fbpx
قلم وميدان

إلى ثوار مصر: لماذا التمسك بالشرعية؟

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

لماذا التَّمَسُّك بالشرعية؟ سؤال يجب أن نرجع به على أنفسنا قبل أن تذروه الأحداث في وجوهنا، سؤال كالطَّنين لا يكف عن الإلحاح ولا يدنو من الإفصاح، وما أكثر الأسئلة التي تحوم في فضاء نفوسنا وأجواء حياتنا، فنغازلها ونخاتلها كما يفعل صبيان الغرام، لا هُمْ يُقْبِلون عازمين ولا هم ينصرفون راشدين.

وبعيداً عن العواطف -فما عاد لها مكان بين العواصف – أرى أنَّنَا لا نملك إلا التمسك بالشرعية؛ لأسباب غاية في البساطة والتلقائية، لا علاقة لها بموقفنا من شخص الرئيس ومدى قناعتنا به، ولا صلة لها بموقفنا من جماعته أو الحزب الذي ينتمي إليه، وإنما هي أسباب ضاربة بجذورها في العمود الفِقَريّ للسياق كله.

والسياق يبدأ من الثورة وينتهي بها، يبدأ من الثورة الماضية وينتهي بالثورة الآتية، ولا سياق للأحداث غير هذا – حسب طبائع الأمور ومعطيات الأحداث – إلا في أخيلة الحالمين السابحين خارج الكون، فمن غازَلَهُ الشك في هذا وراوَدَهُ الارتياب فلْيُلْقِ نظرة على المنطقة وما يجري فيها؛ لترتَدَّ إليه بالخبر اليقين: أنَّ الوضع العام في الدائرة كلها لا يتسع لتسويات ولا ينتظر مفاوضات، وأنَّ الطائرات المغيرة قد أقلعت وفارقت مرابضها؛ ولا حيلة لإثنائها عن غايتها أو ردها عن خطتها.

وبين الثورة الماضية والثورة الآتية أحداث، هي بالنسبة للماضية نتيجة ومُقتضَى وبالنسبة للآتية سبب ومُقتضِي، فالثورة الأولى أثمرت حرية سياسية؛ أنتجت بدورها شرعية، متمثلة في مؤسسات منتخبة ورئيس منتخب، هذه الثورة قامت عليها ثورة مضادة أنتجت انقلابا عسكرياً غادراً؛ أطاح بمكتسبات الثورة بما في ذلك الحرية السياسية وما نتج عنها من شرعية، فالوضع الطبيعيّ أن يتداعى الأحرار لاسترداد الثورة واستعادة مكتسباتها، بما فيها المؤسسات المنتخبة.

وأيَّا ما كان أداء هذه المؤسسات أو هذا الرئيس فإنَّ القضية ليست هنا قضية تقييم أداء، وإنما هي قضية حق تملكه الأمّة، اغتصب منها في سياق حرمانها من سائر حقوقها بما في ذلك الحريات، فمن الطبيعيّ أن يعود الحقُّ لصاحبه ثم بعد ذلك يكون التقييم والتقويم، وخلاف ذلك معاظلة وتجديف.

هذا السياق سبيكة تاريخية محكمة، تمثل خلفية للحراك القادم، لا يجرؤ أحد على تفكيكها إلا في إطار السعي لتفكيك إرادة الأمَّة وردها عن وجهتها الثورية، وأيُّ تلاعب في هذه (التركيبة) يفقدها حجيتها، وهذا هو الغرض وراء الدعوة لتجاوز شرعية الرئيس؛ لذلك تجد هذه الدعوة مصحوبة بالتجاوز عمَّن شارك في الثورة المضادة بزعم الاصطفاف، وهذا – لعمر الحق – سهم مسدد في كبد الأحرار.

وإنَّني لعلى يقين من أنِّ الواقع في مصر قد تجاوز مسألة الشرعية وطوى صفحتها، لكن من قال: إنَّنا يجب أن نستسلم لهذا الواقع ؟! وهل كان يمكن أن يتغير شيء في حياة البشرية إلا برفض الواقع واتخاذ القرار بعدم الرضوخ له؟!

إنَّ جوهر الثورة كفر بالواقع وخروج عليه، وإنَّها لا تكون ثورة تلك التي ترى من أول الطريق أنَّ الواقع له قوة الحقيقة المطلقة، فإن كنَّا نتحدث عن ثورة فلا مجال لفرض عقيدة على الحالة الثورية مستمدَّة من التسليم بالواقع والرضوخ التام له، أمَّا إن كان الأمر أمر تسويات فما يسوغ وضعه في خطاب ثوريِّ؛ فهذا مخادعة للأجيال، ومخادنة لسماسرة الثورات.

وإنّني لعلى يقين كذلك من أنَّ المسار طويل، وقد يطوي بامتداده وتعدد مراحله وما قد يطرأ عليه من نوازل مسألة الشرعية بِرُمَّتِها، ومع ذلك فإنَّ ضرورة أن تكون التطورات طبيعية والأطوار متجانسة تقضي بعدم التفريط في حقِّ وإن لم يكن ذا عمر طويل وأجل مديد؛ فإنَّ الاستحقاقات تراكمية يسلم بعضها إلى بعض، كما أنَّ التنازلات انهيارات متداعية.

هذا هو الأصل الذي يدعمه المنطق الثوريِّ كما يدعمه المنطق الشرعيّ والقانوني؛ لأنَّ الشرعية ناشئة عن عقد بين طرفين: الشعب والحاكم، فإذا لم يقع منهما ولا من أحدهما فصم أو نقض للعقد بصورة من الصور فمن ذا يملك أن يقوم مقامهما إلا أن يكون افتياتا وفضولا يأباه كل منطق في هذه الحياة ؟! ولا يخفى على عاقل منصف أنَّ كل ما طرأ بعد ثبوت هذه الشرعية لا يمكن أن يقوى على إزالتها، فلا ثورة صحيحة هدمتها ولا شرعية جديدة نسختها.

ولا يرد على هذا ما ذكره العلماء عن الحاكم الأسير الميئوس من فكاكه؛ فهذا الإيراد خطأ جسيم في التخريج والتنزيل؛ لأنَّ الصورة التي تكلم عنها العلماء هي تصرف الأمَّة – ممثلة في أهل الحل والعقد منها – تجاه الحاكم الأسير الذي لم تستطع تخليصه ولا يتوقع خلاصه، فلا يصح أن تتوقف مصالح المسلمين؛ لذلك يجب عليهم إنابة غيره أو اختيار غيره، بحسب الحال، أمّا الحالة التي نعيشها فهي استلاب الشرعية من الأمّة نفسها، ومنعها حقها في ممارستها على الوجه الصحيح.

وأكثر من هذا إيغالاً في الخطأ أن يقال: إنَّ من بايع الرئيس هو نسبة واحد وخمسون ونصف بالمائة وليس الشعب كله؛ لأنَّه من البدهيات التي لم تختلف فيها الديمقراطية عن النظام الإسلاميِّ أنَّ الشرعية إذا ثبتت بالنسبة الدستورية المنصوص عليها ثبت العقد ودخل فيه الموافق والمخالف.

فإذا كان هذا الحقُّ ثابتا فالأصل بقاء ما كان على ما كان، والقديم يبقى على قدمه، فما الذي طرأ لتسويغ الخروج عن هذا الأصل؟ أهو الاصطفاف؟! ولماذا لا يتحقق الاصطفاف إلا بالتنازل عن الشرعية؟ لماذا لا يقال – مثلاً – إنَّ علينا أن نسترد مكتسبات الثورة بما فيها الشرعية ثم نرد الأمر للشعب ليقرر استمرار الشرعية أو استحداث شرعية جديدة؟ أم إنَّه التسلط الذي يلبس ثوب التوافق؟ وهل يمكن أن يقوم على مثل هذا التوافق الشائه عمل بمستوى نُبْل الثورات؟!

لهذا ولغيره مما لا يتسع المقام لذكره أقول: إنَّ أيَّ وثيقة تصدر من أي جهة تتضمن تجاوز الشرعية أو التنازل عنها لا تمثل إلا أشخاص الموقعين عليها، وهي محض رأي عار عن أي حق يعطيه قوة الميثاق، ولا إلزام لها لا على المستوى الشرعيّ ولا الأدبيّ، ولست بهذا منتقصاً من مقادير الذين يوقعون على مثل هذا إن حصل، وإنما الحديث عن إجراء واقع أو متوقع، بقطع النظر عن الأشخاص (1).

———————————-

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close