دراساتمجتمع

الأطر النظرية لدراسة ظاهرة البلطجة النسائية

تتسم الظواهر الاجتماعية بالتداخل والتعقيد، سواء على مستوى الوحدات أي داخل الوحدة، أم على مستوى النظام أي في العلاقات بين الدول. وقد دفع ذلك الباحثين إلى استخدام أكثر من بٌعد لدراسة تلك الظواهر، حيث أصبح لزاماً استخدام أسلوب التعدد المنهجي، وهذ ينطبق على ظاهرة البلطجة Thuggery التي تٌعد ظاهرة فرعية تتفرع من ظواهر رئيسة أخرى ويمكن التمييز بين ثلاثة أبعاد في دراسة ظاهرة البلطجة البٌعد السياسي، والاقتصادي، والاجتماعييحلل البُعد السياسي جماعات البلطجة باعتبارها جماعات خارجة على الشرعية، ومصدراً من مصادر عدم الاستقرار والفوضى، والخروج على النظام. وفي إطار هذا البُعد، يرى البعض أن أسباب هذه الظاهرة مرتبطة بعدم قدرة الدولة على توفير المتطلبات الأساسية للمواطنين، وهو ما يؤدى إلى تشكل هذه الجماعات كفاعلين غير رسميين لتلبية تلك الاحتياجات، خاصة توفير الأمن في الأحياء والمدن، واستناداً لهذا البُعد تنتشر هذه الظاهرة مع انتشار الفساد السياسي والإداري والقضائي داخل مؤسسات الدولة، بحيث يتراجع احترام القانون، وتتراجع قدرة الدولة على تنفيذ أحكام القضاء، وقد تؤدى الصور المتفاوتة لهذا الفساد إلى قيام بعض ذوى الشأن من المسئولين بحماية المجرمين و استغلالهم في أعمال غير مشروعة كالسرقة والبلطجة، أو تحقيق بعض الأغراض السياسية كالدعاية الانتخابية، أو إرهاب الخصوم السياسيين. (محمد عارف، 1975: 597)

واستناداً لهذا البُعد قد يلجأ بعض الأفراد إلى جماعات البلطجة لتعيد لهم حقوقهم، وتتولى الدفاع عنهم، ومن هنا تصبح القوة هي معيار التعامل في الشارع، وليس القانون أو القضاء، وترتبط مقولات هذا البُعد بأنماط العلاقة بين المجتمع والدولة، فتلك الأنماط ارتبطت بمستوى قوة الدولة أو ضعفها، وبالتالي مدى قدرتها على ردع وكبح الجماعات المختلفة في المجتمع، التي تميل لاستخدام العنف بصورة غير رسمية وخارجة على القانون. (Joel Migdal , 1988:p. 35-36)

وفي ظل وجود دولة ضعيفة، تنتشر ظاهرة البلطجة. فغياب الدولة أو اهتزاز هيبتها، يؤدى إلى فقدانها السيطرة والقدرة على إلزام المجتمع بطاعة القانون واحترام شرعيته، وهذا يوفر تربة ملائمة لتنامى تأثير جماعات البلطجة.

البُعد الاقتصادي:

يحلل البُعد الاقتصادي ظاهرة البلطجة باعتبارها ناتجة عن قلة موارد الدولة، وعن الفجوة في توزيع الدخل والثروة بين الفقراء والأغنياء، وعن التفاوت الطبقي بين المواطنين. ويرى أن عدم قدرة الدولة على الالتزام بتوفير الاحتياجات الأساسية العامة للمواطنين يجبرهم على انتهاج طرق غير مشروعة أو قانونية لتلبية تلك الاحتياجات. وفي هذا السياق تظهر بعض سلوكيات البلطجة ؛من قبيل الهجوم على الممتلكات العامة والخاصة، وممارسة السرقات والنهب، من أجل توفير احتياجات عجزت الدولة عن توفيرها.(Taylor & Fracis, 2002: p. 1042 –1043 )

البُعد الاجتماعي:

يٌعد من أفضل الأبعاد لفهم هذه الظاهرة. يرى أن البلطجة هي إفراز طبيعي لسيادة أجواء عدم احترام القانون، وانتهاك سيادة الدولة ومؤسساتها، فضلاً عن انتهاك العقد الاجتماعي المنعقد بين الدولة والشعب، والذى بموجبه تنازل الشعب عن حقه في اللجوء للعنف والتعدي على القانون، مقابل قيام الدولة ومؤسساتها بحمايته وتوفير الخدمات العامة له، وردع الجماعات الخارجة على القانون. وبالتالي فعندما تعجز الدولة عن الوفاء ببنود هذا العقد وشروطه وتتخطاه بلجوئها إلى استخدام العنف المفرط ضد المواطنين من جانب، وعندما لا تحترم القواعد والبنى القانونية والتشريعية المنظمة للمجتمع من جانب آخر؛ فإن الدولة وتماسكها الوظيفي الداخلي يصاب بالضعف، وتبدأ هيبتها تتراجع تدريجياً في نظر المجتمع والأفراد، وهو ما يشجعهم على تحدى سلطة الدولة، وتحدى شرعية احتكارها استخدام العنف، وقد يقود ذلك تدريجياً إلى حالة سقوط الدولة أو ما يعرف بمجتمع اللادولة Stateless-Society أى المجتمع الذى لا تحكمه دولة (Grininleonid ,2008: p. 67-70).

الأطر النظرية لدراسة البلطجة النسائية:

يمكن تفسير ظاهرة البلطجة النسائية في ضوء المقولات النظرية التالية، نظرية الاستبعاد الاجتماعي، والمنظور الراديكالي في تفسير الجريمة والانحراف عند المرأة، ونظرية السيطرة الذكورية، ونظرية الأنومى (روبرت ميرتون: البناء الاجتماعي والأنومى، وأقنو: نظرية الضغط العام في الجريمة والانحراف، ومزنر وروزنفيلد: النظرية اللامعيارية المؤسسية)، ونظرية العصابة الإجرامية المنظمة، ونظرية الثقافة الفرعية المنحرفة (ألبرت كوهن: الثقافة الفرعية المنحرفة، وكلوارد أوهلن: الفرصة المتباينة في ضوء نمطين: الأول الثقافة الفرعية الإجرامية، والثاني الثقافة الفرعية الصراعية، ثم كتابات وليفجانج وفراكيتى: الثقافة الفرعية للعنف):

أولاً: نظرية الاستبعاد الاجتماعي:

نشأ الاستعمال الحديث لمصطلح “الاستبعاد الاجتماعي ” في فرنسا، حيث جرت العادة على استعماله، في الإشارة إلى الأفراد الذين تخطاهم النظام البسماركى للضمان الاجتماعي. وكان المستبعدون اجتماعياً هم هؤلاء الذين استبعدتهم الدولة بصورة رسمية.(جون هيلز، جوليان لوغران، 2007: 25 )

للاستبعاد أبعاد متعددة تتجلى في المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، فعلى المستوى الاجتماعي تتسم الجماعات المستبعدة المهاجرة من القرى للمدن -على سبيل المثال -بعدم التنظيم والعزلة عن الحياة الحضرية المحيطة، وعدم وجود التعاون المنظم، وضعف علاقات الصداقة والقرابة، التي تتسم بقوتها في القرية، وانتشار الجريمة والعنف. وفيما يتعلق بالمستوى الاقتصادي، يمثل المستبعدون استنزافاً للاقتصاد الحضري وخدمات المدينة، وهم غير موجهين للإنجاز والعمل، وينقصهم التعليم والتدريب. وعلى المستوى الثقافي توجد لديهم ثقافتان فرعيتان متناقضتان:

الأولى: تقليدية تمثل التوجهات الريفية التي لا تتفق مع الحياة الحضرية الجديدة للمهاجر. والثانية: ثقافة الفقر التي تمثل الإحباط والتخليد الذاتي للشك والسلبية والتشاؤم والقدرية التي تعبر عن الاستجابات الانسحابية من الحياة الحضرية. أما على المستوى السياسي، فيعبر عن عدم التكامل مع الحياة السياسية في المدينة ونقص الوعى السياسي والشعور بالاغتراب ؛ لذلك فهم لا يشكلون طبقة.Joan M.Nelson,1979:p.129-130))

وبالتالي فإن الاستبعاد الاجتماعي عملية ذات أبعاد متعددة تجتمع في إطارها أشكال متنوعة للحرمان من المشاركة في صناعة القرار، ومن العملية السياسية برمتها، ومن الوصول إلى مصادر التوظيف والعمل في المجتمع، ومن الوصول إلى كل المصادر الأخرى المتاحة للآخرين، وكذا من الاندماج في العمليات الثقافية الشائعة والسائدة في المجتمع. (أحمد حسين, 2007: 133)

ويرتبط الاستبعاد الاجتماعي بالانسحاب من الالتزام بالقواعد والقوانين المنظمة للمجتمع، بفعل ظروف قد تكون قاهرة، ولا يستطيع الأفراد مواجهتها. (Hilary Silver, 2006: p. 4411- 4412)

في ضوء ما سبق يمكن قياس الاستبعاد الاجتماعي من خلال مؤشرات أربعة أساسية، المؤشران الأول والثاني من المؤشرات الاقتصادية، في حين أن الثالث سياسي، والرابع أقرب إلى أن يكون مؤشرا نفسياً ووجدانياً أو معنوياً.

المؤشر الأول: يتحقق إذا كان إجمالي دخل الأسرة يقل عن نصف المتوسط العام (50%) لدخل الأسرة المعيشية.

المؤشر الثاني: يتحقق إذا لم يتم تصنيف الفرد في فئات النشاط الاقتصادي المختلفة، وهى: يعمل لحسابه، يعمل لدى آخرين، طالب أو لا يعمل ولكن يرعى شئون الأسرة.

المؤشر الثالث: يشير إلى عدم قيام الفرد بالإدلاء بصوته في الانتخابات العامة، ولا يكون عضواً في أي تنظيم سياسي.

المؤشر الرابع: فيركز على أن الفرد يدخل في عداد المستبعدين إذا ما افتقد إلى شخص آخر يقدم له الدعم حال الاحتياج إليه.(أحمد حسين، 2007: 135-136)

كما يرتبط الاستبعاد الاجتماعي بالعمالة منخفضة الأجر والفقر عبر فترات زمنية مختلفة، و تساهم طبيعة الأحياء السكنية في الاستبعاد الاجتماعي لقاطنيها، ويحدث ذلك بسبب السمات الذاتية للأحياء السكنية، كموقعها وبنيتها الاقتصادية. ومن خلال صفاتها المكتسبة كالجريمة وبيئة الحى، وهي الصفات التي تتأثر بتركيبة السكان. خاصة عندما تتركز أشد فئات السكان حرماناً في أشد المواقع سوءاً داخل الحى.(جون هيلز، جوليان لوغران،2007: 38-39)

المستبعدون أولئك الذين سقطوا من شبكة الرعاية الاجتماعية في سبعينيات القرن العشرين، العجزة، والوالدان الوحيدان (بلا زواج وأولاد)،والمتعطلون الذين لا ينتفعون بنظم التأمين. ولقد أدت زيادة حدة المشكلات الاجتماعية في الضواحي الراقية بالمدن الكبيرة إلى اتساع تعريف المصطلح ليشمل الشباب الساخطين والأفراد المعزولين. وحيث يكون التضامن أمراً يقاتل الناس دفاعاً عنه. يشكل وجود الجماعات التي تشعر بأنها مستبعدة خطراً يهدد بتقويض وحدة الدولة. حيث يسلكون سلوكا يظهر فيه عداؤهم للمجتمع (كالإدمان، والجريمة ). (جون هيلز، جوليان لوغران، 2007: 25 – 26)

واستناداً لذلك، يُعد الشخص مستبعداً اجتماعياً، عندما تتوافر فيه مجموعة من السمات منها أن يكون مقيماً في منطقة معينة من المجتمع، مثل المناطق العشوائية، ولا يستطيع المشاركة في الأنشطة العادية في المجتمع كباقي المواطنين، بالرغم من أنه قد تكون لديه الرغبة في المشاركة والانخراط. Brian Barry , 2008: p. 6-8 ))

ومع استمرار ظروف الحرمان الاقتصادي والبطالة والتفاوتات الطبقية الحادة يزداد الإحساس بالإحباط لدى الفقراء، مما يؤدى إلى العدوانية الإيجابية والراديكالية. وربما لا ينظر أغلب الفقراء للعنف كوسيلة ضرورية لإحداث التغير الاجتماعي والسياسي، كما يمكن أن يعد الإحباط تفسيراً مضللاً للعنف، فمستويات الطموح متواضعة لدى الفقراء، ويشعرون عند الانتقال إلى مهن أكثر مهارة وأفضل أجراً، وحينما يمارسون وضع اليد على الأراضي أن هذا يمثل تحسناً في وضعهم المعيشي. ورغم هذا قد تظهر تعبيرات أخرى عند الشعور بالإحباط تتمثل في الانسحاب من المشاكل، والمشاجرات مع الجيران، وممارسة الجريمة والعنف، وإدمان الكحول، والتطرف. Joan M. Nelson , 1979: p. 125 – 127 ))

ثانياً: المنظور الراديكالي في تفسير الجريمة والانحراف عند المرأة:

ظهر المنظور الراديكالي في أدبيات علم الاجتماع الغربي والأمريكي على وجه الخصوص، متأخراً نسبياً وبالتحديد في أواخر الخمسينيات من هذا القرن على يد رايت ميلز. ثم أخذ في التبلور والتطور على يد علماء من أمثال جولدنر، وماندل، وماركيوز، وآرون وغيرهم.

ويلاحظ أن اهتمام علماء الاجتماع الراديكاليين قد انصب في البداية على ما أسموه بتحرير علم الاجتماع من الأوهام التي ظلت مسيطرة عليه لفترات طويلة، ومن ثم وجهوا معظم جهودهم لنقد تراث علم الاجتماع بهدف الكشف عن التزييف والتضليل الذى يلحقه بالواقع الاجتماعي، و محاولة الكشف عن المواقف الايديولوجية الكامنة وراء هذا التزييف والتضليل.(Mills , 1959:p. 20-22)

وفي مرحلة أخرى خاصة بعد ظهور ما أسموه بثورة الستينيات وهي المرحلة التي شهدت حركات اجتماعية واسعة النطاق شملت الطلبة والشباب والزنوج والمرأة، بدأ علماء الاجتماع الراديكاليون في تطوير أعمالهم بتوجيه الاهتمام إلى دراسة الواقع الاجتماعي للمجتمع الرأسمالي ومحاولة الكشف عن التناقضات الاقتصادية الاجتماعية وبناء القوة السائد فيه.

ويذهب “دافيد جوردن” بأنه حديثاً بدأ عدد من علماء الاجتماع الراديكاليون يوجهون اهتماماً إلى دراسة مشكلة الجريمة منطلقين من افتراض أساسي مؤداه أنه من المستحيل فهم الجريمة بدون فهم لجذورها في البناء الاقتصادي، وعليه يرى الراديكاليون أن الحل الواقعي لمشكلة الجريمة لا يمكن أن يتحقق إلا بإعادة توزيع القوة في المجتمع “. (ليلى عبد الوهاب، 1992: 16- 17 )

ويؤسس أصحاب المنظور الراديكالي دراستهم للجريمة على عدد من الافتراضات من أهمها:

1- إن تعريف الجريمة والعقاب لابد أن يتغير. وأن يعاد تعريفهما في ضوء نشأة الرأسمالية والدولة الرشيدة، التي تحمى من خلال القانون والأخلاق أصحاب رأس المال وتؤمن لهم أرباحهم.

2- إن المجتمعات الرأسمالية تعتمد على التنافس وعدم المساواة، لذا يلجأ الناس إلى ارتكاب الجريمة عندما يشعرون بعدم الأمان، وبعدم قدرتهم على دخول حلبة المنافسة، حيث يجدون أنفسهم مضطرين لاغتنام أية فرصة متاحة لتأمين أنفسهم وتأمين أسرهم، حتى إذا كان في ذلك اختراق للقانون.

3- ازدواجية نظام العدل في ظل النظام الرأسمالي، حيث تحمى الدولة المجرمين من الطبقة الحاكمة بينما تعاقب وتقبض على المجرمين من الطبقات الدنيا الفقيرة. وهنا لابد أن تخضع تحيزات الدولة للدراسة والتحليل.

4- إن علاج مشكلة الجريمة والعقاب في المجتمعات الرأسمالية لا يمكن أن يتم في إطار إصلاحي، فهذا يكرس شرعية النظام الرأسمالي، بل لابد من تقويض دعائم هذا النظام، وعليه ينبغي بطريقة ما تغيير مؤسسات البناء الاقتصادي تغييراً كلياً لإزالة أسباب الجريمة.

ويضيف جوردن ” أنه حقيقة أن المنظور الراديكالي قد استمد تحليله من كارل ماركس، إلا أنه يرى أن الراديكاليين لم يعتمدوا اعتماداً كاملاً على النظرية الماركسية في تحليل الواقع “.( Gordon , 1977: 359-361 )

ويرى ماندل أن الفارق الرئيسي بين الماركسية الكلاسيكية والمنظور الراديكالي الحديث يكمن في أن الثاني يبدأ من المادة الإمبيريقية كما يقدمها العلم ومناهجه الحديثة، ليختبر ما إذا كان جوهر الآراء والمقترحات الماركسية لازال يصدق على مجتمعات اليوم (Mandel ,1969: :11).

وينطلق رواد نظرية النسوية الراديكالية من الفرضية الأساسية التي تقوم على نمطية النظرة لكيفية التشكل التاريخي للمجتمع ذي الصيغ الذكورية، وترى هذه النظرية أن الأسرة تشكلت بناء على أوامر أبوية، وأن جذور الأبوة تكمن في العلاقات ذات المنحى البيولوجي المتمحور حول الإنجاز الإنجابي لدى المرأة، وليس فقط بسبب مفاهيم ذات بنى ايديولوجية، أو نتيجة علاقات فسيولوجية بحتة تجسد سيطرة الرجل وخضوع المرأة. وتفسر هذه النظرية تبعية المرأة للرجل في ضوء سيطرته على الموارد النادرة بحكم خصائصه البيولوجية المتفوقة، وإحكام سيطرته على قوى الإنتاج، ومحاولاته الدائمة لحرمان الطبقة الأقل شأناً الطبقة الأنثوية منها، عن طريق التهميش والإقصاء والاختزال، والاستلاب الاجتماعي، والثقافي، والاقتصادي، سعياً للمحافظة على مكتسباته، وهذا ما يفسر سعيه وبكل الوسائل المتاحة لإدامة سيادة النظام الأبوي وإعادة إنتاجه، وبذلك فإن نظام الأسرة الأبوية أقام صرحه على ظلم المرأة وقهرها واستغلالها. (منير كرداشة , 2009: 62-63 ).

ويذهب أنصار هذا الاتجاه إلى أن سيطرة وتحكم الذكور، وما يتمتعون به من امتيازات هي أساس كافة العلاقات الاجتماعية واللامساواة، حيث إن أكثر العلاقات أهمية في أي مجتمع توجد في النظام الأبوي (حيث يتحكم الذكور في قوة العمل وسلوك المرأة الجنسي ) وتأتى كل العلاقات الأخرى (مثل الطبقة ) في المرتبة الثانية، ومشتقة من علاقات الذكر/الأنثى.

بالإضافة إلى ما سبق، يؤكد أنصار الاتجاه النسوي الراديكالي على أنه على مر التاريخ كانت النساء أول جماعة مضطهدة ومقهورة، وينتشر قهر المرأة في كل المجتمعات المعروفة اليوم، وأن قهر المرأة من العمق والرسوخ حتى أنه من أقوى أنواع القهر التي يصعب استئصالها ولا يمكن التخلص منه إلا من خلال التغييرات الاجتماعية الأخرى مثل إلغاء المجتمع الطبقي. (عدلي السمرى،2009: 370 )

ويُركز أنصار هذا المدخل على النوع الاجتماعي وعلى الأبوية كمتغيرات رئيسية في تفسير التقسيم الاجتماعي بين الذكور والإناث، فهم يرون أن النظام الأبوي هو ظاهرة أو نظام تاريخي يسيطر فيه جنس الرجال على جنس النساء كطبقات “sex class”،فالرجال مسيطرون على النساء كمواضيع جنسية “sex object”، يتبعها حتماً الأمومة والعنف والاغتصاب.p. 81-82) : Lawlson and Heaton , 1999)

عمد أنصار الاتجاه النسوي في معالجتهم لمسألة وضع المرأة في المجتمع والأسرة، والتمييز بينها وبين الرجل، إلى التركيز على ما تتعرض له المرأة من قهر جنسي في إطار عملية تقسيم العمل التقليدية، وفي ظل السلطة الأبوية للرجل داخل الأسرة. وعليه وجهوا كل نقدهم بل عدائهم إلى الرجل متغافلين تماماً عن دور القهر الاجتماعي والطبقي وعلاقته بالقهر الجنسي في ظل النظام الاجتماعي الاقتصادي السائد. ( Millet , 1970: 560 – 562 )

وقد دعاهم ذلك إلى التركيز في حل مشكلة المرأة على المطالبة بالمساواة بالرجل بل والتشبه به وسلوكه بما في ذلك السلوك الإجرامي والسلوك العنيف. وعليه نجد أن عدداً من الذين اهتموا منهم بدراسة وتحليل مشكلة المرأة والجريمة، يهللون لزيادة نسبة الجريمة عند المرأة وتحولها من جرائم البغاء إلى جرائم العنف. Norland , 1977: p. 65-67 ))

وفي ضوء ما سبق ذهب الاتجاه النسوي الراديكالي ما أن يٌعرف بالمجتمع الأبوي الذى يحكمه الذكر هو السبب الأساسي لاضطهاد النساء. وبعبارة أخرى أن قوة الهيمنة الذكورية وامتيازاتها هي التي تشكل العلاقات والتفاعلات الاجتماعية. غالباً ما يركز علماء الاتجاه النسوي الراديكالي في علم الإجرام على تجليات جرائم المجتمع الأبوي (مجتمع سلطة الأب) ضد المرأة – على سيبل المثال- العنف الأسرى والاغتصاب والتحرش الجنسي والمواد الإعلانية الإباحية ويقرّون أن إجرام النساء غالباً ما يسبقه – كما هو المعهود- أيدى الرجال باعتبار أن المرأة ضحية.

ثالثاً: مدخل الهيمنة لدراسة النوع الاجتماعي:

يقر مدخل الهيمنة بكيف تُشكل سلطة الأب علاقات النوع الاجتماعي وتضع في الاعتبار اختلافات النوع الاجتماعي داخل سياق القوة والاضطهاد. فيما يتعلق بالنساء يؤكد على التباينات عندما يعنى التباين الهيمنة. كما هو مع النوع الاجتماعي، يعنى أن يؤكد على المساواة وسمات الضعف (العجز).علاوة على ذلك ذهب الأنصار والمدعمون أن مدخل الهيمنة كان النموذج النسوي الصحيح الوحيد. طبقاً لأنصار الاتجاه النسوي الراديكالي حيث يرى مدخل الهيمنة أن ظلم العالم الاجتماعي من وجهة نظر تبعية النساء للرجال يرجع للنساء وليس الرجال.

ويقر أيضاً علماء الاجرام النسوي بقيمة استخدام مدخل الهيمنة – على سبيل المثال- يؤكد باراك اتيال على فائدة نموذج الهيمنة من أجل بقية علماء الإجرام النسوي في اهتمامهم بالقوة. مثال على ذلك، الدور الذى لعبه أنصار مدخل الهيمنة في التخلي عن موقف النظام القانوني عن عدم التدخل تجاه العنف الأسري. وليُعرّف ضرب الزوجة والاغتصاب الزواجي كجريمة، عدا ذلك فإن مدخل الهيمنة يُمثل قيمة لعلماء الإجرام النسوي وذلك بسبب تركيزه على القوة والامتياز والتي تتوافق مع القضايا المرتبطة بالظلم في نظام العدالة الجنائية.

نقد مدخل الهيمنة:

يفترض مدخل الهيمنة كمدخل اختزالي أن النساء يتعرضن للاضطهاد من جميع الرجال بنفس الطرق أو أن هناك تجربة واحدة قائمة بذاتها من الهيمنة التي تتعرض لها المرأة. (Amanda , 2006: p. 29 – 34 )

يوضح الاتجاه النسوي الراديكالي أن استمرار تعرض المرأة لأشكال مختلفة من العنف والاضطهاد خلال مراحل تنشئتها داخل أسر أبوية قائمة على ظلم المرأة وقهرها واستغلالها، يجعلها مهيأة لممارسة العنف. بالتالي لجوء المرأة لممارسة جريمة البلطجة يرجع لكون هذه الجريمة(البلطجة ) من جرائم العنف الذكورية، وبالتالي تحقق المرأة بارتكابها لجريمة البلطجة فرصة المساواة مع الرجل في عالم الجريمة وارتكاب السلوك العنيف.

رابعاً: نظرية السيطرة الذكورية:

عند استعراض المحاولات التنظيرية التي آولت وفسرت العنف الأسرى يتبين أنها مختلفة بالدرجة لا بالنوع. أي أن جميعها فسرت وحللت العنف الأسرى الذى يمارس داخل الأسرة ويصدع علاقاتها ويفكك بناءها فضلاً عن كونها تختبر سلوك الفرد داخل خليته الأساسية إلا أن “دوباش” 1979 و “باجيلو” 1984 و “يالو” 1983 وجدوا أن سوء معاملة الزوجة تمثل ظاهرة فريدة من نوعها بسبب غموضها وعدم وضوحها، وأن كل ما تم تأويله وتفسيره من قبل علماء الأسرة كان طرحاً ضيقاً حول العنف الأسرى، لأنهم أهملوا أو ابتعدوا عن العمود الفقري لهذا العنف ألا وهو عدم تناولهم متغير السيطرة الذكورية، الذى يركز عليها النظام الاجتماعي الذكوري والبناء الأسرى حيث تؤدى هذه السيطرة الذكورية إلى إذلال وإخضاع المرأة من خلال اضطهادها وقمعها من قبل الرجل وذلك من خلال عدم منحها حقوقها المتساوية معه لأنها_ أي السلطة الذكورية _ تمارس من خلال التسلط الموروث ثقافياً واجتماعياً لتعكس سلطة الوالي على القاصرين من الأطفال وعلى المعتمدة اقتصادياً ومعاشياً على الرجل (ألا وهي المرأة) فهي هيمنة بدأت من الرجل داخل الأسرة، ثم اتسعت لتأخذ المجتمع المحلى ثم العام بما فيه النظام السياسي والاقتصادي. Gelles , 1993 : p. 14 ))

خامساً: نظرية الأنومى:

أ – روبرت ميرتون: البناء الاجتماعي والأنومى

استعار “ميرتون” مفهوم الأنومى من “دوركايم” في مقالته الشهيرة سنة 1938 إلا أن مفهوم الأنومى عند “ميرتون” يختلف عن تلك التي أوجدها “دوركايم” فالأول يرى أن المعايير الاجتماعية والقيم تقسم إلى نمطين أو شكلين: الأهداف المجتمعية والوسائل المقبولة وذلك من أجل تحقيق الأهداف المجتمعية، إضافة إلى ذلك فقد أعاد “ميرتون” تعريف اللامعيارية بأنها عملية فصل أو تقسيم بين الأهداف والوسائل كنتيجة لطريقة المجتمع البنائية. وعلى سبيل المثال الفروق الطبقية، وبناء على ذلك يتم تفسير الجريمة أو الانحراف كأحد أعراض البناء الاجتماعي والذى يعرف الطموحات وكذلك الوسائل المشروعة والمقبولة لتحقيقها وأن الانحراف والجريمة نتيجة الأنومى. لقد تأثر”ميرتون” بكتابات ماركس عن الرأسمالية الغربية وخاصة الناحية الاقتصادية وكذلك نظرية سذرلاند إلا أنه تجاوز الأخيرة وركز على البناء الاجتماعي.(Pfohl,1985:210-214)

يهتم “ميرتون” بصفة أساسية بدراسة الاستجابة المنحرفة من خلال العلاقة بين الأهداف الثقافية والوسائل الاجتماعية باعتبارهما جزأين منفصلين، فكلما تزايدت الهوة اتساعاً بين الأهداف والوسائل كلما أدى ذلك إلى ظهور الاستجابات المنحرفة بصورة كبيرة، وبذلك يحدد “ميرتون” بناءين متميزين هما: البناء الثقافي: ويحوى مجموعة الأهداف التي يضعها المجتمع ويحث أفراده على تحقيقها، والبناء الاجتماعي: ويتضمن مجموعة المعايير والوسائل المشروعة لتحقيق الأهداف، وطبقاً لما سبق فإن مفهوم الأنومى – في رأى ميرتون- يشير إلى أن الانهيار في البناء الثقافي يحدث – بصفة خاصة- عندما يوجد انفصال بين القيم والمعايير وبين قدرات الأفراد على التوافق معها.

أنماط التكيف:

يطرح “ميرتون” خمسة أنماط للتكيف، إزاء ما يسود المجتمع من تناقض بين الأهداف الثقافية والوسائل الاجتماعية، ويطرح كل نمط شكل من أشكال استجابة أفراد المجتمع إزاء هذا التناقض، وهذه الاستجابات هي: الاستجابة التوافقية، والاستجابة الابتكارية، والاستجابة الشعائرية، والاستجابة الانسحابية، والاستجابة التمردية (الثورية).

أنماط التكيف(*)

نمط الاستجابة التوافقي الابتكاري الشعائري الانسحابى التمردي
القيم (الأهداف) + + _ _ +
المعايير (الوسائل) + + + _ +

(*) + القبول أو التسليم بالقيم والمعايير.

_ رفض القيم أو المعايير.

+ رفض القيم أو المعايير مع إيجاد البديل.

1- نمط الاستجابة التوافقية: يعد نمط الاستجابة التوافقية نمطاً سوياً من وجهة نظر المجتمع، حيث يتقبل الأفراد قيم المجتمع ومعاييره، وبالتالي لا يمثل أي مشكلة، ولا يعد سلوكاً منحرفاً.

2- نمط الاستجابة الابتكارية: وتمثل تلك الاستجابة تقبل الأفراد لقيم المجتمع السائدة، ولكن الوسائل المشروعة لتحقيق هذه القيم غير متاحة لهم، وبالتالي يبحثون عن وسائل أخرى بديلة لتحقيق هذه القيم التي ينادى بها المجتمع، وقد تكون تلك الوسائل مقبولة أو مرفوضة من قبل المجتمع.

3- نمط الاستجابة الشعائرية: يتسم نمط الاستجابة الشعائرية (الطقوسية) برفض قيم المجتمع السائدة، ولكن ذلك الرفض للقيم لا يطرح قيماً بديلة. فأعضاء الاستجابة الشعائرية لا يسعون إلى تحقيق أي طموح اجتماعي، هذا بالرغم من التزامهم في نفس الوقت بمعايير ووسائل تحقيق قيم المجتمع، فهم مؤمنون بالوسيلة في حد ذاتها، مع رفضهم للأهداف. ويذهب “ميرتون” إلى أن ذلك النمط من الاستجابة لا يؤدى إلى وقوع الجريمة.

4- نمط الاستجابة الانسحابية: يمثل نمط الاستجابة الانسحابية رفضاً لقيم المجتمع ومعاييره، فأعضاء الاستجابة الانسحابية لا يرفضون قيم المجتمع فحسب، بل إنهم يرفضون أيضاً وسائل تحقيق هذه القيم، حتى ولو كانت الوسائل متاحة للجميع بصورة عادلة.

5- نمط الاستجابة التمردية: يُعد نمط الاستجابة التمردية رفضاً لقيم المجتمع ومعاييره، مع إيجاد قيم بديلة ومعايير أخرى بديلة، وذلك كمحاولة لتغيير البناء الاجتماعي والبناء الثقافي للمجتمع. وتعد تلك الاستجابة – من وجهة نظر الوضع السائد- انحرافاً عن قيم المجتمع ومعاييره.(عدلي السمري، 2009: 177-179)

النقد النسوي لنظرية ميرتون:

لم يقم “ميرتون” بأي محاولة لتحديد ما إذا كانت نظريته تصلح للتطبيق عندما نضع في الاعتبار التباينات القائمة على أساس النوع (رجل – امرأة ) عند دراسة السلوك الإجرامي، وتذهب “ايلين ليونارد”-على سبيل المثال – إلى أن تجاهل نظرية “ميرتون ” لنصف أفراد المجتمع (النساء) على الأقل يجعلها نظرية قاصرة وناقصة، لأنها تعجز- حينئذ- عن تفسير انخفاض معدلات الجريمة بين النساء اللائي يعانين أيضاً من الضغوط المؤدية لحالة الأنومى. وإذا كانت “ليونارد” تتقبل مقولة ” ميرتون ” بأن الطموحات الاجتماعية يتم اكتسابها خلال عملية التنشئة الاجتماعية، فإنها ترى -على أية حال – أنه بسبب عدم المساواة بين الجنسين في المجتمع الأمريكي، فإن الأهداف التي يجب على الرجال تحقيقها تختلف عن تلك المناطة بالنساء، وهذا بدوره يؤدى إلى تباين في معدلات ونوعيات السلوك الإجرامي بينهما.

وتذهب “ليونارد” أنه إذا ما تناولنا نظرية “ميرتون” في ضوء التباين الناشئ بين الأهداف والوسائل تبعاً للفروق النوعية، فإن النساء لا يعانين من نفس درجة الإحباط التي يعانيها الرجال، لأن النساء يستطعن بسهولة تحقيق الأهداف الثقافية المحددة لهن في الزواج وتكوين الأسرة من خلال وسيلة مشروعة (وهي الزواج وإنجاب الأبناء) وبالتالي لا يخضعن للضغوط التي يعانى منها الرجال، ومن ثم لا يتعرض للصراعات المؤدية إلى ارتكاب الجريمة.

وفي المقابل تتبنى “أليسون موريس ” وجهة نظر معارضة لما طرحته “ليونارد” وترى “موريس” من حيث الدافعية نحو الإنجاز، يتبين أن النساء في واقع الأمر يكافحن ويناضلن من أجل تحقيق أهدافهن بصورة تقل عما يقوم به الرجال في هذا الشأن. فلو كانت النساء تسعى إلى تحقيق آمال وطموحات وأهداف تماثل تلك التي يسعى الرجال إلى تحقيقها لكانت معاناتهن من الضغوط لتحقيق هذه الطموحات والأهداف أشد قسوة وحدة. وسوف يظل هناك تساؤل أساسي تتعرض له نظرية الأنومى وهو “لقد فشلت نظرية الأنومى حتى اليوم في الإجابة على هذا السؤال بالرغم من سعيها لطرح تفسيراً عاماً شاملاً للسلوك الإجرامي.(عدلي السمري، 2002:368- 369 )

ب- أقنو: نظرية الضغط العام في الجريمة والانحراف:

لقد حاول “أقنو” توسيع نظرية الأنومى عند “ميرتون” وذلك من خلال مستوى التحليل الميكروسوسيولوجى، أي علم النفس الاجتماعي، لقد أراد الذهاب إلى أبعد من التعارض بين الأهداف والوسائل محاولاً البحث في مصادر الضغط الاجتماعي، وفي هذا المجال يرى “أقنو” أن الجريمة والانحراف ما هما إلا تكيف للضغوط بغض النظر عن مصدر تلك الضغوط الاجتماعية. وقد تحدث عن ثلاثة مصادر رئيسية للضغوط، وهى: الفشل في الوصول إلى الأهداف الإيجابية، وتغير مثيرات ذات قيمة إيجابية، والمواجهة مع مثيرات سلبية.

أما النمط الرئيسي الأول للانحراف فيشمل ثلاثة أنماط فرعية وهى:

الأول: المفهوم التقليدي للأنومى والذى يعنى التعارض بين الأهداف والوسائل، وهنا يتدخل “أقنو” محاولاً توسيع هذا المفهوم ليشمل ليس فقط الأهداف المستقبلية بل والآنية ايضاً، وكذلك ضم إلى هذا الفرع الفشل القائم ليس فقط على الفرص المغلقة بل وأيضاً على تدنى المهارات والقدرات الفردية.

الثاني: الفجوة بين التوقعات والتحصيل الواقعي والذى من شأنه أن يؤدى إلى الغضب وخيبة الأمل.

الثالث والأخير: فيتحدث فيه “أقنو” عن التعارض بين ما يراه الفرد كشيء عادل وواقعي والنتيجة الواقعية، وهنا كما هو ملاحظ، فإن النتائج الايجابية للنشاط الإنساني أو العلاقات الاجتماعية لم تدرك مقارنة بكمية الجهود الفردية المبذولة، ولكن تم النظر إلى ذلك على أنه نتيجة غير عادلة وظالمة مقارنة بجهود الآخرين.

أما النمط الثاني للانحراف المنتج للضغط وهو تغير مثيرات ذات قيمة إيجابية بالنسبة للفرد، وهذه المثيرات الايجابية مرتبطة بالخبرات الشخصية خاصة الأحداث الحياتية السيئة مثل فقدان عزيز أو وظيفة أو تغير مكان السكن أو المدرسة، أي أن هذه الخبرات تشكل مصدراً للشعور اللامعيارى، وثالثاً: مواجهة الشخص لمثيرات وأفعال سلبية ومثال ذلك التعرض للاعتداء الجنسي والخبرات المدرسية السيئة وكذلك الأسرية، وبما أن المدرسة والمؤسسة العائلية من المؤسسات الرئيسية في حياة الصغار ولا يوجد مجال عندهم لتجنبها، نجد بعضهم يستجيب بشكل سلبى ومنحرف للضغوط التي يواجهونها، مثل المخدرات والكحول.

وأخيراً نجد أن نظرية “أقنو” ترى أن الجريمة هي شكل واحد من أشكال كثيرة للتكيف مع الضغوط والسلوك المنحرف أو الملتزم يعتمد على العديد من الضوابط الداخلية والخارجية وأمثلة ذلك الأصدقاء والمعتقدات والضبط الذاتي والكفاءة الذاتية. تؤثر هذه العوامل في اختيارات الأفراد واستجاباتهم للضغوط الاجتماعية. وبناء على ما تقدم يمكن القول إن نظرية “أقنو” تحتل مستوى متقدم من النضج الفكري للنظرية اللامعيارية وخاصة عندما رأت أن مصادر الضغط متنوعة وليست حكراً على طبقة دون أخرى وهي تختلف من الذكور إلى الإناث.(Agnew, 1992:47-57)

ج- مزنر وروزنفيلد: النظرية اللامعيارية المؤسسية:

اذا كانت نظرية “أقنو” هي امتداد لنظرية “ميرتون” فانه بدلاً من الاعتماد على الماكروسوسيولوجى، اعتمد على الميكروسوسيولوجى أو علم النفس الاجتماعي، مُركزاً بشكل أساسي على مفهوم الضغط. في حين أن “مزنر وروزنفيلد” استخدما متغيري البناء الاجتماعي واللامعيارية كإطار عام لنظريتهم اللامعيارية المؤسسية.

يعتقد “مزنر وروزنفيلد ” أن مفهوم “ميرتون” للبناء الاجتماعي ضيق وركزا على النسق الطبقي. وفي محاولة منهما لتعديل النظرية ركزا على المؤسسات ومنها السياسية والعائلية والتربوية والاقتصادية، وبشكل خاص الأخيرة، فجميع المؤسسات تخضع بشكل مباشر أو غير مباشر للمؤسسة الاقتصادية بل وتتكيف معها (الأسرة ورسوم المدارس…) وهكذا تسود معايير المؤسسة الاقتصادية على المؤسسات غير الاقتصادية بل وتضعفها وظيفياً. وفي حالة الجمع مع القيم الثقافية والتي تثير أو تحفز الدوافع الجنائية، تعد الجريمة والسلوك المنحرف نتيجة طبيعية للتنظيم الاجتماعي في المجتمع الأمريكي.

ويذهبان إلى إن عدم التوازن في المؤسسات وليس فقط سيطرة المؤسسة الاقتصادية هو المسئول عن ارتفاع معدلات الجرائم، فالمجتمعات التي تتصف بسيطرة مؤسسات مختلفة تنتج أشكالاً مختلفة من الجريمة، فالمجتمعات التي تسيطر عليها المؤسسات الاقتصادية تنتج جرائم لا معيارية (مادية)، بينما نجد أن المجتمعات التي تسيطر عليها المؤسسات السياسية تنتج جرائم الفساد، والمجتمعات الدينية والقرابية تظهر فيها جرائم الشرف والثأر والكراهية.(Messner,and Rosenfeld,2001: 62-70)

سادساً: نظرية العصابة الإجرامية المنظمة:

قام ” يابلونسكى ” Yablonsky بكتابة الخلفية التاريخية لنظرية العصابة الإجرامية المنظمة التي بدأها من مدرسة شيكاغو، فلخص نظرية العصابة بثماني مراحل أو نقاط تمر بها العصابة الإجرامية وهى:

1- يكون دافع المنتمي إلى العمل الإجرامي في العصابة الإجرامية صادراً من وجود حقد دفين ومكر خبيث عنده.

2- يسبب وجود هذا الحقد الدفين والمكر الخبيث عند المنتمي أن يعيش في صراع مع المجتمع الذى يعيش في وسطه.

3- عندئذ ينتمى إلى العصابة بشكل رسمي.

4- وهذا يجعل من العصابة أكثر تماسكاً وتضامناً.

5- وهذا بدوره يدفع العصابة إلى الدخول في صراعات مع المجتمع.

6- عندئذ تمسى العصابة بمثابة مدرسة لتعليم الفنون والمناشط الإجرامية.

7- بعدها تغدو العصابة ممثلة تنظيماً يقوم بالعمليات الإجرامية المنظمة.

8- هنا يتحرك الأشخاص المنتمون حركات تخضع لضوابط التدرج الاجتماعي داخل العصابة.

أي أن الأفراد المنتمين والناشطين في الحقل الإجرامي يتمرسون على أداء السلوك الإجرامي فيكتسبون خبرة منظمة تؤهلهم للارتقاء على التدرج المتسلسل داخل المنظمة أي يتسلقون على مواقع احترافية في العمل الإجرامي الذى تمارسه العصابة.

ثم قام ” يابلونسكى ” بطرح تصنيف للعصابات على النحو التالي:

1- العصابة الاجتماعية التي تتمتع بتنظيم ثابت نسبياً أو مستقر وتمارس نشاطها في مواقع قريبة في المحلات التجارية والمنتديات ويكون أعضاؤها معروفين لدى البعض أي كل منهم يعرف الآخر سواء عن قرب أو عن بعد ويكون القادة فيها متمتعين بشعبية غير رسمية. هذا النوع من العصابات نادراً ما ينخرط في سلوك انحرافي.

2- العصابات المنحرفة التي تقوم بأنشطة متنوعة غير قانونية ولا يتم الحصول على عضويتها بيسر وسهولة. أما القيادة فيها فتكون فاعلة بشكل متميز في التخطيط والتنفيذ بينما يكون باقي أعضائها من الشباب ويستخدمون العنف كوسيلة للوصول إلى غاية كالكسب المالي والمادي.

3- عصابة يكون محور نشاطها الإجرامي قائماً على الإرضاء الوجداني لها ويقودها قائد يتصف بجنون العظمة ويحاط بأعضاء منافقين ومداهنين من أجل تضمنيهم ذاته في نظره وغالباً ما يحصل صراع داخلي فيما بينهم بسبب نقاشهم الزائف وجدالهم العقيم حول مواضيع محلية أما أسلحتهم فتكون من النوع البسيط والصغير.

جدير بذكره في هذا الخصوص أن قائد العصابات الإجرامية المنظمة يتم تعيينه أو تنصيبه بنفسه ولم ينتخب من قِبل الأعضاء، وظيفته تنظيم الأنشطة الإجرامية وتوزيع الأدوار فيها وقبول أو طرد الأعضاء فيها.( معن خليل العمر، 2010: 253 – 255 )

سابعاً: نظرية الثقافة الفرعية المنحرفة:

أ – ألبرت كوهن: الثقافة الفرعية المنحرفة:

منذ أن استخدم ألبرت كوهن Albert Cohen مفهوم الثقافة الفرعية من خلال تحليله لأنماط معينة من السلوك المنحرف، حتى أصبح مفهوماً أساسياً من مفاهيم علم الجريمة. فقد استخدم كوهن هذا المفهوم في كتابه “الأولاد الجانحون Deliquent Boys “(1955)، ليوضح أن هناك طريقة معينة في الحياة قد أضحت نمطاً تقليدياً بين جماعات الأحداث المنحرفين، وينتشر هذا النمط بصفة خاصة في المناطق المفككة والمنهارة في المدن الكبيرة. وينظر كوهن إلى الثقافة الفرعية باعتبارها بناء يتضمن مجموعة من المعتقدات والقيم والرموز.

ويحاول ” كوهن ” من خلال نظريته عن الثقافة الفرعية المنحرفة الإجابة على تساؤلين هامين هما صلب النظرية: ما الأسباب والدوافع التي تدفع حدثاً منحرفاً إلى اللجوء للثقافة الفرعية المنحرفة كحل لما يواجهه من مشاكل؟ بينما لا يفعل ذلك حدث آخر؟ ولماذا تحتل ثقافة فرعية مميزة ؛ ذات مضمون ومحتوى معين مكاناً أساسياً في قطاع ما من البناء الاجتماعي؟ Cohen , 1960: p. 149) )

لقد حاول “كوهن” في نظريته إجابة التساؤل الأول حينما أرجع أسباب المشاكل إلى مصدرين أساسيين هما: الموقف، والإطار المرجعي

1- الموقف:

يقصد بالموقف المجتمع الذى يعيش فيه الفرد وما يتضمنه من أشياء مادية يتعامل معها ويستخدمها بغية تحقيق أهدافه كما يتضمن العادات والتنظيم الاجتماعي الموجود وتظهر المشاكل حينما تعوق الظروف الفرد عن تحقيق ما يهدف إليه. فالموقف عادة يطرح مجموعة من البدائل لحل المشاكل وعلى الفرد أن يختار من بينها ما يناسبه لتحقيق أهدافه. ولا يسمح الموقف للفرد باستخدام بديلين في وقت واحد ونجد أن الوسائل المشروعة غير متاحة للأفراد مما يدفع البعض إلى انتهاج وسائل منحرفة لتحقيق أهدافهم.

2- الإطار المرجعي:

لا تبدو الأشياء والمواقف بصورة واحدة لجميع الأفراد ؛ ولكنها تتلون بنظارة الفرد وتُعد تلك النظارة بمثابة الإطار المرجعي للفرد ويشير ذلك إلى عامل أساسي هو مدى الالتزام الأخلاقي إزاء ما يواجه الفرد من مواقف فالالتزام الأخلاقي هو الذى يدفع الفرد إلى اتيان سلوك معين أو الامتناع عنه.

ثم ينتقل “كوهن ” إلى محاولة الإجابة على تساؤل النظرية الثاني: لماذا تحتل ثقافة فرعية مميزة ذات مضمون ومحتوى معين مكاناً أساسياً في قطاع ما من البناء الاجتماعي؟ ويرجع ” كوهن ” ذلك إلى أن حدث الطبقة العاملة ينشأ في مجتمع تسوده وتحكمه قيم الطبقة الوسطى تلك القيم التي تُعد الطريقة المثلى والمرغوبة للحياة داخل المجتمع.

ولكنه عندما يحاول تحقيق تلك الأهداف أو القيم فإنه يفشل وبالتالي لا يستطيع تحقيق المكانة في المجتمع ويصاب بما يطلق عليه “كوهن ” (إحباط المكانة ) ويرى “كوهن ” أن مشكلة إحباط المكانة لابد أن يعانى منها مجموعة من الأفراد ولابد من توافر الظروف التي تسمح بهذه المشكلة. ومن ثم تٌعد الثقافة الفرعية المنحرفة هي إحدى صور الاستجابة التي تنشأ في مجتمع تسوده وتحكمه قيم ومعايير الطبقة الوسطى وأحداث منحرفون ينتمون إلى الطبقة العاملة يرفضون تلك القيم والمعايير لذلك فإن الثقافة الفرعية المنحرفة لها وظيفتان أساسيتان هما: إقامة نسق للمكانة يحقق النجاح لحدث الطبقة العاملة، والانتقام من مجتمع الطبقة الوسطى.(عدلي السمرى،2009: 196 – 210 )

يرى كوهن أن وجود مشاكل التكيف في حد ذاته لا يعد سبباً كافياً لظهور الثقافة الفرعية المنحرفة كحل لتلك المشاكل، ولذلك فإن وجود وتوافر الفرص الضرورية للتفاعل الاجتماعي الفعال يٌعد مطلباً أساسياً لظهور الثقافة الفرعية المنحرفة.

ويفرق “كوهن” بين أدوار الذكور وأدوار الإناث في مدى قدرتها على صنع الثقافة الفرعية المنحرفة ويرى أن مشكلة التكيف – وحلها المتمثل في الثقافة الفرعية المنحرفة- هي مشكلة متعلقة بالدرجة الأولى بدور الرجل، وبالتالي فإن استجابة الثقافة الفرعية المنحرفة غير ملائمة لتفسير إنحراف الإناث، حيث يرى “كوهن” أن الدافع وراء إنحراف الإناث له مشاكل تختلف تماماً عن المشاكل التي تكمن خلف انحراف الذكور الذى عادةً ما يتخذ صوراً وأشكالاً متعددة، بينما انحراف الإناث يكاد ينحصر بصفة غالبة في الانحراف الجنسي.

ونصل في النهاية إلى أن حدث الطبقة العاملة يتخذ من الثقافة الفرعية المنحرفة حلا لمشكلة التكيف وإحباط المكانة باعتبارها إحدى صور الاستجابة المنحرفة. لقد ذهب “كوهن ” إلى أن الثقافة الفرعية المنحرفة تتميز بمجموعة من السمات هي: اللانفعية، والحقد، والسلبية، والمتعة الوقتية.(عدلي السمري، 2009: 200 – 211)

النقد النسوي لنظرية ألبرت كوهن:

يذهب “كوهن” إلى أن معايير الطبقة الوسطى عن النجاح والإنجاز هي بالضرورة ترتبط بمقولة الذكورة والرجولة، وبالتالي فهي تتعلق بالرجال فقط دون النساء. فالأولاد في صراع دائم مع أولاد آخرين بغية تحقيق النجاح المادي الاقتصادي، وقد يلجأ الأولاد في سبيل تحقيق ذلك إلى استخدام قدراً من العنف، بينما ينحصر اهتمام البنات في إقامة علاقات عاطفية جنسية مع الأولاد.

يؤدى وجود تلك التمايزات القائمة على أساس النوع إلى وجود تفرقة أيضاً في الانحراف على أساس النوع، فيميل فتيان الطبقة الدنيا إلى الانضمام إلى العصابات المنحرفة امتثالاً لما تطرحه ثقافة الطبقة الوسطى، لأن العصابة تنتمى من حيث خصائصها إلى عالم الذكور. وعلى الرغم من أن “كوهن” يسلم بوجود اختلافات جوهرية بين أنماط سلوك الطبقة الوسطى وبين العصابات المنحرفة، فإنهما متماثلان من حيث أن معنى الرجولة لديهما يركز على أهمية الانجاز والعدوانية، والجرأة، والاستقلالية، والسيادة، والمثابرة. وهكذا لا تصلح العصابة المنحرفة للفتيات لأنها لا تتناسب مع تعزيز مكانة الفتاة كفتاة، بل تهددها لأنها –أي العصابة المنحرفة – تعكس وبقوة رمز الذكورة. وتبعاً لرأى “كوهن”، فإنه بالنسبة للفتيات، تٌعد إقامة علاقة جنسية مع العديد من الفتيان من أكثر أشكال الانحراف شيوعاً بينهن، حيث يعكس ذلك رغبتهن في إقامة علاقات مع الذكور.

وهنا يتعرض “كوهن ” لنقد أساسي نابع من تأكيده على أن هوية المرأة لا تتحقق إلا من خلال محور الجنس، لقد تجاهل “كوهن” عدم المساواة بسبب النوع، ولماذا يقل عدد النساء المجرمات عن الرجال المجرمين ؟ ومتى تتهم المرأة ؟ وكيف أن ذلك السلوك يرتبط بالعلاقات مع الرجل؟. (عدلي السمري، 2002: 372-374 )

وعند تفسير ظاهرة البلطجة النسائية في ضوء أهم مقولات نظرية الثقافة الفرعية المنحرفة يتضح أن هناك جماعة من النساء تواجه صعوبات وإحباطات؛ لشعورهن بالعجز عن تحقيق أهدافهن نظراً لعدم قدرتهن على استخدام الوسائل المقبولة في المجتمع لتحقيق هذه الأهداف، ومع وجود توحد بين مجموعة من هؤلاء النسوة اللاتي يواجهن الظروف نفسها واللاتي يتفاعلن بشكل كاف يبلور لديهن ثقافة فرعية تدعم نمط حياتهن الجديدة، وتكون جماعة النساء قادرة على اختيار نمط الاستجابة الذى تريده والذى يتمثل في احتراف مهنة البلطجة كوسيلة غير مشروعة لكسب الرزق، وهؤلاء النساء كجماعة لها ثقافة فرعية غير معزولة عن الجماعات ذات الثقافات الفرعية الأخرى في المجتمع يتوافر لديهن مقومات تدعم استجاباتهن وتتحول الىسمات سلوكية لدى أفرادها كالخشونة والقسوة والدهاء والعنف وهلم جرا. ( محمود عبد الرشيد بدران، 2003: 64-66 )

ب- كلوارد أوهلن: نظرية الفرصة المتباينة:

ترجع جذور نظرية الفرصة المتباينة إلى مقالة كتبها “كلوارد” عام (1959). وتُعد النظرية كما طورها فيما بعد “كلوارد أوهلن ” (1960) محاولة للاستفادة من نظرية – ميرتون عن-الأنومى التي تهتم بتحديد المصادر الاجتماعية للانحراف ونظرية – سذرلاند عن -المخالطة الفاصلة التي تهتم بكيفية انتقال السلوك المنحرف إلى الأفراد والجماعات من خلال عملية التعلم. وتهتم نظرية ” كلوارد أوهلن ” – بصفة أساسية – بتفسير ظهور الجماعات المنحرفة في الطبقات الدنيا، والعوامل المؤدية إلى ظهور ثقافات مختلفة من الثقافات الفرعية المنحرفة.(جوردون مارشال، 2000: 324 )

وإذا كانت نظرية الأنومى – عند “ميرتون ” – قد ذهبت في تفسيرها للسلوك المنحرف إلى أن التناقض بين الأهداف التي تقول بها ثقافة المجتمع، وبين الوسائل المشروعة لتحقيقها، يؤدى إلى ظهور أنماط من الاستجابة المنحرفة، فإن نظرية الفرصة المتباينة – عند “كلوارد أوهلن ” – تضيف بُعداً آخر هو مدى توافر الفرص أمام بعض الجماعات التي تشغل أوضاعا ً معينة في البناء الاجتماعي لتحقيق أهدافها بالوسائل المنحرفة. فنظرية الفرصة المتباينة تتضمن بُعدين أساسيين هما: مدى توافر الفرص المتاحة لاستخدام الوسائل المشروعة والمقبولة اجتماعياً لتحقيق الأهداف، ومدى توافر الفرص المنحرفة – غير المشروعة – لتحقيق الأهداف.

يتعلق البُعد الأول بمدى توافر الفرص المشروعة لتحقيق الأهداف وهو مستمد من نظرية الأنومى. ويتعلق البٌعد الثاني بمدى توافر الفرص المنحرفة المتاحة لتحقيق الأهداف، متضمناً الجماعات والأنماط السلوكية المنحرفة المستمدة من نظرية المخالطة الفاصلة.(عدلي السمري، 2009: 218- 219 )

تذهب نظرية الفرصة المتباينة في تفسيرها للسلوك المنحرف إلى أن شباب الطبقة الدنيا في المناطق الحضرية يعيشون في عالم يعانى من انفصال كبير بين الأهداف والفرص المشروعة لتحقيق الأهداف، مع وجود فرص منحرفة – في نفس الوقت – متاحة لشباب هذه الطبقة المحرومة لتحقيق هذه الأهداف. فالانفصال بين ما يرغب فيه شباب الطبقة الدنيا، وبين ما هو متاح من وسائل مشروعة يُعد المصدر الأساسي لمشكلة التكيف.(Cloward & Ohlin , 1960: p. 78 )

ويذهب ” كلوارد أوهلن ” إلى أن ذلك التناقض بين الأهداف ينتج نوعين من الحلول هما: الحل الجمعي (الجماعي)، والحل الفردي. (Cloward & Ohlin , 1960: p.131

فإذا كان فشل الأفراد في تحقيق أهدافهم مرتبطاً بالبناء الاجتماعي، أو يرجع إليه بسبب نقص الفرص، فمن المحتمل أن يسعى الأفراد إلى البحث عن حل جمعي (جماعي)، ويتمثل ذلك الحل في الثقافة الفرعية المنحرفة. أما إذا اتسم الفشل في تحقيق الأهداف بالطابع الفردي، فإن الفرد يبحث – حينئذ- عن حل فردى لمشكلته.

وفي ضوء ذلك تربط نظرية ” كلوارد أوهلن ” بين عناصر أربعة هي: نسقا الفرص المتباينة ( المشروعة – المنحرفة)، وتحقيق الأهداف من خلال الوسائل المشروعة، وما يؤدى إليه الفشل في تحقيقها من إحباط، وظهور الثقافة الخاصة المنحرفة كحل جمعي لمشكلة الإحباط، واستخدام الوسائل المنحرفة لتحقيق الأهداف.(عدلي السمري، 2009: 220)

يرى “كلوارد أوهلن” أن نمط الثقافة الفرعية المنحرفة يعتمد على درجة الاندماج الموجود في المجتمع، فمثلاً يقترح أن المنطقة التي تفتقر إلى البناء الاجتماعي المستقر جنائياً، لا مكان فيها للأحداث المنحرفين من أبناء الطبقات الفقيرة، فالفرص والوسائل مغلقة تماماً مثل البناء الاجتماعي المستقر من حيث الفرص المتوفرة لجماعات أو طبقات معينة، فهؤلاء الأحداث لا يجدون في البناء الاجتماعي المستقر جنائياً فرصاً لهم مثل البناء الاجتماعي الثاني، وهنا تأتى مساهمة “كلوارد أوهلن ” من حيث الاستجابة للبناء الاجتماعي الذى أوصد الأبواب المشروعة وغير المشروعة في وجه الأحداث من أبناء الطبقات الفقيرة، فقد قسم “كلوارد أوهلن ” الثقافة الفرعية المنحرفة إلى ثلاثة أنماط رئيسية هي: الانسحابية والصراعية والاجرامية.(عايد عواد الوريكات، 2013: 188-189 )

1- الثقافة الفرعية الإجرامية:

يتطلب استمرار الثقافة الفرعية المنحرفة تأييداً وتعزيزاً من البيئة، وتوافر نمط تكاملي بين المجرمين وبين مستويات السن المختلفة للمجرمين، نظراً لأن عملية تعلم السلوك الإجرامي واكتساب المهارات والخبرات الإجرامية تتضمن مجموعة من أنماط العلاقات يتم من خلالها نقل وتعلم الخبرات من مستوى سنى إلى مستوى سنى آخر. يذهب “كلوارد أوهلن ” إلى أنه بين الطبقة الدنيا غالباً ما توجد أمثلة ناجحة لنماذج السلوك الإجرامي ؛ حيث يُعد كبار المجرمين ظاهرة ناجحة تدفع الشباب إلى الاحتذاء بهم والتقرب إليهم. في نفس الوقت يرغب كبار المجرمين في إقامة علاقات ودية مع هؤلاء الشباب. على أنه يجب التأكيد على أن عملية التعلم بمفردها لا تعنى أن الفرد يستطيع أن يمارس بنجاح الدور الذى تم تدريبه عليه، فالبناء الاجتماعي يجب أن يتيح ويقدم الفرصة لممارسة هذا الدور، كما أن الأدوار الإجرامية لا يمكن أن توجد أو تستمر إذا لم يكن هناك نسق من العلاقات المعقدة المتبادلة بين المجرمين والأسوياء يؤدى إلى قيام الثقافة الفرعية المنحرفة. (عدلي السمري، 2009: 221 )

كما يرتبط النموذج الفرعي ذو الطراز الإجرامي في رأى ” كلوارد أوهلن ” بظروف حياتية أساسية هي مصدر وجوده وسبب استمراره، منها طبيعة الحى، وخصائص الموطن السكنى، ونوع السكان، والمتغيرات الديموجرافية، والمستوى الاقتصادي والاجتماعي، وشكل التدرج الطبقي، ونوع البناء الأسرى والعلاقات التي تربط الآباء بالأبناء، والطابع المهني السائد بين الآباء. هذه الشروط وغيرها تفيد بأن تبنى الفرد للثقافة الإجرامية لا يأتي نتيجة ميل شخصي أو استعداد خاص عند بعض الأفراد دون غيرهم.(محمود عبد المعبود مرسى،1991: 89 )

2- الثقافة الفرعية الصراعية:

تتميز الثقافة الفرعية الصراعية بالعنف ؛ فالمكانة في المجتمع يتم تحقيقها من خلال استخدام القوة، أو على الأقل التهديد باستخدامها، وتُعد الثقافة الفرعية الصراعية من أخطر أشكال الثقافة الفرعية المنحرفة، نظراً لما يترتب عليها من أخطار وأضرار تهدد حياة أفراد المجتمع وممتلكاتهم. يرى ” كلوارد أوهلن ” أن المناطق المنهارة سيئة التنظيم تُعد بيئة مناسبة وصالحة لظهور وانتشار الثقافة الفرعية الصراعية. فحينما يسود المجتمع حالة من التفكك وسوء التنظيم، فإنه لا يتيح لأفراده – بصورة متساوية وعادلة – الوسائل المشروعة لتحقيق أهدافهم، الأمر الذى يتريب عليه لجوء الأفراد إلى الثقافة الفرعية الإجرامية لتحقيق أهدافهم. لكن نظراً لاتسام تلك المناطق بالتفكك فلا توجد بها أنساق الفرص الإجرامية لعدم وجود تكامل بين حملة القيم الإجرامية وبين حملة القيم التقليدية، الأمر الذى يؤدى في النهاية إلى ظهور الثقافة الفرعية الصراعية. تُعد الثقافة الفرعية الصراعية نتيجة للشعور –في المناطق المنهارة – بالإحباط والحرمان ليس من الفرص التقليدية المشروعة فقط، ولكن أيضاً من الفرص الإجرامية. (عدلي السمري، 2009: 221 – 222 )

فالأحياء المفككة والمتميزة بضعف الضبط الاجتماعي تخلق عصابات مفككة ؛عندما يُحرم الأحداث من الفرص المشروعة وغير المشروعة، فإن الشكل العام للثقافة الفرعية للعصابة سوف يعتمد على الصراع والتي عادة ما تتبع أسلوب العنف والإيذاء. (Williams and Mcshane, 1999: 120-121)

ج- وليفجانج وفراكيتى: نظرية الثقافة الفرعية للعنف:

تُعد نظرية وليفجانج وفراكيتى عن الثقافة الفرعية للعنف (1967 ) من نظريات الثقافة الفرعية المنحرفة. تتميز تلك النظرية بأنها تختلف كلية عن نظريات الثقافة الفرعية الأخرى، ربما يرجع ذلك إلى أنها ظهرت تقريباً بعد عقد كامل من نظريات الثقافة الفرعية المنحرفة. ترجع جذور نظرية الثقافة الفرعية للعنف إلى الدراسة المبكرة ” لوليفجانج ” عن القتل (1958).تًعد تلك النظرية محاولة للاستفادة من مداخل متعددة لفهم السلوك المنحرف، ولقد عبرا عن ذلك بوضوح في أن فكرة الثقافة الفرعية للعنف هي اتحاد بين نظريات متعددة.

فمن وجهة نظر علم الاجتماع حاولا الجمع بين نظرية الصراع الثقافي، ونظرية المخالطة الفاصلة، ومن علم النفس اختاروا نظريات التعلم، والتنشئة الاجتماعية الارتقائية، وتصورات الذات المتباينة، وأخيراً فإنهما قد دمجا نتائج من بحوث تتناول القتل وجرائم الاعتداء الأخرى. (عدلي السمري، 2009: 231 )

عند النظر إلى “ثقافة العنف ” باعتبارها ثقافة فرعية فإن هناك بالتأكيد مثل هذا النوع من الثقافات ثقافة مضادة للمجتمع على اعتبار أن ثقافة العنف على التحديد ثقافة هدامة. وعلى اعتبار أن ثقافة العنف تقوم على نظام معياري يتضمن معايير متصارعة مع القيم السائدة في المجتمع. وقد تكون معايير مضادة لمعايير المجتمع الكبير.(Milton Yinger , 1981: p. 23)

تركز هذه النظرية على افتراض أساسي مؤداه أن سلوك العنف يٌعد نتيجة مباشرة لتبنى قيم الثقافة الفرعية للعنف تسودها مجموعة من القيم والاتجاهات، وطبقاً لهذه النظرية فإن أعضاء الثقافة الفرعية للعنف يتصرفون بشكل أكثر عنفاً من الآخرين ؛ لأنهم يخضعون للمعايير والاتجاهات والقيم الأساسية للثقافة الفرعية للعنف. (غادة حامد شحاته،2012: 36)

إن استخدام العنف في الثقافة الفرعية لا ينظر إليه بالضرورة كسلوك غير مشروع، وبالتالي فإن من يستخدم هذا الأسلوب لا يعانى من الشعور بالذنب لسلوكه العدواني، فالعنف قد يصبح جزءاً من أسلوب حياة الفرد يلجأ إليه لحل مختلف مشاكله.( يُسر أنور على، آمال عبد الرحيم عثمان،1982: 191 )

لقد وعى منظروا الثقافة الفرعية للعنف أهمية النظر إلى هذه الثقافة من الخارج ومن الداخل، فهي من الخارج تعكس سلوكيات وقيم الطبقة الوسطى التي لا تقبل أن تظهر هذه السلوكيات وتلك القيم بين أعضائها، ولا تعبر عن نفسها بشكل صريح وظاهر، وغالباً ما تنخرط في حياتها مع اضفاء قيمة عالية على الحياة الإنسانية، ولا تعاقب أطفالها على نحو عنيف وذلك على عكس الطبقة الدنيا التي يفترض أن تسود فيها الثقافة الفرعية للعنف، ففي هذه الطبقة كما يذهب “وليفجانج وفراكيتى” يعتبر استخدام العنف شيئاً منفصلاً ومثوباً، كما أن الابتعاد عن العنف يعتبر سلوكاً مستهجناً، أما من الداخل فإن الثقافة الفرعية للعنف لا تنشأ من فراغ، بل من الظروف التي تعيش فيها فئات المجتمع الفقيرة، وهي ظروف تخلق وسطاً مهيئاً لنشأة هذه الثقافة، من هذه الظروف، التفكك الأسري، غياب الآباء. يؤدى فقدان القدرة على السيطرة على الأطفال والشباب إلى وجود قيم مخالفة للقيم السائدة، ويستغرق ذلك وقتاً طويلاً، فرفض القيم السائدة لا يظهر بشكل فجائي، وإنما يظهر عبر عملية يطلق عليها عملية التحييد، وتبدأ عملية التحييد هذه عندما يميل الشاب (المراهق ) وهو يتصارع مع القيم النظامية والقيم المنحرفة إلى القيم المنحرفة وتفضيلها على القيم النظامية، ويطور الشاب وهو في طريقه إلى التحول الكامل نحو السلوك المنحرف تبريرات وتصورات عقلية تدعم هذا التحول.(علاء سليمان حنبظاظة، 2012: 52-53 )

ويمكن تلخيص أهم مقولات هذه النظرية على النحو التالي: “إن أبناء الثقافات الفرعية لديهم قيم مختلفة عن بقية أبناء المجتمع، ولكنها ليست مختلفة تماماً وليست في حالة صراع دائم، وهؤلاء أي أبناء الثقافات الفرعية لديهم المقدرة على استخدام العنف ولديهم اتجاهات تفضل استخدامه عند كافة المستويات العمرية، ولكنه أكثر وضوحاً وشيوعاً عند من هم في سن المراهقة المتأخرة حتى منتصف العمر، ترى هذه النظرية أن الأفراد الذين يرتكبون العنف وليست لديهم أية روابط مع أية ثقافة فرعية هم باثولوجيون (مرضى)، ويظهرون ذنباً وتوتراً حول سلوكاتهم مقارنة مع أبناء الثقافات الفرعية، أما عن تفسيرهم لاستمرار الثقافة الفرعية، فإنها تأتى من خلال عمليات التعلم و تساعد في ذلك عمليات التعزيز الإيجابي للسلوك المنحرف الذى يحظى صاحبه بالمكانة الاجتماعية المحترمة بين أقرانه، وبما أن السلوك المتسم بالعنف طريقة حياتية ومقبولة بل ومتوقعة فلن يشعر مرتكبه بالذنب أو تأنيب الضمير لارتكابه ذلك، وبالتالي فإن الحل لذلك هو في تفكيك مثل هذه الثقافات الفرعية”. (William and Mcshane , 1999: p. 124) [1].


[1] الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى