين أنّ حقبة كهذه لم تكن إلاّ مجرّد أوهامٍ روّج لها الليبراليون العولميون لتكون “وقوداً علمياً” لتبرير مشاريع سياسية تهدف إلى تشكيل عالمٍ على صورة أمريكا المنتصرة، إنّه مشروع “الهيمنة الليبرالية” (Liberal Hegemony) أو ما يصفه البروفيسور جون ميرشايمر بدقّة مختصرة عبر عنوان كتابه الأخير “الوهم الأعظم: الأحلام الليبرالية والحقائق الدولية” (The Great Delusion: Liberal Dreams and International Realities).

لعلّ السمّة الأبرز في النظام الدولي القائم هو صعود ما يُسمّى بالدول التعديلية (The Revisionist States) على غرار الصين وروسيا، فخلافا لدول الوضع القائم (الستاتيكو) التّي تُشارك –أو شاركت منذ أمد- في تصميم “قواعد اللعبة” بالنظام الدولي وتعمل على الاستفادة من تلك القواعد ما أمكن، فإنّ القوى التعديلية أو المتحدّية كما أشار إلى ذلكّ كلّ من أورغانسكي وكوغلر هي تلك التّي تريد “مكانا جديدا لها في المجتمع الدولي” يتناسب مع قوتّها، إنّها تُعرب باستمرار عن “عدم رضا عام” بخصوص مكانتها في النظام، وتسعى حسب بعض الواقعيين كلّما وجدت فرصا أنسب إلى تغيير التوازن القائم كي يصبح في صالحها إذا كانت فوائد ذلك تفوق التكاليف. أمّا راندل شفيللر ((Randall L. Schweller فيُقدّم تمييزا أدّق من الذّي قدّمه أسلافه الواقعيين من قبل حينما يرى أنّ: “الدول التعديلية هي تلك التّي تُعظّم (تعطي قيمةً أعلى) ما تشتهيه أكثر ممّا تمتلك حاليا، سوف توظّف هذه الدول القوة العسكرية لتغيير الوضع القائم وتوسّع حدود ما تُعظّمه وتشتهيه”.24

من الملاحظ أنّ القوى التعديلية الراهنة في النظام الدولي بلغت وضع التحدّي بعدما عرفت تحوّلات داخلية عميقة قادها زعماء بقدرات شخصية متميّزة على غرار الرئيس فلاديمير بوتين في روسيا أو الزعيم الصيني هو جينتاو وخلفه تشي جينبينغ أو الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، أو حتّى الزعيم التركي الحالي رجب طيّب أردوغان الذّي نقل تركيا من مجرّد دولة هامشية تُؤدّي المهام الموكلة إليها من قِبل الناتو إلى دولة ذات ثقل إقليمي يردّد زعيمها في كلّ مناسبة عالمية أنّ “العالم أكبر من خمس”، في إشارة منه إلى ضرورة مراجعة القواعد التّي بُني عليها النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية والتّي احتكرت بموجبها قوى خمس حقّ الفيتو وتقرير مصير هذا العالم.

بالطبع، فلا يرى دعاة “الهيمنة الليبرالية” في هذا النمط من الدول والزعامات سوى دولاً رجعية وقادة ديكتاتوريين لا عقلانيين يُساهمون في جعل العالم مكانا أكثر خطورة للعيش، فخطابهم تقريري يسعى لتكريس قناعات كهذه بدلا من توجيه قليل من النقد إلى السياسات الليبرالية للبيت الأبيض التّي تُحاول صنع عالم مُنمّط على شاكلة أمريكا عبر ممارساتٍ إقصائية راديكالية لبقية الثقافات والقوميات المتعدّدة في العالم عبر خطاب العولمة الذّي يذيب الجميع في قالب ليبرالي واحد مُبشّرا بأوهام إنسانية وتحدّيات بشرية مشتركة تتطلّب توحيد الجهود.

ربّما تكفي الإشارة هنا إلى آخر عدد صادر لمجلة الشؤون الخارجية (Foreign Affairs) ليبيرالية الهوى والذّي حمل عنوان: “أوتوقراطية اللحظة: ما الذّي تُخفيه ملامح الرجال الأقوياء الجدد” Autocracy Now: What’s Inside Profiles of the New Strongmen))، والبرغم من هذا الوصف المُطلَق على مجموعة من الزعامات القوية الراهنة إلاّ أنّ مقالات العدد تُقّر ضمنيا بعودة الزعامات الفردية التّي أثبتت بطلان الوهم الليبرالي سابق الذكر، يُخصّص هذا العدد جملة من العيّنات الحالية في القرن الحادي والعشرين لما يصفهم “بالرجال الأقوياء” على غرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الصيني تشي جينبيغ، التركي رجب طيّب أردوغان، الفليبيني رودريغو دوتيرتي، المجري فيكتور أوربان، ونيكولاس مادورو الرئيس الفنزويلي.25

وبغضّ النظر عن الأسباب التّي تقف وراء صعود ظاهرة “الرجال الأقوياء” المتحكّمين في دواليب الدولة أو ما نُسمّيه هنا “بدولة الرجولية” (The Manhood State)، فهي ظاهرة تُذكّرنا بالعالم القديم، عالم ما قبل وعود العولمة وأوهام الليبراليين، حينما كان لويس الرابع عشر يقول أنا الدولة، أو حينما كان توماس هوبز يختصر الدولة في الحاكم القوي الليفياثان. إنّ عودة أنماط حكم ودول كهذه ظلّت في الحقيقة قائمة مُحتملة البروز على السطح في كلّ لحظة، فعودة التاريخ تظّل إمكانية قائمة كلّما توافرت شروطها، هذا ما ذهب إليه واقعيون على غرار راندل شفيلر، حينما ضرب لنا عن ذلك مثالا من التاريخ باستعراض سلوك ونمط تفكير كلّ من فرنسا نابليون وألمانيا هتلر تجاه الجيران، فيورد مقولتيْن لكلّ من هاتين الشخصيتين تعبّران عن مقصده هذا، يقول نابليون بونابرت: “تعتمد قوتّي على مجدي ويعتمد مجدي على انتصاراتي التّي فزت بها. سوف تنهار قوتّي إذا لم أغذّيها بأمجاد جديدة وانتصارات.

لقد صنع منّي الفتح ما أنا عليه، ووحده الفتح بإمكانه أن يتيح لي أن أحظى بمكانتي هذه.” أمّا هتلر فيقول: ” ينبغي علينا الآن أن ندخل عددا من المعارك القتالية، فسوف يقودنا ذلك من دون شك إلى انتصارات عظيمة، بعد ذلك سيكون الطريق إلى الهيمنة العالمية مؤكدا عمليا”.26

ليس بالضرورة طبعا أن نشهد في القرن الحالي قادة ودولا تلجأ إلى نفس الأساليب القديمة في تعبيرها عن طموحاتها إلاّ أنّ المقصود من مثل هذه الشواهد التاريخية هو استمرار أهميّة العوامل الشخصية وعوامل الإدراك لدى صناع القرار في تحليل أو تشكيل العلاقات الدولية الراهنة كما يُحاجج شفيلر بالرغم من كلّ ما بشّر به العولميون والليبراليون كما أشرنا سابقا، فظهور هذا النمط من القادة الذّي يُعظم ما يشتهيه على ما يمتلكه يدفع بدولهم أن تنتهج سلوكا تعديليا تجاه الوضع القائم في النظام الدولي أو تجاه الجيران، كما أنّ أغلب هذه الزعامات الشخصية القوية تستند في طموحاتها تلك إلى إرث تاريخي، ثقافي وفلسفي عريق ضارب في القِدم تحظى به دولهم، إذ تجعلهم ممارسات الإدماج القصرية لدعاة العولمة الليبرالية يسلكون منحى معاكس متضارب بالضرورة، ولعلّ أكثر الحجج الدامغة الدالة على أوهام العولميين الليبراليين هذه هي التفاف جماهير هذه الدول بقوة حول قياداتها الكاريزماتية بشكل يُوحي بأنّ الثقافات الشعبية القومية لا تزال قويّة رغم ضربات العولمة، بل ورافضة في كثير من الأحيان لما تُبشّر به الديمقراطيات الليبرالية الغربية من وعود وأوهام.

خاتمة واستنتاجات:

تصل بنا العناصر السابقة إلى تأكيد عبارة روبرت غيلبين الشهيرة حينما جادل بأنّه لو عاد اليوناني ثيوسيديدس من القرن الخامس قبل الميلاد وعاش بيننا اليوم، فإنّه لن يبذل عناءً كبيرا في فهم عالم اليوم، ولن يكون باحثو العلاقات الدولية المعاصرين على دراية أكبر بقوانين هذا العالم أكثر من ثيوسيديدس نفسه، لأنّ قوانينه أقرب إلى الثبات رغم التعقيد والتداخل الذّي يمكن تسجيله في تفاعلاته الحاصلة منذ عصر ثيوسيديدس بسبب مخرجات العولمة أساسا.

فالجغرافيا لا تزال كما رأينا أكثر هذه القوانين ثباتا، والمتحكّمة في سلوكات الفواعل، المقرّرة لمصائر الأمم والشعوب، كما لا تزال أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين تُقدّم أمثلة إمبريقية متكرّرة عن المنطق الكلاسيكي للدولة وسياستها الواقعية المدفوعة دوما بهوس البحث عن المصلحة وزيادة القوة وتعزيز الأمن وإدامة الريادة أو بسط الهيمنة الإقليمية والعالمية إن أمكن ولو بوسائل مختلفة قد تبدو جديدة في بعض الأحيان، كما لم تتضاءل الميزانيات العسكرية للدول مع استكشاف وسائل جديدة للتأثير –الناعم- في السياسة الدولية ولم تتمكّن المؤسّسات الدولية كما رأينا من الوفاء بوعودها في تقليص حدّة اللايقين والشكّ بين الدول، الأكثر من ذلك، فإنّ العالم المعاصر يشهد تناميا لنَزَعاتٍ عنصرية قديمة-متجدّدة في أشكال جديدة يُطلق عليها أحيانا تسمية القومية المبتذلة أو الحركات الشعبوية الراديكالية أو اليمين المتطرّف قوّضت برلمانات النظم واتجاه الدول نحو تكريس حكم المؤسّسات الرشيدة والبيروقراطيات الراسخة، إنّنا مُقبلون على عالمٍ تتكرّر فيه نسخٌ القرون القديمة بطريقة أكثر احترافا حينما كان يكتب المفكر الفيلسوف نصائحا “للحاكم الإله” عن السلم والحرب كما فعل ميكيافيلي أو هوبز في أوروبا أو صن تسو في الصين القديمة أو كما تفعل اليوم شخصيات فكرية عديدة على غرار أحمد داوود أوغلو في تركيا الحديثة أو ألكسندر دوغين في روسيا الجديدة حينما يوفرّون للقائد الزعيم تصوّراتهم النظرية عن السلم والحرب أو الكيفية التّي يسير بها عالمنا المعاصر27.


الهامش

1 –Robert Kaplan, In Europe’s Shadow: Two Cold Wars and a Thirty-Year Journey Through Romania and beyond, (New York: Random House, 2016), P 51-52-53.

2 – Xue Lei, A Changing International System and Development of International Law, Chinies Yearbook of International law, 2006. link

3 – Charles A. Kupchan, The End of American Era, U.S Foreign Policy and The Geopolitics of The Twenty-First Century, (The United States: November 2003), P 54.

4 – Ibid, p 41.

5 – Agnieszka legucka, “New Geopolitics – What is Actually “new”?”, The Copernicus Journal of Political Studies, Issue 2 – 4 (Warsaw-Poland, 2013), P 10-11. link

6 – Agnieszka legucka, Op. cit, P. 11.

7 – روربت كابلان، انتقام الجغرافيا، ما الذّي تُخبرنا به الخرائط عن الصراعات المقبلة وعن الحرب ضدّ المصير، ترجمة إيهاب عبد الرحيم علي (الكويت: سلسلة عالم المعرفة، يناير 2015)، ص 54-55.

8 – Robert Kaplan, “The South China Sea Is the Future of Conflict: The 21st century’s defining battleground is going to be on water”, Foriegn Policy, (August 15, 2011). link

9 – روبرت كابلان، مرجع سابق، ص 49.

10 – Importance of geography in world politics, the montréal review, Op. Cit.

11 – John Mearsheimer, “The false promise of international institutions”, International Security, Vol. 19, No. 3 (Winter, 1994-1995), pp. 5-49. link

12 – John J. Mearsheimer and Stephen M. Walt, “The Case for Offshore Balancing : A Superior U.S. Grand Strategy”, Foreign Affairs, (July/August 2016), p 72-73. link

13 – Graham Allison, “The Thucydides Trap”, Foreign Policy, (JUNE 9, 2017). link

Or see: Graham Allison: “Destined for War: Can America and China Escape”, YouTube, Jul 18, 2017. link

14 – جوزيف ناي، القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية، ترجمة: محمد توفيق البجيرمي، مكتبة العبيكات، الطبعة الأولى 2007، الممكلة العربية السعودية، ص: 24-25-26.

15 – ملاحظة: نُشر شيءٌ من مضمون هذا العنصر من قبل بموقع تي ري تي عربي، أنظر:

جلال خشيب، جاذبية القوة الصلبة الروسية، موقع TRT ARABI، 16 أكتوبر 2019، إسطنبول-تركيا. الرابط

16J. Berkshire Miller, “An Asia-Pacific Strategy for Trump: How He Can Shore Up U.S. Credibility”, Foreign Affairs, (December 5, 2016). link

17 – Kuik, Cheng-Chwee. “Making Sense of Malaysia’s China Policy: Asymmetry, Proximity, and Elite’s Domestic Authority”. The Chinese Journal of International Politics, Vol. 6 (2013), p: 431-432- 433-435. link

18 – John J. Mearsheimer, “Realism, the Real World, and the Academy,” in Michael Brecher and Frank P. Harvey, eds., Realism and Institutionalism in International Studies (Ann Arbor: The University of Michigan Press, 2002), p 26.

19 – John J. Mearsheimer, “E.H. Carr vs. Idealism: The Battle Rages On,” International Relations, Vol. 19, No. 2 (June 2005), p 148.

20 – Florian Bieber, “Is Nationalism on the Rise? Assessing Global Trends”, Ethnopolitics Journal, Vol. 17, No. 5, (2018), P. 520.

21 – Ibid, P. 524.

22 – John J. Mearsheimer, “Realism, the Real World, and the Academy,” Op. Cit, P. 28.

23 – Ibid, P. 29.

24 – Alastair Iain Johnston, “Is China a Status Quo Power?” The MIT Press Journals, International Security Vol. 27. No. 4, (Spring, 2003), 08-09. link

25 – Gideon Rose, “Autocracy Now: What’s Inside Profiles of the New Strongmen”, Foreign Affairs, (September/October 2019). link

26 – Randall L. Schwell, “Bandwagoning for Profit: Bringing the Revisionist State Back In”, The MIT Press Journals , International Security, Vol. 19. No. 1, (Summer, 1994), 73. link

27 الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

كيف تُفسِّر الجغرافيا الأسباب العميقة للثورات العربية؟

اقرأ ايضاً كيف تُفسِّر الجغرافيا الأسباب العميقة للثورات العربية؟

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close