دراسات

إسهامات الفلاسفة في حقل نظرية العلاقات الدولية

أنتج حقل نظرية العلاقات الدولية عبر ما يقارب المائة سنة من نشأته كحقل علمي، تراكم متنوع من النظريات وقد أثار ذلك ثلاث إشكاليات رئيسية:

الإشكالية الأولى: تصنيف التنوع النظري:

بمعنى ضرورة تطوير معايير معينة من اجل امتلاك القدرة على تمييز هذه النظريات عن بعضها البعض وقد عرفت معالجة هذه الإشكالية بناء معايير متعددة مختلفة في جوهرها وبالتالي مختلفة في طبيعة التصنيف الناتج عنها فمن حيث طبيعة النظرية تم التفريق بين النظريات المعيارية النظريات التجريبية، ومن حيث منهجها تم التفريق بين النظريات الاستنباطية والنظريات الاستقرائية، ومن حيث عموميتها تم التفريق بين النظريات الكلية والنظريات الجزئية إلى غيرها من المعايير والتصنيفات المترتبة عليها.

الإشكالية الثانية: ضبط تراكم التنوع النظري

الذي يعكسه هذا التراكم الهائل في نظريات العلاقات الدولية وقد استخدمت أيضا منهجيات عديدة لتحقيق هذا الهدف المنهجي أما المنهجية الأولى فهي المنهجية التي تركز على المحدد الابستمولوجي والتي تفرق بين ثلاث تطورات لحقل التنظير: مرحلة التنظير ما قبل الوضعي – ومرحلة التنظير الوضعي- ومرحلة التنظير ما بعد الوضعي.
ثم هناك المنهجية التي تركز على المحدد الانطولوجي أي طبيعة العوامل المحورية العوامل المؤثرة في واقع العلاقات الدولية وهي تفرق بين ثلاث مراحل أيضا: التي عرفت سيطرة العوامل الأمنية والسياسية والعسكرية، ثم المرحلة التي عرفت محورية العامل الاقتصادي، ويلي ذلك المرحلة التي عرفت محورية العوامل الثقافية والاجتماعية ووفقا لهذه المنهجية لا ينتفي تأثير العوامل الأخرى عند سيطرة عامل معين ولكن يبرز في كل مرة أهمية هذا العامل مقارنة بالعوامل الأخرى.
ثم هناك المنهجية الأشهر وهي منهجية الحوارات النظرية والتي تضبط تراكم التنظير في محاورات نظرية شهيرة تشمل: المحاورة الأولى ذات الطابع الانطولوجي أي حول طبيعة واقع العلاقات الدولية، ثم المحاورة الثانية ذات طابع ميتادولوجي أي حول المناهج المناسبة لدراسة العلاقات الدولية، ثم المحاورة الثالثة ذات الطابع الابستمولوجي ومحورها الخفية المعرفية التي ننطلق منها لدراسة العلاقات الدولية، ثم المحاورة الرابعة ذات الطابع الاكسيلوجي بين الاتجاه العقلاني والاتجاه التأملي والاتجاه البنائي وهي المحاورة التي استندت إلى طبيعة القيم التي يجب أن نفهم بها ما يحدث في واقع العلاقات الدولية.

الإشكالية الثالثة: التعامل مع التنوع النظري:

أو بمعنى أخر الكيفية التي نتعامل بها مع النظريات في بحوث العلاقات الدولية وهي الإشكالية التي تعبر عن جوهر هذا المقال حيث استدعى طرح هذه الإشكالية ومعالجتها استعانة المنظرين في حقل العلاقات الدولية بالإسهامات الأشهر التي قدمها فلاسفة العلم حول التعامل مع النظريات العلمية، إذ تتيح كل واحدة من هذه الإسهامات تقديم تصور خاص لكيفية التعامل مع النظريات في بحوث العلاقات الدولية:

  • نموذج التصديق والتكذيب عند كارل بوبر.
  • مفهوم النموذج المعرفي عند توماس كون.
  • مفهوم البرنامج البحثي عند امري لاكاتوش
  • مفهوم الفوضى المنهجية عند فراينبرد.

حيث أن هذه الإسهامات مهمة جدا في فهم كيفية التعامل مع التنوع النظري في حقل العلاقات الدولية سواءً من الناحية المنهجية أو النظرية، مع ملاحظة أن كل التفاصيل التي يوردها الباحث تشمل الأطر العامة للتعامل مع النظريات بالنسبة لكل إسهام ابستمولوجي وقد تم استقراء هذه الأطر من خلال قراءة متنوعة لمراجع حول تلك الاتجاهات الابستمولوجية بمعنى أن ما تم استخلاصه من عوامل هو قراءة شخصية اجتهد فيها الباحث، ويضاف إلى ذلك اجتهاده في استخلاص أثر هذه الإسهامات في حقل العلاقات الدولية.

المحور الأول: نموذج التصديق والتكذيب عند كارل بوبر

ينطلق كارل بوبر من خلفية ليبرالية متطرفة ومصدر هذه الخلفية هو الارتباط المسبق بالأيدلوجية اليسارية والتي قدم لها نقداً واسعاً من حيث أنها تقوم على تناقض صارخ، حيث إنها تنتج في النهاية نقيضها، بمعنى أن هذه الأيديولوجية تقوم على التناقض بين المقدمات والنتائج، والخلفية الليبرالية التي ينطلق منها كارل بوبر انعكست بشكل واضح في إسهاماته الابستولوجية 1، والتي طور فيها اتجاها مستقلا يسمى بالعقلانية النقدية.
وما يعني الباحث هنا ليس تفصيل مضامين هذا الاتجاه الابستومولوجي ولكن التركيز على جزئية محددة أخذت حيزا كبيرا من إسهامات كارل بوبر، وهي المتعلقة بالضوابط العلمية المطلوبة للتعامل مع النظريات وذلك عبر مجموعة من المؤلفات المرجعية نذكر منها: منطق البحث العلمي – المجتمع المفتوح واعداؤه – عقم المذهب التاريخي- تخمين وتفنيدات: نمو المعرفة العلمية- المعرفة الموضوعية – العالم المفتوح – الواقعية وهدف العلم.
وفي كل هذه المؤلفات ظهرت الخلفية الليبرالية في كيفية معالجة كارل بوبر لدور النظريات في العلم ويظهر ذلك من خلال التركيز على الحرية كقيمة ليبرالية في التعامل مع النظريات من حيث السماح للنظريات بالتعبير عن نفسها بكل حرية وتقييمها من هذا المنطلق وبذلك طور كارل بوبر مجموعة من المحددات العملية الإرشادية للتعامل مع النظريات يمكن إجمالها فيما يلي: 2

1- حدود تقييم النظريات:

بالنسبة إلى كارل بوبر فان حدود تقييم النظريات لا تتوقف عند فحص القدرة التفسيرية لها ولكن ارتباطا بتكذيبها أيضا، وبالتالي إخراجها من النسق العلمي بحيث يتم إلغائها كنظرية علمية، فبالنسبة إلى كارل بوبر لا يستساغ من الناحية الابستمولوجية الاحتفاظ بنظرية معينة داخل نسق معرفي معين بالرغم من إثبات فشلها، ولان إثبات الفشل هو مسالة نسبية بالنسبة لنظريات العلوم الاجتماعية فيرى بوبر إن النظريات في هذا النوع من المعرفة لا ترقى لان تكون مطابقة لمفهوم النظرية بالمعنى الحقيقي للكلمة.

2- استقلالية تقييم النظريات:

فالخلفية الليبرالية التي ينطلق منها كارل بوبر دفعته إلى الحث على ضرورة تقييم كل نظرية لوحدها وليس ارتباطا بالنظريات الأخرى بمعنى أن تقييم نظرية معينة يكون على أساس ما تتضمنه هذه النظرية فقط وليس على أساس مقارنتها بمضامين النظريات الأخرى.

3- تعدد مستويات تقييم النظريات:

فإذا كان تكذيب النظريات هو الهدف المركزي لتقييمها فان هذا التكذيب يجب أن يتم إثباته على أكثر من مستوى فهناك من جهة التكذيب اليجماطيقي والذي يعني تناقض الخبرة الامبريقية مع افتراضات نظرية معينة، ثم هناك التكذيب المنهجي، حيث عدم التطابق بين طبيعة الظواهر وطبيعىة المناهج المستخدمة في استكشافها.

4- التقييم الايجابي أسهل من التقييم السلبي:

بمعنى أن التقييم الايجابي المرتبط بتحصيل أدلة إثبات النظرية، أسهل في البحث عنه من التقييم السلبي المتعلق بتحصيل أدلة تكذيبها ولذا يعتبر كارل بوبر أن تكذيب النظرية هو المعيار الحقيقي لتقييمها وليس إثباتها.

5- نتائج تقييم النظريات:

بالنسبة إلى كارل بوبر فان النتيجة الطبيعة لتكذيب النظرية هو إخراجها من النسق العلمي باعتبارها نظرية علمية وحتى في حالة إدخال مؤيدي النظرية لافتراض إضافي فان ذلك قد يجنبها التفنيد ولكن لا يجنبها انخفاض مكانتها العلمية.
ويركز بعض الباحثين على عدم جدوى استخدام هذا النموذج في تقييم نظريات العلاقات الدولية فقط ارتباطا بتصنيف هذه النظريات ضمن حقول العلوم الاجتماعية، والتي وجه لها بوبر انتقادات واسعة من حيث أنها لا ترقى لأن تكون نظريات بالمعنى العلمي3 .
ولكن يرى الباحث ان حجج استخدام او عدم استخدام هذا النموذج في حقل العلاقات الدولية تتجاوز تلك الجزئية حيث تشمل مايلي:
– كل تقييم لنظريات العلاقات الدولية توقفت حدوده عند تقييم القدرة التفسيرية لها إذ لم يثبت من تاريخ التراكم النظري في حقل العلاقات الدولية أن تم إخراج نظرية معينة من النسق المعرفي لهذا الحقل على أساس تكذيبها بالمعنى الذي قصده كارل بوبر.
– لم يثبت من تاريخ هذا العلم أن تم تقييم نظرية معينة على أساس مستقل فكل المنهجيات التي استخدمت في ضبط تراكم الإسهامات النظرية استحضرت البعد المقارن بل الأكثر من ذلك أن المقارنة مع مضامين النظريات الأخرى لا يشكل في حقل العلاقات الدولية معياراً لإثبات قيمة النظرية ولكن معيار لبناء تصورها النظري في حد ذاته.
– أن تعدد مستويات التقييم التي تحدث عنها كارل بوبر تتجاوز البنية البسيطة لنظريات العلاقات الدولية بحيث لا يمكن تلمس مستويات التكذيب التي قدمها بوبر بشكل واضح عند التعامل مع نظريات العلاقات الدولية.
– كل نظريات العلاقات الدولية تثبت قيمتها من خلال تحصيل أكبر قدر من الشواهد لإثباتها وهذا يعاكس منطق النموذج الذي قدمه كارل بوبر، والذي يرى أن قيمة النظرية تتحدد على أساس إمكانية التكذيب ولي على أساس إمكانية الإثبات.

المحور الثاني: مفهوم النموذج المعرفي عند توماس كون

يُصنف توماس كون باعتباره مؤرخ علم أو عالم اجتماع علوم، أكثر من كونه فيلسوف علم، و إسهاماته الأساسية قد فسرت في هذا السياق، ويعتبر مفهوم الثورات العلمية هو المفهوم الأساسي الذي ترجمته أفكار توماس كون والذي يشرح من خلاله الكيفية التي تتطور بها العلوم المختلفة، ولا يفيد البحث الخوض في تفاصيل هذا المفهوم ويلتزم الباحث دائما بضبط إسهامات فلاسفة العلوم في جزئية محددة تتعلق بتصوراتهم للأطر المعرفية المحددة لكيفية التعامل مع النظريات وبالنسبة إلى إسهامات توماس كون فان تصوراته الابستمولوجية حول النظريات العلمية تشمل المحددات الإرشادية التالية: 4

1- التشكيك في قيمة النظرية كوحدة أساسية للعلم:

بالنسبة إلى توماس كون مفهوم النظرية يتسم بالهشاشة الذي تجعل إمكانية إثبات خطئه عملية في غاية السهولة ولذلك لا يجب الرهان على النظرية كوحدة أساسية للعلم لان ذلك يضفي تشوشا غير قابل للضبط واقترح توماس كون بديلا لمفهوم النظرية والذي يتمثل في مفهوم النموذج المعرفي وهو يتميز عن مفهوم النظرية في شيئين: الأول أنه أقل صرامة من مفهوم النظرية أي انه يتسم بالمرونة الشديدة الذي تسهل من عملية تقييمه، والثاني انه أكثر اتساعا من مفهوم النظرية بحيث يستطيع تنظيم الإسهامات المطروحة في اقل عدد منها وبالتالي سهولة استخدامها.

2- رؤيا العالم هي معيار التمييز بين النماذج:

على أساس تسويغه لمفهوم النموذج بدل مفهوم النظرية، فإن الرهان الابستمولوجي الذي طرحه توماس كون هو كيفية التمييز بين النماذج وليس بين النظريات، وقد ابتكر كون معيارا مركزيا للتمييز بينها، يتمثل فيما اسماه “رؤيا العالم”، حيث أن كل الإسهامات بما فيها النظريات التي تشترك في رؤيا واحدة للعالم تصنف في نموذج معرفي واحد بغض النظر عن اختلاف افتراضاتها التحليلية.

3- خاصية اللامقايسة:

المقصود بخاصية اللامقايسة هو عدم قابلية النظريات العلمية للقياس المتكافئ بالمقاييس نفسها فلكل نظرية إطارها الخاص ومفاهيمها وعالمها الذي أنتجها حتى أن الحوار بين نظريتين أنتجتا في مرحلتين مختلفتين هو مهمة مستحيلة، بمعنى أن الإطار الاجتماعي الذي تولد فيه نظرية معينة هو المحدد الأساسي لبنائها واختلاف الإطار الاجتماعية من مرحلة إلى أخرى يجعل تطبيق المقارنة بين النظريات غير مستساغة منهجيا لان المقارنة هنا تكون بين طرفين لا يشتركان في أي شيء.
وبهذا المعنى فقد استخدم مفهوم النموذج المعرفي عند توماس كون في حقل العلاقات الدولية لتقييم النماذج المعرفية في حد ذاتها، أو لتقييم الجدل النظري بينها، على اعتبار أن توماس كون يرى أن نجاح نموذج معرفي معين إنما هو رهن بانتهاء الجدل حول مقولاته الأساسية، بما يتيح لأنصار هذا النموذج المعرفي التوقف عن الاستمرار في التأكيد على المقولات التي ينهض عليها كما يشجع في الوقت ذاته الباحثين على القيام بدروب البحث الاكثر تخصصا 5 ، ومع ذلك فان الباحث توقف عند العناصر التالية للجدل حول قيمة توظيف اسهام توماس كون في حقل العلاقات الدولية في صورة تقابلات ايجابية وسلبية:
أ- التقليص من حدة إشكالية التصنيف: إذ أصبح من الممكن تنظيم الحقل في أقل عدد من النماذج بدل التعامل مع العشرات من النظريات على اعتبار إمكانية تصنيف النظريات وفقا لاشتراكها في رؤيا موحدة للعالم في نموذج معرفي واحد وبما أن نظريات العلاقات الدولية تعرف تداخلا نظريا فيما بينها فان إعادة تنظيمها على أساس مجموعة من النماذج المحلية سيقلص من حدة إشكالية التصنيف والتي لطالما اعتبرت إحدى الإشكاليات المركزية التي تعبر عن أزمة التنظير في حقل العلاقات الدولية.
ب- تقليص إشكالية المقارنة بين النظريات: باعتبار مفهوم النموذج المعرفي اقل صرامة من مفهوم النظرية وبذلك فان التداخل بين المقولات النظرية للنظريات المختلفة لم يعد يشكل مشكلة منهجية، إذ وفر مفهوم النموذج المعرفي معيارا محددا للمقارنة بين النماذج المعرفية المختلفة وهو معيار رؤيا العالم وبذلك أصبحت المقارنة بين هذه النماذج أسهل من الناحية الإجرائية.
أما سلبيات استخدام مفهوم النموذج المعرفي في حقل نظرية العلاقات الدولية، فمن بينها:
1- بناء النماذج المعرفية والثورات العلمية: فبناء النموذج المعرفي بالمعنى الذي قصده توماس كون هو النتيجة الأساسية لحدوث ثورة علمية في حقل معرفي معين تلغي كل ما كان متداولا في المرحلة التي سبقتها، بحيث أنه في كل مرحلة لا يمكن أن يوجد إلا نموذج معرفي واحد يسود الحقل، وهذا غير مطابق لواقع التراكم النظري في حقل العلاقات الدولية، فمنذ نشأته كحقل معرفي لم يعرف سيادة نموذج معرفي محدد في كل مرحلة من مراحله بل إن الجدل النظري كان هو السمة المستمرة لتطور هذا الحقل.
2- ضبابية مفهوم رؤيا العالم وتعقيد المقارنة بين الإسهامات النظرية: إذ لم يحدد توماس كون معالم محددة لهذا المفهوم والذي يعتبره معيار التمييز بين النماذج، وهذا فتح المجال لتعقيد المقارنة بين الإسهامات النظرية في حقل العلاقات الدولية، إذ طرحت إشكالية أساسية هي تحديد معنى رؤيا العالم في حد ذاته.
على سبيل المثال: يرى البعض أن النظريات الليبرالية والواقعية والتي تشترك في افتراض عقلانية سلوك الفواعل من جهة، وفي أولوية تأثير العناصر الاجتماعية من جهة أخرى، يجب أن تصنف في نموذج معرفي واحد.
ومع ذلك قد ترى وجهة نظر أخرى أن الافتراضات التحليلية حول سلوك الفواعل هي التي تشكل مضمون رؤيا العالم، وعلى أساس الاختلاف الشديد في الافتراضات التحليلية لكلا الإسهامين فإنهما يصنفان في نموذجين معرفيين وليس واحد، فعدم تحديد مفهوم دقيق لرؤيا العالم كمعيار لتمييز النماذج عن بعضها البعض قد عقد من مسالة المقارنة بين النماذج المختلفة.
3- عدم واقعية تطبيق خاصية اللامقايسة: نظريات العلاقات الدولية تم تطويرها في ظروف مختلفة ومع ذلك فان عقد المقارنة فيما بينها يبقى احد المداخل الرئيسية لفهم مضامينها من جهة ولفهم كيفية توظيفها من جهة أخرى، فقد عرف واقع العلاقات الدولية تطورات متنوعة أنتجت نظريات مختلفة في سياقات مختلفة ومع ذلك فان المقارنة بين هذه النظريات لا يراعي مسالة اختلاف الأطر الاجتماعية لنشاتها ، وإنما يعاد في كل مرة تكييف الأطر النظرية واختبارها في كل مرحلة من مراحل تطور واقع العلاقات الدولية، وبذلك تفقد خاصية اللامقايسة أثرها في حقل العلاقات الدولية بالمعنى الذي قصده توماس كون.

المحور الثالث: مفهوم البرنامج البحثي عند لاكاتوش

الإسهام الذي قدمه إمري لاكاتوش هو محاولة للتوسط بين أفكار كارل بوبر وأفكار توماس كون بالشكل الذي استطاع من خلاه لاكاتوش توليد اتجاه ابستمولوجي جديد أصبح يحتل مكانة بارزة باعتباره تمكن من تجاوز سلبيات التصورين السابقين ، وهذه المحددات التي قدمها لاكاتوش تشكل ما يلي:6

1- التشكيك في النظرية كوحدة أساسية للعلم:

ويشترك لاكاتوش في هذه الجزئية مع توماس كون ولكنه يطرح مفهوما بديلا يختلف عن مفهوم النموذج المعرفي الذي قدمه كون، وهو مفهوم البرنامج البثي ويتميز مفهوم البرنامج البحثي عن مفهوم النظرية في دقة بنائه: من حيث تكونه من ثلاث أجزاء رئيسية: النواة الصلبة أو القرص الصلب وهي تتضمن الفرضيات والمفاهيم العامة لتصور نظري معين، ثم هناك الحزام الواقي وهو يتضمن الفرضيات المشتقة والمفاهيم غير المركزية، ثم هناك مساعد الكشف وهو محدد منهجي يساعد على اختبار البرنامج البحثي.

2- تقييم النظريات وفقا للتاريخ الداخلي والتاريخ الخارجي:

يقصد لاكاتوش بالتاريخ الداخلي هو تاريخ الحقل الذي تنتمي إليه نظرية معينة، في حين أن التاريخ الخارجي هو مجموعة العوامل المؤثرة والتي تقع خارج النسق المعرفي والتي تؤثر في بناء الإسهامات النظرية، وبذلك فقد وسع لاكاتوش مسالة فهم النظريات فقط من خلال طبيعة الحقل الذي تنتمي إليه ولكن في إطار المعرفة العلمية بصورة عامة.

3- التقدم هو معيار المقارنة بين البرامج البحثية:

وابتكر لاكاتوش معيارا جديدا للمقارنة بين البرامج البحثية وهو معيار التقدم، ويعتبر برنامج بحثي متقدم هو الذي تؤدي صياغته المتوالية إلى زيادة في محتواه التجريبي ، ويعتبر برنامج بحثي متقدم من الناحية العملية اذا أمكن تقديم الدليل التجريبي المؤيد للزيادة النظرية في المحتوى التجريبي للبرنامج، أما إذا تميز برنامج البحث العلمي بالتعديلات العشوائية المتلاحقة بحيث يكون الغرض منها أن يتوافق البرنامج مع كل ما يستجد من حقائق واقعية فيعتبر حينئذ برنامجا متأخرا.
ويرى المان وميريام ان نموذج برنامج البحث العلمي الذي طوره لاكاتوش قد وفر مزايا مهمة عند تطبيقه على حقل العلاقات الدولية وهي تتمثل في زيادة الاهتمام بالبناء النظري لان الامر يتعلق ببناء هيكل لربنامج بحثي وليس مجرد نظرية، وايضا رفع مستوى التنافس بين البرامج البحثية، بالاضافة إلى تسهيل المقارنة على اساس ان البرنامج البحثي لا يقارن الا ببرنامج بحثي مساوي 7 اما بالنسبة لتطبيق مفهوم البرنامج البحثي في حقل نظرية العلاقات الدولية فهوم يشمل من وجهة نظرنا ما يلي:
– التشابه بين بنية نظريات العلاقات الدولية وبنية البرنامج البحثي: وذلك كما فصلها لاكاتوش فكل نظريات العلاقات الدولية تتضمن فرضيات مفاهيم عامة، وفرضيات ومفاهيم غير مركزية، وكذلك منهج لاختبار النظرية في الواقع، فالنواة الصلبة التي تحدث عنها لاكاتوش تتضمن الفرضيات العامة والتي يشترط فيها انها غير قابلة للتغيير وهذا ينطبق بشكل عام على نظريات العلاقات الدولية التي تطور فرضيات عامة تعبر عن جوهر الإسهام النظري بذلك فهي غير قابلة للتغيير.
وعلى سبيل المثال يعترف كينيث والتز ان نظريته المسماة الواقعية البنيوية قد تم بناؤها انطلاقا من التصورات الابستمولوجية لامري لاكاتوش وخاصة في الجزئية المتعلقة بضرورة تطوير فرضيات عامة تعبر عن جوهر البرنامج البحثي حيث تتضمن الواقعية البنيوية اقل عدد ممكن من الفرضيات والتي تحاول تفسير الكثير من الظواهر، ويمكن تعميم هذا التوصيف على الكثير من نظريات العلاقات الدولية.
– التشابه بين الصرامة الذاتية لمفهوم البرنامج البحثي و نظريات العلاقات الدولية: إن الصرامة الذاتية التي يتميز بها مفهوم البرنامج البحثي عند أمري لاكاتوش تتوافق مع الصرامة الذاتية التي يبديها منظرو العلاقات الدولية في الدفاع عن أفكارهم النظرية، وتستمد هذه الصرامة من خلال الفرضيات العامة داخل البرنامج البحثي وهو ما يوافق طبيعة النظريات الدولية بالشكل الذي يحاول من خلاله هؤلاء تطوير افتراضاتهم النظرية بشكل مقتنع وعدم الوقوع في فخ استسهال التداخل بين الأفكار النظرية، ولذلك يفضل الكثير من المنظرين وصف إسهاماتهم باعتبارها تعبر عن برامج بحثية وليست مجرد نظريات على أساس تلمس الصرامة الذاتية كخاصية مميزة لمفهوم برنامج البحث العلمي كما طوره لاكاتوش.
– معيار التقدم ومقارنة نظريات العلاقات الدولية: إن معيار التقدم قد وفر قياسا قاسيا ولكنه جاد من اجل التطوير الفعلي لحقل التنظير في العلاقات الدولية، بحيث أصبح الرهان عند نظريات العلاقات الدولية هو كيفية تضخيم المحتوى الامبريقي لها أي حجم الشواهد التي تثبت فرضياته العامة، وهذا يفرض نوع من التحدي على نظريات العلاقات الدولية بالشكل الذي يساعد على تطوير التنظير في هذا الحقل، بمعنى أن احد ايجابيات استلهام مفهوم البرنامج البحثي هو المساعدة على التطوير الايجابي للتنظير في هذا الحقل بالإضافة إلى توفير معيار حقيقي للاقتناع بتراجع المكانة العلمية لنظرية معينة أو تقدمها حيث لم تتمكن التصورات الابستمولوجية السابقة من تحقيق هذا المبتغى عند تطبيقها في حقل العلاقات الدولية.

المحور الرابع: مفهوم الفوضى المنهجية عند فرايبند

يعتبر الإسهام الابستمولوجي الذي قدمه فرايبند صادما لحقل فلسفة العلم، وذلك من خلال تشكيكه في قيمة النسق العلمي في حد ذاته بما يتضمنه ذلك من التشكيك في قيمة النظريات العلمية، ومع ذلك فإن فرايبند قد طور إسهاما ابستومولوجيا يعالج كيفية التعامل مع النظريات العلمية وفقا مجموعة من المحددات الإرشادية بالشكل التالي: 8

– القيمة التفسيرية للنظريات تتغير من مرحلة إلى أخرى:

بالنسبة فرايبند فان انحدار القيمة التفسيرية للنظريات لا يعني انخفاض مكانتها العلمية بالضرورة فقد تعاود هذه النظرية تطوير مكانتها في مرحلة أخرى تكون اقرب إلى تصوراتها وبذلك فانه لا يستساغ إخراج نظرية معينة من النسق العلمي لمجرد انتقاص قدرتها التفسيرية لان هذا السياق غير ثابت في طبيعته وسيعاد الاحتياج إلى النظرية في مرحلة مختلفة وهو بذلك يعارض الإسهام الابستمولوجي الذي قدمه كارل بوبر حول نموذج التصديق والتكذيب.

– الرهان على التعدد النظري:

يرى فرايبند أن التعدد النظري مفيد جدا لأي حقل معرفي ولذا يجب دائما الرهان النظري والمنهجي على التعددية النظرية ومهما كانت قيمة نظرية علمية معينة فإنه لا يجب أن تتطور لكي تشكل نموذجا معرفيا سائدا، وهو بذلك يعارض الإسهام الذي قدمه توماس كون حول مفهوم النموذج المعرفي.

– بناء النظريات يعكس مجموعة من المعتقدات:

حيث يؤمن فرايبند أن ما هو مدرك ناتج مما هو معتقد ولان النظريات في النهاية عبارة عن ادراكات مختلفة لما هو موجود في الواقع، فانه تعكس اختلاف المعتقدات المسبقة التي ينطلق منها المنظرون، وفي ذلك يعارض فرايبند مفهوم البرنامج البحثي الذي قدمه لاكاتوش وتحديدا ما يتعلق بصرامته كوحدة علمية فما يظهر انه صارم علميا لا يعكس في النهاية إلى اعتقادا معينا، وبذلك تفقد المقارنة بين النظريات اهميتها لانه لا يوجد اعتقاد افضل من الاخر.
أما عن انعكاسات التصور الذي قدمه فراينبد في حقل العلاقات الدولية فيمكن القول انه أثار جدلا عند تطبقيه على حقل العلاقات الدولية في صورة مجموعة متقابلة من المزايا والعيوب وذلك يشمل:

– التوافق مع طبيعة الجدالات النظرية في حقل العلاقات الدولية:

يتوافق هذا التصور مع طبيعة نتائج الجدالات النظرية في حقل العلاقات الدولية، إذ غالبا ما تنتهي هذه الجدالات بتفوق تصور معين ومع ذلك لا يلغى التصور الأخر من النسق العلمي، حيث يعيد طرح نفسه في ظروف مختلفة، وعلى سبيل المثال كانت نتيجة المحاورة النظرية الأولى ذات الطابع الانطولوجي بين الاتجاه المثالي والاتجاه الواقعي، هي انتصار الاتجاه الواقعي وتسيده للحقل ومع ذلك لم يمنع هذا من إعادة بناء الاتجاه المثالي وطرحه في مرحلة لاحقة وهي مرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة بتسمية المثالية الجديدة والتي رأى أنصارها أن مضامين مرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة تتناسب تماما مع إعادة إحياء الأفكار المثالية و منه على سبيل المثال إعادة تحفز دور منظمة الأمم المتحدة في العلاقات الدولية – إعادة الاعتبار لإطار الأمن الجماعي في التعامل مع القضايا الأمنية الدولية بداية من حرب الخليج الثاني..إلى غيرها من مضامين هذه المرحلة.

– التوافق مع تراكم التنوع النظري في هذا الحقل:

فمنذ نشأته أنتج حقل العلاقات الدولية تنوعا هائلا في نظريات بغض النظر عن تصنيفاته المختلفة وقد اعتبر ذلك بالنسبة لوجهة نظر معينة إحدى مظاهر أزمة التنظير باعتباره يطرح مشكلات متعددة منها مشكلة التصنيف ومشكلة المقارنة ومع ذلك لم يتوقف هذا الحقل عن تطوير الأطر النظرية وهذا دليل رهانه على تنوع النظريات وهو وما يتوافق تماما مع رهان فراينبد على تعددية النظريات واعتباره خاصية أساسية للحكم على النمو المعرفي لأي حقل.

– عدم دقة مفهوم المعتقدات عند تطبيقه في حقل العلاقات الدولية:

فإذا كانت المعتقدات هي الافتراضات التحليلية للنظريات فذلك يفرق تصنيف التنوع النظري على أساس فردي باعتبار أن لكل نظرية افتراضاتها التحليلية، أما إذا كان المقصود بالمعتقدات هو خلفية التفكير التي ينطلق منه المنظرون فقد نجد اشتراكات معينة بين النظريات وبالتالي تصنيفها على أساس الاعتقادات المشتركة والاعتقاد عادة يرتبط بوجهة النظر في الظواهر المختلفة.

خاتمة:

كان محور هذه الورقة هو استعراض اسهامات فلاسفة العلم فيما يتعلق بالتعامل مع مفهوم “النظرية” بمعناه العلمي، وما هي تجليات تطبيقه في حقل نظرية العلاقات الدولية، طالما أن هذا الحقل المعرفي قد أنتج عدداً كبيراً من النظريات، بغض النظر عن معيار تصنيفها، وانتهت الورقة إلى أن استعانة نظرية العلاقات الدولية باسهامات فلاسفة العلم تترتب عليها مخرجات مختلفة، ليس فقط من حيث قيمة استخدام هذه الاسهامات في التعامل مع النظريات المتعددة، بل أيضاً من حيث طبيعة هذا الاستخدام في حد ذاته، وهو ما تم بيانه في تحليل أربعة نماذج أساسية، نموذج التصديق والتكذيب عند كارل بوبر، النموذج المعرفي عند توماس كون، البرنامج البحثي عند امري لاكاتوش، الفوضى المنهجية عند فراينبر (9 ).


الهامش

1 انظر حول الخلفية الليبرالية لكارل بوبر: كارل بوبر: المجتمع المفتوح وأعداؤه، ترجمة سيد النفادي، (بيروت: جار التنوير للطباعة والنشر)، 1998.

2 ضبط الباحث هذه المحددات بناء على القراءة المتنوعة في المؤلفات التالية:
* كارل بوبر. منطق البحث العلمي، ترجمة محمد البغدادي. (بيروت : المنظمة العربية للترجمة. 2007 )
* ماهر اختيار. اشكالية معيار قابلية التكذيب عند كارل بوبر في النظرية والتطبيق. (دمشق : منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب. 2010).
* السيد نفاذي. معيار الصطق والمعنى في العلوم الطبيعية والانسانية. (الاسكندرية : دار المعرفة الجامعية. 1991).

3 أنور محمد فرج. نظرية الواقعية في العلاقات الدولية، (السليمانية: مركز كردستنان للدراسات الإستراتجية، 2007)، ص 133.

4 ضبط الباحث هذه المحددات بناءا على قراءة متنوعة في المؤلفات التالية:
– توماس كون، بنية الثورات العلمية، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة .2007 )
– توماس كون وآخرون، مقالات نقدية في تركيب الثورات العلمية، ترجمة ماهر عبد القادر محمد علي. (القاهرة : المركز القومي للترجمة .2000).
– ستيف فولر، كون ضد بوبر: الصراع من اجل روح العلم، ترجمة نجيب الحصادي.( القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2012)

5 توماس كون، بنية الثورات العلمية، مرجع سابق، ص 51

6 ضبط الباحث هذه المحددات بعد قراءة في :
– إمري لاكاتوش. برامج الابحاث العلمية. ترجمة ماهر عبد القادر .( الاسكندرية : دار المعرفة الجامعية. 2002).
– إمري لاكاتوش، مشكلة تقييم النظريات العلمية: مقاربات ثلاث، ترجمة هاني مبارز. مجلة مخاطبات، العدد السادس، 2013

7 Elman Colin and Miriam Fendius Elman. How not to be Lakatos Intolerant : Appraising Progress in IR Research.Studies Quartely.46 .2002. p 255

8 ضبط الباحث هذه المحددات بعد قراءة في المؤلفات التالية:
– الان شالمرز، نظريات العلم، ترجمة الحسين سحبان وفؤاد الصفا، (الدار البيضاء : دار توبقال للنشر. 1991 )
– السيد نفاذي، اتجاهات جديدة في فلسفة العلم، مجلة عالم الفكر: المجلد 25. ع 2. (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب. ديسمبر 1996).

9 الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى