fbpx
دراساتمجتمع

الأسرار الخفية وراء كسر أنوف التماثيل المصرية!

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

كسر أنوف التماثيل المصرية

مقدمة

كثيرا ما يلاحظ الزائرون للآثار المصرية؛ أن هناك تشوهات واضحة بالكثير من التماثيل والمنحوتات. وقد يتبادر إلى أذهان البعض منهم تساؤلات عديدة حول أسباب تلك التشوهات، ومتى وقعت، ومن المتسبب فيها؟

ومؤخرا تكررت استفسارات مشاهدي الآثار المصرية بمتحف بروكلين بنيويورك[1]، الذين لاحظوا أن عددا من التماثيل المصرية مكسورة الأنوف، مما دفعهم نحو التوجه لأمين المتحف؛ عالم المصريات السيد “إدوارد بليبيرج[2]” للسؤال عن ذلك؛ والذي سعى من جانبه نحو الإجابة على تلك التساؤلات؛ من خلال دراسته الشيقة التي توصل من خلالها أن كسر أنوف التماثيل المصرية تم بشكل متعمد[3].

وقد أثارتني تلك التساؤلات؛ كما حفزتني تلك الردود والأسباب التي رآها أمين المتحف، فدفعتني نحو دراسة الأمر بشكل أعمق. ولذا فأود بداية أن أشكر رواد متحف بروكلين وأمينه السيد بليبيرج الذين كانوا سببا أساسيا نحو ظهور هذه الدراسة.

ودراسة بليبيرج؛ رغم أهميتها وتميزها؛ إلا أنها ليست بالدراسة التي بإمكاننا أن نعمم نتائجها، فهي جاءت في نطاق زماني ومكاني ضيق، فلم تتجاوز حدود الآثار المصرية إلى غيرها من آثار الحضارات الأخرى، كما أنها لم تتعدى دراسة بعض التماثيل المعروضة بثلاثة بالولايات المتحدة الأمريكية هي؛ متاحف بروكلين، والمتروبوليتان[4]، وكليفلاند للفنون[5].

أما دراستنا الحالية فلم تكتف؛ بالاطلاع على التماثيل الفرعونية التي ذكرها بليبيرج والموجودة بالمتاحف الثلاثة، بل تناولت تماثيل مصرية أخرى تعود للعصر الفرعوني وكذا للعصرين البطلمي والروماني. هذا فضلا عن اطلاع الدراسة الحالية على تماثيل أخرى تنتمي لحضارات قديمة غير الحضارة المصرية؛ كحضارة العراق وسوريا واليمن واليونان وغيرها. وجاء هذا الاطلاع على التماثيل بمتاحف عديدة منها المتحف البريطاني بلندن[6]، ومتحف اللوفر بفرنسا[7]، ومتحف بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية[8]؛ ومتحف التحرير بمصر ومتاحف بغداد ودمشق وعدن وغيرها. 

وقد جاءت الدراسة الحالية، في؛ مقدمة ومحورين اثنين وخاتمة، فجاء المحور الأول بعنوان: مناقشة الأسباب التي رآها بليبيرج، ودار حول الكشف عن الأسباب التي رآها بليبيرج للتأكيد على رأيه بأن كسر أنوف التماثيل المصرية تم بشكل متعمد، ووضحنا وجهة نظرنا حول رأيه. في حين جاء المحور الثاني، متناولا ما توصلت إليه الدراسة الحالية من أن كسر أنوف التماثيل المصرية جاء بشكل غير متعمد، وحمل عنوان: الأسباب الخفية وراء كسر أنوف التماثيل المصرية.

المحور الأول: مناقشة الأسباب التي رآها بليبيرج:

تناول بليبيرج في دراسته عددا من التماثيل المصرية الموجودة بمتحف بروكلين، ومتحفي المتروبوليتان وكليفلاند للفنون، وتوصل من خلالها؛ أن كسر أنوف التماثيل المصرية تم بشكل متعمد ومقصود، وأرجع نتائج بحثه للأسباب الآتية:   

  • أسباب سياسية؛ تمثلت في التناحر بين عدد من حكام وملوك مصر القديمة والتصارع فيما بينهم على العرش، مما حذا بهم نحو تشويه آثار من سبقهم من الملوك.
  • أسباب جنائية؛ ومعظمها يرجع للعصر الفرعوني نفسه، وتمثلت في السرقات التي كانت تتعرض لها المقابر القديمة من خلال اللصوص الذين تعمدوا تشويهها؛ اعتقادا منهم أن هذا التشويه يمنع تلك التماثيل من رؤيتهم أو الشعور بهم.
  • أسباب دينية، وحددها بليبيرج بالديانتين المسيحية والإسلامية؛ وذكر أنهما عندما دخلتا مصر قامتا بتشويه وتدمير التماثيل القديمة على اعتبار أنها وثنية، وتُعبد من دون الله.

ولمناقشة هذه الأسباب أقول الآتي:

– إنني أشارك بليبيرج في أن هناك أسبابا سياسية؛ وراء تلك التشوهات التي لحقت بالتماثيل؛ فقد كان بعض الحكام في مصر القديمة عندما يصلوا للعرش يحاولوا إزالة تاريخ من سبقهم من الملوك الأقوياء؛ وخاصة ممن كانوا معهم في عداء، وكانوا يسعون من خلال ذلك نحو العمل على إعادة كتابة التاريخ بما يتناسب مع رؤيتهم، ومن أشهر الأمثلة على ذلك؛ ما حدث بين كل من الملكة حتشبسوت (1479–1458 ق.م) والملك تحتمس الثالث (1479–1425 ق.م) الذي شاركها في الحكم لفترة ثم تلاها منفردا؛ فحتشبسوت كانت من أقوى وأبرز حكام مصر؛ وعندما انفرد أخوها بكرسي العرش، حاول التخلص من كل ما يذّكر بها؛ فشوّه صورها بمعبدها بالدير البحري وأزال الكثير من خراطيشها[9].

وأضيف هنا؛ أن الأسباب السياسية لتشويه الآثار، وكسر أنوف التماثيل المصرية، لم تكن مرتبطة بالتناحر الداخلي بين الملوك والتصارع على الحكم فقط، بل كانت أيضا نتيجة الاحتلال الأجنبي الذي تعرضت له مصر على مدار تاريخها؛ فلما وقع الاحتلال الروماني لمصر عام 32ق.م، أخذ السائحون الرومان والدبلوماسيون والسفراء والعسكريون يتوافدون على مصر من أجل العلم والثقافة والترفيه، وكان من ضمن أهدافهم الحصول على قطع أثرية فرعونية، بأي وسيلة كانت؛ فترتب على طمعهم وتعجلهم في حمل كل ما استطاعوا من الآثار المصرية بأي وسيلة؛ كسر وتشويه العديد من التماثيل. وهكذا حدث لآثار مصر في كل عصور الاحتلال المختلفة التي تعرضت لها؛ وما أكثرها[10]

كما أن كثيرا ممن حكموا مصر من الملوك والسلاطين خلال الألف سنة الأخيرة؛ والذين قاموا بتشييد منشآت ضخمة خلال فترة حكمهم؛ استسهلوا نقل الأحجار من المعابد الأثرية القريبة بدلا من جلبها من المحاجر المتناثرة بالصحراء، فقاموا بتقطيع وتكسير المباني الأثرية وإعادة استخدامها في المنشآت المعمارية، ولا يزال الكثير منها موجود في المباني التاريخية بالقاهرة. وفكرة نقل العناصر المعمارية والفنية من الآثار القديمة وإعادة استخدامها فى عمائر جديدة فكرة قديمة لم تقتصر على الحضارة الإسلامية وحدها، بل وجدت كدلك فى معظم الحضارات القديمة، واستمرت تلك الفكرة فى العصور الإسلامية المختلفة[11].

– وأشارك بليبيرج أيضا في أن هناك أسبابا جنائية لعملية كسر أنوف التماثيل المصرية؛ تمثلت في سعي اللصوص نحو سرقة الآثار، وتشويهها؛ وخاصة بالمقابر. فقد حرص المصري القديم علي الحفاظ على مقبرته والإبقاء عليها في حالة جيدة وذلك لإيمانه بالحياة الأبدية الخالدة بعد الموت‏، وعمل على تأمينها بكل الطرق التي تُوهم أنها لن تتيح لـ لصوص المقابر الوصول إليها والعبث بها، ولكن هيهات فقد استطاع محترفو السرقات الوصول إلى العديد من تلك المقابر ونهبها، وخاصة مع بداية حكم الأسرة العشرين؛ حين تبعثرت ونُهبت مومياوات العديد من الملوك والكهنة فى البر الغربي بالأقصر؛ رغم أن هذا المكان كان أكثر أماناً في الحفاظ على مقابرهم التي ظلوا يدفنون فيه موتاهم لمدة 400 عام كاملة[12].

وأضيف أن هناك بردية فرعونية ترجع لعهد رمسيس التاسع (1129-1111 ق.م)، تحدثنا عن أول عملية نهب للآثار؛ تمت في عاصمة الدولة طيبة (الأقصر حالياً). كما أن “هوارد كارتر” عند اكتشافه مقبرة توت عنخ آمون (1334-1325 ق.م) عام 1922م، حكى أنه لاحظ أن سرقة تمت بالمقبرة، بالرغم من أنها لم تفتح منذ العصر الفرعوني[13]

ولكي يقوم اللصوص بسرقة تلك المقابر كان عليهم – من وجهة نظرهم – القيام بتشويه التماثيل الموجودة بالمقبرة؛ فقد كان من المعروف أن المقابر والمعابد بها العديد من التماثيل والنقوش التي تمثل شخص المعبود أو الملك أو المتوفى وكان لها دور مهم تؤديه في العقيدة المصرية القديمة ومنها دور الحماية للمعبد والمقبرة، ولذا فقد حاول اللصوص تشويه تلك التماثيل والأشكال حتى لا تقوم بأداء دورها في الحماية، واعتبروا أن هذا التشويه لن يجعلها قادرة على أداء مهمتها المنوط بها في الدفاع عن المتوفى، حيث لم يعد الجزء التالف من الجسم قادرا على أداء وظيفته، فالأذن عندما تشوه لن تسمع، والعين عندما تُطمس لن ترى ما يفعله اللص. بل اعتقدوا أيضا أن اعتداءهم على التمثال وكسر يده لن تجعله قادرا على تلقي القرابين أو تقديمها. ولذا فكان عليهم أن يقوموا بعملية التشويه تلك حتى يستطيعوا إتمام مهمتهم بنجاح[14].

ومما يؤكد لنا على ذلك أيضا؛ أن المصري القديم قام بوضع عدد من القواعد والتشريعات التي تمنع الاعتداء على المقابر وأماكن العبادة وحذر من ذلك، ويظهر ذلك في العديد مما وصل إلينا من أدبياتهم[15]، ومنها على سبيل المثال ما كُتب في مدخل حجرة الدفن الخاصة بـ توت عنخ آمون، وهي العبارة التي حذرت من المساس بالمقبرة ونصت على أن: “الموت سوف يمس بجناحيه من يقلق أبدية الملك الذي يرقد في هذا المكان”[16].

وبالرغم من كل ذلك لم تنجح محاولاتهم؛ في المحافظة على مقابرهم، فقد كان المخربون واللصوص مهرة في صنعتهم، كما أنهم لم يكونوا متهورين أو يعملون بطريقة عشوائية، بل كانوا متدربين على القيام بها، وهكذا تشير أعمالهم التخريبية.

– أما الأسباب الدينية التي ذكرها بليبيرج؛ وهي أن كلا من الديانة المسيحية والديانة الإسلامية عندما دخلتا مصر قامتا بتشويه وتدمير التماثيل؛ فلا أشاركه الرأي فيها؛  وذلك لأن تلك التشوهات بدأت منذ العصر الفرعوني نفسه؛ حين اختلفت الديانات من عصر لآخر، ومن أبرز الأمثلة على ذلك؛ ما حدث من تدمير وتخريب لآثار الملك أخناتون (1390-1349 ق.م) بمدينة تل العمارنة بالمنيا؛ والذي كان عبارة عن رد فعل من كهنة المعبود (آمون) وأتباعه ضد أخناتون؛ عندما دعا لعبادة معبود آخر هو (آتون)، وتجاهل المعبودات الأخرى ودعا إلى تجنبها؛ ولكنه وبمجرد فلول عهده عانت آثاره من التدمير؛ بل وعانى خلفاؤه أيضا مثل الملك سمنخ كارع (1335- 1334 ق. م) والملك توت عنخ آمون وغيرهما من نفس المصير، فتم تدمير آثارهم على يدي الملك حور محب (1353- 1321 ق.م)؛ وإن لم تكن بشكل كبير فقد وجدنا تماثيل لأخناتون سليمة دون كسر أنف أو تشويه.

وما ذكره بليبيرج؛ بأن هناك تشوهات تعرضت لها الآثار الفرعونية على يد أتباع الديانة المسيحية، حين اعتبروا أن المعبودات المصرية المُمثلة في تلك التماثيل والنقوش وثنية يجب اجتنابها، ولذا قاموا بتشويهها. وما ذكره أيضا بأن أتباع الإسلام بعد دخوله مصر خلال القرن السابع الميلادي، رأوا أن تلك التماثيل يجب إزالتها وتشويهها لأنها كانت تُعبد من دون الله[17]، فلنا هنا رد عليه يتمثل؛ في أن الحقيقة الساطعة تدل على أن الرسالات السماوية رفضت عبادة ما دون الله، سواء كان بشرا أم حيوانا أم حجرا، ولذا فإن المسيحية أو الإسلام لم تعتبرا تلك التماثيل أوثانا إلا في حال عبادتها. وأعتقد أن تلك الفترة التي دخلت فيها المسيحية مصر، وكذا الفترة التي قدم فيها الإسلام؛ لم تكن تلك التماثيل تعبد فيها من دون الله، فمن المستبعد حقيقة أن تكون هذه الديانات قد قامت بتشويه تلك التماثيل لهذا السبب؛ وإن كنت لم أستبعد القيام بالتشويه والتخريب لهذه التماثيل من بعض أتباع هذه الديانات معتبرين أنفسهم بأنهم يؤدون واجبا دينيا مقدسا.

بل حتى وإن جاءت تلك التشويهات من خلال بعض الحكام المسيحيين أو المسلمين خلال تلك الفترات؛ فإنني لا زلت أرى أن أعمالهم تلك لا تدل على أن هناك نهجا عاما سار عليه كل الحكام والمسؤولين، بل إن التاريخ يذكرنا بأن هذا التشويه بل والتدمير والتخريب الذي لحق بالآثار الفرعونية؛ إنما كان نتيجة أعمال فردية قام بها البعض بحجة أنهم يحمون الدين، مثل ما قام به الإمبراطور الروماني جستينيان (527- 565م) في القرن السادس الميلادي، والذي بحجة مؤازرة مسيحيي مصر أغلق معبد إيزيس بفيلة وقام بنقل تماثيله إلى القسطنطينية مما ساعد على تشويهها وتدميرها، بل إن معظم الآثار الفرعونية الظاهرة فوق الأرض تم إتلافها وتخريبها في ذلك العهد، بل واستخدمت أحجارها في البناء[18].

كما أن هذا التشويه والتخريب؛ لو كان مطلبا من مطالب تلك الديانات لقام أتباعها بالتدمير الشامل لتلك التماثيل ولما اكتفوا بالتشويه الطفيف المرتبط بجزء منه. كما أنه لو كان أمرا دينيا لعملوا على إزالة تلك المنحوتات المجسمة المنقوشة على جدران المعابد المصرية!

بل إن تاريخ تلك الديانات في مصر يثبت لنا العكس؛ فالتاريخ يبين لنا أن الديانة المسيحية كان من أبرز أعمالها الفنية تلك الأيقونات التي حملت صور العديد من الشخصيات الدينية المقدسة[19]، ولذا فمن المستبعد القيام بعملية التشويه بسبب ديني. كما أنه؛ لما فتح المسلمون مصر، وانتصروا على الرومان؛ انبهروا بآثارها وعمارتها؛ حتى أن قائدهم عمرو بن العاص وصف مصر بقوله؛ هي: “مدينة بها أربعة آلاف حمام؛ وأربعة آلاف قصر؛ وأربعمائة مسرح؛ وألف ومائتي بائع خضار…”[20]. فمن المستبعد من مثل هؤلاء أن يكونوا قد عملوا على تخريبها وتدميرها بشكل متعمد كما يدّعي بليبيرج.

المحور الثاني: الأسباب الخفية وراء كسر أنوف التماثيل المصرية!

وبعد مناقشتنا للأسباب التي رآها بليبيرج تبريرا لما توصل إليه؛ من أن كسر أنوف التماثيل المصرية كان بشكل متعمد، نستطيع أن نعلن مخالفتنا لرأي بليبيرج، وذلك للأسباب التالية:

  • أن دراسة بليبيرج تعتبر دراسة غير صادقة النتائج؛ ولا نستطيع تعميمها؛ لأنها دراسة محددة بنطاق مكاني ضيق، تمثل في ثلاثة متاحف؛ هي متحف بروكلين الذي أثارت بعض تماثيله المصرية تلك التساؤلات، ومتحف المتروبوليتان للفنون؛ ومتحف كليفلاند للفنون، وجميعها متاحف أمريكية. (أشكال 1-3)، كما أنها أقرت نتائجها تلك دون عمل مقارنة بين التماثيل المصرية وغيرها من التماثيل الخاصة بالحضارات الأخرى. أما دراستنا الحالية فكان نطاق بحثها أكبر فلم تكتف بالمتاحف الثلاث فقط، بل اطلعت على التماثيل المصرية وغير المصرية بتلك المتاحف وبمتاحف أخرى؛ كالمتحف البريطاني ومتحف اللوفر والمتحف المصري بالتحرير وغيرها.
  • كما أن دراسة بليبيرج دارت حول التشوهات التي تعرضت لها أنوف التماثيل فقط، ولم تتعرض للتشوهات الأخرى التي تتعرض لها الأجزاء الأخرى بالتمثال، وما أكثرها سواء بالتماثيل المصرية القديمة أو بغيرها، في داخل مصر أو خارجها. فالأنف هو جزء ضعيف بارز بالتمثال؛ ولذا فهو من الأعضاء الهشة بالنسبة لباقي أجزاء التمثال؛ مما يجعله سريع الكسر، وقد وُجدت العديد من التماثيل المصرية وغير المصرية مكسورة الأنف أو الذراع أو القدم أو الرأس أيضا وهي الأجزاء المتطرفة بالتمثال ولم تتوقف التشوهات والكسور عند الأنف فقط. (أشكال 4-7)
  • عوامل التعرية والكوارث الطبيعية التي تعرضت لها مصر طوال تاريخها، كانت -بما لا يدع مجالا للشك -سببا في إحداث الدمار للعديد من المباني الأثرية، وبالتأكيد على التماثيل المنحوتة، ولدينا الكثير من المباني الضخمة كالمعابد والمسلات؛ التي تعرضت للتدمير والتشويه على مدار التاريخ؛ ومعظم هذا التدمير نتج بسبب عوامل التعرية التي تعرضت لها بمرور الزمن، فما بالك بالتماثيل الصغيرة؟ والأمثلة على ذلك كثيرة، منها ما تعرض له معبد دندرة، وما تعرضت له منطقة صان الحجر بالشرقية. (الأشكال من 8-9)
  • ومن أهم الأسباب التي تجعلني أخالف بليبيرج فيما توصل إليه أيضا؛ هو أن كسر أنوف التماثيل المصرية القديمة لم يكن بالأمر الخاص بالتماثيل الفرعونية فقط؛ فهناك تماثيل أخرى وجدت مكسورة الأنوف تعود للعصرين البطلمي والروماني بمصر، كما نرى بالأشكال (10-13)
  • كما أن كسر أنوف التماثيل القديمة لم يكن بالأمر الخاص بالتماثيل المصرية؛ فهناك تماثيل أخرى وجدت مشوهة؛ تنتمي للحضارات الأخرى بالعراق وسوريا واليمن، بل وباليونان وغيرها من الحضارات كما نرى بالأشكال (14-20)
  • والأكثر من ذلك دلالة على رأينا؛ أنه وعند اطلاعنا على تماثيل مصرية أخرى موجودة داخل مصر وخارجها؛ تأكد لنا أن هناك تماثيل لملوك وملكات لم تشوه ولم تكسر أنوفها؛ رغم أن أصحابها هم من أكثر الحكام الذين تعرضوا لانتقادات ممن تلاهم من الملوك، ومن هؤلاء أخناتون ونفرتيتي وحتشبسوت (أشكال 21-23)، بل هناك تماثيل أخرى ولم تكسر أنوفها وموجودة بمتحف بروكلين نفسه، مثل تمثال بيبي الأول الذي قامت ضده أول ثورة اجتماعية عرفها التاريخ. (شكل 24)
  • كما أن تلك التماثيل المنحوتة والمشوهة؛ وبالرغم تعددها إلا أنها لا تقارن بعدد التماثيل الأخرى غير المشوهة المكتشفة حتى الآن، ومنها تماثيل من الحجر بل ومن الخشب وغيره وبالرغم من ذلك لم يمسها الكسر أو التشويه، مثل تماثيل مصرية بمتاحف ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. (أشكال 25-27)
  • هذا فضلا عن أن نوع الحجر المستخدم في النحت أو النقش، كان هو في حد ذاته سببا في تعرض تلك التماثيل والمنحوتات للتلف من عدمه؛ فالتمثال المصنوع من الحجر الرملي أو الحجر الجيري على سبيل المثال لن يكون بالتأكيد قادرا على تحمل ما يتحمله التمثال المصنوع من البازلت والجرانيت بمرور الزمن، ولذا فإن معظم التشوهات حدثت لتماثيل منحوتة إما من الحجر الجيري أو الرملي.
  • وهناك سبب آخر يؤكد رؤية الباحث؛ وهو أن الكثير من تلك التماثيل والمنحوتات قد تعرضت للتشويه والكسر أثناء اكتشافها، أي أن الكسر والتشويه تم بشكل غير متعمد وخاصة إذا حدث ذلك أثناء التنقيب غير الشرعي الذي يقوم بها بعض الموطنين، أو التي عثر عليها من خلال الصدفة المحضة[21].
  • وأخيرا؛ إذا نظرنا إلى أشهر تمثال كُسر أنفه؛ وهو تمثال “أبو الهول”، فقد حاول كثيرون إلصاق تهم كسر أنفه إلى جهات مختلفة؛ فمنهم من اتهم الجيوش البريطانية والألمانية أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية، ومنهم من ألصقها بجيش نابليون أثناء الحملة الفرنسية على مصر. وآخرين اتهموا شخصا متعصبا يدعى، محمد صائم الدهر خلال القرن الخامس عشر الميلادي[22]. وكل هذه الروايات واهية؛ وخاصة أن هناك رسوما لـ “أبو الهول” تعود لعام 1737م قام بها المستكشف الأوروبي، فريدريك لويس، أظهرت التمثال بدون أنف. كما أن رواية صائم الدهر هي رواية مكذوبة أسطورية خيالية. ولذا فسواءً صدقت إحدى تلك الروايات أو كذبت جميعها، فالأمر يؤكد ما توصلنا إليه من أن كسر أنوف التماثيل المصرية لم يكن بالأمر المتعمد، وإن تم متعمدا في تمثال “أبو الهول” فالأمر لا يتعدى كونه حادثا فرديا كغيره، والدليل على ذلك امتلاء ربوع مصر بالتماثيل السليمة التي لم يمسّها كسر أنف أو تشويه.

 الختام:

وختاما نستطيع أن نقول؛ إن دراسة بليبيرج دراسة جيدة وشيقة، وإليها يرجع الفضل في ظهور الدراسة الحالية. حتى وإن اختلفنا معه فيما وصل إليه من آراء تمثلت في أن كسر أنوف التماثيل المصرية جاء بشكل متعمد.

فقد أثبتنا من خلال مناقشة الأسباب التي برر بها بليبيرج رأيه، وكذا ما ذكرناه من دلائل أخرى بعد اطلاعنا على عدد من التماثيل المصرية وغير المصرية بعدد من المتاحف المحلية والعربية والأوروبية والأمريكية، أثبتنا من خلال ذلك كله، أن كسر أنوف التماثيل المصرية لم يكن بالشيء المتعمد؛ فعدد التماثيل المصرية غير المشوهة أكبر بكثير من تلك المشوهة، والكسر والتشويه لم يكن مرتبطا بالأنف فقط؛ بل شمل أجزاء أخرى بالتمثال، كما أن الظاهرة لم تكن مرتبطة بالتماثيل المصرية فقط بل وجدت بغيرها من التماثيل المنتمية للحضارات الأخرى.

وفي النهاية يرجو الباحث؛ أن يكون قد قدم رؤية جديدة في تفسير ظاهرة كسر أنوف التماثيل المصرية، آملا استمرار مثل تلك الدراسات، وعدم الإقرار بما قد يعلنه بعض الباحثين الأجانب من نتائج تخص قضايا آثارنا المصرية دون فحص وتدقيق. 


الهامش

[1] – ومتحف بروكلين للفنون The Brooklyn Museum of Art هو ثاني أكبر متحف في نيويورك، يقع في حي بروكلين علي مساحة 560.000 قدم، ويضم المتحف ما يقرب من 1.5 عمل فني، كما يحتوي علي واحدة من أفضل مجموعات الفن المصري في العالم، ويعرض في هذا المتحف أيضا التراث الفني الأثري لجميع ثقافات العالم، حيث تعرض لوحات للعديد من المدارس الفنية التي تغطي فترة ثلاثة قرون أي من القرن السابع عشر وحتى القرن التاسع عشر، إلى جانب عرض أعمال لفنانين معاصرين مثل باتريك كيلي، وتاكاشي موراكامي، وسيلفيا سلاي في مكان مرموق بالمتحف إضافة إلي أعمال فنية كلاسيكية وأعمال قديمة من الشرق الأوسط وأفريقيا والمحيط الهادئ والأميركتين مقسمة علي 28 غرفة.

[2] – إدوارد بليبيرج؛ هو عالم آثار أمريكي وعالم مصريات. ولد في مارس 1951، تخرج من كلية هارفارد، وأجرى دراسات عليا في جامعة ييل والجامعة العبرية في القدس، وحصل على شهادة الماجستير والدكتوراه. من جامعة تورونتو عام 1998، كان أمينًا لمتحف بروكلين للفنون بنيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو مؤلف لعدة كتب ومقالات عن الاقتصاد المصري القديم والتوابيت المصرية والأقلية اليهودية في مصر القديمة وروما القديمة، نظم عددا من المعارض الأثرية في بروكلين من أهمها: الحياة اليهودية في مصر القديمة، وشجرة الجنة: الفسيفساء اليهودية من الإمبراطورية الرومانية، والعيش إلى الأبد: الكنوز المصرية من متحف بروكلين، وهو معرض يستكشف عادات الدفن المصرية التي بدأت في أحد عشر عامًا.

[3] –  الرابط

[4] – متحف المتروبوليتان للفنون؛ يوجد بمدينة نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية، أسس عام 1870، ويعتبر من أشهر وأضخم متاحف العالم، يحتوي على آثار من جميع الحضارات وهو يفوق اللوفر بمراحل من حيث الضخامة، ويحوي المتحف تسعة عشر جناحاً متحفيا.

[5] – متحف كليفلاند للفنون؛ يقع بالولايات المتحدة الأمريكية، ويحتوي مجموعه ممتازة تضم أكثر من 61000 عمل فني من اللوحات الفنية الأوروبية، فضلا عن القطع التي تنتمي للفن الأفريقي والأسيوي، وخاصة المصري والسوري، ويضم مجموعة دائمة ومتنوعة.

[6] – المتحف البريطاني في لندن؛ هو أكبر متحف في المملكة المتحدة، وأحد أهم المتاحف في تاريخ وثقافة البشر، حيث يعتبر أقدم المتاحف. تأسس عام 1753، اعتماداً على مجموعات العالم الفيزيائي السير هانز سلون. افتتح في 15 يناير، 1759 في بلومزبري، في نفس مكان المتحف الحالي. يحتوي على أكثر من 13 مليون قطعة من جميع القارات، وقد وضعت العديد من التحف أسفل المتحف بسبب ضيق المساحة.

[7] – متحف اللوفر؛ من أهم المتاحف الفنية في العالم كله، ويقع في باريس عاصمة فرنسا. يعد أهم متاحف بفرنسا، كان عبارة عن قلعة بناها فيليب أوگوست عام 1190، تحاشيا للمفاجآت المقلقة هجوما على المدينة أثناء فترات غيابه الطويلة في الحملات الصليبية، وأخذت القلعة اسم المكان الذي شُيدت عليه. يعد أكبر متحف في العالم. وخضع في عهد الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران إلى عمليات إصلاح وتوسعة كبيرة.

[8] – متحف الفنون الجميلة في بوسطن؛ هو خامس أكبر متحف في الولايات المتحدة. إنه يحتوي على أكثر من 450،000 عمل فني، مما يجعله أحد أكثر المجموعات شمولاً في الأميركتين. مع أكثر من مليون زائر سنويًا، يعد المتحف الفني رقم 43 الأكثر زيارة في العالم اعتبارًا من عام 2016. تأسس المتحف في عام 1870، وانتقل إلى موقعه الحالي في عام 1909. يرتبط المتحف بمدرسة متحف الفنون الجميلة.

[9] – للمزيد، انظر: زكية يوسف طبوزادة، تاريخ مصر القديم من أفول الدولة الوسطى إلى نهاية الأسرات، القاهرة 2008.

[10] – للمزيد، انظر: بريان م. فاجان، نهب آثار وادي النيل ودور لصوص المقابر، ترجمة: أحمد زهير أمين، مكتبة الأسرة، القاهرة 2003

[11] – للمزيد، انظر: حسن عبد الوهاب، الاثار المنقولة والمنتحلة فى العمارة الإسلامية، المجمع العلمي المصري، القاهرة 1956

[12] – للمزيد، انظر: أشرف محمد حسن علي، الآثار المصرية المستباحة، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة 2016

[13] – حسين دقيل، سرقة آثار مصر: الجوانب الخفية، المعهد المصري للدراسات، 12 مارس 2018

[14] –  الرابط

[15] – للمزيد، انظر: هيرودوت يتحدث عن مصر، ترجمة: محمد صقر خفاجة، دار القلم، القاهرة 1991

[16] – للمزيد، انظر: واليس بدج، توت عنخ آمون، من عبادة آمون إلى عبادة آتون، إلى التوحيد في مصر القديمة، ترجمة: هشام كمال الدين الحناوي، المكتبة الأكاديمية، القاهرة 2003

[17] –  الرابط

[18] – للمزيد انظر: قاسم زكي، مأساة نفرتيتي وأخواتها، الطبعة الأولى، مؤسسة الأمة للنشر والتوزيع، القاهرة، 2019م

[19] – للمزيد، انظر: دعاء محمد بهي الدين، الرمزية ودلالتها في الفن القبطي، رسالة ماجستير، جامعة الإسكندرية، 2009

[20] – للمزيد، انظر: أحمد عادل كمال، الفتح الإسلامي لمصر، الشركة الدولية للطباعة، القاهرة 2003

[21] – للمزيد، انظر: يوسف حامد خليفة، الآثار المصرية (قضايا ومضبوطات)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2012 

[22] – للمزيد، انظر: سليم حسن، أبو الهول، ترجمة: جمال الدين سالم، مهرجان القاهرة للجميع، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة 1999

ملحق صور كسر أنوف التماثيل المصرية

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. بارك الله فيكم دكتورنا الغالي وسدد خطاكم وحفظكم والأهل ورعاكم اتابع كتابتك القيمة عن آثار مصر البلد الغني بكل بقيمه لكن منافقي العصر يحاولون تشويه سمعتها وتنشيف حقولها ومنحها سخية لاعداء الأمة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close