تقارير

استراتيجية ترامب في سوريا: ماذا بعد؟

مدخل:

ثمة متغيرات في السياسة الأميركية تجاه سوريا مع وصول “دونالد ترامب” للبيت الأبيض، الأول هو تبني “ترامب” سياسة تصعيدية عدائية ضد إيران في المنطقة، الثاني إلحاق الهزيمة بتنظيم “داعش”، وبدء السباق والتنافس حول تقاسم النفوذ في سوريا، الثالث وقف “ترامب” برنامج دعم وتسليح المعارضة السورية المسلحة في ظل استمرار الدعم للوحدات الكردية، الرابع تراجع كبير للمعارضة السورية المسلحة لصالح قوات النظام وحلفائها على الأرض، الخامس فشل جهود التسوية الأممية، وبدء مسارات سياسية جديدة “أستانا” بقيادة الترويكا “موسكو وطهران وأنقره”. ومن ثم، وبرغم هذه المتغيرات الجديدة، إلا أن المتغير الثابت منذ انطلاق الثورة وحتى الآن، هو التغاضي عن مسألة رحيل بشار الأسد والقبول به عملياً، وعدم تبني استراتيجية حقيقية على الأرض من أجل اسقاطه، وذلك بخلاف التصريحات العلنية الأمريكية الداعية لرحيل “بشار”.

ومؤخرً، أعلنت الولايات المتحدة عن استراتيجية جديدة للتعامل مع الأزمة السورية. وفي هذا السياق، يحاول هذا التقرير التعرف على أبعاد هذه الاستراتيجية الجديدة وأهدافها، وتقييم مدى نجاحها وتداعياتها على الأزمة السورية ومسارات الحل.

أولاً، مضامين الاستراتيجية:

في خطابه بجامعة ستانفورد، أعلن وزير الخارجية الأميركي “ريكس تيلرسون” في يناير الماضي، عن استراتيجية أمريكية جديدة للتعاطي مع الأزمة السورية(1 ) . وهي خطوة تؤسس لبدء تعامل الولايات المحتدة مع الواقع السوري من منظور استراتيجي محكم بأدوات وأهداف واضحة، بدلاً من الاقتصار على التكتيك والفوضى والتخبط، بغض النظر عن مدى فاعليتها.

تتمثل أهداف الاستراتيجية المعلنة في: تدمير ما تبقى من عناصر تنظيم “داعش”، والحيلولة دون عودته من جديد، ومواجهة النفوذ الإيراني المتزايد، والحيلولة دون سيطرة قوات النظام وحلفائه على كامل الأراضي السورية، والعمل على انتقال سوريا لمرحلة جديدة بدون الأسد، وإعادة اللاجئين لموطنهم والعمل على إعادة إعمار هذه المناطق، وعدم المشاركة في إعمار المناطق الخاضعة لسيطرة النظام حتى رحيل الأسد.

ولتحقيق هذه الأهداف، فإن الولايات المتحدة ستعتمد على مسارين: الأول مسار دبلوماسي، من خلال دعم المفاوضات الأممية في “جنيف” في مواجهة الجهود الروسية “أستانا وسوتشي”، الثاني مسار عسكري لوجستي، من خلال تشكيل قوة حدودية من 30 ألف مقاتل، تشكل الميليشيات الكردية عمادها الأساسي، تتمركز في الشمال والشرق السوري، والإعلان عن تواجد عسكري أمريكي طويل الأمد في سوريا، وربطه برحيل الأسد والانتهاء تماماً من الخطر الداعشي. جدير بالذكر أن هناك 2000 جندي أمريكي متواجدون في الداخل السوري، فضلاً عن قوات ومعدات وطائرات وقواعد عسكرية أمريكية، تصل لـ10 قواعد تقريباً(2 ) .

ثانياُ، توقيت الاستراتيجية:

من المهم قراءة الاستراتيجية في سياقها الزمني، فدلالة التوقيت غالباً ما تمنح طريقاً للوصول لتحليل منطقى ومتماسك، ويتمثل السياق الزمني للاستراتيجية في:

(1) فشل احتواء إيران:

أعلن “دونالد ترامب” منذ وصوله للبيت الأبيض عن استراتيجية تصعيدية في مواجهة إيران، وقد سعى منذ البداية لاحتواء النفوذ الإيراني في سوريا، من خلال فك الارتباط بين روسيا وإيران في سوريا، وفق مقايضة القبول ببقاء الأسد في مقابل تخلي روسيا عن إيران في سوريا، ليسهل على “ترامب” احتواء نفوذها وانهائه، لكن يبدو أن مساعي “ترامب” قد باءت بالفشل وذلك لعدة أسباب:

(أ) اتفاق خفض التصعيد في الجنوب السوري الذي توصلت إليه واشنطن مع موسكو بمشاركة عمان في 11 نوفمبر الماضي، والذي نص على جلاء جميع القوات الأجنبية عن جنوب سوريا، بما فيها الميلشيات الإيرانية، واستطاعت إيران التحايل عليه، وذلك من خلال التفافها على حضورها المباشر في الجنوب السوري، وكذلك الالتفاف على الاتفاقيات الأمريكية الروسية التي من الممكن أن تتم على حساب الجانب الإيراني. ومن ثم قامت إيران بتشكيل مليشيات محلية تتبع مباشرة لـ”الحرس الثوري”، وهي “اللواء 313” الذي تنتشر قواته في مدينة درعا والحواجز المحيطة بها، والمقر لها في مدينة إزرع، الخاضعة لسيطرة النظام( 3) .

ومن ثم، إذا ما تم إبعاد الميليشيات الأجنبية الإيرانية عن الحدود، أو حتى تم إخراجها تماماً من سوريا، تظل لإيران ميلشيات محلية حليفة في الداخل السوري، ترتبط بها مباشرةً وتأتمر بأوامرها.

(ب) استناداً للسيطرة الجوية الروسية في سوريا، والسيطرة البرية لإيران وميلشياتها، فإن حاجة الطرفين الروسي والإيراني لبعضهما البعض مستمرة وستظل مستمرة، حتى بعد تحرير سوريا من تنظيم “داعش” بشكل نهائي. فمن ناحية تحتاج روسيا لإثبات قدرتها وسيطرتها على أكبر قدر ممكن من الأرض إبان اتفاقاتها مع أمريكا حول التسوية السياسية، ومناطق تقسيم النفوذ والتي يبدو أنها ستستمر طويلاً، ومن ناحية أخرى تحتاج روسيا للمليشيات الإيرانية حتى بعد التسوية؛ من أجل ضبط الأمن والاستقرار على الأرض، إلا إذا كانت روسيا ستستعيض عنها بقوات روسية وهو أمر غير مرجح. وحسب ما نقله التلفزيون الرسمي الإيراني عن قائد الحرس الثوري “محمد علي جعفري” في 23 نوفمبر الماضي، إعلانه عن إبقاء قوات الحرس الثوري في سوريا، حتى بعد انتهاء المعارك، حيث اعتبر أنها ستلعب دوراً نشطاً في تحقيق وقف إطلاق نار دائم هناك( 4) . كذلك الأمر لا يتعلق فقط بالرغبة الروسية، بل أيضا بعدم قدرتها بالأساس على إنهاء الوجود الإيراني في سوريا.

(ج) التوتر الأمريكي الروسي، على وقع اتهامات موجهة “لدونالد ترامب” وأعضاء من إدارته وحملته الانتخابية بالتواصل مع روسيا إبان حملته الانتخابية، والحديث عن دور روسي في إنجاح “ترامب” في الانتخابات الامريكية الأخيرة. لقد كان أول ضحايا هذه الاتهامات “مايكل فيلين”، الذي اختاره “ترامب” مستشاراً للأمن القومي وقد تمت إقالته، وتلاحق ذات الاتهامات حالياً مستشاره وصهره “جاريد كوشنر”(5 ) . وهو ما عرقل جهود “ترامب” الساعية لتحسين العلاقات مع روسيا، والتي كان من الممكن أن تلعب دوراً إيجابياً في هذا الصدد.

(د) العداء التاريخي المشترك الذي تحمله إيران وروسيا تجاه الغرب والولايات المتحدة، وكذلك التصعيد الأمريكي ضد البلدين. ففي يوليو الماضي، وافق مجلس الشيوخ الأمريكي بأغلبية ساحقة على فرض عقوبات جديدة على روسيا وايران وكوريا الشمالية، رغم اعتراضات البيت الأبيض( 6) . كلها عوامل تدفع روسيا لعدم التخلي عن الحليف الإيراني، الذي تربطه معه علاقات اقتصادية وسياسية جيدة، لصالح طرف غير موثوق فيه “الولايات المتحدة”، وتكتنف علاقاتها معه توتر حاد على وقع العديد من الملفات. واستناداً لذلك، تنظر روسيا لمسألة إضعاف النفوذ الإيراني في المنطقة بمثابة إضعاف لها أيضا لصالح النفوذ الأمريكي.

ومن ثم فشلت الولايات المتحدة في فك الارتباط بين روسيا وإيران، ومن ثم في احتواء النفوذ الإيراني في سوريا، فلجأت للانخراط المباشر طويل المدى من خلال استراتيجيتها الجديدة.

(2) القضاء على داعش عسكرياً لا أمنياً:

جاءت الاستراتيجية الجديدة بعد هزيمة تنظيم “داعش” عسكرياً في معاقله الرئيسية، بالأخص في الرقة ودير الزور، دون القضاء عليه أمنياً. فقد انتقل التنظيم من طور تنظيم غير تقليدي، يسيطر على مساحة جغرافية، ويقيم نظام للحكم بهياكل مؤسساتية، ومتبعاً نمط الحروب التقليدية والجيوش النظامية، لطور تنظيم تقليدي كتنظيم القاعدة، وهو ما كان عليه التنظيم قبل 2014، منتشر في جيوب متفرقة في البادية وعلى الحدود السورية العراقية، ومتبعاً نمط حروب العصابات. وهو ما يتطلب أيضا جهود وتواجد عسكري لمواجهة التنظيم في حالته الجديدة من وجهة النظر الأمريكية.

(3) استباق مؤتمر سوتشي

استبقت الولايات المتحدة انعقاد مؤتمر الحوار الوطني السوري في مدينة سوتشي الروسية، بالإعلان عن استراتيجية تعبر عن تموضع عسكري أمريكي طويل الأمد، واشتراط رحيل الأسد من أجل الخروج من سوريا. ولعل هدف الولايات المتحدة من ذلك: أولاً تذكير موسكو بأنها ليست وحدها من تقرر ماهية وتوقيت الحل السياسي للأزمة السورية، بناءً على سيطرتها العسكرية على الأرض. ثانياً تقوية موقف المعارضة السياسي والضغط على بشار قبل المؤتمر، وذلك لتعديل موازين القوى المنهارة لصالح النظام وحلفائه الإقليميين والدوليين، والذي استفادت منه موسكو في عقد هكذا مؤتمر.

ومن شأن تعديل موازين القوى مرة أخرى أن تفشل المؤتمرات وطرائق الحل السياسي التي تتزعمها روسيا، والتي تُبنى أصلا على أساس موازين قوى منهارة على الأرض لصالحها. ولعل ذلك ما حدث، فقد انسحب وفد المعارضة السورية من مؤتمر سوتشي، واتهم رئيس الوفد “أحمد طعمة” موسكو بعدم الإيفاء بتعهداتها، بشأن إنهاء القصف الروسي، وإزالة شعارات الحكومة السورية في المؤتمر(7 ) .

(4) التسارع حول تقاسم النفوذ:

تزامن إعلان الاستراتيجية الجديدة مع تسابق النفوذ الجيوسياسي الإقليمي والدولي حول اقتسام الجغرافيا السورية، عبر تفاهمات ومقايضات سياسية “روسيا وتركيا” من ناحية، وسياسة الأرض المحروقة “روسيا وإيران” من ناحية أخرى، وبالأخص ما يحدث حالياً من قبل روسيا وحلفائها في إدلب والغوطة الشرقية وتركيا في عفرين. ومن ثم تريد واشنطن أن تبعث برسالة لموسكو وطهران، مفادها أنها لن تترك الأرض السورية محل نفوذ مطلق لهم، كما أخطأت من قبل في الحالة العراقية بعد سقوط صدام حسين، وأدى لتسليم العراق للنفوذ الإيراني.

خاصة وأن مخرجات الأزمة السورية ونتائج الحل فيها ترتبط بملفات إقليمية ودولية أخرى، كالملف الإيراني والأوكراني هذا من ناحية، من ناحية أخرى سوف تكون لها تبعات بدون مبالغة على النظام الدولي ككل، في ظل التنافس المحتدم، بين قوى المحافظة على هذا النظام “الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين”، وقوى المراجعة “روسيا وإيران والصين”. ومن ثم تفرد روسي بالنفوذ والحل في سوريا من الممكن أن يعدل موازين القوى الدولية نوعاً ما لصالح قوى المراجعة، التي ترغب في مراجعة وتعديل توجه النظام الدولي الليبرالي الراسخ منذ الحرب العالمية الثانية، وبنيته أحادية القطبية الناشئة منذ انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي.

ثالثاً، تقيم الاستراتيجية:

يمكن تقييم الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه الأزمة السورية من خلال النظر لأهدافها وأدواتها المعلنة، وذلك بالتطرق إلى:

(1) الحليف التركي:

الاستراتيجية الأمريكية إذا كانت موجهة لخصومها روسيا وإيران ونظام بشار وتنظيم “داعش”، فإنها في ذات الوقت تراها حليفتها تركيا مهددة لأمنها القومي، في ظل الحديث عن تشكيل قوة حرس حدودية قوامها الأساسي من الأكراد على الحدود التركية السورية. وبرغم النفي الأمريكي لاعتزامها تشكيل هذه القوة(8 ) . إلا أن الوقائع على الأرض واستمرار الدعم العسكري واللوجستي للأكراد لا ينبئ بذلك.

وهو أمر يقلل من فاعلية هذه الاستراتيجية ونجاحها، فالبيئة المحيطة بها صراعية غير مستقرة، خاصةً وأن الولايات المتحدة في حاجة لحليف لها كتركيا على الأرض في مواجهة الروس والإيرانيين معاً. ومن ثم فالأمر لا يتعلق فقط بخسارتها للحليف التركي، بل يصل الأمر للتحالف التركي مع الروس والإيرانيين في الملف السوري في بعض النقاط، كاتفاقيات خفض التصعيد ومسار أستانا ومؤخراً سوتشي، فضلاً عن المقايضات السياسية حول جغرافية النفوذ.

ويبدو أن الولايات المتحدة محتفظة بورقة منبج حتى الآن برغم تضائل أهيمتها في الاستراتيجية الأمريكية في سوريا، لتكون وسيلة لإعادة تحسين علاقاتها مع تركيا متى أرادت، فمن الممكن إذا أرادت أمريكا أن تمحو التوتر الطاغي على علاقاتها مع تركيا، أن تسلمها مدينة منبج الواقعة غرب الفرات، خاصة وأن الاستراتيجية الأمريكية تركز فقط على المناطق الواقعة شرق الفرات، وهو ما دفعها لإعطاء الأتراك الضوء الأخضر في عملية عفرين، كما كانت هناك وعوداً أمريكية سابقة لتركيا، بخروج الأكراد من المدينة بعد تحريرها من “داعش”، وأخيراً فإن هذه المنطقة عربية ذات أغلبية سكانية عربية. إن الولايات المتحدة تقف اليوم أمام إشكالية معقدة، في ظل مراوحتها بين تركيا والأكراد، والتي تنحاز فيها غالباً بشكل واضح للأكراد، ولم تستطع التوصل إلى الآن لصيغة توافقية، تحفظ بها على علاقاتها الاستراتيجية مع الطرفين في آن واحد.

(2) الحليف الكردي:

كان اللجوء الأمريكي لأكراد سوريا ودعمهم عسكرياً ولوجستياً إيجابياً لحد كبير، خاصةً فيما يتعلق بالمواجهة الماضية مع تنظيم “داعش”، في عين العرب “كوباني” والرقة ودير الزور. كما أن الاعتماد الأمريكي على الأكراد في المواجهة القادمة مع بقايا تنظيم “داعش” ستكون ضرورية وهامة جداً؛ خاصةً مع تحول التنظيم من نمط حروب المدن والجيوش النظامية لنمط حروب العصابات والكر والفر، وهو ما تجيده القوات الكردية جيداً، وهي ميزة تفضيلية لا تستطيع تركيا تقديمها للولايات المتحدة كقوات تتبع الحروب التقليدية.

لكن الأمر ليس كذلك عند الحديث عن دور الأكراد في الاستراتيجية الأمريكية الساعية؛ لمزاحمة النفوذ الروسي واحتواء ومواجهة النفوذ الإيراني. وذلك لسببين رئيسيين: الأول أن الدعم الأمريكي للأكراد يُشكل سبباً رئيسياً لتوتر العلاقات الأمريكية التركية، بما يدفع تركيا للتقارب مع روسيا وإيران، ومن ثم يقلل من فاعلية الاستراتيجية الأمريكية وموقفها في الملف السوري.

الثاني أن هناك شك كبير في رغبة القوات الكردية في مواجهة النفوذ الإيراني، على عكس المعارضة السورية المسلحة، التي تنظر للمواجهة مع إيران في إطار مواجهتها الشاملة مع نظام بشار، في ظل محاولات أمريكا قطع الطريق البري الواصل من طهران لبيروت. فالأكراد ليس لديهم عداء تجاه إيران، وتمت توافقات على الأرض بينهم وبين الميلشيات الإيرانية وحلفائها، ولدى حزب “الاتحاد الديمقراطي الكردي” السوري مكتب تمثيلي في موسكو، وهم متقلبون في تحالفاتهم، خاصةً إذا سعت الولايات المتحدة لإعادة ترميم وتحسين علاقاتها بتركيا، فإن ذلك قد يأتي على حساب التحالف الأمريكي مع الأكراد، خاصةً وأن هذا التحسن سيتضمن ضمان وتوافق أمريكي تركي على تحجيم الأكراد، ومنعهم من تحقيق أحلامهم الانفصالية، بما قد يدفعهم للتوجه من جديد نحو الروس والإيرانيين، وقد يكون ذلك أحد أسباب رغبة الولايات المتحدة في عدم التخلي عن الأكراد.

لقد حققت الولايات المتحدة تقدماً كبيراً على الأرض السورية، فهي تسيطر اليوم على أكثر من 25% من مساحة سوريا من خلال دعمها للقوات الكردية، كما حققت تركيا مكاسب سياسية وميدانية في مواجهة الأكراد، من خلال توافقاتها ومقايضاتها مع روسيا، ومن ثم من الصعب الآن على واشنطن أن تفك ارتباطها بالأكراد وكذلك أنقرة بروسيا، بما قد يعرضهما لخسارة ما حققوه من مكاسب سياسية وسيطرة جغرافية.

(3) رحيل الأسد:

الحديث الأمريكي المتكرر عن اشتراط رحيل الأسد لا يُعبر عن حقيقة الموقف الأمريكي على الأرض ونواياها الحقيقية، خاصةً وأنها أكثر من يُدرك حقيقة موازين القوى على الأرض. ويبدو أن هذا الشرط لا يٌعبر عن استراتيجية بقدر ما هو تكتيك؛ أولاً للضغط على نظام بشار من حين لحين؛ لترميم موازين القوى المنهارة، كلما مالت كثيراً لصالح قوات النظام وحلفائه، لدرجة يقترب فيها النظام من سحق المعارضة كليةً، وما يتبعه من توصل روسيا لحل سياسي يعبر عن هذا الوضع، مدفوعةً بهزيمة المعارضة ورغبة أنقرة في مقايضة موسكو في ظل حربها مع الأكراد، وهو وضع لا ترغب فيه الولايات المتحدة تماماً. وذلك ليس رغبةً في تحقيق انتصار للمعارضة، وإنما لإطالة أمد الأزمة، واستنزاف جميع الأطراف المتحاربة، فعلى ما يبدو أن توقيت الحل من وجهة النظر الأمريكية لم يأت بعد. ثانياً هذا الشرط أيضا يأتي للضغط على روسيا، في ظل احتدام التنافس الامريكي الروسي على رقعة سوريا الجغرافية، وفي ميادين الحل السياسي أيضاً.

وفي إطار هذه الاستراتيجية الجديدة، وفي ظل احتدام التنافس الأمريكي الروسي الحالي، يُرجح أن تكون الولايات المتحدة من دعمت “هيئة تحرير الشام” “هتش” في إدلب بصواريخ مضادة للطائرات، مكنتها من اسقاط الطائرة الروسية “سوخوي 25” وقتل طائرها في 3فبراير الماضي(9 ) . كما لا يستبعد أيضا توجيه الولايات المتحدة ضربات عسكرية للنظام مرة أخرى، خاصة مع وجود قرائن لاستخدامه أسلحة كيماوية من جديد، حيث استخدم الأسد في الأيام الماضية غازالكلور السام في الغوطة الشرقية( 10) .

(4) مواجهة إيران:

مع فشل سياسة الاحتواء التي تبنتها الولايات المتحدة في مواجهة النفوذ الإيراني، لجأت الولايات المتحدة لسياسة الانخراط المباشر طويل الأمد في سوريا، بالأخص في الشرق والشمال الشرق والجنوب الشرقي. وبنظرة جيوسياسية لهكذا تموضع، يبدو أنه لحد كبير منطقي وجيد في إطار المواجهة الأمريكية لتنظيم “داعش” وإيران، فداعش بعد فقدانه لمعاقله الرئيسية في الرقة ودير الزور، سوف ينتشر في جيوب متفرقة في البادية السورية وعلى الحدود العراقية السورية، أما إيران فإن الطريق البري التي تسعى لتأمينه، الواصل من طهران لبيروت يمر حتماً بأحد المعابر الحدودية بين سوريا والعراق. وبالتالي فإن تمركز التواجد الأمريكي في هذه المناطق؛ سيساعدها في مواجهة “داعش” وإيران معاً. ولكن هنا يجب الإشارة لمفارقتين بالغتا الأهمية:

(أ) فيما يتعلق بالتواجد الأمريكي في الشمال والشرق السوري، في هذه المنطقة يوجد منفذان حدوديان رئيسيان بين سوريا والعراق: الأول، البوكمال مقابل مدينة القائم العراقية، ويسيطر عليه من جهة سوريا قوات النظام والميلشيات المدعومة إيرانياً. الثاني، اليعربية في مدينة الحسكة مقابل منفذ ربيعة العراقي في نينوى، ويسيطر عليه من جهة سوريا قوات “سوريا الديمقراطية” المدعومة أمريكياً. كما قامت ميلشيات “الحشد الشعبي” في يونيو الماضي بفتح منفذ جديد بشكل غير رسمي بمنطقة البعاج، وهو ما يمكن طهران من ممر بري متواصل، من إيران مروراً بمحافظة ديالى ثم محافظة صلاح الدين وصولاً لمدينة البعاج ومنها للحدود السورية، ويسيطر على منفذ البعاج من جهة سوريا قوات النظام وميلشيات مدعومة إيرانياً( 11) .

وبالتالي أمام إيران ممران بريان تسيطر عليه القوات والمليشيات الحليفة لها في الجانبين السوري والعراقي، الأول “القائم- البوكمال”، وهو ممر رسمي ومكتظ بالسكان، والثاني “البعاج”، وهو ممر غير رسمي ولا يخضع للرقابة، وهو طريق صحراوي يندر فيه تواجد سكاني. ومن ثم فالولايات المتحدة لم تستطع قطع الممرات البرية الإيرانية التي تصلها بشرق المتوسط بشكل كامل، إذ تسيطر الولايات المتحدة وحلفائها على معبر وحيد في الشرق.

استراتيجية ترامب في سوريا: ماذا بعد؟-1

(ب) فيما يتعلق بالتواجد الأمريكي بالجنوب السوري، في هذه المنطقة يوجد منفذ بري وحيد بين سوريا والعراق، وهو منفذ الوليد العراقي في مقابل منفذ التنف السوري، وتسيطر الولايات المتحدة وحلفائها من قوات الجيش الحر على منفذ التنف، حيث تتواجد قاعدة عسكرية أمريكية في هذه المنطقة، وبالتالي لا يوجد ممر بري إيراني يمر من إيران مرورا بالعراق عن طريق الجنوب السوري( 12) . لكن هناك إشكالية أخرى تتعلق بالجنوب السوري، وهي أن اتفاقيات خفض التصعيد برعاية الترويكا “أمريكا وروسيا والأردن”، لم تستطع إبعاد الميلشيات الإيرانية عن الجنوب السوري حيث التماس مع الحدود الإسرائيلية. فمازالت الميلشيات المدعومة إيرانياً “اللواء 313” متواجدة في مدينة درعا، والتي تبعد ١٢ كم فقط عن الحدود الإسرائيلية، وهي ميلشيات محلية أنشأتها إيران؛ للتحايل على الاتفاقيات الساعية لإبعادها عن الحدود(13 ) . كما تتواجد “لواء تحرير الجولان”، وهي ميليشيا عراقية شكلت في مارس 2017، مدعومة إيرانياً ومتواجدة في الجولان(14 ) .

رابعاً، ارتدادات الاستراتيجية:

يبدو أن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة سوف تؤدي لمزيد من تعقيد الأزمة السورية، وإطالة أمدها والمزيد من استنزاف أطرافها، وعرقلة جهود التسوية الأممية والروسية من ناحية، واحتدام التنافس الجيوسياسي الإقليمي والدولي على الجغرافيا السورية من ناحية أخرى.

فقد أكدت الولايات المتحدة في استراتيجيتها الجديدة على مسارات حل أممية، بقيادة الأمم المتحدة، في إشارة لرفض مسارات الحل التي تتزعمها موسكو ومعها أنقره وطهران في “أستانا وسوتشي”. ولا يبدو أن الولايات المتحدة ستسمح لروسيا بفرض رؤيتها للحل بشكل منفرد، ومن خلال مسارها الخاص، وهو كفيل بإفشال أي رؤية أو جهود للحل. جدير بالذكر أن “قوات سوريا الديموقراطية” “قسد” المدعومة أمريكياً، تسيطر على معظم المراكز الحضرية الرئيسة في منطقة شمال شرق سورية، وهي مدن القامشلي والرقة والطبقة ومنبج وتل أبيض وعين العرب وعامودا والدرباسية والشدادي والصور والبصيرة وغيرها، في حين تقتسم السيطرة على مدينة الحسكة مع قوات النظام، وتتضمن مناطق سيطرة “قسد” نحو 60% من آبار النفط والغاز في سورية، إضافة إلى نحو 80% من المناطق القابلة للزراعة(15 ) . ومن ثم من الصعب استناداً لهذه الحقائق، إغفال الدور الأمريكي في الحل السياسي المحتمل للأزمة السورية.

إن الحديث الأمريكي عن تموضع عسكري طويل الأمد في سوريا وربطها الخروج من سوريا، وكذلك مشاركتها في إعادة إعمار سوريا، خاصة في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام بمطلب رحيل بشار والقضاء على تنظيم “داعش” نهائياً، ترغب من خلاله تعديل موازين القوى نوعاُ ما المنحازة لجهة نظام بشار وحلفائه، وما يترتب على ذلك من إطالة أمد الأزمة من جديد، واعطاء دفعة وهمية جديدة للمعارضة تشعرها بالقوة، بما يدفعها لرفض الحلول الروسية المبنية على موازين قوى مختلة.

ومن ثم فكل المسارات لا تؤدي لوضعية جيدة للمعارضة السورية، سواء انفردت روسيا بفرض رؤيتها للحل، أو تشابكت معها الولايات المتحدة، رافضةً رؤيتها. ففي الحالة الأولى المخرج هو حل غير عادل ينسف كل الحقوق التي طالب بها الشعب السوري منذ البداية، وفي الحالة الثانية إطالة أمد الأزمة ومزيد من الاستنزاف العسكري لجميع الأطراف، مع مزيد من الخسائر البشرية والبنية التحتية السورية.

وعلى ما يبدو، وفي ظل التموضع العسكري الأمريكي الجديد طويل المدى في سوريا، واستمرار دعمها للأكراد، ورفضها لمسارات الحل الروسية “أستانا وسوتشي”، والرفض الروسي لمسارات الحل الأممية “جنيف”، فإنه على المدى القصير والمتوسط لن يكون هناك حل قريب للأزمة السورية بالأخص خلال العام الحالي، فأمد الأزمة السورية سيطول كثيراً. أما على المدى البعيد، فإن سيناريو الفدرلة، والمبني على تقاسم النفوذ لا التقسيم بين “الولايات المتحدة وتركيا وروسيا وإيران” هو المرجح حتى الآن، لكنه قد يتحول لخيار التقسيم الفعلي، إذا استمرت الأطراف الإقليمية والدولية في تنافسها البيني المحتدم، ورفضها لمسارات الحلول الأممية والروسية، وعدم توصلها لمسار توفيقي للحوار والحل يدفع كل الأطراف المتصارعة للالتزام به.

خلاصة:

بعد استعراض الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه الأزمة السورية، وتبيان مضامينها ودلالات توقيتها وتقييم مدى فاعليتها، وارتداداتها على الواقع السوري، فإننا نخلص إلى:

1- منذ انطلاق الثورة السورية في مارس 2011، ثم تأزمها بعد ذلك، لم تكن هناك ثمة استراتيجية أمريكية واضحة للتعامل مع الملف السوري، ومن ثم فهذه أول خطوة تؤسس للتعامل الأمريكي مع الأزمة السورية من منظور استراتيجي بأهداف وأدوات واضحة، بغض النظر عن النتائج.

2- تأتي الاستراتيجية بعد فشل الجهود الأمريكية في احتواء النفوذ الإيراني، بالاعتماد على روسيا ومحاولة فك ارتباطها بإيران، لتلجأ للانخراط المباشر طويل الأمد، وبعد القضاء عسكرياً على تنظيم “داعش”، واستمرار خطره الأمني، وفي ظل تسابق النفوذ على الجغرافيا السورية، بإيصال رسالة للمعارضة، مفاداها أن الولايات المتحدة مازالت تدعمهم في مطلب رحيل الأسد.

3- لا يبدو الحديث الأمريكي عن رحيل بشار جاد، فهو يُعبر عن تكتيك أكثر منه استراتيجية. وتظل الولايات المتحدة متخبطة نتيجة عدم قدرتها على التوصل لصيغة توافقية، تحفظ بها علاقاتها الاستراتيجية بحلفائها الأتراك والأكراد معاً. وبرغم أن الأكراد كان ولازال لهم دور كبير في مواجهة “داعش”، إلا أن دورهم في الاستراتيجية الأمريكية، الساعية لمزاحمة النفوذ الروسي ومواجهة النفوذ الإيراني تظل محل شك لحد كبير. وبرغم التواجد الأمريكي في الشمال والشرق والجنوب السوري، إلا أن القدرة على مواجهة النفوذ الإيراني على الأرض السورية، وقدرتها على قطع الممر البري الإيراني من طهران لبيروت تظل ضعيفة، في ظل سيطرة حلفاء إيران على معابر رسمية وغير رسمية على الحدود العراقية السورية، وعدم وجود ثقة كاملة في القوات الكردية على الأرض في مواجهة روسيا وإيران.

4- يبدو أن أمد الأزمة السورية سيطول، بعد الحديث عن تموضع عسكري أمريكي طويل الأمد، ورفض أمريكي أوروبي لطرائق الحل الروسية، والاكتفاء بالطريق الأممي، وأن سيناريو الفدرلة، والمبني على تقاسم النفوذ لا التقسيم هو المرجح حتى الآن، لكنه قد يتحول لخيار التقسيم الفعلي، إذا لم تتوصل الأطراف المتصارعة لمسار توفيقي للحوار والحل. (16 ) .

———————-

الهامش

(1 ) أمريكا تلمح إلى وجود عسكري لأجل غير مسمى في سوريا، القدس العربي، 17/1/2018، (تاريخ الدخول: 5/2/2018)، الرابط

( 2) تركيا تكشف معلومات سرية عن 10 قواعد أمريكية في سوريا، آر تي عربي، 19/7/2017، (تاريخ الدخول: 5/2/2018)، الرابط

(3 ) “اللواء 313” والتدخل الإيراني في درعا، المدن، 11/11/2017، (تاريخ الدخول: 5/2/2018)، الرابط

(4 ) إيران تؤكد الإبقاء على الحرس الثوري في سوريا، العربية نت، 23/11/2017، (تاريخ الدخول: 5/2/2018)، الرابط

( 5) ترامب يدافع عن كوشنر بعد اتهامات له بمحاولة “التواصل سرا” مع روسيا، بي بي سي عربي، 2952017، (تاريخ الدخول: 5/2/2018)، الرابط

(6 ) مجلس الشيوخ الأمريكي يقر عقوبات جديدة على روسيا وإيران وكوريا الشمالية، بي بي سي عربي، 28/7/2017، (تاريخ الدخول: 5/2/2018)، الرابط

( 7) وفد المعارضة ينسحب من مؤتمر سوتشي، سكاي نيوز عربي، 30/1/2018، (تاريخ الدخول: 5/2/2018)، الرابط

(8 ) الولايات المتحدة تنفي اعتزام تشكيل قوة حرس حدود كردية في سوريا، بي بي سي عربي، 18/1/2018، (تاريخ الدخول: 6/2/2018)، الرابط

(9 ) إسقاط مقاتلة روسية في إدلب ومقتل الطيار، العربية نت، 3/2/2018، (تاريخ الدخول: 6/2/2018)، الرابط

(10 ) النظام يستهدف جبهات القتال في الغوطة الشرقية بـ غاز الكلور، أورينت نيوز، 3/2/2018، (تاريخ الدخول: 6/2/2018)، الرابط

(11 ) رائد الحامد، الممرات البرية الإيرانية لتعزيز النفوذ ومواجهة التحديات، المركز الديمقراطي العربي، 26/12/2017، (تاريخ الدخول: 6/2/2018)، الرابط

(12 ) المصدر السابق

(13 ) “اللواء 313” والتدخل الإيراني في درعا، مصدر سابق.

(14 ) “لواء تحرير الجولان” خدعة إيران الجديدة للبقاء بسوريا، العربية نت، 31/3/2017، (تاريخ الدخول: 6/2/2018)، الرابط

(15 ) عبد الناصر العايد، خريطة السيطرة في شمال شرق سورية ومستقبل الوجود العربي فيها، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 31/1/2018، (تاريخ الدخول: 6/2/2018)، الرابط

(16 ) الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى