fbpx
اوروبا وامريكاتقارير

إدارة ترامب والفراغ في السياسة الخارجية الأمريكية

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

في سعيه لجعل “الولايات المتحدة الأميركية عظيمة مجدداً”، وهو الشعار الذي شكل المادة الرئيسية في خطابه، يعكف الرئيس الأميركي دونالد ترامب على إعادة هندسة السياسة الخارجية الأميركية بطريقة تحقق هذا الشعار، وذلك لكونها – أي السياسية الخارجية – تشكل واحدة من أبرز أعمدة التفوق الأميركي في العالم، كما وضحته جزئيا إحدى دراسات “المعهد المصري للدراسات”، في محاولات استشراف ملامح سياسته الخارجية أثناء حملته الانتخابية1، إلا أنه وعلى الرغم من ذلك، مازالت السياسة الخارجية للرئيس ترامب تعاني حالة من الغموض والشك لم تتضح معها التوجهات التي ستسلكها إدارته في التعاطي مع العالم الخارجي.

حيث تتضارب الرؤى بداخلها ما بين المقاربة القومية الانعزالية-الحمائية من ناحية، والتدخلية-التوسعية من ناحية أخرى، وكذلك بين الأيديولوجية الشعبوية العنصرية، والأيديولوجية اليمينية المحافظة. ومن المرجح أن السبب في ذلك يرجع إلى محاولة إعادة هيكلة بنيوية لعملية اتخاذ القرار فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، بحيث يتراجع دور وزارة الخارجية وبعض المؤسسات الأخرى كثيرا لصالح البيت الأبيض والأجهزة التابعة له مباشرة، على ما فيها هي ذاتها من تجاذبات وتدافعات.

 

أولاً: مبدأ تقاسم السلطة والكبح المتبادل

يصف كل من مايكل كوكس ودوج ستوكس في كتابهما عن السياسة الخارجية الأميركية US Foreign Policy، نظام الحكم في الولايات المتحدة بأنه “نموذج معقد من تقاسم السلطة، والكبح المتبادل”2. وبالنسبة للسياسة الخارجية على وجه الخصوص فهي تخضع في كثير من الحالات لتقييمات السلطة التنفيذية المتمثلة بالرئاسة، ولكن هذا لا يعني بحال عدم تدخل المؤسسات السياسية والتشريعية الأخرى والتأثير في عملية صناعة القرار الخارجي.

أما بروس جينتلسون فيضع بشكل محدد في كتابه American Foreign Policy  مجموعة مكونة من خمسة فاعلين رئيسيين لهم دور مهم في عملية صناعة السياسية الخارجية على النحو التالي: الرئيس، والكونجرس، وجماعات الضغط، والرأي العام، ووسائل الإعلام3.

ويتضح مبدأ “تقاسم السلطة والكبح المتبادل” بشكل كبير في الديناميكية التي تربط كل من الرئيس من جهة والكونجرس الأميركي من جهة أخرى، وذلك في أربعة مجالات رئيسية تتمحور حول: الحرب، والمعاهدات، وتعيين أعضاء الحكومة والسفراء، والتجارة الخارجية. فعلى سبيل المثال، يمنح الدستور الأميركي الرئيس صفة “القائد الأعلى للقوات المسلحة” في حين يمنح الكونجرس سلطة “إعلان الحرب” والبت في موازنة الدفاع. أما فيما يتعلق بالاتفاقيات الدولية فالرئيس مخول بإجراء التفاوض والتعاقد مع اللاعبيين الدوليين في حين يتمحور دول الكونجرس بالمصادقة على هذه المعاهدات بأغلبية الثلثيين.

وبنظرة سريعة فإنه من بين 2000 معاهدة قام بتوقيعها الرؤساء الأميركيون تعرضت 20 معاهدة منها فقط لرفض الكونجرس؛ كانت من أبرزها وأشهرها على الإطلاق معاهدة فرساي 1919، بُعيد الحرب العالمية الأولى، والتي وقعها نيابة عن الولايات المتحدة الرئيس وودرو ويلسون. هذا ويستطيع الرئيس الأميركي الالتفاف على فيتو الكونجرس من خلال لجوئه إلى إصدار الاتفاقيات التنفيذية Executive Agreements التي لا تحتاج إلى مصادقة من الكونجرس، أو إلى الالتزامات المعلنة Declaratory Commitments التي تأتي من خلال خطابات وتصريحات الرئيس من قبيل مبدأ مونرو 1823، ومبدأ ترومان 1947، ومبدأ بوش (الحرب على الارهاب) 2001.

 

ثانياً: الفريق الرئاسي وحدود تقاسم الصلاحيات

فيما يتعلق بالفريق الرئاسي فإن أكثر اللاعبين المؤثرين في صناعة السياسة الخارجية، في العادة، هم الرئيس ووزير الخارجية، ومستشار الأمن القومي للرئيس، ووزير الدفاع، ورئيس هيئة الأركان المشتركة، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية، ويشكل هؤلاء جميعاً جوهر مجلس الأمن القومي وهو أعلى هيئة مسؤولة عن صناعة السياسات الأمنية والخارجية للبلاد4. أما عن تراتبية الأدوار داخل الهيئة، فإن كل من الرئيس ووزير خارجيته يحتلان رأس الهرم، وهما المسؤولان بشكل رئيسي عن اعطاء نظرة شاملة لقضايا السياسة الخارجية، وذلك نظراً لمسؤوليتهما المباشرة عن هذا الملف، في حين يقتصر دور وزير الدفاع على اعطاء بُعْدٍ إضافي خصوصاً فيما يتعلق بالقضايا الأمنية (خاصة في ضوء تصاعد موضوع الحرب على الإرهاب في الأجندة الأمريكية الخارجية). أما مسؤولية مستشار الأمن القومي فهي التنسيق والسعي لضمان التكامل بين جميع أعضاء فريق السياسة الخارجية، ولذلك يجب أن يكون على فهم وثيق بأولويات السياسة الخارجية للرئيس، حيث تقع عليه مسؤولية إدارة المناقشات التي يتغيب عنها الرئيس.

هذه الحدود الواضحة في المهمات على الجانب النظري لا تعني أبداً أن الأمر يجري هكذا بسلاسة على الصعيد الفعلي، فهناك الكثير من التداخل والتنازع يقع بين أعضاء فريق مجلس الأمن القومي، حيث تعدُّ أولويات الرئيس وعلاقاته الشخصية مع أعضاء فريقه، والكاريزما المتفاوتة التي يتمتع بها  أعضاء هذا الفريق من العوامل المهمة في تحديد الصلاحيات والمسؤوليات فيما بينهم.

وللتدليل على ذلك تبرز العلاقة الإشكالية التي جمعت كل من هنري كيسنجر ووليام روجرز، فبالرغم من العلاقة الشخصية الخاصة التي جمعت الرئيس ريتشارد نيكسون مع وزير خارجيته روجرز لفترة طويلة، إلا أن مستشاره للأمن القومي هنري كيسنجر كان هو من اضطلع بالأدوار الحساسة في السياسية الخارجية، وذلك في تجاوز مباشر لوزارة الخارجية، فعلى سبيل المثال، بينما كان وزير الخارجية روجرز يتواصل مع الصينيين في بداية السبعينيات من القرن العشرين، من أجل تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة، كان كيسجنر هو الذي سافر إلى الصين سراً ومن دون علم وزارة الخارجية ليتمم الصفقة مع الصينيين، ويمهد للزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس نيسكون إلى بكين في شباط من العام 19725.

 

ثالثاً: وزارة الخارجية والتراجع المستمر:

كانت العلاقة بين كيسنجر وروجرز تمثل رأس الجليد للعلاقة التنافسية بين وزارة الخارجية وأجهزة السلطة التنفيذية الأخرى، كان يبدو أن وزارة الخارجية تتعرض لعملية إعادة بناء هيكيلة فيما يخص سلطاتها وصلاحياتها، وقد استمرت الوزارة تخسر المزيد من سلطتها لصالح البيت الأبيض تدريجياً، خصوصاً في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون، إلا أن هذه الخسارة التي كانت تبدو وكأنها تأخذ الشكل المتدحرج البطيء قد أصبحت تأخذ طابع النزف مع تولي جورج بوش الابن مقاليد السلطة، وإعلانه الحرب الكونية على الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.

فقد أصبح هناك تدخل مباشر لوزارة الدفاع والأجهزة الأمنية في السياسية الخارجية، تبع ذلك تدخل من وزارة الخزانة أيضا عندما أصبحت سياسة فرض العقوبات الاقتصادية على خصوم الولايات المتحدة واحدة من أبرز أدوات سياستها الخارجية، خصوصا ضد كل من إيران وكوريا الشمالية. هذا لا يعني بطبيعة الحال أن وزارة الخارجية قد هُمِشَتْ تماماً، ولكنها لم تعد الأولى في رسم وتنفيذ السياسة الخارجة في ظل المزاحمة الشديدة التي تلقاها من قبل زميلاتها في السلطة التنفيذية6.

مع تولي ترامب السلطة، يبدو أن عملية تهميش وزارة الخارجية والتقليل من صلاحياتها قد بدأ يأخذ شكلا دراماتيكيا مثيراً للدهشة، فالحديث حول مشروع الموازنة السنوية التي سوف تتقدم بها ادارة ترامب في النصف الثاني من شهر آذار 2017 تشير إلى تخفيض كبير في الميزانية المخصصة لوزارة الخارجية قد يتجاوز الثلث، هذا مع العلم بأن الميزانية التقديرية للوزارة تصل إلى حوال 50 مليار دولار وهي تشكل أقل من 1% من الناتج  الاجمالي للولايات المتحدة الأميركية7. وهذا إن دلَّ على شيء فإنه يدل على الاهتمام المتواضع الذي يوليه الرئيس ترامب للدبلوماسية الاحترافية، فالرجل الذي أمضى طوال حياته في عالم المال والأعمال يحب الانجازات السريعة والأضواء على حساب المنافع غير المرئية invisible benefits التي تحققها الدبلوماسية والتي تكون عوائدها في الغالب طويلة الأمد8.

ولم يقتصر تهميش ترامب لوزارة الخارجية على تخفيض النفقات المقترحة مستقبليا فقط، بل شمل ذلك أيضا تخفيض عدد موظفي الوزارة، حيث لم يتم استبدال العدد الكبير الذي ترك الوزارة في أعقاب تولي ترامب، مما أدى لوجود أكثر من 200 موقع شاغر على مستوى وكلاء الوزارة ومديري الإدارات والبعثات الدبلوماسية حول العالم، بالإضافه إلى حالة “البطالة المقنعة” التي يعاني منها العاملون الموجودون في الوزارة الآن بالفعل، وعلى حد قول أحد العاملين في الوزارة فإنه “لا أحد يقوم بأي شيء”9.

هذا فضلا عن توقف الايجاز الصحفي اليومي للوزارة والذي كان محافظا على وتيرته اليومية منذ الوزير جون فوستر دالاس، و حينما عقد المؤتمر الأول للوزارة  بعد طول انتظار، فقد كان مخيباً للآمال، ففضلا عن الانتظار الطويل الذي عانى منه الصحافيون الحاضرون، فقد خرجوا وليس بجعبتهم شيء يذكر أكثر مما كان بحوزتهم قبل المؤتمر الذي عقده الناطق الرسمي باسم الوزارة مارك تونر10.

أما الأهم من ذلك كله فهو ما يبدو من العمل على تهميش وزير الخارجية وابعاده عن صدراة المشهد. ومما يدلل على ذلك رفض الرئيس ترامب بشكل محرج الأسماء التي اقترحها وزير خارجيته ريكس تيلرسون لتولي منصب نائب وزير الخارجية الذي مازال شاغراً حتى الآن11، وبينما كان تيلرسون خارج البلاد، أزاح البيت الأبيض فجأة مستشارة وزارة الخارجية كريستي كيني التي خدمت كسفيرة لثلاث مرات وتعتبر المرأة الأعلى رتبة في الدائرة. ومما يحد من نفوذ تيلرسون أنه لم يكن الخيار الأول للرئيس ترامب لمنصب وزير الخارجية، في حين لا يعتبر من الدائرة الداخلية للرئيس12.

وقد كان تهميش تيلرسون واضحا أيضاً في اللقاءات الدبلوماسية التي عقدها الرئيس ترامب في واشنطن مؤخرا مع بعض القادة الدوليين من أمثال رئيس الوزراء الكندي جستن ترودو، ورئيس الوزراء الياباني شينزو آبي، ورئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو (بالرغم من أن الرجلين كانا في عشاء عمل قبل ذلك بيوم واحد فقط)، ولم تُؤخذ مشورة تيلرسون في السياسة الخارجية التي يجب اتباعها مع كل من حلفاء واشنطن ومنافسيها على حد سواء، هذا بالرغم من أن بعض المراقبين يرون أن الرجل قد لعب دوراً في اقناع ترامب باتباع سياسة “صين واحدة”، وعدم المخاطرة باستفزاز الصين من خلال فتح قنوات اتصال مباشرة مع تايون كما كان ترامب يهدد أثناء حملته الانتخابية13.

النتيجة إذن هي أن دور وزارة الخارجية يتراجع لصالح البيت الأبيض، وخصوصاً لصالح التيارات والقوى المتنافسة ذات التوجهات المختلفة بداخله ومنها: التيار اليميني المحافظ الممثل في تيار حزب الشاي والذي يمثله نائب الرئيس “مايك بنس”، والتيار اليميني القومي الشعبوي والذي يمثله كبير الاستراتيجيين “ستيفن بانون” وكبير مستشاري الرئاسة للسياسات العامة “ستيفن ميلر”، ودائرة الأقارب والأصدقاء المقربين من ترامب بقيادة صهر الرئيس “جاريد كوشنر” زوج ابنته إيفانكا، والتيار الذي يعبر عن التوجهات التقليدية للحزب الجمهوري والذي يمثله مستشار الأمن القومي “ماكماستر” ووزير الدفاع “جيم ماتيس” ووزير الأمن الداخلي “جون كيلي” المرتبطين بشكل وثيق بقادة الجمهوريين في الكونجرس أمثال “جون ماكين”، مما يشكل حالة من التضارب والفوضى لم تشهد لها صناعة السياسة الخارجية الأميركية مثيلا، ويستلزم فهما أكبر لطبيعة التجاذبات الموجودة داخل الإدارة حتى يمكن مجرد محاولة استشراف القرارات التي سيتخذها ترامب فيما يتعلق بسياسته الخارجية14.

 

رابعاً: الرمال المتحركة داخل البيت الأبيض

في مقالة له في الواشنطن بوست، يرى جوش روجين أن نائب الرئيس بنس أصبح، “بهدوء” لاعباً قوياً في السياسة الخارجية مستفيداً من ثلاثة امتيازات تتمثل بعلاقته القوية بالرئيس، وقدرته على بناء رصيد شخصي مهم في بعض القضايا الحساسة، وفعاليته ضمن الفريق المقرب من الرئيس ترامب15. ويمكن إضافة امتياز رابع يتمثل بالقبول الواسع الذي يحظى به من قبل المؤسسة السياسية للحزب الجمهوري، ومعرفته الواسعة بأروقة الكونجرس وكيفية التعاطي معه في ظل وجود أشخاص مثل “مارك شورت” مدير الشئون التشريعية في البيت الأبيض (وكان يعمل مع بنس في الكونجرس) وأخرين ممن أتى بهم بنس ويحملون خبرات هائلة في مسارات عمليات التشريع والاعتمادات داخل أروقة الكونجرس، فضلا عمن أتى بهم أيضا في مواقع حساسة أخرى من الصقور المعروفين مثل “مايك بومبيو” مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية، و “نيكي هالي” سفيرة أميركا في الأمم المتحدة.

وقد أخذ دور بنس في السياسة الخارجية بالظهور فعلا من خلال جولته في أوروبا (فبراير 2017) والتي أكد من خلالها إلتزامات الولايات المتحدة تجاه حلف شمال الأطلسي وحماية حلفائها بالرغم من مطالب الرئيس ترامب من الأوروبيين المساهمة بشكل أكبر في موازنة الدفاع16. وكان ترامب قد أعلن أثناء زيارة رئيس الوزراء الياباني لواشنطن، أن بنس ونظيره الياباني سوف يطلقان حوار جديداً بين الولايات المتحدة واليابان حول التعاون الاقتصادي المشترك17. كما كان لبنس دور خاص في اقناع الرئيس ترامب بتنحية مستشاره للأمن القومي “مايكل فلين” الذي كان قد كذب بشأن اتصالاته مع السفير الروسي أثناء الحملة الانتخابية. وتنبع أهمية تنحية فليين بالنسبة لبنس، وفقاً لنائب رئيس معهد بروكينغز “بروس جونز“،  في أن وجود فلين في منصب مستشار الأمن القومي كان يحرم الجمهورين المحافظين (الذي ينتمي إليهم بنس) من مركز ثقل قد يجتمعون عليه لصياغة سياسة ما، أما وقد رحل فلين، فقد أصبحت الفرصة سانحة لنائب الرئيس أن يشغل مساحات أوسع18.

أما الفريق الآخر والذي يضم المجموعة الأكثر قرباً من ترامب، مثل صهره كوشنر، فضلا عن بانون وميلر، فربما يكون الأكثر تأثيرا حتى الآن مقارنة بغيره في عملية مزاحمة وزارة الخارجية على صلاحياتها بالنظر لمواقعهم بالقرب من ترامب. وبالفعل فقد أوكل ملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي إلى كوشنر، وهو الملف الذي لطالما كان في صلب عمل وزارة الخارجية، وربما يكفي النظر إلى الرحلات المكوكية التي أجراها وزير الخارجية السابق جون كيري للوساطة بين الجانبين من أجل ايجاد حل للصراع، فضلا عن الانطباع السائد داخل أروقة وزارة الخارجية حاليا بأن كوشنر هو الذي ينصح ترامب في جميع ملفات السياسة الخارجية.

أما بانون (أو “الرئيس بانون” كما نعتته صحيفة نيويوركتايمز)19 فهو يشكل مع ستيفن ميللر ثنائيا من أكثر الفاعلين داخل الإدارة الأميركية، حيث يقفا بشكل رئيس خلف التوجهات التحريضية للرئيس ترامب؛ بدءا من عدوانيته ومناهضته لاتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية، وموقفهما المعارض للهجرة (الشرعية منها و غير الشرعيه)، وأيديولوجيتهما الواضحه ضد الإسلام، وتوجهاتهما المواجهة للصين، ومقاومة العولمة، فضلا عن الموقف السلبي أصلا من النظام السائد في واشنطن20. وقد باشر بانون بالفعل ببعض المهمات المتعلقة بالسياسة الخارجية من خلال حصوله على مقعد دائم  في مجلس الأمن القومي، واتصالاته مع بعض السفراء منهم على سبيل المثال السفير الألماني.

أما الجناح الذي يقوده من الخلف السيناتور جون ماكين فيسعى بالأساس لطمأنة العالم أن تعليقات ترامب السلبية حول حلف شمال الأطلسي والإتحاد الأوروبي وروسيا وغيرها من الأمور أثناء حملته الانتخابية لا تعكس بشكل حقيقي السياسة الخارجية الأميركية، رغم أن ترامب بالفعل هو الرئيس الأميركي. ومن أمثلة ذلك التصريحات المتكررة خلال مؤتمر ميونخ للأمن في فبراير 2017، ومنها ما قاله وزير الدفاع ماتيس بعدم وجود توجهات بأن أميركا تسعى “لأخذ” بترول العراق (و هو ما كان ترامب قد صرح به من قبل على سبيل التعويض عن التكاليف التي تكبدتها أميركا لإسقاط صدام حسين!)، وصرح أيضا السيناتور ليندساي جراهام أن عام 2017 سيكون عام “الحرب السياسية” على روسيا، فضلا عن تطمينات نائب الرئيس بنس حول التزامات الولايات المتحدة نحو حلف الناتو، وقد بدت هذه التصريحات في مجملها وكأنها تقول للعالم: “لا تهتموا بما يقوله ترامب، فنحن المسئولون هنا”.

ويأتي في هذا الإطار أيضا الموقف الذي اتخذه الجنرال ماكماستر، مستشار الأمن القومي الجديد فور توليه منصبه أمام مجلس الأمن القومي في أول اجتماعاته بأن استخدام تعبير “الإرهاب الإسلامي المتطرف” لا يساعد، لأن الإرهابيين ليسوا إسلاميون “un-Islamic”  (إلا أن ترامب قد استخدم نفس التعبير مجددا في خطابه أمام غرفتي الكونجرس مؤخرا)21.

و مما يظهر سعي وزير الدفاع لتبوأ دور أكثر فاعلية في صنع السياسة الخارجية في اتجاه يتماشى مع الاتجاه الاستراتيجي للولايات المتحدة، على نحو يخالف ترامب و مستشاره بانون، هو سعيه لتعيين “أن باترسون” سفيرة الولايات المتحدة سابقا في باكستان و القاهرة، و التي عملت بعد ذلك عن قرب مع جون كيري الوزير السابق في عهد أوباما، في منصب نائب وزير الدفاع للشئون الخارجية، و هو ما يلقى اعتراضا من صقور إدارة ترامب22.

بالأخير، لا يمكن الجزم بأى جناح من أجنحة الإدارة سوف يفرض رؤيته حول السياسة الخارجية في نهاية المطاف، أو حتى المدى الذي سيصل إليه تعويق وزارة الخارجية عن أداء دورها الإحترافي المعهود، أو أن الكونجرس سيوافق23 على الخفض الكبير للإعتمادات المخصصة لوزارة الخارجية، فمازالت هناك حالة من السيولة الكبيرة داخل أروقة الإدارة الأميركية يصعب التنبؤ معها بما ستؤول إليه الأمور، وهو ما يخلق حالة من الفراغ تسمح بتوفر هوامش يمكن أن يستثمرها اللاعبون الخارجيون للتأثير على مسارات السياسية الخارجية الأميركية، وقد حدث ذلك بالفعل حيث استطاعت – على سبيل المثال – الحكومة العراقية أن تستثني العراق 24من قائمة الحظر الجديدة التي أعلنت عنها إدارة ترامب مؤخراً والتي تحظر بموجبها على عدد من رعايا البلدان الإسلامية دخول الولايات المتحدة، وذلك من خلال اتباع سياسة الرد بالمثل عندما أعلنت بغداد أنها ستحرم المواطنين الأميركيين من دخول أراضيها، كما تكررت التلميحات بتصاعد دور إيران في العراق على حساب الدور الأميركي، ولا شك أن ذلك كان من شأنه أن يضعف دور الولايات المتحدة في حربها ضد تنظيم الدولة، ويدفع العراق للارتماء في أحضان إيران بشكل أكثر مما كان عليه بالسابق.

مثال آخر، حيث أعلنت حكومة “إنريكه بينيا نييتو” المكسيكية، أنها ربما ترفض قبول المبعدين من المهاجرين إلى الولايات المتحدة ما لم يثبت بالدليل القاطع أنهم يحملون الجنسية المكسيكية، وهو الأمر الذي من شأنه أن يشغل محاكم الهجرة الأميركية لفترة طويلة جدا بما يعيق سياسة التهجير العكسي، كما أعلنت عن نيتها وقف التعاون مع الحكومة الأميركية في وقف تدفق المهاجرين من أميريكا الوسطى عبر أراضيها إلى الولايات المتحدة والذين يشكلون النسبة الأكبر من المهاجرين عموماً، وهذه السياسة ربما تجبر إدارة ترامب على التراجع عن سياسة بانون المتعلقة “بالقومية الاقتصادية” والكف عن الهجوم على اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية25.

 

خلاصة

إن حالة الفراغ، واللايقين التي تسود الإدارة الأميركية، وحالة عدم التناسق والتناغم في ديناميكيات صناعة السياسة الخارجية سيكون له ارتدادات سلبية على النظام الدولي لما تتمتع به الولايات المتحدة من وزن على الساحة الدولية، وإذا أخذنا بعين الاعتبار الطبيعة الفوضوية الحالية للنظام الدولي، والمتغيرات الضخمة الحادثة على الكثير من الساحات الإقليمية والدولية، فإن حالة الشك هذه سوف تدفع بالدول داخل النظام إلى مزيد من الاعتماد على الذات من خلال السعي لتعظيم قوتها وتعزيز قدراتها الدفاعية، وهذا سيلقي بظلاله على حالة الأمن والسلم الدوليين، وربما يدفع بمزيد من الحروب وعدم الاستقرار على المستوى الدولي.

إلا أنه رغم ما تقدمه هذه الحالة من تهديدات، فإنها توفر في نفس الوقت فرصا للكثير من اللاعبين (من الدول أو من غيرها) للدفع بمصالحها الهامة استغلالا لهذه الحالة السائلة، عن طريق العديد من الآليات، كالتواصل مع الأطراف المؤثرة داخل الإدارة الأميركية والاستفادة من تناقضاتها في تحقيق بعض النجاحات، وذلك قبل الوصول إلى نظام مستقر وواضح لإدارة السياسة الخارجية الأميركية، الذي من غير المنتظر الوصول إليه قبل نهاية الصيف المقبل(26).

———————————-

الهامش

(1) للمزيد أنظر، يمنى سليمان، “دونالد ترامب وتوجهات السياسية الخارجية”، دراسات سياسية، المعهد المصري للدراسات، مايو 2016.

(2) Cox, Michael; Stokes, Doug,2012. US Foreign Policy. Second Edition. Oxford University Press: the United States. P, 111.

(3) Jentleson W., Bruce, 2010. American Foreign Policy: the Dynamics of Choice in the 21st Century.  Fourth Edition. W.W Norton and Company: New York and London. P, 29.

(4) Read more; “The changing Dynamic of U.S. Foreign Policy-making”, an interview with Under Secretary of State for Political Affairs Thomas R. Pickering. U.S. Foreign Policy Agenda, AN ELECTRONIC JOURNAL OF THE U.S. DEPARTMENT OF STATE, Volume 5, No 1. P, 5-10., 2000.

(5) Read more, DAVID STOUT, “William P. Rogers, Who Served as Nixon’s Secretary of State, Is Dead at 87”, The New York Times, JAN. 4, 2001.

(6) Read more; AARON DAVID MILLER and RICHARD SOKOLSKY, “Rex Tillerson Is Already Underwater”, THE GLOBAL POLITICO, February 22, 2017.

(7) See more; Anne Gearan, “Possible budget cuts to State Dept., foreign aid draw bipartisan opposition”, The Washington Post, February 28, 2017.

(8) James Goldgeier and Elizabeth N. Saunders, Good Foreign Policy Is Invisible: Why Boring Is Better”, FOREIGN AFFAIRS, February 28, 2017.

(9) See more; JULIA IOFFE, “The State of Trump’s State Department”, The Atlantic, March 1, 2017.

(10) See more; Josh Rogin, “No news at the State Department”, Washington Post, March 7, 2017.

(11) Anne Gearan, “Trump rejects veteran GOP foreign policy aide Elliott Abrams for State Dept. job”, The Washington Post, February 10, 2017.

(12) Ibid.

(13) Ibid.

(14) JULIA IOFFE, “The State of Trump’s State Department”, ob. cit.

(15) See more; Josh Rogin, Vice President Pence is quietly becoming a foreign policy power player, The Washington Post, March 5, 2017.

(16) Josh Rogin,  Pence’s reassurance to Europe falls flat, Washington Post, February 18, 2017.

(17) Remarks by President Trump and Prime Minister Abe of Japan in Joint Press Conference, The White House, February 10, 2017.

(18) Ibid.

(19) See more; THE EDITORIAL BOARD, “President Bannon?”, New York times, January 30, 2017

(20) See more; Perry Bacon Jr., The Eight Power Centers Of The Trump Administration From the Bannon Wing to the Bureaucrats”, FiveThirtyEight, March 6, 2017,

(21) See more, Jim Acosta and Eli Watkins, “Trump refers to ‘radical Islamic terrorism’ despite NSC pushback”, CNN, March 1, 2017.

(22) See more, ELIANA JOHNSON, White House pushing back against Mattis appointment, Politico, March 3, 2017.

(23)الكونجرس سيوافق على الخفض الكبير للإعتمادات المخصصة لوزارة الخارجية.

(24)استثناء العراق من قائمة الحظر الجديدة التي أعلنت عنها إدارة ترامب مؤخراً.

(25) See more, Jackson Diehl, “How the rest of the world could shape Trump’s foreign policy”, Washington Post, March 5, 2017.

(26) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

 

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close