تمهيد
المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية، تشكلان قوتان إقليميتان كبيرتان ومؤثرتان في في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم الإسلامي، أمام ما تمتلكه الدولتان من إمكانيات وقدرات جغرافية وتاريخية واستراتيجية واقتصادية وسياسية وعسكرية، أتاحت لهما إمكانية التدخل في العديد من القضايا الإقليمية والدولية، إلا أن العلاقات بين الدولتين تشهد مراحل من التعاون والصدام منذ تأسيس المملكة العربية السعودية عام 1932، وزادت حدة الصراع بينهما بعد قيام الثورة في إيران 1979، والتي أسقطت نظام الشاه الذي كان حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة الأمريكية وللمملكة العربية السعودية.
وخلال السنوات الممتدة من 1979 إلى 2022 شهدت منطقة الخليج أربعة أزمات كبرى، كانت الدولتان حاضرتين فيهم وبقوة، تأثيراً وتأثراً، أزمة الخليج الأولى التي شهدت حرباً طاحنة بين العراق وإيران، ووقفت السعودية وباقي دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية الذي تأسس عام 1981 خلف العراق، مما عرضها للعديد من التداعيات السياسية والأمنية والعسكرية جراء ذلك.
وفي عام 1990 بدأت أزمة الخليج الثانية مع الغزو العراقي لدولة الكويت، وفيها تغيرت التحالفات حيث أصبحت إيران مع دول مجلس التعاون في مواجهة العراق، حتى تم تحرير العراق عام 1991، حيث عادت العلاقات الدبلوماسية وتم توقيع العديد من الاتفاقيات الأمنية والاقتصادية بين إيران ودول المجلس، حتى كانت أزمة الخليج الثالثة مع الغزو الأمريكي للعراق وسقوط نظام صدام، وتمددت إيران في العراق، وتحول العراق إلى ساحة للمواجهة المفتوحة بين السعودية وإيران رغم قيام الدولتين بتوقيع اتفاق مشترك للتعاون الأمني عام 2001.
ومع تداعيات موجة الربيع العربي التي شهدتها بعض الدول العربية، وما صاحبها من أزمات سياسية وأمنية كانت محصلتها مزيد من التمدد الإيراني في سوريا واليمن، ثم جاءت أزمة الخليج العربية مع قيام أربعة دول عربية (هي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر ومملكة البحرين) بفرض حصار بري وبحري وجوي على دولة قطر في الخامس من يونيو 2017، وكان من بين مبررات الحصار عند هذه الدول القول بوجود علاقات قوية بين قطر وإيران مما يهدد الأمن القومي لدول الخليج.
إلا أن أخطر الأزمات التي شكلت ساحة للصراع المفتوح بين المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران، كانت الأزمة اليمنية مع الدعم الإيراني لجماعة الحوثي التي هددت العمق الاستراتيجي للمملكة واستهدفت العديد من المنشآت الحيوية داخل الأراضي السعودية، بداية من 2015، ثم جاءت أحكام الإعدام التي نفذتها النظام السعودي بحق عدد من العلماء والناشطين السياسيين كان من بينهم المرجعية الشيعية الشيخ نمر النمر في يناير 2016، وقيام مظاهرات حاشدة في إيران استهدفت مبنى السفارة السعودية في طهران، وكان ذلك سبباً لقطع العلاقات بين الدولتين في الثالث من يناير 2016.
واستمر الصراع قائماً بين الطرفين في العديد من القضايا الثنائية والإقليمية، بل وامتدت تأثيراتها على عدد من القضايا الدولية بحكم ما للدولتين من مكانة وتأثير وتشابك مع الأطراف الدولية وتفاعلاتها، وخاصة في قطاع النفط والطاقة ونزع أسلحة الدمار الشامل.
ومع توقيع اتفاق العلا للمصالحة بين دول الحصار ودولة قطر في الخامس من يناير 2021، واتجاه دول المنطقة إلى إعادة التموضع بدأت المفاوضات بين المملكة العربية والسعودية وإيران واستضافت العاصمة العراقية بغداد خمس جولات من المحادثات بداية من أبريل 2021، كما استضافت سلطنة عمان بعض اللقاءات المشتركة بين الطرفين، لتأتي الوساطة الصينية وتحتضن الصين جولة مكثفة من المفاوضات بين الخامس والعاشر من مارس 2023، توجتها بإعلان ثلاثي مشترك بعودة العلاقات بين الدولتين، ووضعت الصين أُسسًا لانطلاق مرحلة جديدة في علاقات الطرفين الأمنية والسياسية والاقتصادية، بل لتضع أسس جديدة لأنماط التفاعلات في منطقة الشرق الأوسط، سواء بين الأطراف الإقليمية الفاعلة في المنطقة، وفي مقدمتها السعودية وإيران، أو بين القوى الكبرى المتنافسة على المنطقة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة والصين الشعبية.
وفي إطار هذه الاعتبارات جاءت هذه الدراسة حول: عودة العلاقات السعودية ـ الإيرانية: السياقات والمسارات.
أهمية الدراسة:
في إطار أهمية الدراسة يمكن التمييز بين مستويين، الأول: الأهمية العلمية حيث تساهم هذه الدراسة في تطوير التراكم المعرفي حول العلاقات السعودية ـ الإيرانية، وبنية العلاقات الدولية في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، في ظل ما يشهده النسق الدولي من تحولات طالت مختلف الأركان التي يقوم عليها، سواء الوحدات الدولية أو البنيان الدولي أو المؤسسية الدولية، وكذلك أنماط التفاعلات الدولية.
الثاني، الأهمية العملية، حيث توفر هذه الدراسة لصانعي القرار في كل من المملكة العربية السعودية وإيران، وكذلك في الدول ذات العلاقة، رؤية متكاملة لسياقات وتحولات التفاعلات الإقليمية والدولية التي حدثت خلال السنوات الممتدة من 2011 إلى 2023، والتي قادت في النهاية إلى توقيع هذا الاتفاق.
وكذلك توفر الدراسة رصداً لأهم المسارات المستقبلية لهذا الاتفاق، وطبيعة العلاقات الإقليمية والدولية في كل مسار من هذه المسارات، بما يدعم صانعي القرار في بناء السياسات الضرورية للتعاطي مع هذه المسارات.
أهداف الدراسة:
تسعى الدراسة إلى تحقيق عدد من الأهداف الأساسية، أولها، بيان الخلفيات والسياقات التي مهدت الأرضية لتوقيع الاتفاق الثلاثي (بين السعودية وإيران والصين)، وثانيها، بيان دوافع هذه الأطراف من هذا التوقيع، وثالثها بيان خرائط القضايا الثنائية والإقليمية التي يمكن أن يكون لهذا الاتفاق تداعيات عليها، ورابعها بيان المسارات المستقبلية لهذا الاتفاق وكيفية التعاطي معها.
إشكالية الدراسة وتساؤلاتها:
تسعى الدراسة للإجابة على تساؤل رئيس هو: إلى أي مدى يمكن أن تؤثر خلفيات وسياقات توقيع الاتفاق الثلاثي على المسارات المستقبلية للعلاقات السعودية ـ الإيرانية؟
وفي إطار هذا التساؤل الرئيس تبرز مجموعة من التساؤلات الفرعية، في مقدمتها، ما هي خلفيات وسياقات توقيع هذا الاتفاق ودوافع الأطراف الثلاثة التي وقعت عليه؟ وما هي أبرز القضايا الإقليمية والدولية التي يمكن أن يكون للاتفاق تداعيات عليها؟ وما هي التفسيرات الأساسية لدلالات توقيت هذا التوقيع؟ وأهم مساراته المستقبلية؟
منهجية الدراسة:
انطلقت الدراسة من مقولات اقتراب تحليل الأحداث، نظراً لأن الظاهرة محل الدراسة تشكل في ذاتها حدثاً تم الإعلان عنه في العاشر من مارس 2023، وتم البدء في إعداد هذه الدراسة والانتهاء منها بعد أقل من شهر من وقوع الحدث، فلم تكتمل عناصرها وخاصة مع وجود الكثير من المعلومات الغائبة والملاحق التي لم يتم الإعلان عنها، حتى تاريخ نشر هذه الدراسة,
ويقوم اقتراب تحليل الأحداث السياسية على الدراسة التتبعية للأحداث، وتفسيرها فى إطار عملية التفاعل الدولي، وهو ما يساهم في عملية بناء قواعد للبيانات والمعلومات عن الأحداث الدولية، والتفاعلات التى تأخذ شكل عمليات مستمرة من أنماط لسلوك الدول، تتراوح من التعاون إلى الصراع، تتراكم فيها الأحداث والأفعال، وردود الأفعال، وخاصة مع التطور الكبير في شبكة الانترنت، والاستخدام المتزايد للشبكة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي والذي ترتب عليه إتاحة قدر هائل من البيانات والمعلومات بشأن مختلف الأحداث، بما يفرض على الباحثين كيفية بناء مقاييس كمية لقراءة الأحداث، والعمل على تجاوز مرحلة الوصف والتفسير إلى إمكانيات التنبؤ وتوقع المسارات المستقبلية فى إطار انتظام وتواتر أنماط معينة من السلوك والتفاعل.
ويقوم اقتراب تحليل الأحداث على عدة خطوات أساسية، أولها بيان تفاصيل ومكونات الحدث ووصف الظروف المحيطة به والسياقات التي وقع فيها، ثم بيان أسباب الاهتمام بالحدث والعوامل والدوافع التي أدت إلى وقوعه، ثم تحليل تداعياته الرئيسية على أهم القضايا الثنائية بين أطرافه وعلى القضايا الإقليمية والدولية ذات الصلة، وصولاً إلى بناء تقدير موقف دقيق يرصد أهم المسارات المستقبلية للحدث وكيفية التعاطي معها.
تقسيم الدراسة:
في إطار الاعتبارات السابقة، تم تقسيم الدراسة إلى خمسة مباحث أساسية، تناول الأول خلفيات وسياقات توقيع الاتفاق الثلاثي في العاشر من مارس 2023، وتناول الثاني دوافع الاتفاق الثلاثي ودلالات التوقيت، وتناول الثالث خرائط القضايا والتداعيات التي يمكن أن يكون للاتفاق تداعيات عليها، وطبيعة هذه التداعيات خلال المديين القريب والمتوسط، بينما تناول الرابع المكاسب المتبادلة لأطراف الاتفاق ومحددات التحولات المستقبلية، وجاء الخامس والأخير ليتناول التحديات والمسارات المستقبلية لهذا الاتفاق، مع بيان أهم الخلاصات والاستنتاجات.
المبحث الأول: خلفيات والسياقات توقيع الاتفاق الثلاثي:
قاد ملف مفاوضات الاتفاق من الجانب السعودي عضو مجلس وزراء ومستشار الأمن القومي السعودي مساعد بن محمد العيبان، ومن الجانب الإيراني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني، وللشخصيتين وزنهما وثقلهما لدولتيهما. وحضره من الجانب الصيني كبير الدبلوماسيين الصينيين وعضو المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني رئيس مكتب اللجنة المركزية للشؤون الخارجية وانغ يي، ما يعكس تأكيدًا للجانب الأمني واهتمامًا بالغًا به بين الطرفين.
قد لا يكون الإعلان مفاجئًا من حيث دلالات التوقيت، فالسعودية وإيران بالفعل بدأتا بحلول عام 2021م في الانخراط في محادثات مباشرة منخفضة المستوى، تناوبت على استضافتها كل من العراق وسلطنة عمان، وتناولت المحادثات التي بدأت في عهد رئيس الوزراء العراقي السابق، مصطفى الكاظمي، سبل تخفيف التوتر بين عاصمتي الدولتين، واستئناف العلاقات الدبلوماسية وتسوية الخلافات الناشئة عن دور إيران في عدد من ملفات التدخل الإيراني الإقليمي. ورافقت الجولة الخامسة والأخيرة، التي عُقدت في بغداد أجواء إيجابية ورسائل متبادلة من أجل حلحلة بعض القضايا العالقة.
لكن المفاجأة الأساسية في الاتفاق تمثلت فيما حققته الصين على مستوى المصالحة بين المملكة العربية السعودية وإيران، والذي جاء بعد سلسلة من المحاولات منذ سنوات، قامت بها بكين في هذا المسار، ففي مارس عام 2017م أعلنت الصين استعدادها للتوسط بين الجانبين في مبادرة من جانبها، ومن ثم أعادت المحاولة عام 2019م الذي شهد درجة عالية من التوتر كانت على وشك أن تذهب إلى حرب إقليمية كبرى بعد استهداف المنشآت النفطية في المملكة العربية السعودية، واتهام إيران أنها التي تقف خلف (تلك الضربة)، وفي 2022م عقدت الصين ودولاً خليجية عدة قمم مشتركة في العاصمة السعودية الرياض، شهدت دعوة بكين لطهران إلى عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. وهو ما شكل دافعاً لإيران لقيام رئيسها بزيارة العاصمة الصينية من أجل التأكيد على ما بين الدولتين من روابط استراتيجية، وشكّلت الزيارة دافعًا للمضي قدمًا في المصالحة بين السعودية وإيران.
اتفاق عودة العلاقات سبقه توقيع اتفاقيتين بين الطرفين عامَي 1998م و2001م، الأولى تتضمن عودة العلاقات والتعاون في مجالات الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب، والثانية اتفاقية التعاون الأمني بين السعودية وإيران عام 2001، والتي عُرفت باتفاقية «نايف – روحاني»، أي الأمير نايف بن عبد العزيز وحسن روحاني، وتضمنت الاتفاقية من مقدمة و 12 مادة من أهم موادها: التعاون في مجال التدريب الأمني وتبادل الخبرات والمعلومات بموافقة الطرفين المتعاقدين، والتتبع والحد من أنشطة المعارضة في كلا البلدين، ومنع الهجرة غير الشرعية وفرض ضوابط الحدود والمياه الإقليمية، والتعاون في مجال الانقاذ البحري والتسلل غير المشروع، والتنسيق والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب والمخدرات وغسيل الأموال ومتابعة الجريمة والتعاون في الأمور الأمنية والاتصالات واللقاءات الأمنية وفتح القنوات بين البلدين لمتابعة كل مايتعلق بالأمن.
وكذلك تقديم تسهيلات أكبر للحجاج والمعتمرين الإيرانيين وسماح السلطات الإيرانية بفتح أبوابها أمام السعوديين دون الحاجة إلى الحصول على تأشيرة دخول، ومكافحة الاتجار غير المشروع بالمخدرات، وتبادل الخبراء والمتخصصين لتطوير التعاون الثنائي لمنع الجريمة المنظمة والإرهاب والجرائم الأخرى، وإنشاء منتدى أمني للحوار الاستراتيجي بين السعودية وإيران لمواجهة أخطار الجريمة المنظمة والإرهاب، والتعاون في مراقبة الحدود والمياه الإقليمية بين البلدين لمنع التهريب والإخلال الأمني.
وقد جاء نص بيان عودة العلاقات في العاشر من مارس 2023، على النحو التالي: استجابةً لمبادرة كريمة من فخامة الرئيس شي جين بينغ رئيس جمهورية الصين الشعبية بدعم الصين لتطوير علاقات حسن الجوار بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وبناءً على الاتفاق بين فخامة الرئيس شي جين بينغ وكل من قيادتي المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، بأن تقوم جمهورية الصين الشعبية باستضافة ورعاية المباحثات بين المملكة العربية السعودية، والجمهورية الإسلامية الإيرانية، ورغبة منهما في حل الخلافات بينهما من خلال الحوار والدبلوماسية في إطار الروابط الأخوية التي تجمع بينهما، والتزاماً منهما بمبادئ ومقاصد ميثاقي الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي، والمواثيق والأعراف الدولية.
فقد جرت في الفترة من 6 – 10 مارس 2023م في بكين، مباحثات بين وفدي المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية برئاسة معالي الدكتور مساعد بن محمد العيبان وزير الدولة عضو مجلس الوزراء مستشار الأمن الوطني في المملكة العربية السعودية، ومعالي الأدميرال علي شمخاني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وقد أعرب الجانبان السعودي والإيراني عن تقديرهما وشكرهما لجمهورية العراق وسلطنة عمان لاستضافتهما جولات الحوار التي جرت بين الجانبين خلال عامي 2021م – 2022م، كما أعرب الجانبان عن تقديرهما وشكرهما لقيادة وحكومة جمهورية الصين الشعبية على استضافة المباحثات ورعايتها وجهود إنجاحها.
وتعلن الدول الثلاث أنه تم توصل المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى اتفاق يتضمن الموافقة على استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما وإعادة فتح سفارتيهما وممثلياتهما خلال مدة أقصاها شهران، ويتضمن تأكيدهما على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، واتفقا أن يعقد وزيرا الخارجية في البلدين اجتماعاً لتفعيل ذلك وترتيب تبادل السفراء ومناقشة سبل تعزيز العلاقات بينهما، كما اتفقا على تفعيل اتفاقية التعاون الأمني بينهما، الموقعة في 22 / 1 / 1422ه، الموافق 17 / 4 / 2001م والاتفاقية العامة للتعاون في مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب، الموقعة بتاريخ 2 / 2 / 1419ه الموافق 27 / 5 / 1998م، وأعربت كل من الدول الثلاث عن حرصها على بذل كافة الجهود لتعزيز السلم والأمن الإقليمي والدولي([1]).
وفي قراءة في أهم بنود الاتفاق، تبرز عدة اعتبارات، تشكل أرضيةً ثلاثية مشتركة يمكن البناء عليها وتطويرها وتفعيلها لإنجاح مستقبل العلاقات السعودية-الإيرانية، وإيجاد حلول جذرية لملفات الخلاف والتباعد:
1: يتعلق بتعهدات متبادلة بين الطرفين، وهي تشمل ما كانت الرياض وباقي دول المنطقة تسعى إليه من عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، واحترام سيادة الدول، وحسن الجوار بين دول المنطقة. حيث تسعى أطراف الاتفاق بذلك لإعطاء إعلان استئناف العلاقات بين الرياض وطهران جدية ومصداقية، باعتبار أن الخلافات بينهما والشكاوى السعودية بشكل خاص ارتبطت في غالبيتها بممارسات إيرانية في العديد من الملفات الإقليمية.
2: النص على إعلانات إجرائية، وتتضمن إعادة العلاقات الدبلوماسية وفتح السفارتين في طهران والرياض والقنصليتين في مشهد وجدة خلال مدة أقصاها شهران، وهذ المهلة لاستئناف العلاقات الدبلوماسية يمكن قراءتها في ضوء منح فرصة زمنية مناسبة للطرفين قبل استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران، وسيكون سلوك إيران خارج حدودها موضع مراقبة دقيقة خلال هذه المدة الممنوحة من الأطراف الثلاثة.
3: الاتفاق على إعادة تفعيل الاتفاقية الأمنية والتجارية والاقتصادية بين الدولتين، التي وُقِّعَت عامي 1998م و2001م، قبل أن تُجمَّد تلك الاتفاقات جرّاء تنامي حالة التوتر التي سادت علاقات الجانبين خلال السنوات الأخيرة. ولاستئناف الاتفاق الأمني الموقع بين الجانبين أهمية خاصة، باعتبار أن أغلب الخلافات بينهما ترتبط بقضايا الأمن القومي .
4: أن الحوار السعودي-الإيراني، واتفاق الطرفين على استئناف علاقتهما الدبلوماسية، تم خارج المنطقة، وبالتحديد في العاصمة الصينية بكين، على عكس الحوارات الأخرى الممتدة منذ عام 2021م التي تمت في بغداد أو مسقط. وتأتي الاستضافة الصينية لهذا الاتفاق ارتكازًا على عدة أمور، قائمة على المصلحة الصينية بالدرجة الأولى والمتعلقة بالأهمية الإستراتيجية للشرق الأوسط، وبالتحديد ما يتعلق بأمن الممرات البحرية وأهميتها للاقتصاد العالمي، فضلا عن أن أغلب الاحتياجات النفطية الصينية تأتي من هذه المنطقة. كما أن الصين سبق أن اقترحت مبادرة من خمس نقاط لتحقيق الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط من خلال الحوار([2]).
5: أن الاتفاق ارتبط بالعديد من السياقات الداخلية في طرفي العلاقة، منها التحولات الداخلية في إيران (المظاهرات، الاقتصاد، اتفاقية التعاون الاستراتيجي مع الصين، ..)، والتحولات الداخلية في السعودية (توجهات محمد بن سلمان السياسية والاقتصادية والثقافية والمجتمعية، …)، والسياقات الإقليمية مثل اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل وعدد من الدول العربية شملت الإمارات والبحرين والسودان والمملكة المغربية، وكذلك المصالحة الخليجية بعد أزمة حصار قطر (2017 ـ 2021)، التي انتهت بتوقيع اتفاق العلا في الخامس من يناير 2021، ثم تطبيع العلاقات التركية ـ العربية، تطورات الأوضاع في اليمن بعد إقرار اتفاق التهدئة في أبريل 2022، والاتجاه نحو تطبيع العلاقات الإقليمية مع نظام بشار الأسد في سوريا، بجانب تفاقم الأوضاع السياسية والاقتصادية في لبنان والعراق ومصر وليبيا والسودان، بجانب تحولات البرنامج النووي الإيراني، وتداعيات كارثة الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا في السادس من فبراير 2023.
هذا بجانب العديد من السياقات الدولية التي شهدها العامان الماضيان، ومن بينها أزمة العلاقات السعودية ـ الأمريكية، وفشل القمم السعودية ـ الأمريكية في يوليو 2022 في تسويتها، ثم الأزمة الأوكرانية، بعد العدوان الروسي على أوكرانيا واحتلال جزء من أراضيها في الرابع والعشرين من فبراير 2022، وما ترتب عليها من تداعيات امتدت في تأثيراتها إلى معظم دول المنطقة وفي مقدمتها السعودية وإيران، ثم جاءت القمم السعودية والخليجية والعربية مع الصين والتي استضافتها العاصمة السعودية الرياض في ديسمبر 2022، ودور هذه العوامل في إعادة هيكلة خرائط التحالفات الإقليمية والدولية.
وفي هذا السياق ذهب البعض إلى أن النص على “احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية” هو التزام يشكل نقلة كبيرة في ضمان الاستقرار والأمن في الإقليم إذا صار سياسة واقعية، أن وساطة بكين تسجل انطلاقة مهمة للدور الصيني في الشرق الأوسط إلى جانب دورها العالمي، إذ استطاعت الصين أن تفعل ما كان يصعب على روسيا أو فرنسا فعله، وما لا فرصة أمام أميركا لفعله، وأن الترحيب العربي والإقليمي والدولي السريع والإجماعي بالاتفاق كان بمثابة إشارة إلى أنه جاء لتجاوز مرحلة اللايقين ليس فقط على المستوى الإقليمي ولكن أيضاً على المستوى الدولي، لأن الخلاف بين الرياض وطهران ليس محصوراً في ملف العلاقات الثنائية بل يمتد إلى ملفات إقليمية عدة، منها: اليمن و العراق وسوريا ولبنان وأمن الخليج، والبرنامج النووي الإيراني، ودور الميليشيات الإيرانية في المنطقة، ودور القوات الأميركية من المنطقة.
هذا بالإضافة إلى أن طهران لجأت إلى المرونة بأمر من المرشد الأعلى علي خامنئي لأسباب تتعلق بالوضع الاقتصادي الصعب في ظل العقوبات الأميركية، والتحرك الشعبي تحت عنوان “إمرأة، حياة، حرية” بعد وفاة الشابة مهسا أميني في الاحتجاز، وأحكام الإعدام في حق الناشطين والناشطات، والقمع الذي طال عدد الأدباء والفنانين والصحافيين والأقليات. وهذا ما ظهر في الاتفاق مع المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية “رافائيل غروسي” على زيادة المراقبة للنشاط النووي في منشأة فوردو وسواها، ثم في الاتفاق مع السعودية([3]).
المبحث الثاني: دوافع الاتفاق الثلاثي ودلالات التوقيت
ارتبط جزء من الجدل السياسي والإعلامي عند فريق من المحللين والمتابعين حول دوافع توقيع هذا الاتفاق بأنه يأتي مرتبطاً بتراجع الوجود العسكري الأمريكي في عدد من الأقاليم الجيو-إستراتيجية التي تهم الفواعل الإقليمية والدولية بحكم أهميتها الأمنية ومواردها الاقتصادية ومواقعها الجيوسياسية في تنفيذ مسارات وخطوط الطاقة، ومن أبرز هذه الأقاليم، إقليم الشرق الأوسط وإقليم وسط آسيا بعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، وذلك بحثًا عن تعظيم مصالحها في شرق آسيا وتطويق الصين المنافس القوي لها على القيادة الدولية، وهو ما أحدث فراغًا إستراتيجيًّا دفع القوى والأطراف الإقليمية للبحث عن حلفاء دوليين أقوياء من ناحية، وإعادة وضع منظومات أمنية ذاتية لحماية الأمن والاستقرار من ناحية ثانية.
من جانب آخر كانت المملكة العربية السعودية، تتعامل مع إدارة أميركية غير متعاونة منذ صعود بايدن لإدارة البيت الأبيض، وطوال سنوات بايدن الثلاث لم يرسل سفيرا للمملكة، كما حاول بشكل متكرر الإساءة لقيادتها، وكذلك حاول التأثير على مصالحها الأمنية خاصة في ملف التسليح، ما خلق ضغطا أمنيا أميركيا على أحد أهم حلفاء الولايات المتحدة في العالم، وأبرز مؤشرات هذا الضغط هو تراجع تصنيف المملكة العسكري خلال 3 سنوات فقط وفقا لتقرير «غلوبال فاير باور»، حيث انخفض ترتيبها العسكري من المركز السابع عشر على مستوى جيوش العالم في اللحظة التي صعد فيها بايدن لرئاسة البيت الأبيض، إلى المركز الثاني والعشرين في مطلع عام 2023.
ومع حقيقة أن الإدارة الأميركية تريد إصلاح علاقتها مع المملكة خاصة بعد اندلاع حرب أوكرانيا وارتفاع تأثير وأهمية سياسات إنتاج الطاقة على معادلة الأمن الدولي بالنسبة للولايات المتحدة، إلا أن المملكة ترفض مقابل أن تقوم بالانحياز الدولي الذي تطلبه الولايات المتحدة بشكل يعزز من موقف أمن أميركا الدولي إلا في إطار شروط محددة، والتي بطبيعة الحال سيعني تحقيقها حصول السعودية على مكتسبات عسكرية وتقنية واستراتيجية، تعتبرها ثمناً مقبولاً لموقف الانحياز السعودي لصالح المحور الغربي الذي تطلبه الولايات المتحدة.
ومن جانب ثالث، تتعرض إيران لضغوط داخلية كبيرة، من أهم أسبابها تردي جودة الحياة في الداخل الإيراني نتيجة العقوبات الأميركية وضغط ذلك على الشعب الإيراني بشكل جعله ينفجر على قضية الحجاب كأحد الرمزيات المرتبطة بالنظام الإيراني الإسلامي، ومن ناحية أخرى هناك مؤشرات على اعتزام قوات دولية شنها حرب جوية ضد إيران لتدمير 3 آلاف هدف عسكري ونووي إيراني بناء على إفادة الاستخبارات الفرنسية بعد اجتماع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كما تقف إيران في نفس السياق على عتبة امتلاك سلاح نووي، وذلك عبر احتياجها لمدة اثني عشر يوما فقط لتصنيع سلاحها النووي من اللحظة التي تعتزم بها تصنيع السلاح وفقا لإفادة البنتاجون الأميركي.
ومن جانب رابع، تواجه الصين صعوبات في الدخول عمليا بشراكات أمنية مع دول مجلس التعاون، وذلك بسبب انتشار القواعد العسكرية الأميركية في معظم دول المجلس أولا، وثانيا لاعتماد دول المجلس على السلاح الغربي بسبب طبيعة معظم البنى العسكرية الخليجية الرئيسية، ما يجعل عملية إدخال السلاح الصيني في القطاعات العسكرية الرئيسية أمرا يحتاج إلى عدة سنوات من الناحية التقنية، وما دامت هذه الحالة الأمنية تفرض حالها فإن مساحة المناورة الدولية بين الشرق والغرب بالنسبة لدول مجلس التعاون ما زالت محدودة وغير مرضية بالنسبة للجانب الصيني، ولذلك وجدت الصين طريقا آخر تدخل به كطرف مؤثر بشكل مباشر على معادلة أمن دول مجلس التعاون عبر تقييد أنشطة مهددها الأمني الإقليمي الأساسي «إيران» وضمان عدم تهديدها لدول المجلس عامة وللسعودية بشكل خاص، وبذلك يكون هذا الدور الصيني هو أكبر مدخل يُعجل تغلغلها أمنيا في معادلة الأمن الإقليمي الخليجي، وهو الأمر الذي يوسع مساحة المناورة الدولية المتاحة أمام دول المجلس بشكل يجعلها تستطيع الذهاب أكثر باتجاه الصين بشكل آمن([4]).
وفي إطار هذه الأبعاد، تعددت دوافع أطراف الاتفاق الثلاثي واختلفت أهدافها، وذلك على النحو التالي:
1. دوافع المملكة لتوقيع الاتفاق
برز التحول في توجهات القيادة السعودية، خلال الآونة الأخيرة، إلى مرحلة أكثر ديناميكية وانفتاح تجاه مجريات الشؤون الإقليمية والعالمية بحكم المقدرات والإمكانات السعودية المتعددة ضمن رؤية 2030م، لتحويل المملكة إلى فاعل إقليمي مؤثر في الشرق الأوسط، بل وينقلها إلى مصافّ الدول المؤثرة عالميًا ويعزز مصالحها إقليميًّا وعالميًّا، وذلك ليس فقط من خلال تصحيح أنماط العلاقات الخارجية ومفهوم الشراكة والمنفعة المتبادلة، وإنما أيضًا من خلال بث الرسائل بأن تحقيق الاستقلالية وتعدد البدائل والشركاء الإستراتيجيين في العلاقات الدولية يُعَدّ هدفًا سعوديًّا إستراتيجيًّا، وهذا لا يعني تخليًا عن الحلفاء الدوليين التقليديين، ولكن البحث عن حلفاء دوليين جدد وعن تعظيم مصالحها.
(أ) توجه السعودية نحو سياسة تصفير المشاكل لإنهاء التوترات الإقليمية القائمة وتعزيز المصالح والمكاسب السعودية الإستراتيجية، كما فعلت مع قطر وتركيا، لا سيما مع ظهور توجه عام لدى العديد من الدول في الشرق الأوسط إلى تبني وتعزيز سياسة «صفر مشاكل» لتحقيق مصالحها الإستراتيجية الخاصة كمصر وتركيا والإمارات.
(ب) إدراك المملكة بتعاظم فرصها في نظام متعدد الأقطاب، الصين أحد أقطابه المؤثرة للغاية، وبدأ في الظهور خلال الفترة الماضية وهو نظام يتجه نحو التعددية، لم تقوَ خلاله قوة دولية بمفردها على التحكم في التأثير في مجريات الشؤون والقضايا الدولية. ويبرز هذا النظام أهمية الدول التي تمتلك سلعًا إستراتيجية مهمة للتجارة الدولية، والمملكة واحدة من هذه الدول، وتريد أن ترسم لنفسها مكانًا فيه بما يحفظ أمنها ويعزز مكانتها ويضمن مصالحها الإستراتيجية.
(ج) ثقة المملكة في الصين كضامن دولي، إذ وافقت المملكة على توقيع الاتفاق بشكل رئيسي لأن الصين قطب دولي كبير، وتمتلك من أوراق الضغط ضد إيران ما يجعلها قادرة على التأثير في إيران لالتزام الاتفاق، فالصين بديل دولي موثوق لإيران، وأحد أعضاء مجلس الأمن الدائمين العضوية، ومستورد رئيسي للنفط الإيراني حتى خلال أوقات العقوبات، وأهمّ شريك تجاري لإيران، كما أن للصين التأثير الأكبر في القرارات الاقتصادية والعضوية في عديد من المنظمات الاقتصادية الدولية الصاعدة مثل البريكس والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، كما أن الصين مزود سلاح رئيسي لإيران، وأوشكت أن تتبوأ المرتبة الأولى اقتصاديًّا حسب أحد المؤشرات الاقتصادية العالمية، وقلصت الفارق العسكري الكبير بينها والولايات المتحدة من حيث النوع والإنفاق العسكري، ولا يمكن تجاهل أن دولة بحجم الصين من الصعب قبولها الدخول باعتبارها ضامنًا لاتفاق كبير في منطقة جيوإستراتيجية بين طرفين كبيرين بوزن المملكة وإيران، في أول ضمانة لها وأول اختبار حقيقي لقوتها وأدوات تأثيرها في المنطقة، تقبل بإخفاقه بسهولة.
كما أن للصين مصلحة في توقيع الطرفين للاتفاق لاعتبارات اقتصادية، من بينها أن الدولتين مصدّرين أساسيين للنفط الذي يشكل العصب الرئيسي للإنتاج الصيني، كما أن الصين بحاجة إلى الدولتين ضمن مساعيها لتنفيذ المشروع الصيني الاقتصادي العابر للحدود «الحزام والطريق»، فالدولتان مفصليتان على الطريق، كما أن الدولتين مهمتين سياسيًّا للصين ضمن مفهوم الشراكة الإستراتيجية الشاملة لتعظم المصالح والمنافع المتبادلة وتعديد البدائل الدولية للنظام الدولي، بجانب أن إنهاء الصراع بين الطرفين يضمن سلامة التجارة الصينية المارة عبر مضيقَي هرمز وباب المندب الإستراتيجيين.
(د) مجرد الإعلان عن الاتفاق ودخول الصين طرفا فيه وإعلان المهدد الإقليمي الأول (إيران) وقف تهديداتها الأمنية للمملكة العربية السعودية المتمثلة في تسليح الحوثيين بالدرجة الأولى، فإن الضغط الأمني والاستراتيجي يكون بشكل أساسي على الولايات المتحدة دوليا وإسرائيل إقليميا، وذلك سيخدم الموقف التفاوضي السعودي مع الجانب الأميركي بشكل كبير ويحفز الولايات المتحدة لتقديم تنازلات قد تصل لدفعها بقبول عدد من الشروط السعودية لكسب انحياز المملكة معها مجدداً أو على الأقل تخفيف سرعة وتيرة التقارب السعودي ـ الصيني.
(هـ) في حال اندلاع حرب جوية غربية ضد إيران، فإن الاتفاق يجنب المملكة خاصة ودول مجلس التعاون عامة ردود الفعل الإيرانية، وذلك باعتبار أن هذه الدول مستضيفة لقواعد أميركية انطلقت من أراضي بعض دولها المقاتلات الأميركية التي ستكون قد استهدفت الأهداف النووية والعسكرية في العمق الإيراني في حال اندلاع سيناريو الحرب الجوية.
أي أن الاتفاق الآن وقبل اندلاع سيناريو الحرب، قد يُبعد كلا من إيران ودول المجلس عن المجالات التي تفتح أبواب احتمالات اندلاع سيناريو حرب خليجية- إيرانية طويلة ومنهكة للجانبين بشكل لا تستفيد منه سوى قوى إقليمية أخرى كإسرائيل أو دولية كالولايات المتحدة، لأن اندلاع حرب خليجية- إيرانية في هذا التوقيت سيدفع دول مجلس التعاون للعودة بشكل كامل للجانب الأميركي والتخلي عن كل جهودها باتجاه الصين، لأن الدولة الوحيدة التي ستستطيع تأمين الخليج بكامل احتياجاته العسكرية والدفاعية أثناء اندلاع هذه الحرب هي الولايات المتحدة.
(و) في حال التزام إيران بمضامين الاتفاق، على المدى القريب، فإن ذلك يمكن أن يرتب تداعيات إيجابية على الحالة اليمنية بشكل مفيد جدا للموقف الإقليمي والدولي والأمني السعودي.
(ز) سواء التزمت إيران بالاتفاق أو لم تلتزم، تعتبر المملكة العربية السعودية مستفيدة بشكل كبير عبر تعزيزها لموقفها التفاوضي مع الولايات المتحدة من ناحية، وعبر تحييدها للصين وإبعادها عن موقف الانحياز مع إيران ضد دول مجلس التعاون من ناحية ثانية([5]).
2. دوافع إيران لتوقيع الاتفاق
في المقابل لدى قادة إيران عدد من الدوافع الرئيسية لتطبيع العلاقات مع المملكة العربية السعودية، خلال هذه المرحلة، من بينها:
(أ) تريد طهران من الرياض سحب دعمها للمعارضة الإيرانية في المنفى، حيث اتهم قادة إيرانيون الرياض علانية بتأجيج الاحتجاجات الأخيرة في إيران، بما في ذلك من خلال دعمها لقنوات تلفزيونية معارضة تُشاهد على نطاق واسع داخل إيران، ويأمل النظام في أن يسهم اشتراط الدول في الصفقة على عدم التدخل في الشؤون الداخلية لبعضها البعض في إضعاف هذه المعارضة.
(ب) تهدف إيران إلى إحباط الضغط الغربي المتزايد من خلال تنويع خياراتها، وقد أقامت طهران بالفعل أو أعادت العلاقات مع دول الخليج الأخرى، وكانت المملكة العربية السعودية هي الرافض الرئيسي المتبقي، لكن يبقى الرهان على إلى أي مدى يمكن لإيران أن تستخدم المملكة العربية السعودية في جهودها للحد من العقوبات الغربية، بالنظر إلى أن الرياض لا تزال تدفع أوروبا والولايات المتحدة لممارسة المزيد من الضغط على طهران لفرض تنازلات بشأن القضايا الإقليمية وتلك المتعلقة بالأسلحة النووية.
(ج) تريد طهران تحييد التعاون الإسرائيلي المحتمل مع الدول العربية لشن هجمات عسكرية على إيران، حيث يأتي الاتفاق السعودي الإيراني على خلفية تقارير تفيد بأن حكومة نتنياهو تخطط لضرب المنشآت النووية الإيرانية، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى انهيار عملية الحوار، إلا أنه حتى مع هذا الاتفاق الجديد يمكن لإيران أن ترد بضرب منشآت الطاقة والممرات المائية المرتبطة بدول الخليج([6]).
(د) يأتي الاتفاق في توقيت دقيق بالنسبة إلى إيران من الناحية الاقتصادية، على المستوى الشعبي والحكومي على حدٍّ سواء، نظرًا إلى اجتماع عدة مؤثرات خارجية وداخلية فاقمت الوضع الاقتصادي الإيراني، بداية من إعادة فرض العقوبات الأمريكية منذ عام 2018م، وتداعيات كورونا في 2020م، والحرب الروسية-الأوكرانية في 2021م، والاحتجاجات الداخلية على مقتل مهسا أميني في 2022م.
فمن ناحيةٍ يعاني الاقتصاد من تباطؤ النمو الاقتصادي وتسرب الاستثمارات إلى الخارج، وتواجه مالية الحكومة عجزًا ماليًّا كبيرًا ومتزايدًا مع محدودية الايرادات النفطية، ولا تستطيع الوصول إلى كل احتياطياتها المجمدة بالخارج لفك ضائقتها المالية، إضافة إلى تراجع صادراتها، وتحوّل ميزان التجارة من فائض إلى عجز بمليارات الدولارات، ما عزز انهيار قيمة العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، وما ترتب على كل هذا من ارتفاع معدلات التضخم خلال السنوات الماضية.
(هـ) العمل على احتواء تداعيات حالة العزلة التي تعاني منها إيران، فقد بلغ إجمالي عدد الدول العربية التي قطعت أو خفضت علاقاتها الدبلوماسية مع إيران بفعل سياساتها التدخلية المتكررة نحو 12 دولة عربية (9 دول قطعت: السعودية، والبحرين، والمغرب، ومصر، واليمن، والسودان، والصومال، وجيبوتي، وجزر القمر. و3 دول خفضت: الكويت، والإمارات – قبل أن تعيدا سفيريهما لطهران خلال 2022م، والأردن)، وموريتانيا (استدعت السفير)، وبالتالي فالأزمة مع إيران لا تخص دولة عربية بذاتها وإنما تخص أكثر من 60% من الدول العربية، مع وضع إيران في حالة عزلة إقليمية وحسابات دولية معقدة ألقت بظلالها على علاقاتها الإقليمية وزادت عزلتها الدولية([7]).
يرتبط بهذا العامل محاولة إيران كسر العزلة الدولية المفروضة عليها، وخاصة بعد اتهامها بالانخراط في الحرب الروسية ضد أوكرانيا، بالإضافة إلى ملف حقوق الإنسان في ظل قمع السلطات الأمنية للاحتجاجات التي تشهدها البلاد منذ سبتمبر 2022، فضلاً عن إخفاقها حتى الآن في التوصل لتسوية بشأن الاتفاق النووي مع الغرب، الأمر الذي يدفعها إلى تحقيق إنجاز بحجم إعادة العلاقات مع السعودية، بهدف تسويق النظام الإيراني لنفسه داخلياً وخارجياً.
(و) استثمار التطلع السعودي لدور مختلف في المنطقة بعيداً عن الارتباط الوثيق بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث تسعى المملكة لتنويع علاقاتها مع القوى الدولية، وليس فقط مع واشنطن. ولعل هذا الاتفاق الثلاثي برعاية صينية دليل بارز على ذلك، على الرغم من محاولة واشنطن التقليل من دور بكين في هذا الاتفاق. وقد وجدت طهران الفرصة سانحة لإبرام الاتفاق مع الرياض التي تسعى بدورها إلى تسوية صراعات منطقة الشرق الأوسط، وتخفيف حدة أزماتها، بهدف خلق بيئة إقليمية مواتية لرؤية 2030.
(ز) توطيد العلاقات الاستراتيجية مع الصين، لأن موافقة إيران على الاتفاق، أسهمت في تعزيز الدور المتنامي لبكين في الشرق الأوسط، وإثبات وجودها كقوة دبلوماسية في المنطقة، لاسيما بعد توقيع اتفاق بين أكبر قوتين في الخليج، السعودية وإيران، وأمام المكسب الذي حققته بكين، من المرجح أن تتوطد علاقاتها مع كل من الرياض وطهران، في فترة تحتاج فيها الأخيرة إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع حلفائها لمواجهة الضغوط الغربية عليها.
يرتبط بهذا العامل السعي نحو خلق بيئة تجارية آمنة لمبادرة “الحزام والطريق” التي تُعول عليها إيران، نظراً لاحتياجها لتجاوز العقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية على تحركاتها التجارية والنفطية، حيث توفر مبادرة “الحزام والطريق” لإيران فرصة الانخراط في علاقات تجارية أقوى مع دول شرق آسيا وإفريقيا.
(ح) منح الاتفاق بين إيران والمملكة، الفرصة لطهران للترويج مجدداً لمبادرة “تحالف الأمل” للسلام في منطقة الخليج، والتي تهدف إلى التمهيد لعمل جماعي لتحقيق أمن الطاقة وحرية الملاحة وتدفق النفط من وإلى مضيق هرمز. وهي المبادرة التي دعا لها الرئيس الإيراني السابق، حسن روحاني، خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 25 سبتمبر 2019.
(ط) التنسيق الأفضل في ملف الطاقة، وخاصة في ظل ما تتمتع السعودية وإيران من ثقل في مجال النفط، كدولتين منتجتين له، ولأنهما عضوان في منظمة “أوبك”، التي تتولى تنسيق السياسات النفطية للدول الأعضاء وتوحيدها، لضمان استقرار أسواق النفط، ويمكن أن تمثل عودة العلاقات مع المملكة، فرصة لإيران للتوصل إلى تنسيق أوسع داخل “أوبك”، خاصة إذا نجحت مساعي إعادة التفاوض مع الغرب والولايات المتحدة بشأن الاتفاق النووي، ومن ثم التوصل إلى اتفاق دائم أو مؤقت، يؤدي إلى رفع العقوبات الاقتصادية عن النفط الإيراني، مما يتيح لطهران استعادة كامل حصتها داخل المنظمة.
(ي) تحقيق مكاسب اقتصادية إيرانية داخلية من توقيع الاتفاق، من خلال نشر رسائل الأمن والاستقرار في المنطقة، والحديث عن احتمالات للتعاون الاقتصادي بين السعودية وإيران، وهو ما برز مباشرة في سعر العملة الوطنية في السوق الإيرانية، حيث عوض الريال الإيراني بعض الخسائر التي تكبدها خلال الأشهر الماضية بفعل الاحتجاجات وحالة الركود الاقتصادي، والعقوبات الأوروبية، مسجلاً ارتفاعاً تجاوز 6%([8]).
(ك) ضمان عدم تشكل محور إقليمي- دولي تجتمع به الدول العربية مع الدول الغربية ضد إيران، وذلك عبر إنهاء إيران لتهديداتها التي تمثل الدوافع الأساسية للدول العربية من وراء فكرة انضمامها المحتمل للتحالف العسكري الدولي بقيادة الولايات المتحدة الذي كان يستهدف ضرب إيران، وبذلك يكون هذا الاتفاق عائقاً لعملية تشكيل قوات دولية تعلن حربها الجوية على إيران، ما يكسب إيران مزيدا من الوقت وبالتالي مزيدا من الاقتراب نحو الحصانة النووية.
(ل) في حال تشكل تحالف عسكري دولي يستهدف شن حرب جوية ضد إيران، فإن أجواء ومياه وأراضي السعودية بشكل خاص، ودول مجلس التعاون بشكل عام ستكون مقفلة أمام هذه القوات الدولية، ما يعني وجود معوقات أمام الأعمال العسكرية المحتمل أن تشنها هذه القوات الدولية ضد إيران([9]).
3- دوافع الصين ومكاسبها من توقيع:
أقامت الصين في السنوات الأخيرة علاقات اقتصادية أوثق مع إيران والمملكة العربية السعودية، وكلاهما مورد مهم للنفط لثاني أكبر اقتصاد في العالم. لكن جهود بناء الجسور هذه هي المرة الأولى التي تتدخل فيها بكين بشكل مباشر في الخصومات السياسية في الشرق الأوسط، يأتي ذلك في وقت تتوتر فيه العلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية بسبب تضاؤل الضمانات الأمنية الأمريكية وقرار الرياض بخفض إنتاج النفط لإبقاء أسعار النفط الخام مرتفعة خلال حرب روسيا في أوكرانيا.
ويمثل دور الصين في المحادثات لحظة فاصلة بالنسبة لطموحات بكين في المنطقة، وهي جزء من العالم حيث شنت الولايات المتحدة حربًا وأنفقت مئات المليارات من الدولارات في توفير الأمن للحلفاء، وإلى جانب التدخل الروسي في الحرب الأهلية السورية، تعد دبلوماسية الصين علامة أخرى على تراجع نفوذ الولايات المتحدة.
فقد عززت الصين علاقاتها مع المملكة العربية السعودية وإيران في السنوات الأخيرة حيث أصبحت مشترًيا رئيسيًا لنفط الشرق الأوسط ، لكن طموحاتها بدت تجارية منذ فترة طويلة، مع القليل من الاهتمام بإشراك نفسها في النزاعات الفوضوية في المنطقة، ووفرت بكين شريان حياة لإيران المتضررة من العقوبات ، لتصبح مشتري الخام الرئيس المتبقي منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في 2018. لكنها سعت أيضًا إلى توثيق العلاقات مع السعودية ، منافس إيران الإقليمي، كما بدأت الرياض في استيراد تكنولوجيا الصواريخ الحساسة من الجيش الصيني.
كانت طهران قلقة بشكل متزايد من أن علاقات بكين المتنامية مع المملكة العربية السعودية قد تجعلها أكثر عزلة، وأثارت زيارة شي إلى المملكة العربية السعودية في ديسمبر 2022 رد فعل سلبي في إيران بعد أن انضمت بكين إلى بيان عربي يدعو طهران إلى التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن برنامجها النووي، لكن القمة الخليجية الصينية في الرياض كانت أساسية في زيادة اهتمام بكين بتخفيف التوترات بين الرياض وطهران، حيث قامت وجهة نظر محمد بن سلمان على أن الصين يمكن أن تستوعب بعض المصالح الأمنية للرياض([10]).
إن توقيع الاتفاق في بكين يعزز ممن مشاركة الصين في التحديات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، حيث يدرك القادة الصينيون أن عدم الاستقرار يهدد مصالح مهمة، لا سيما في مجال الطاقة، وترى الرياض أن بكين شريك ذو مصداقية متزايدة في مواجهة فك الارتباط الأمريكي، ولكنها ترى أيضًا أنها اللاعب الوحيد الذي يتمتع بنفوذ حقيقي على إيران، وتتوقع الآن أن تكون الصين هي الضامن لهذه الصفقة، وبالتالي فإن دور الصين في تسهيل هذا الاتفاق سيؤثر في واشنطن، وقد كان هذا أحد أهداف السعوديين، الذين يأملون في أن يؤدي تهديد النفوذ الصيني المتزايد إلى ترقية الضمانات الأمنية الأمريكية.
وستكافح بكين بنفس القدر الذي تكافح به الولايات المتحدة وأوروبا لتشكيل السلوك في الشرق الأوسط حسب رغبتها، خاصة أن الصفقة جاءت بعد نحو عامين من المحادثات الخلفية في العراق وسلطنة عمان، ودور فرنسا كمشارك في عقد مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة، والذي جمع دول المنطقة، بما في ذلك كل من المملكة العربية السعودية وإيران، في حوار جديد، لكن يُمكن أن يُبرز الاتفاق استعداد بكين للعب دور أكثر نشاطًا في محاولة تثبيت المسرح العالمي الرئيسي، وهذا يدعم آفاق بعض التعاون الدولي وراء المصالح المشتركة في مواجهة تراجع أوسع في المنافسة العالمية الصفرية([11]).
وفي هذا الإطار ذهب البعض إلى القول إن الاتفاق الذي أبرمته طهران والرياض لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما لا يشكل “اتفاقية سلام”، بل قرار لتهدئة التوترات وإعادة فتح السفارات بعد مرور سبع سنوات على انقطاع العلاقات، إلا أن واشنطن تخوّفت بالدرجة الأولى من دور الصين في تسهيل الاتفاق، مما دفع بالبعض إلى الإعلان عن بداية “عهد جيوسياسي جديد” والتأكيد أن الاتفاق فاق “كل ما تمكنت الولايات المتحدة من تحقيقه في المنطقة منذ تولّي بايدن منصبه”، لكن لم يتضح مدى أهمية دور بكين في المفاوضات الإيرانية السعودية، فمنذ سنوات يجري الطرفان محادثات غير رسمية على أمل تهدئة التوترات، وقد جرت الجولات السابقة برعاية العراق وسلطنة عُمان.
فالرياض وافقت على التخفيف من حدة حملتها الإعلامية عبر قناة “إيران إنترناشيونال” التي وصفتها طهران بالمحرض الأول المناهض للنظام خلال حركة الاحتجاج الأخيرة. وفي المقابل، أفادت بعض التقارير أن إيران وافقت على تشجيع حلفائها الحوثيين في اليمن على الأبقاء على الهدنة الحالية المستمرة منذ عام، أي أنه كان لدى الرياض وطهران حوافز قوية لاتخاذ بضع خطوات دبلوماسية أولية على الأقل لتعزيز استقرارهما الداخلي.
لذلك تبدو مخاطر الخروج عن المسار عالية نظراً لانعدام الثقة بين الرياض وطهران. وقد يؤدي تجدد الاحتجاجات في إيران إلى اندلاع موجة جديدة من غضب النظام تجاه السعودية، سواء شاركت الرياض وحلفاؤها في إثارة الاضطرابات أم لا. وعلى الرغم من أن الحوثيين متحالفون بشكل وثيق مع طهران ويعتمدون على أسلحتها وأموالها وتدريبها، إلا أنهم قد يواصلون عمليات القصف على السعودية لأسبابهم الخاصة، مما يهدد وقف إطلاق النار الهش. وبالمثل، من الممكن أن تقرر شبكة وكلاء إيران في العراق وسوريا مهاجمة الشركاء السعوديين أو المملكة ذاتها، مما يقوّض دعم الرياض الداخلي للتسوية.
وقد يؤدي الاتفاق إلى تفاقم التوترات الجيوسياسية الأوسع نطاقاً التي تسعى بكين إلى تهدئتها، فقد ترى إيران في الاتفاق تأييداً ضمنياً لسياستها النووية الحالية، وإذا قررت طهران مضاعفة الجهود في استراتيجيتها النووية نتيجة لذلك، فإنها ستزيد من قلق المسؤولين الغربيين والعرب والإسرائيليين، أي أنه على الرغم من أن الاتفاق قد يخفف من حدة التوترات بين إيران والسعودية، إلّا أنه قد يؤدي في الوقت نفسه إلى تفاقم التوترات بين طهران والجهات الفاعلة الأخرى، ما قد يزيد من احتمال حدوث تصعيد عسكري.
إلا أنه من المرجح أن تواصل الصين زيادة استثماراتها في الشرق الأوسط؛ فهي القوة الاقتصادية المهيمنة في المنطقة وقد سعت منذ فترة طويلة للمواءمة بين مكانتها الدبلوماسية وتأثيرها الاقتصادي الكبير. وحتى الآن، لم تتأثر سمعتها الدبلوماسية في المنطقة بما يجري على أرض الواقع. والنجاح في إقناع إيران والسعودية بالموافقة علناً على اتفاق لخفض التصعيد يشكل نصراً دبلوماسياً للصين، لكن إلزامهما بالاتفاقية على المدى الطويل يمثل تحدياً يكشف الكثير عن تأثير الصين الحقيقي([12]).
إن الرئيس شي جين بينغ له رؤية مختلفة للعالم وإدارة العلاقات الدولية فيه، مفادها أن الصين قد أصبحت قوة اقتصادية عظمى في العالم تصل إلى كل أركان الأرض مثلما هو الحال مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومع هذه القوة يوجد تقدم صناعي وتكنولوجي يجعل الناتج المحلي الإجمالي للصين يقترب اسمياً من نظيره الأمريكي ويتفوق عليه إذا ما احتُسب استناداً إلى القوة الشرائية للدولار.
والصين تصل إلى أرجاء العالم بسلع وبضائع وتكنولوجيات تقاوم الفقر وتتجه نحو النمو، وتقدم للعالم نموذجاً للكفاءة والإنجاز. ولا تحمل نظريات تبشيرية مثل تلك التي تحملها الولايات المتحدة عن “صراع الحضارات” أو “الديمقراطية في مواجهة السلطوية”، ولها وجهة نظر في ضرورة مراجعة النظام الدولي الذي ساد بعد نهاية الحرب الباردة وأدى إلى العولمة وهيمنة الولايات المتحدة وعملتها الدولارية، وعبّرت عن ذلك في بيان خاص مع روسيا في 4 فبراير 2022.
لقد وقفت الصين مع روسيا في الحاجة إلى مراجعة النظام الدولي، الذي تشكل بعد انتهاء الحرب الباردة. وأكثر من ذلك، فإن بكين كانت متفهمة ومساندة للموقف الروسي الرافض لتوسعات حلف شمال الأطلسي في اتجاه أوكرانيا أو أي اتجاهات أخرى. ومع ذلك، فإن بكين، من ناحية أخرى، دأبت على الامتناع عن التصويت في المحافل الدولية المختلفة، فضلاً عن قيامها بتقديم مساعدات إنسانية لأوكرانيا، ورفضها من حيث المبدأ التدخل العسكري الروسي في الأراضي الأوكرانية وضم موسكو من قبل لشبه جزيرة القرم، ثم إقليم الدونباس في الحرب الحالية، ثم طرحت مبادرتها لتسوية الأزمة في مارس 2023. التي تستند على أن الصراعات والحروب لا تنتج أي فائز، ولا يوجد حل بسيط لقضية معقدة، ويجب تجنب المواجهة بين الدول الكبرى.
لذلك يرى البعص إن المبادرة الصينية لاستئناف العلاقات السعودية الإيرانية تمثل شكلاً من أشكال “الإقليمية الجديدة” في منطقة الشرق الأوسط، برعاية صينية، مفادها قوة الطرف الوسيط (الصين)، والذي أعلن عن الاتفاق في نفس يوم إعادة انتخاب شي جين بينغ رئيساً للبلاد لولاية ثالثة مدتها 5 سنوات، حيث تتطلب الوساطة الفعالة فهماً عميقاً للقضايا والحساسيات ذات الصلة، من ناحية، وظهور التأثير والفعالية الأكبر للقوة الاقتصادية على نظيرتها العسكرية، فخلال العشرين عاماً الماضية، دخلت الولايات المتحدة الأمريكية في ثلاثة حروب؛ الأولى كانت في أفغانستان، والثانية في العراق، والثالثة ضد الإرهاب في عمومه، أما الصين، فإن لديها طريقة أخرى لإدارة وجودها الدولي، فهي لم تتورط في أي من أزمات الشرق الأوسط، من ناحية ثانية، وترسيخ تأثير الصين المتزايد في النظام العالمي، حيث يعد البيان الثلاثي للصين والسعودية وإيران دليلاً على أن الدبلوماسية الصينية بدأت في ممارسة نفوذها في العالم، من ناحية ثالثة([13]).
فقد تمكنت الصين من توسيع مساحة المناورة الدولية التي تمكن دول مجلس التعاون من الاقتراب أكثر باتجاه الصين التي تشارك بشكل مباشر في ضمان أمنها الإقليمي عبر التزامها بتقييد السلوك الإيراني المهدد لأمن دول المجلس، وعرضت الصين نموذجا جديدا لتحقيق الأمن والسلام في واحدة من أهم بؤر التوتر في العالم، دون حاجة إلى الانخراط في أعمال عسكرية لفرض الأمن أو السلام، كما تفعل الولايات المتحدة، كما وسّعت الصين نفوذها الأمني في منطقة رئيسية من مناطق المصالح الأمنية والحيوية الأميركية بشكل يؤثر على معادلة الأمن الدولي الأميركي، ردا على توسيع أميركا لنفوذها الأمني على تايوان بشكل مهدد لوحدة وأمن الصين الجيوسياسي([14]).
وحول حدود هذا الدور ومكتسباته، يرى وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر أنه وهو يراقب الصين وهي ترعى تقارب السعودية مع إيران، يعتقد أن هذا المثلث الدبلوماسي (الصين – السعودية – إيران) مشابهاً لما أنجزه كيسنجر في 1971، وقال كيسنجر عن هذا التقارب: أنظر إليه كتغير جوهري في الوضع الإستراتيجي بالشرق الأوسط، مضيفا أن “السعوديين يحاولون موازنة أمنهم من خلال اللعب بورقة الولايات المتحدة ضد الصين”.
وبطريقة مقارنة قال كيسنجر إنه كان قادرا مع الرئيس ريتشارد نيكسون على اللعب بالتوتر بين بكين وموسكو في اتفاقهما التاريخي. وعليه، فخفض التوتر في منطقة الخليج هو في مصلحة الجميع على المدى القريب. ولفت: “لو أراد الرئيس شي جين بينغ لعب دور مَن يحاول ضبط إيران وتطمين السعودية، فحظا سعيدا له، فالولايات المتحدة تحاول عمل هذا منذ عام 1979 وحرف قوس الثورة الإيرانية نحو الاستقرار”.
وأضاف: كيسنجر إن ظهور بكين كصانع سلام سيغير شروط المرجعية الدبلوماسية الدولية، فلم تعد الولايات المتحدة القوة التي لا يستغني عنها أحد بالمنطقة، أي الدولة القوية أو المرنة بدرجة لكي ترعى اتفاقيات السلام، وقد طالبت الصين بحصة من هذه القوة. ويعلق كيسنجر قائلا: أعلنت الصين في السنوات الماضية عن حاجتها لأن تكون مشاركة في خلق النظام الدولي، وتحركت خطوة مهمة الآن بهذا الاتجاه، مؤكداً أن الدور المتزايد للصين سيعقّد من قرارات إسرائيل، وما يراه قادتها حول شن حرب وقائية ضد إيران كخيار أخير، في وقت تتحرك طهران باتجاه التحول إلى قوة نووية. ويرى كيسنجر أن الضغوط على إيران يجب أن تأخذ بعين الاعتبار المصالح الصينية.
لذلك ذهب أحد المحللين الأمريكيين إلى أن الصينيين استثمروا الجهود الأمريكية الحثيثة لتقوية السعودية كي تكون في وضع لمقاومة الجماعات الوكيلة لإيران في اليمن والعراق وسوريا. و”بنت الولايات المتحدة الطريقة للتقارب السعودي- الإيراني، ولكن الصينيين هم من قصّوا الشريط”، فقد بدأت المحادثات السعودية- الإيرانية قبل عامين في بغداد برعاية رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي، شريك الولايات المتحدة. وعقدت بعض المحادثات في عُمان، الحليفة لأمريكا. وفي ست جولات من المفاوضات، اتفق الممثلون السعوديون والإيرانيون على خريطة طريق تقود لاستئناف العلاقات بين الدولتين. واشترطت السعودية قبل إعادة فتح السفارات، أن تعترف طهران بدورها في دعم الحوثيين والحد من هجماتهم على أراضيها.
وأضاف أن الولايات المتحدة هي التي عبّدت الطريق نحو تسوية للحرب في اليمن. فقد ساعد تيموثي ليندركينغ، مبعوث وزارة الخارجية الأمريكية لليمن، في التفاوض على وقف إطلاق النار في نيسان/ أبريل 2022، وبدأت الطائرات بالتحليق من مطار صنعاء، وتدفقت البضائع من ميناء الحديدة، وكلاهما تحت سيطرة الحوثيين، وأعلنت السعودية عن إيداع مليار دولار في المصرف المركزي اليمني لبناء الاستقرار في البلد، وعندما زار الرئيس شي السعودية في كانون الأول/ ديسمبر 2022، تعهد باستخدام تأثير بلاده على إيران لإتمام الصفقة. وعندما التقت الأطراف الثلاثة في بكين (مارس 2023)، اعترف مستشار الأمن القومي الإيراني، علي شمخاني بدعم إيران للحوثيين، وتعهد بوقف إرسال الأسلحة إليهم، وتعهدت إيران أيضا بأنها لن تهاجم المملكة مباشرة أو عبر جماعات وكيلة، والمحصلة النهائية “جاءت الصين لتحصد كل الجهود الأمريكية”([15]).
وهنا تأتي أهمية التأكيد على وجود دور مهم للولايات المتحدة في رسم السياقات والمحددات التي دفعت باتجاه توقيع هذا الاتفاق، وأن الولايات المتحدة رغم أنها لم تكن حاضرة في مشهد التوقيع، إلا أنها كانت بمثابة الحاضر الغائب وأحد أهم الفاعلين المؤثرين في الوصول لهذا الاتفاق بداية من توجهات أوباما 2016، وصولاً إلى سياسات بايدن وخاصة في اليمن والعراق ومع إيران منذ 2021 وحتى الآن، وأنه من الصعب حدوث اتفاق بهذا الحجم إلا بدعم وموافقة الولايات المتحدة التي ما زالت تمتلك الكثير من أوراق القوة التي تستطيع بها الضغط على مختلف الأطراف بما فيها الصين، وبالتالي ليس مستبعداً، في إطار التفسيرات المتعددة لتوقيع الاتفاق، أن تكون الولايات المتحدة هي التي أعطت الضوء الأخضر لانجاز هذا الاتفاق لتحقيق عدد من المصالح لها، حتى لو حصلت الصين على مكسب جزئي كراعية للاتفاق، فأمريكا كطرف غير محايد بالنسبة لإيران ما كان لها أن تستطيع رعاية هكذا اتفاق، ولهذا سمحت لهذه الأطراف بالتحرك وخاصة عبر جولات التفاوض التي احتضنتها العراق وسلطنة عمان، وكانت الولايات المتحدة حاضراً فيها بقوة.
المبحث الثالث: الاتفاق الثلاثي ـ القضايا والتداعيات
تتشابك السعودية وإيران في العديد من القضايا متعددة المستويات والنطاقات، من بينها قضايا ثنائية (مثل النفط، الغاز، الشيعة، الحدود البحرية، .. ) وإقليمية تبرز حول التنافس الإقليمي في العديد من الملفات منها: البحرين، العراق، سوريا، لبنان، اليمن، أمن الخليج، التطبيع مع إسرائيل، وكذلك قضايا دولية، منها موازين القوى الدولية، وسوق الطاقة العالمية، والبرنامج النووي الإيراني.
ومع هذا التعدد في القضايا كان السؤال الرئيس بعد توقيع الاتفاق الثلاثي هو تأثيرات وتداعيات هذا الاتفاق على علاقات الدولتين وقضاياهما الثنائية وعلى القضايا الإقليمية والدولية ذات الصلة، بحكم ما للأطراف الثلاثة (الصين، السعودية، إيران) من أدوار شديدة الأهمية في هذه النطاقات؟
هنا تبرز مجموعة من الأولويات المباشرة التي يمكن أن ينعكس عليها الاتفاق على المدى القريب، أو المتوسط، من بينها:
1: الحرب في اليمن
من المرجح أن يشهد الملف اليمني تحولًا كبيًرا بعد الاتفاق السعودي-الإيراني حيث أن الاتفاق يعتبر بمثابة عامل معزز لجهود السلام الدولية والإقليمية ومبادرات السلام التي توصلت إلى تهدئة على المستوى العسكري ابتداءً من شهر أبريل 2022. لذلك من المفترض أن تنخرط جماعة الحوثي بشكل جاد في مباحثات السلام مع مجلس القيادة الرئاسي الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى رسم ملامح جديدة في مسار التسوية السياسية في اليمن، إذ أعلنت البعثة الإيرانية الدائمة في الأمم المتحدة أن استئناف العلاقات بين إيران والسعودية سيُساهم في بداء الحوار اليمني وتشكيل حكومة وطنية شاملة في اليمن على وجه التحديد.
لكن في المقابل ذهب البعض إلى أنه بعيدًا عن المحتوى السياسي للاتفاقية، وفقًا لبيانهما المشترك بشأنها، احتلت المسألة الأمنية، بمفهومها التقليدي، حيزًا كبيرًا، فضلًا عن أنَّ ممثِّلَي الدولتين اللذين وقَّعا الاتفاقية مسؤولان أمنيَّان، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران، الأدميرال علي شمخاني، ووزير الدولة، مستشار الأمن الوطني في السعودية، مساعد محمد العيبان، لذلك يكون منطقياً أن تكون الحرب في اليمن مسألة ذات أولوية في هذه الاتفاقية، أو البروتوكولات التي قد تُلحق بها. فالإشارة إلى عدم التدخّل في “الشؤون الداخلية للدول”، وليس “الشؤون الداخلية للدولتين” فحسب، تعني أن اليمن أحد أبرز محتويات هذا التوصيف، لكونه مصدر التهديد الأخطر على الأمن القومي السعودي، في الوضع الحالي، وأنَّ إيران عازمةٌ على التخلي التدريجي عن جماعة الحوثي، إلا أنَّ هذا متوقفٌ على ما ستُسفر عنه الفترة الانتقالية المعلن عنها، بوصفها حدًّا زمنيًّا لدخول الاتفاقية حيِّز النفاذ.
ويضيف أنصار هذا التيار، أنه حتى لو رفعت إيران يدها عن الحوثي، فإن هناك العديد من الروافدَ الخارجية الأخرى لتغذية الصراع، بجانب عمق الأزمة، وتعقيداتها الداخلية، فحزب الله يظل رافدًا خارجيًّا محتملًا لتغذية الصراع في اليمن، إذا ما ذهبت إيران في اتجاه التخفُّف من أعباء هذا الصراع، إذ تقتضي مصالح الحزب الإبقاء على مختلف أشكال الدعم التي يقدِّمها لجماعة الحوثي، في وقتٍ سيكون غياب إيران دافعًا إلى أن تُبقي جماعة الحوثي نفسها، على هذا الرافد، وذلك ضمن تدابير عدم ثقتها بالسعودية، هذا بجانب كياناتٌ أيديولوجيةٌ داعمة لجماعة الحوثي في العراق.
يضاف إلى ذلك طبيعة السياسات السعودية تجاه حلفائها في اليمن والتي تشكل باعثًا على عدم الاستقرار، ومن ذلك القضايا الخلافية الجوهرية بين هؤلاء الحلفاء، فضلًا عن دخول السعودية، منفردةً، في مفاوضات سريَّة مع جماعة الحوثي، دون مراعاة لمصالح هؤلاء الحلفاء، بل إنها تتدخّل في أدوار هذه الحكومة، كما لو أنها شأن سعودي صِرف، هذا بجانب تعارض المصالح بين السعودية والإمارات، وتصاعد حِدَّة الخلافات بينهما، وإنشاء الأولى تشكيلات مسلحة موالية لها، وإعادة تشكيل أخرى تحلّلت خلال تحوّلات عنيفة ماضية، مع ما تُكنُّه من رغبات انتقامية للإمارات وحلفائها نتيجة وقوفهم وراء هذه التحوّلات([16]).
2: الوضع في لبنان
خلال السنوات الثلاث الماضية، بدا للكثيرين أن لبنان أصبح ساحة للنفوذ الإيراني منفرداً، ولم يعد ساحة لتقاسم النفوذ السعودي السوري أو السعودي الإيراني، فنصيب السعودية من لبنان هو الإنفاق، وكان آخر مظاهر هذا الإنفاق منحة ملكية قررها الملك الراحل عبد الله بقيمة 3 مليارات دولار لتسليح الجيش اللبناني بأسلحة فرنسية بطلب من الرئيس اللبناني الأسبق ميشال سليمان، وكان واضحاً أن هدفها تقوية الجيش اللبناني في مواجهة حزب الله باعتباره القوة الوحيدة الوازنة له.
ومع تولى العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز السلطة عام 2015، وصعود دور الأمير محمد بن سلمان، ودخول السعودية في حرب اليمن، تحوَّل حزب الله لداعم رئيس للحوثيين في الحرب، وهاجم نصر الله السعودية، فقررت السعودية وقف الدعم عن الجيش اللبناني، وتدريجياً أوقفت السعودية كل دعمها للبنان ولتيار المستقبل، بل تم احتجاز رئيسه سعد الحريري الذي يحمل الجنسية السعودية لفترة بالرياض في عام 2017.
وبينما خسرت السعودية معركة النفوذ في لبنان، وكسبتها إيران وحزب الله، فإن لبنان نفسه خسر اقتصاده وعلاقاته الدولية والعربية، وبات أغلب اللبنانيين ومن ضمنهم بعض الشيعة، يحمّلون إيران وحزب الله مسؤولية الأزمة التي غرقت فيها بلادهم، بينما ابتعد الحريري عن العمل السياسي المباشر.
وأصبح السؤال بعد توقيع الاتفاق الثلاثي: هل تقبل السعودية عودة المعادلة السابقة للبنان بعد الانفراجة مع طهران، حينما كان يحكم رئيس وزراء موالٍ لها البلاد، ليجلب الأموال الخليجية للدولة ونخبها، بينما لا يستطيع حماية نفسه من حزب الله، إذا اختلف معه؟ وخاصة أن هناك من يرى أن لبنان لم يعد ذا أولوية للسياسة السعودية، وأن القيادة الحالية ترى الاستثمار السعودي في لبنان خسارة كبيرة.
لكن في المقابل قد يعود النفوذ والدعم السعوديان للبنان ضمن إطار حل عربي ودولي تتحمل السعودية جزءاً من تكلفته وليس أغلبه، وقد تسهل التهدئة الإيرانية السعودية هذا التوجه، ولكنها لن تكون مفصلية فيه([17]). ويمكن أن يضبط الاتفاق حدَّة النزاع الطائفي في لبنان الأمر الذي يمكن أن يساهم في كسر الجمود السياسي وتسريع وتيرة الاتفاق على مرشح رئاسي في الفترة القادمة، مما سينعكس على المستوى الاقتصادي حيث يؤدي تحسن الوضع السياسي إلى فتح آفاق اقتصادية جديدة في عدَّة قطاعات أبرزها السياحة العربية وزيادة حجم الاستثمارات والدعم، لا سيما من قبل المملكة العربية السعودية ودول الخليج، وخاصة بعد ردود الفعل اللبنانية المرحبة بالاتفاق فور الإعلان عنه([18]).
ولعل من المؤشرات الدالة على ذلك بعد توقيع الاتفاق ذلك الاتصال الذي تم في السابع والعشرين من مارس 20223، بين ولي العهد السعودي والرئيس الفرنسي، والذي تم خلاله التأكيد على التعاون المشترك في العديد من القضايا التي تهم الطرفين، ومن بينها مواجهة الانهيار السياسي والاقتصادي في لبنان.
3: الوضع في سورية
عندما اندلعت الثورة السورية كانت هبَّة شعبية عفوية، ولكن القمع الوحشي لنظام الأسد لها، أدى إلى انشقاقات في الجيش السوري حوَّلتها لثورة مسلحة، ودعمت دول الخليج، إضافة إلى تركيا والدول الغربية المعارضة السورية، ولكن في الأغلب دعمت كل دولةٍ جماعة أو جماعات بعينها، ودعمت الرياض جماعات تتركز في محيط دمشق بمنطقة الغوطة وهي منطقة ذات أهمية استراتيجية بالغة، وأغلبها المجموعات التي مولتها الرياض هي جماعات سلفية غير جهادية، وأبرزها جماعة جيش الإسلام التي أسسها زهران علوش، كما كان للسعودية دور كبير في وقت من الأوقات، في دعم معارضة الجنوب السوري عبر الأردن وبالتعاون مع الولايات المتحدة، وكانت لجماعات غوطة دمشق تحديداً، سطوة كبيرة في مرحلة من مراحل الثورة السورية، وكادت تقضي على نظام الأسد.
ولكن جاء التدخل الإيراني، خاصة عبر حزب الله، فأنقذ نظام الأسد، وأدى إلى إضعاف الثورة السورية، ومنذ ذلك الوقت تراجع الاهتمام السعودي بسوريا، ولكن ظلت الرياض أشد المعارضين للتطبيع العربي مع الأسد وعودته للجامعة العربية.
ولكن من شأن الانفراجة السعودية الإيرانية أن يكون لها تأثير كبير على الموقف السعودي من نظام الأسد، خاصةً أنه سبق الاتفاق السعودي الإيراني حديث وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، عن ضرورة تغيير المقاربة في التعامل مع دمشق، وعن اتفاق عربي لحل الأزمة السورية عبر “الحوار مع دمشق”، وحدوث وزيارات من وفود عربية لدمشق.
وتمثلت مشكلة الرياض مع الأسد في تحالفه مع إيران، ومن ثم فإن التهدئة السعودية الإيرانية قد تكون مفيدة لنظام الأسد ولكن لا يعني ذلك أنه سيصبح حليفاً للرياض أو يبتعد عن طهران، لأنّ تحالف الأسد وإيران تحالف مصيري، ولكن قد تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه في بعض أوقات عهد حافظ الأسد وبداية عهد بشار: تحالف سوري مع إيران وعلاقة جيدة مع الرياض([19]).
ومن هنا يمكن القول إن الاتفاق الثلاثي يأتي في ظل وصول الأوضاع الداخلية في سورية إلى حالة من الجمود بعد استعادة النظام السياسي السيطرة على أجزاء كبيرة من البلاد، يقابله انفتاح عربي وإقليمي نسبي على نظام الأسد، وفي ظل هذه المعطيات من المرجح أن يساهم الاتفاق في تسهيل عودة سوريا بشكل تدريجي لمحيطها العربي، وخاصة مع إعلان السعودية عن عودة العلاقات الدبلوماسية مع نظام بشار، ومن المرجح أن يشارك بشار في القمة العربية التي سيتم تنظيمها في الرياض في مايو 2023.
4: الوضع في العراق
خلال السنوات الخمس الماضية، وتحديداً منذ عام 2017، حاولت الرياض تعزيز العلاقات مع أكبر تيار شيعي في العراق، وهو التيار الصدري، حيث استقبل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، زعيمه مقتدى الصدر في عام 2017، كما وطدت الرياض العلاقات الرسمية مع بغداد خاصة في عهد رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، واتسمت بأنها علاقات طبيعية لا ترمي إلى منافسة النفوذ الإيراني وخلق مراكز قوى تابعة لها بل تهدئة الأوضاع مع العراق وتأكيد الحضور السعودي في الملف العراق، وهو ما أدى إلى تحسن لافت في العلاقات بين الجانبين، وتوسطت بغداد في المحادثات بين السعودية وإيران، وهو ما ترتب عليه تراجع ملحوظ في الخطاب التحريضي ضد السعودية في العراق، رغم وجود من يري أن جماعات عرقية موالية لطهران قد شاركت في الهجوم على منشأة أرامكو السعودية عام 2019.
وبناء على معطيات الأعوام الثلاثة الماضية، وخاصة مع استضافة العراق لجولات الحوار السعودي ـ الإيراني، ويمكن القول إن التطبيع السعودي الإيراني قد يحسّن من هذا التوجه الإيجابي في علاقات الرياض وبغداد، ويعزز الاستثمارات التي وعدت السعودية بضخها في العراق، في ظل المكانة الاستراتيجية للعراق في منظومة الأمن الخليجي عامة والأمن القومي السعودي خاصة بحكم الحدود البرية المشتركة بين الدولتين من ناحية وتداخلهما في العديد من القضايا الإقليمية من ناحية ثانية([20]).
5: الملف النووي الإيراني
يخضع الملف النووي الإيراني لأبعاد متداخلة تبدأ من المسائل التقنية وتنتهي بالدور الإيراني في الحرب الروسية على أوكرانيا مرورًا بسياساتها الإقليمية، والدور الإقليمي الإيراني يتقاطع مع الاتفاق بين السعودية وإيران، ومن هذا المنطلق فإن توصل الطرفين السعودي والإيراني لتسويات في القضايا الصراعية بينهما قد يتيح المجال لتجاوز بعض العقبات الجزئية في الملف النووي، ومن ناحية ثانية فإن الاتفاق يمكن أن يحد من احتمالات الضربة العسكرية التي تهدد إسرائيل بتوجيهها للبرنامج النووي الإيراني، ومن ناحية ثالثة فإن أي نجاح يحرزه هذا الاتفاق سيساهم في بناء الثقة بين إيران والدول الغربية ويعكس جديتها في التوصل لاتفاق وتجسيد بنوده على أرض الواقع.
المبحث الرابع: المكاسب المتبادلة ومحددات التحولات المستقبلية
تبرز هنا مجموعة من المكاسب التي يمكن أن يحققها أطراف الاتفاق الثلاثي على المدى القريب، وأن يكون لها تأثيراتها على المسارات المستقبلية للعلاقات الإقليمية وما يرتبط بها من تفاعلات دولية، ومن بين هذه المكاسب
1: قد تحقق السعودية مكسبًا أمنيًا مهمًا في الداخل إذا ما كانت إيران جادة في الضغط على الحوثيين لوقف اعتداءاتهم المتكررة على الأراضي ومنشآت النفط السعودية، وعلى مستوى السياسة الخارجية تبرز أهمية تحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي الذي يساهم بطريقة غير مباشرة في استكمال تحقيق أهداف رؤية 2030م، التي أكدت على أولوية تحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي في السياسة الخارجية السعودية.
2: إنّ الاتفاق مع إيران قد يسهم في إنهاء حالة الابتزاز السياسي للمملكة من قبل بعض القوى الإقليمية والدولية، كما أنه قد يخفّف من اندفاعة السلوك الإيراني الإقليمي ويبعدُ سيناريو المواجهة المباشرة مع السعودية، كما يؤكد التحوّل الذي باشرته المملكة على مستوى السياسة الخارجية والمتمثل في لعب أدوار مؤثرة لأجل تسوية بعض الصراعات الإقليمية والدولية المؤثرة على الاقتصاد والأمن العالميين كالأزمة الروسية-الأوكرانية.
3: قبل إعلان الاتفاق في بكين، كانت هناك جولات متزامنة لوزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، ورئيس أركان جيشه على عواصم أوسطية وعربية، أهمها تل أبيب وعمّان والقاهرة وقاعدة التنف ومناطق قوات سورية الديمقراطية في شرق الفرات، وقدّم فيها رئيس الأركان، الجنرال مارك ميلي، وعوداً للحلفاء بزيادة أعداد الجنود الأميركيين في سورية، ورفع عدد النقاط القتالية المشتركة مع التحالف الدولي في شرق الفرات، على أن تترافق تلك الإجراءات مع زيادة الدعم اللوجيستي والقتالي من واشنطن، تسبقها إجراءات تنظيمية، تشمل إعادة هيكلة قوات الحلفاء المحليين، بما ينسجم مع تنفيذ مهام جديدة ستوكل لهم، منها مهمة مواجهة مليشيات إيران في سورية عند الضرورة.
وقد نقلت إسرائيل بعض غواصاتها وسفنها الحربية إلى بحر العرب. واشتركت مع القوات البحرية الأميركية بعدة مناورات وتدريبات على مقربة من الشواطئ الإيرانية. وشملت التدريبات محاكاة هجوم مشترك على منشآت إيران الحيوية ومفاعلاتها النووية ومصانع صواريخها الباليستية وطيرانها المسيّر ومقرّات القيادة وعقد الاتصال، فهل كان للقوات الإسرائيلية في بحر العرب علم مسبق بالمصالحة السعودية الإيرانية، وشكلت بوجودها هناك تعويضاً عن قواعد الخليج التي خرجت من الحسابات العسكرية الأميركية العملياتية في الحرب المقبلة على إيران إذا ما تمّت؟
حيث كشفت بعض المصادر النقاب عن خطة حرب عسكرية للجيش الأميركي أطلق عليها اسم عملية “دعم الحارس”، وضعتها وزارة الدفاع الأميركية بالتنسيق مع إسرائيل، ورصدت لها ميزانية للتخطيط والتدريب، لتطبق في حال فشل المفاوضات السياسية مع إيران حول مشاريعها النووية والباليستية والطيران المسيّر، وعملية “دعم الحارس” تستند إلى معلومات استطلاعية جوية وفضائية، أميركية وإسرائيلية، استطاعت تشكيل بنك أهداف حيوية يحوي 600 هدفاً داخل إيران وخارجها.
الخطة إذا ما اتُّخذ القرار بتنفيذها، تسعى لتحقيق هدفين، الأول، شلّ القدرات العسكرية الإيرانية عبر أمواج من الضربات الجوية والصاروخية المتلاحقة التي تكبّل إيران، وتمنعها من إمكانية القيام بأي ردود عسكرية على القوات الأميركية في البحر أو القواعد العسكرية على البرّ، وكذلك تمنع مهاجمة الحلفاء. الثاني: إنهاء الحرب بسرعة، بعد تدمير الأهداف المطلوبة وعدم إطالة زمن الحرب وترك الفرصة للروس بالتدخل إلى جانب إيران، والثأر لما فعله الغرب في الحرب الروسية على أوكرانيا.
ومن هنا ذهب البعض للقول إن الاتفاق السعودي الإيراني يعني، في أهم تفاصيله، خروج المملكة ومعها معظم دول الخليج، من دائرة الاستهداف الإيراني، إذا ما كانت هناك حرب أميركية – إسرائيلية على إيران، وأن الاتفاق يحقّق هدفاً مهماً لإيران بوقف أي هجمات صاروخية أو عبر الطائرات من قواعد أميركية تتموضع في دول الخليج العربي. وبالتالي، تبقى للولايات المتحدة القدرة على استخدام أسطولها البحري مع حاملات الطائرات والغوّاصات والقدرات السيبرانية والإلكترونية، إضافة إلى أعمال مفارز التخريب داخل الأراضي الإيرانية وخلف خطوط القتال. ([21]).
4: تأتي الأبعاد الداخلية في مقدمة الحسابات الإيرانية نظرًا للأزمة التي تواجهها بفعل الحركات الاحتجاجية الناجمة عن تدهور الأوضاع الاجتماعية نتيجةً للعقوبات الدولية المفروضة عليها وعلاقاتها المتأزمة مع دول الجوار، والتي تحول دون تعزيز التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري، في السياق الداخلي أيضًا تسوّق الحكومة الإيرانية الاتفاق على أنه نجاح لرئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي في التوجه شرقًا وتحسين العلاقات مع دول الجوار.
5: مع عودة العلاقات بين البلدين قد تتعاظم الفرص التجارية والاستثمارية التي خلال السنوات الماضية، فالجانب السعودي يمتلك منتجات خدمية حصرية كالحج والعمرة والسياحة الدينية والترفيهية المتزايدة بالسنوات الأخيرة، وفي حال استعادة حركة الطيران المباشر بين البلدين ستتعاظم إيرادات السياحة الدينية والترفيهية، كما بذلت السعودية خطوات كبيرة في جذب رؤوس الأموال والاستثمارات العالمية في مجالات التصنيع والتكنولوجيا وفق مستهدفات رؤية 2030م لتنويع مصادر الدخل ما يزيد فرص الإنتاج الصناعي غير النفطي ويجعله محلًا محتملًا للتبادلات الخارجية مع إيران خاصةً وأنها تستورد المنتجات الصناعية التكنولوجية بكثافة.
أما إيران فتمتلك منتجات تقليدية لها مكانة كالزعفران والمكسرات والكافيار والسجاد ومنتجات زراعية متنوعة، بجانب امتلاك رأسمال صناعي في بعض المجالات كالتصنيع الغذائي والميكانيكي والهندسي وقطع الغيار وما شابه يتم تصديرها لبعض دول الجوار، كما أن تراجع قيمة عملتها المحلية يقلل من سعر منتجاتها بالأسواق الخارجية. وتمتلك إيران مقومات سياحية تجذب السائحين من دول الخليج إليها.
وفي مجالات التعاون الاقتصادي الأخرى بينهما، تعد السعودية وإيران معًا من أكبر منتجي النفط داخل منظمة الأوبك، وقد يزيد التعاون والتنسيق بينهما حول حجم الإنتاج والصادرات وتقل فرص الخلافات في حال عودة العلاقات لطبيعتها الكاملة. كما تحتاج إيران لاستثمارات ضخمة في قطاعات نفطية وغير نفطية قد تكون محلًا للتعاون بين البلدين إذا ما رفعت العقوبات الأمريكية عن إيران. وعلى الجانب الجيو-اقتصادي فالسعودية وإيران معًا تشكلان محاور أساسية لطريق الحرير الصيني الواصل إلى أوروبا، وتسعى الصين لتأمينه وتقليل الخلافات بين الدول الواقعة عليه حتى تقل تكاليف المرور وتتعاظم مكاسب كل الأطراف.
ومن بين التساؤلات المهمة التي تبرز في هذا السياق: هل هناك فرصة لحدوث تعاون اقتصادي سعوديى ـ إيراني مؤثر في ظل استمرار العقوبات الأمريكية على إيران وأي أطراف أخرى متعاونة معها؟
وهنا يمكن القول إن هذا وارد وبقوة، وخاصة بعد تصريحات عدد من المسؤولين السعوديين والإيرانيين حول هذا الأمر، انطلاقاً من أن الاستثمارات المشتركة يمكن أن تعزز التقارب وتخفف من التوترات من ناحية، وبدأ الحديث بالفعل عن قطاعات الاستثمار التي يمكن أن تشارك فيها المملكة في إيران، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية يمكن تعزيز العلاقات الاقتصادية بين الدولتين تحت مظلات التعاون الاقتصادي الدولي مثل منظمة بريكس ومنظمة شنغهاي، التي تشارك فيها الصين وإيران وقد تنضم إليها السعودية خلال السنوات القليلة القادمة.
كما أن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران لم تمنع دولة مثل الإمارات العربية المتحدة من أن تكون من أهم الشركاء التجاريين لإيران خلال العقدين الماضيين، رغم أن الإمارات ترتبط بصراع ممتد مع إيران حول الجزر الثلاث التي تقول الإمارات إن إيران تحتلها في الخليج (طنب الكبرى، طنب الصغرى، أبو موسي).
يعزز كذلك من إمكانيات التعاون الاقتصادي المشترك بين السعودية وإيران وجود حقل غاز بحري مشترك بينها مع الكويت هو حقل “الدرة”، الذي تم اكتشافه عام 1967، ويعتبر موضع خلاف ممتد بين الكويت وإيران منذ اكتشافه، حيث يطلق على جزء الحقل الواقع في الكويت “الدرة”، والجزء الواقع في الجانب الإيراني “آرش”، وفي في 24 ديسمبر/كانون الأول 2019 تم توقيع مذكرة تفاهم بين السعودية والكويت للعمل المشترك على تطوير واستغلال الحقل، وفي 21 مارس/ آذار 2022، اتفقت وزارتا الطاقة السعودية والنفط الكويتية على العمل لاستغلال الحقل الواقع في المنطقة المغمورة المقسومة، وأكّدت الدولتان حقهما باستغلال الثروات الطبيعية في هذه المنطقة، ثم طالبت إيران بما وصفته “حقها الاستثماري” في الحقل، الذي يمكن أن يكون نقطة التقاء وتعاون مشترك بين الأطراف الثلاثة، وخاصة في ظل أزمة الطاقة العالمية على خلفية تداعيات الأزمة الأوكرانية.
6: إن الاتفاق يجد دعمًا قويًا من جانب الصين التي لديها رغبة في الانخراط في الشرق الأوسط، وهو دور ينسجم مع توجهات الصين الدبلوماسية على الساحة الدولية في إطار مساعيها لمراجعة الهيمنة الأمريكية بما في ذلك مبادرتها للأمن العالمي، ومقترحها لتسوية الصراع الروسي-الأوكراني، وذلك ضمن تغير نهجها الخارجي ورغبتها في موازنة الحضور الأمريكي في مختلف الساحات بما في ذلك الشرق الأوسط.
كما أن هناك مصلحة صينية اقتصادية وأمنية لأن الاتفاق يوفر للصين نفوذًا يساعدها في تحقيق مشروع الحزام والطريق الذي يمر عبر البلدين نحو أفريقيا والعالم، فضلًا عن تدفق المصالح بما فيها تدفق الطاقة بوصف إيران والمملكة من كبار موردي الطاقة للصين، وبالتالي يضمن الاتفاق استقرارًا إقليميًا وينهي خلافًا بين شريكين مهمين للصين؛ الأمر الذي يخدم هذه التطلعات. ولا شك أن الاتفاق بعد جولات العراق وعمان كان بحاجة إلى قوى كبرى كالصين حتى يرى النور، فهي طرف مقبول من الجانبين ([22]).
7: يمثل الاتفاق نجاحًا كبيرًا للدبلوماسية الصينية، ويؤرخ لمرحلة جديدة من دورها في النظام الدولي، وذلك نظرًا لأهمية الصراع السعودي-الإيراني على مستوى الشرق الأوسط، حيث أثبتت الصين بهذا النجاح قدرتها على ملء الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة في المنطقة، وبات من الصعب عليها استعادة الدور الذي كانت تمارسه طيلة العقود السابقة، ويمكن أن تكون لهذا الحدث ارتدادات داخليًا خاصة مع قرب الانتخابات الأمريكية. واقتصادياً يمكن أن يسهل الاتفاق مشروع الحزام والطريق الذي يساهم فيه البلدان بشكل كبير، وستضمن الصين استمرار تدفق الطاقة إليها من البلدين([23]).
لقد بادرت بكين بالوساطة بين طهران والرياض للوصول لتلك المصالحة، التي تمت تحت إشراف مباشر من الرئيس الصيني، شي جين بينج، وبالاتفاق بين القيادات السياسية في طهران والرياض، وكان من الواضح أن الصين تقوم بدور الوساطة بين الجانبين منذ بعض الوقت، ومن الوارد أن تكون الصين قد قدمت ضمانات للرياض بعدم قيام إيران بمهاجمتها، سواء بشكل مباشر أو من خلال وكلائها، وهو ما يعني أن الاتفاق قد يؤسس لجولات لاحقة من المحادثات بين الجانبين لحلحلة الأزمات الإقليمية، وخاصة الملف اليمني.
وجاء تزامن الإعلان مع إعادة انتخاب الرئيس الصيني لفترة ثالثة، وهو ما يحمل دلالة رمزية بأن دور الصين السياسي في منطقة الشرق الأوسط سيزيد في الولاية الثالثة لشي، وأن الصين لديها النية لاستخدام نفوذها الاقتصادي القوي للتوصل لتوافقات أمنية تدعم الاستقرار في منطقة كان ينظر إليها ضمن مناطق نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية.
كما جاءت الاتفاقية بعد زيارة الرئيس الصيني إلى الرياض في ديسمبر 2022، والتي كشفت عن تحوّل في السياسة الصينية من التركيز على المصالح الاقتصادية إلى إقامة علاقات استراتيجية شاملة، من بينها مطالبة بكين شراء جانب من نفط المنطقة باليوان، وإبداء استعدادها للتعاون مع دول الخليج العربية في المجالات التكنولوجية المتقدمة، ذات التطبيقات الأمنية والاستراتيجية، بما في ذلك بناء المفاعلات النووية المدنية، وخلال الزيارة اقترح الرئيس الصيني خطة عمل مكونة من 8 نقاط تركز على التنمية والأمن، بالإضافة إلى 56 مبادرة تعاونية بين البلدين، كما أن قطر والصين وقعتا اتفاقية لنقل حوالي 4 ملايين طن من الغاز القطري الطبيعي المسال إلى الصين في اتفاقية وصلت قيمتها إلى 60 مليار دولار ممتدة على مدار 24 سنة، وتُعد الصين كذلك أكبر شريك تجاري لدول المنطقة منذ 2020، وهي كلها مؤشرات تدل على اهتمام الصين بالمنطقة لأنها منطقة مرور مهمة لمبادرة الحزام والطريق الصينية.
كما وقعت الصين اتفاقيات استثمارية مع أغلب دول المنطقة العربية لتنفيذ مشاريع تنموية في مجالات البنية التحتية والنقل، منها عقود بنحو 10.5 مليار دولار مع العراق، وإنشاء قاعدة عسكرية لجيش التحرير الصيني في دولة جيبوتي في 2017.
وفي ضوء ما سبق يمكن القول إن الرعاية الصينية للاتفاق السعودي ـ الإيراني، تأتي انعكاساً لامتلاك بكين لرؤية استراتيجية لمستقبل لشرق الأوسط، وكذلك علاقاتها بالأطراف المؤثرين فيه، وأنها شرعت في تنفيذ هذه الرؤية بصورة تدريجية، وهو الأمر الذي يعني أن الاهتمام الصيني بتطورات المنطقة، وكذلك سعيها للدخول طرفاً في تفاعلاتها سوف يكون الواقع الجديد الذي سوف تتجه دول العالم المعنية بالشرق الأوسط إلى التجاوب معه، كما تع تُعد المبادرة الصينية للوساطة دليلاً على البدء في تنفيذ مبادرة الرئيس شي للسلام العالمي التي أعلن عنها في إبريل 2022، والتي تقوم على بناء سلام عالمي مؤسس على المشاركة في التنمية الاقتصادية، وبالتالي خلق أمن عالمي تشاركي([24]).
8: حدود التحولات الدولية: مع النجاح الصيني في رعاية الاتفاق الثلاثي برزت تساؤلات من قبيل: هل نحن في “بداية مرحلة ما بعد الولايات المتحدة في الشرق الأوسط” بحسب المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي؟ هل دخلنا في “نظام ما بعد الغرب” كما قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مؤتمر ميونيخ للأمن؟ وإلى أي حد يصح قول الجنرال يحيى رحيم صفوي مستشار خامنئي إن الاتفاق “زلزال سياسي ونهاية الهيمنة الأميركية على المنطقة”؟ هل ينهي الدور الاقتصادي والسياسي المهم للصين الدور الأمني والسياسي الأميركي في المنطقة؟ وماذا عن واحد من أهداف الرئيس فلاديمير بوتين في حرب أوكرانيا، وهو كسر “الأحادية الأميركية” وإقامة “نظام متعدد الأقطاب”؟
ورداً على هذه التساؤلات ذهب البعض إلى القول إن مفهوم الأحادية الأميركية التي أسس لها الرئيس رونالد ريجان (1980 ـ 1988)، ومارسها الرئيس جورج بوش الأب (1989 ـ 1992) ثم الرئيس بيل كلينتون (1993-2000)، وأخذها الرئيس جورج بوش الابن إلى أقصى التطرف في استخدام القوة من أجل مشروع “الشرق الأوسط الكبير” (2001 ـ 2028) ثم بدايات التراجع مع إدارة الرئيس باراك أوباما (2009-2016)، الذي سعى لمشروع “تقاسم النفوذ” في المنطقة بين السعودية وإيران للتركيز على الشرق الأقصى والمواجهة مع الصين وروسيا، لكن مدير الاستخبارات المركزية الأميركية وليم بيرنز اعترف في خطاب في جامعة “جورجتاون” بأن الولايات المتحدة حاولت تخفيف الالتزامات وحتى “الانفصال عن الشرق الأوسط، لكن لهذه المنطقة صفة سيئة وهي تنجح كل مرة في إبقائنا ضالعين فيها”.
إلا أن التوجه الأمريكي نحو الشرق الأقصى لمواجهة الصين وروسيا اصطدم بتحركين مضادين، أولهما تحرك صيني نحو الشرق الأوسط ضمن مشروع “الحزام والطريق” الواسع، وتحرك عسكري روسي في أوكرانيا بداية من 2014. وهكذا وجدت واشنطن نفسها مضطرة إلى عودة التركيز على الشرق الأوسط وأوروبا، فلا أميركا تستطيع الخروج منها وتركها للصين وروسيا، ولا في إمكان بكين وموسكو ملء الفراغ الأميركي([25]).
وفي السياق نفسه، ذهب أحد المحللين إلى القول إن الأمريكيين عانوا خلال العقدين الأخيرين (2001 ـ 2023) من خسائر عسكرية ونكسات كارثية بسبب تدخلاتهم في المنطقة. وشهد السكان المدنيون في المنطقة معاناةً أكثر خطورة، إذ قُتِلَ الملايين أو شُوِّهوا أو شُرِّدوا بسبب الحروب الأمريكية، أو عانوا في ظل أنظمة العقوبات الأمريكية، أو تعرضوا للقمع على يد الديكتاتوريات والاحتلال العسكري المدعوم من الولايات المتحدة، الآن يبدو أن الولايات المتحدة قد استنفدت خياراتها لمواصلة مغامرات كارثية مماثلة في المستقبل. ورغم أن ذلك يتعارض مع مصالح أقلية صغيرة، ولكن واسعة النفوذ من الصقور في واشنطن، سيكون الابتعاد عن المنطقة علامة مرحباً بها للكثيرين، في أعقاب سنوات من الإخفاقات العسكرية والدبلوماسية.
وأضاف: إن الاتفاقيات الدبلوماسية الأمريكية الأخيرة مثل اتفاقيات أبراهام لم يتبعها أي توقف فعلي للأعمال العدائية، وكانت تستند إلى حد كبير على التنازلات الأمريكية بدلاً من أية تنازلات قدمتها الأطراف المعنية. على عكس تلك الصفقات، يمثل التقارب الذي توسطت فيه الصين بين السعودية وإيران إنجازاً دبلوماسياً حقيقياً، اقتنعت فيه قوتان متنافستان بتقديم تنازلات باسم السلام، كما أن المواقف المتطرفة للولايات المتحدة بشأن مختلف القضايا لم تقدم لها أي مصلحة، ففي الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لا تُخفي الولايات المتحدة موقفها المتمثل في الدعم المطلق لتل أبيب، رغم انتهاكات الأخيرة الخطيرة والمتكررة للقانون الدولي والإنساني، وفيما يتعلق بقضايا مثل الاتفاق النووي الإيراني، كان موقف الولايات المتحدة غير منتظم، منتهكاً الاتفاقية بعد وقت قصير من توقيعها، وفي المقابل أثبتت القوى الخارجية مثل الصين قدرتها على استغلال السقف المنخفض للأداء الدبلوماسي الأمريكي في المنطقة، ووضع نفسها كوسيطٍ مُفضَّل([26]).
8: أن الاتفاق يفتح الأبواب أمام أوروبا لتعزيز نفوذها الإقليمي في المنطقة، قد لا يكون الأوروبيون لاعبين حاسمين في تشكيل أجندة سياسية وأمنية في الشرق الأوسط، لكن يمكنهم إعادة تنشيط الأفكار لترسيخ مكاسب الصفقة وتعزيز التعاون الإقليمي، ويمكنهم تنشيط مهمتهم الأمنية البحرية في الخليج، التي تم تصورها كمهمة شاملة تضم جميع الجهات الفاعلة الإقليمية لنزع الصراع في المجال البحري.
وتعد قضايا الطاقة المتجددة وندرة المياه مجالات مهمة للشراكة، بالنظر إلى الحوار القائم بين الجهات الفاعلة الإقليمية حول هذه القضايا والأحداث القادمة مثل COP28 في الإمارات العربية المتحدة أو أسبوع المناخ في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المملكة العربية السعودية، حيث تعكس هذه القضايا التحديات الحادة التي تواجه الدول في المنطقة وهي مناطق يتمتع فيها الأوروبيون بميزة واضحة مقارنة بالجهات الخارجية الأخرى، ويمكن للاتحاد الأوروبي نشر أدوات مثل مبادرة البوابة العالمية والصفقة الخضراء الأوروبية لتعزيز التعاون، وهذا سيتطلب موازنة دقيقة بين المصالح المتنافسة فيما يتعلق بإيران. حيث سيتعين على الأطراف الغربية أن تخطو بحذر، وتوازن بين الضغط القسري مثل العقوبات المستمرة والاستعداد لتوفير مساحة لدول المنطقة لتوسيع مشاركتها الإقليمية، ويؤكد هذا التحدي على ضرورة رسم مسار دبلوماسي وليس عسكري للخروج من الأزمة النووية([27]).
المبحث الخامس: الاتفاق الثلاثي بين التحديات والمسارات المستقبلية
في إطار تقديرات الموقف الاستراتيجية للاتفاق الثلاثي بين السعودية وإيران برعاية صينية، تبرز مجموعة من المسارات المستقبلية للعلاقات السعودية ـ الإيرانية:
السيناريو الأول: أن الاتفاق هو مجرد تحول تكتيكي مؤقت مرتبط بالسياقات الراهنة، ويمكن أن تتحول العلاقات مع تغيرات في الإدارة الأمريكية مع انتخابات 2024، ووصول إدارة جمهورية في الولايات المتحدة تسعى لتحجيم التمدد الصيني واستعادة النفوذ في المنطقة.
السيناريو الثاني: أن الاتفاق يؤسس لمرحلة تحول استراتيجي يهدف في أحد أبعاده إلى إعادة التوازنات الدولية والإقليمية، وأن هذه المرحلة لم تبدأ مع الاتفاق لكنه جاء كاشفاً لها في ضوء السياسات التي قامت بها الصين خلال السنوات الخمس الماضية، وفي ضوء التوجهات التي تبنتها الإدارة السعودية منذ 2019.
السيناريو الثالث: أن هذا الاتفاق هو مجرد تحول مرحلي لتحقيق تراكم على المدى البعيد، وبالتالي لا يجب المبالغة في حجم النتائج التي يمكن أن تترتب عليه على المدى القريب، ولكن الرهان الأكبر سيكون على نتائجه على المدى البعيد في حال نجحت أطراف الاتفاق في التغلب على التحديات والمعوقات التي يمكن أن تواجهه، والتي من بينها:
(أ) وجود أزمة ثقة عميقة بين الجانبين سيكون لها تأثير على مجريات العلاقة خلال المرحلة القادمة، لا سيما أن الاتفاق لم يضع التفاصيل النهائية لحل الخلافات بعد ولا تناول القضايا الخلافية الرئيسية، ولا الجدول الزمني ولا آلية تضمن التنفيذ. فما تزال هناك خطوات يعول عليها في تحقيق تفاهمات أوسع نطاقًا يعيد خلالها الطرفان النظر في سلوكهما الإقليمي وتوجهاتهما السياسية.
(ب) عدم الرضا الأمريكي والاسرائيلي، فالولايات المتحدة وإسرائيل ينظران بريبة إلى الاتفاق، الذي قد يكون قد أنهى مبادراتهما من أجل توسيع اتفاقيات أبراهام، وكذلك تحويل مجرى الصراع في المنطقة وإعادة الاصطفافات ضد إيران، لأن الاتفاق قد يتم تقديره على أنه بمثابة ضربة لمفهوم إسرائيل والولايات المتحدة للأمن الإقليمي، ومعرقل لجهودهما لمحاولة تشكيل هيكل أمن إقليمي لمواجهة خطر إيران. ولأن الاتفاق قد يبقي إسرائيل وحيدةً في متابعة سياسة عزل إيران دبلوماسيًا والتصدي لبرنامجها النووي من خلال ضربة عسكرية أُحادية الجانب ضد المنشآت النووية الإيرانية؛ فإنها قد ترى أن الاتفاق ليس في صالحها وقد تسعى إلى تخريبه، لا سيما إذا قضى هذا الاتفاق على أي جهود لتطبيع العلاقات مع المملكة، وأوقف جهودها لتعزيز حضورها العسكري والأمني في الخليج. كما أن تغير نهج الصين من الاهتمام بالاقتصاد وقضايا الطاقة في المنطقة إلى الاهتمام بقضايا الأمن والسياسية الذي كان مسؤوليةً أمريكيةً حصرية قد يدفع واشنطن إلى إحباط فاعلية الاتفاق، فبايدن كان قد وعد من قبل أنه لن يترك فراغًا في المنطقة قد تملؤه الصين([28]).
السيناريو الرابع: أن هذا الاتفاق هو مجرد خطوة احتوائية تسكينية، ترتبط برغبة السعودية في عدم التورط علنياً في أي مواجهة إيرانية ـ إسرائيلية محتملة وصرف الأنظار عن الاستعدادات الإسرائيلية للهجوم على إيران، وكذلك رغبة السعودية في كسب الوقت لامتلاك قوة نووية، وفي المقابل رغبة إيرانية في تهدئة الملفات الإقليمية لمواجهة الضغوط الغربية.
واختبار هذا السيناريو يرتبط بعدد من الاعتبارات من بينها، مدى التزام إيران بتطبيق إجراءات إعادة بناء الثقة خلال الفترة الانتقالية، وأحد أهم إجراءات بناء الثقة هو مدى اتخاذ إيران لمواقف فعالة تدفع باتجاه حل ملف اليمن بشكل يحقق الاعتبارات الأمنية السعودية، ومدى تغير الموقف الأميركي التفاوضي مع السعودية خلال الفترة الانتقالية، وهل ستقبل الولايات المتحدة بمطالب المملكة السابقة بشكل يترتب عليه عودة العلاقات بين الطرفين إلى سابق عهدها.
وكذلك مدى قدرة الاتفاق الثلاثي على تحقيق التزام أطراف الاتفاق بعدم تعرض كل منهما للآخر، إذا حدث سيناريو حرب جوية أميركية ضد إيران تستهدف تدمير قدرات إيران النووية، خاصة مع تزايد دوافع ومحفزات العمل العسكري، في ظل تصاعد الضغوط الإسرائيلية على الإدارة الأمريكية، وكذلك تعدد المواجهات بين القوات الأمريكية والإيرانية في الساحتين العراقية والسورية بعد توقيع الاتفاق السعودي ـ الإيراني.
هذا بجانب مدى تغير الموقف الأميركي التفاوضي مع السعودية بعد خروج بايدن وصعود رئيس آخر، في انتخابات نوفمبر 2024، وهل سيحقق التغير في الإدارة الأميركية تغيراً في الموقف التفاوضي الأميركي مع الجانب السعودي بشكل يحقق اختراق لموقف الحياد السعودي ويتمكن من تقديم مكتسبات تقرر بموجبها المملكة ترسيخ علاقاتها مع الولايات المتحدة على حساب التمدد الصيني في المنطقة ([29]).
خلاصات واستنتاجات
في إطار الاعتبارات السابقة يمكن الوقوف على عدد من الخلاصات والاستنتاجات الأساسية، من بينها:
1ـ إن التقارب السعودي ـ الإيراني وإعلان عودة العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين في العاشر من مارس 2023، وربط هذه العودة بفترة انتقالية مدتها شهرين، جاء مرتبطاً بتحولات سياسية تكتيكية وليست استراتيجية في المنطقة، فما بين السعودية وإيران من قضايا صراعية كبير ومتشابك ومعقد جداً، مع وجود خلافات جذرية في العديد من الملفات مثل النفط، الغاز، الحدود البحرية، المذهب الديني، اليمن، العراق، لبنان، سوريا، مضيق هرمز، أمن الخليج، التنافس الإقليمي بين الدولتين والحرب الباردة المستمرة بينهما منذ قيام الثورة في إيران عام 1979.
فهذا الاتفاق يمكن النظر إليه على أنه تهدئة مؤقتة لأن النظام في السعودي يعاني أزمة في علاقاته مع الإدارة الأمريكية الراهنة، ويبحث عن بدائل للضغط السياسي على الولايات المتحدة، وهو ما يمكن أن يتغير لو تغيرت هذه الإدارة وجاءت إدارة أمريكية جمهورية جديدة العام القادم، أو لو قامت الإدارة الأمريكية الحالية بتغيير مواقفها تجاه محمد بن سلمان وخاصة فيما يتعلق بمطالبه بالحصول على سلاح نووي، وتأمين حدوده ونظامه، مقابل التطبيع مع إسرائيل.
2ـ لو افترضنا جدلاً استمرار واستقرار هذا التقارب فإنه ستكون له العديد من الانعكاسات في كثير من الملفات وخاصة الإقليمية مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين التي ستشهد تسويات مرحلية ومؤقتة، وهو ما يشكل من وجهة نظري مكسب لإيران أكثر منه للسعودية، لأن إيران ستكسب المزيد من الوقت في إطار التهدئة لمزيد من إعادة بناء ما خسرته بسبب سياسات الحصار التي تتعرض لها، وبسبب الصدام المستمر والتوتر الدائم بينها وبين السعودية.
3ـ أن الاتفاق لو تمت إدارته من جانب المملكة وفق رؤية استراتيجية حقيقية، يمكن أن يُشكل تحولًا استراتيجيًا في السياسة السعودية خاصة وأن العلاقات بين الرياض وواشنطن في أدنى مستوياتها، مع تراجع رضا المملكة العربية السعودية عن سياسة الولايات المتحدة في العديد من الملفات مثل: غزو العراق عام 2003، والاتفاق النووي 2015، وحماية المصالح السعودية في سوريا واليمن، والدفاع عن المملكة عندما تعرضت منشآتها النفطية للهجوم في 2019.
وأمام العديد من التحديات والاختلالات والمخاوف الأمنية التي تعاني منها السعودية، يمكن لهذا الاتفاق أن يمنح الرياض مزيدًا من الوقت لتعزيز أمنها وتنويع خياراتها الاستراتيجية، وتنمية علاقاتها الإقليمية والدولية، وتجميع شبكة واسعة من الشركاء، بما في ذلك الصين وإسرائيل والولايات المتحدة، ومن خلال تحسين العلاقات مع الخصوم مثل إيران وسوريا وتركيا، لتعزيز الاستقرار على المدى الطويل.
إلا أن مثل هذه الإدارة تعتمد على وجود إرادة سعودية حقيقية للتخلص من الارتباط الاستراتيجي الأحادي مع الولايات المتحدة في توفير الحماية الأمنية، واتخاذ مواقف مستقلة انطلاقاً من مصالحها القومية وأمنها الوطني، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، تعتمد هذه الإدارة على مدى إمكانية وكيفية تدخل الولايات المتحدة لإحداث تغيرات جوهرية في النظام الحاكم في المملكة إذا ما رأت أن استمرار وجود محمد بن سلمان يمكن أن يُشكل تهديداً استراتيجياً لمصالحها في المنطقة وهيمنتها على العالم، وهو الأمر الذي يرتبط في جانب منه بقدرة الولايات المتحدة على ضبط التوازنات والتحالفات الاستراتيجية في المنطقة، خاصة مع الإعلان عن وجود مفاوضات مشتركة بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية لتعزيز التعاون الأمني بينهما، سبقت الإعلان عن توقيع الاتفاق الثلاثي في بكين.
الهامش
([1]) صدر في بكين بتاريخ 10 مارس 2023م، وقام بالتوقيع عن جمهورية الصين الشعبية، وانغ يي، عضو المكتب السياسي للجنة المركزية ومدير المكتب للجنة الشؤون الخارجية التابعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، وعن المملكة العربية السعودية، مساعد بن محمد العيبان، وزير الدولة عضو مجلس الوزراء مستشار الأمن الوطني، عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية، علي شمخاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي. أنظر: نص البيان الثلاثي المشترك بين السعودية وإيران والصين، 18 شعبان 1444 ه الموافق 10 مارس 2023، وكالة الأنباء السعودية (واس) الرابط: www.spa.gov.sa/w1867373
([2]) المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، الاتفاقية السعودية الإيرانية وعودة العلاقات الدبلوماسية، تاريخ النشر 14 مارس 2023، الرابط: https://rasanah-iiis.org/?p=30699
([3]) رفيق خوري، خطوة مهمة برعاية الصين ـ نقلة تكتيكية أم استراتيجية؟، إندبندنت عربية، الأحد 12 مارس 2023.
([4]) عبدالله خالد الغانم، العبقرية التكتيكية والاستراتيجية.. في مناورة الاتفاقية السعودية – الإيرانية، صحيفة الأنباء الكويتية، تاريخ النشر 19 مارس 2023. الرابط: https://www.alanba.com.kw/1174618
([5]) عبدالله خالد الغانم، العبقرية التكتيكية والاستراتيجية.. في مناورة الاتفاقية السعودية – الإيرانية، صحيفة الأنباء الكويتية، تاريخ النشر 19 مارس 2023. الرابط: https://www.alanba.com.kw/1174618
([6]) Julien Barnes-Dacey, Cinzia Bianco & Ellie Geranmayeh: The shoots of stability: What the Saudi-Iran deal means for the Middle East and Europe, The European Council on Foreign Relations, 14 March 2023. Link: https://ecfr.eu/article/the-shoots-of-stability-what-the-saudi-iran-deal-means-for-the-middle-east-and-europe/
([7]) المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، الاتفاقية السعودية الإيرانية وعودة العلاقات الدبلوماسية، تاريخ النشر 14 مارس 2023، الرابط: https://rasanah-iiis.org/?p=30699
([8]) رانيا مكرم، دوافع إيران من اتفاق عودة العلاقات مع السعودية، أبو ظبي، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، تاريخ النشر 13 مارس، 2023، الرابط: https://bit.ly/3JG4ozW
([9]) عبدالله خالد الغانم، العبقرية التكتيكية والاستراتيجية.. في مناورة الاتفاقية السعودية – الإيرانية، صحيفة الأنباء الكويتية، تاريخ النشر 19 مارس 2023. الرابط: https://www.alanba.com.kw/1174618
[10] https://www.wsj.com/articles/saudi-arabia-iran-restore-relations-in-deal-brokered-by-china-406393a1?st=4rz2pvuxwll3kcv
([11]) Julien Barnes-Dacey, Cinzia Bianco & Ellie Geranmayeh: The shoots of stability: What the Saudi-Iran deal means for the Middle East and Europe, The European Council on Foreign Relations, 14 March 2023. Link: https://ecfr.eu/article/the-shoots-of-stability-what-the-saudi-iran-deal-means-for-the-middle-east-and-europe/
[12] هنري روم، غرانت روملي، ما يعنيه اتفاق الخليج بوساطة بكين – وما لا يعنيه، معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، ١٥ مارس ٢٠٢٣
[13] د. عبد المنعم سعيد، لماذا نجحت الوساطة الصينية بين الرياض وطهران؟، المصري اليوم، تاريخ النشر 20-03-2023، الرابط: https://www.almasryalyoum.com/news/details/2845692
([14]) عبدالله خالد الغانم، العبقرية التكتيكية والاستراتيجية.. في مناورة الاتفاقية السعودية – الإيرانية، صحيفة الأنباء الكويتية، تاريخ النشر 19 مارس 2023. الرابط: https://www.alanba.com.kw/1174618
[15] David Ignatius, How China is heralding the beginnings of a multipolar Middle East, Washington Post, March 16, 2023.
[16] علي الذهب، إيران والسعودية وليس بينهما اليمن، العربي الجديد، تاريخ النشر 13 مارس 2023.
[17] بعد الاتفاق السعودي الإيراني ـ أبرز ساحات الصراع بين البلدين بالمنطقة العربية وكيف ستتأثر بالتهدئة؟، موقع عربي بوست، تاريخ النشر 15 مارس 2023.
[18] بعد إعلان الاتفاق في بكين، تتابعت تصريحات مسؤولين في لبنان للتعليق عليه، معبرين عن تفاؤلهم بأن ينعكس إيجابا على الأوضاع على هذا البلد المنهك سياسيا واقتصاديا، حيث قال رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، إن “الارتياح الذي قد ينجم عن هذا المسار، لا بد أن ينعكس إيجابا على كل المنطقة، ومن ضمنها لبنان”، ورحّب وزير الخارجية والمغتربين اللبناني عبدالله بوحبيب بالاتفاق، مثمنا “جهودا ومساعٍ حميدة” لدول حاولت رأب الصدع، وعلى رأسها العراق وسلطنة عمان، وصولا إلى الصين “التي تكللت بهذا الاتفاق المهم”، ودعا رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، إلى “الاستفادة من الاتفاق، للدفع باتجاه التوافق والحوار بين القوى السياسية (في لبنان)، لإنهاء أزمة الشغور الرئاسي”.
كما علق الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، أن “التحول المتعلق بالتقارب السعودي الإيراني جيد، ولن يكون على حساب شعوب المنطقة، وإنّما لمصلحتها”، ولفت نصر الله، في خطاب متلفز، السبت، إلى أنه “في حال سار التقارب السعودي الإيراني في المسار الطبيعي، فيمكن أن يفتح آفاقا في المنطقة وفي لبنان أيضا”.
موقف حزب “القوات اللبنانية” المقرب للسعودية، عبّر عنه النائب بيار بوعاصي، بقوله عبر تصريحات إذاعية، إن ما تحقق “أكثر من لقاء، وأقل من اتفاق، ولم يربك القوات اللبنانية، وأشك أنه سيريح لبنان”، ومن جانبه قال رئيس التيار الوطني الحر (حليف حزب الله) جبران باسيل، قال: “أخيرا حصل ما كان يجب أن يكون: اتفاق السعودية وإيران، وقريبا سوريا، وهو ما سيحدث موجة استقرار في المنطقة تطال لبنان”، وأضاف باسيل: “اللهمّ نجنا من مخربيه، لكن ما من حل لأزماتنا سيأتي من الخارج إن لم نبادر في الداخل إلى وضع الحلول دون مكابرة أو تحدٍّ، واستقرار الخارج يساعد، تفاهم الداخل يحل”، كما قال رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط، إن “التقارب السعودي الإيراني، يساهم في تخفيف التوترات في الشرق العربي”. المصدر: وكالة أنباء الأناضول، تاريخ النشر 16 مارس 2023، الرابط.
[19] بعد الاتفاق السعودي الإيراني، المصدر السابق.
(20] بعد الاتفاق السعودي الإيراني، المصدر السابق.
[21] أحمد رحّال، الرابح والخاسر في الاتفاق السعودي الإيراني، العربي الجديد، تاريخ النشر، 13 مارس 2023
[22] المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، مصدر سابق.
[23] المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، مصدر سابق.
[24] مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، دلالات وساطة بكين لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين طهران والرياض، تاريخ النشر 14 مارس، 2023، الرابط: https://bit.ly/40mNdea
[25] رفيق خوري، التعددية الإقليمية والدولية رحمة للبلدان والشعوب، إندبندنت عربية، تاريخ النشر الجمعة 17 مارس 2023.
[26] Murtaza Hussain, THE KEY FACTOR IN THE SAUDI-IRAN DEAL: ABSOLUTELY NO U.S. INVOLVEMENT, The Intercept, March 15 2023, https://theintercept.com/2023/03/15/saudi-iran-deal/
([27]) Julien Barnes-Dacey, Cinzia Bianco & Ellie Geranmayeh: The shoots of stability: What the Saudi-Iran deal means for the Middle East and Europe, The European Council on Foreign Relations, 14 March 2023. Link: https://ecfr.eu/article/the-shoots-of-stability-what-the-saudi-iran-deal-means-for-the-middle-east-and-europe/
([28]) المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، الاتفاقية السعودية الإيرانية وعودة العلاقات الدبلوماسية، تاريخ النشر 14 مارس 2023، الرابط: https://rasanah-iiis.org/?p=30699
([29]) عبدالله خالد الغانم، العبقرية التكتيكية والاستراتيجية.. في مناورة الاتفاقية السعودية – الإيرانية، صحيفة الأنباء الكويتية، تاريخ النشر 19 مارس 2023. الرابط: https://www.alanba.com.kw/1174618