الإسلام والدولة من يخضع لمن
قبل نزعها الأخير نصت الدولة العثمانية في المادة الحادية عشرة من قانونها الأساسي الصادر سنة 1876م على أن “دين الدولة العثمانية هو دين الإسلام”، ثم احتذتها غالبية الدول الإسلامية فنصت دساتيرها على أن الإسلام دين الدولة، وزادت بعضها على ذلك بأن أضافت عبارات أخرى لتؤكد هذا المعنى، مثل النص على أن “مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع”، أو “المصدر الرئيسي” له.
استقبلت هذه النصوص غالبًا بالرضا والامتنان من قبل “الجماهير” وعورضت ممن يسمون بالعلمانيين باعتبار أن تلك النصوص وأمثالها اعتداء على مبدأ الفصل بين الدين والدولة، فرد عليهم الإسلاميون وكثير من علماء الدين ومفكروه بأن “الإسلام دين ودولة” ولا يمكن أن يقبل الفصل بينهما.
وقد تصاعد هذا الجدل الإسلامي/العلماني فيما بعد تحت عناوين مختلفة، مثل: الدولة الدينية والدولة المدنية، والشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، ولكن كان أبرزها على الإطلاق: “تطبيق الشريعة الإسلامية” فهو العنوان الذي ثار تحته سجال إسلامي علماني منذ أربعينات القرن العشرين، وتفاقم في سبعينيات وثمانينيات القرن نفسه، وصولا إلى “ثورات الربيع العربي” في بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين.
ولكن الملاحظ أن غالبية هذه السجالات كانت تركز على مدى العلاقة التي يمكن أن تقوم بين الدين والدولة وكأنهما متكافئين، وكأن الدولة صنو الدين، فالبعض يرى الإسلام “دين ودولة” أي شعائر ونظام حياة، والبعض يراه “دين وفقط”، أي يحصره في العلاقة الخاصة بين العبد وربه، ومن ثم كان مثار الخلاف دائمًا يتوجه إلى النص الدستوري على أن الإسلام دين الدولة، ومدى منطقيته وشرعيته ومدى مساسه بحقوق غير المسلمين…إلخ.
والحقيقة أنه قد آن الأوان للنظر بشكل آخر إلى القضية محل الخلاف، وطرح أسئلة جديدة قد تسحب البساط ممن يشعلون خلافات نظرية بحتة -وغير واقعية-تجعل أبناء الحضارة العربية والإسلامية شيعًا متصارعة، مثل: هل معنى أن الإسلام دين الدولة أن تلتزم الدولة به أم أن الإسلام يغدو ملكًا لها تفعل فيه ما تشاء؟ هل نظرية السيادة تسوغ هيمنة الدولة على الدين، أم أنها ينبغي أن تقصر سيادتها تجاه تدخلات الدول الأخرى ولا تسودها على مكون أساس لهوية المجتمع أسبق من الدولة وأخلد منها، وهو الدين؟ كيف يمكن أن ننقذ المجتمع من استغلال الدولة للدين في ترسيخ الاستبداد وهدر حقوق المواطنين وحرياتهم؟
ذلك أنه في زحام السجالات –وصخبها-حول “دين الدولة” لم تجد أغلبية المتناحرين يتوقفون عند بديهية مدهشة، وهي أنه لا يمكن أبدًا أن يكون الإسلام خاضعًا لأحد دون الله عز وجل، وأن فهم نسبته إلى الدولة شابه قدر كبير من التعسف والتلاعب بالألفاظ وسوء التأويل عن قصد أو عن غير قصد، أدت إلى إضفاء شرعية زائفة على قيام الدولة بتطويع الدين لصالحها تحت ستار تجديده أو تطوير الخطاب الديني أو أي مسوغ آخر.
كما أن هيمنة الدولة على الدين يحوله (أو يحوسله على حد تعبير د. عبد الوهاب المسيري) ليكون مجرد أداة من أدوات الدولة في فرض سيطرتها على المجتمع واستبدادها بالشأن العام فيه (بل وبالشأن الخاص!) كما هو مشاهد في كثير من البلاد العربية بصفة خاصة، ليصدق على هذا الدين “المطوَّع” و”المطوِّع” وصف ماركس له بأنه: “أفيون الشعوب”!
هذا الكلام النظري يجد مصداقه العملي في أن الدولة الحديثة فعلاً باتت تمثل مرجعية لنفسها، وسيطرت تمامًا على المؤسسات الدينية، وحاصرت الدين، حتى في مفاهيمه ومدلولاته، لدرجة أن مفهوم الشريعة الإسلامية –على سبيل المثال- انحصر تقريبًا في القواعد القانونية الملزمة التي تصدرها الدولة، وباتت السلطة المختصة بسنِّه هي البرلمان لا الفقهاء الذين كانوا يستنبطون الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية المبثوثة في القرآن والسُنُّة، وكان سلطانهم في المجتمع هو سلطان الحجة والدليل، والصلاح الشخصي، الذين كسبوا من خلاله ثقة الناس، بل وثقة القضاة، الذين أخذوا –طواعية- فتاويهم ومصنفاتهم مرجعًا لهم في قضائهم، حتى إن تصنيف القضاة أنفسهم كان يجري بحسب المذاهب الفقهية التي ينتمي إليها كل منهم ويقضي وفقه!
ولم تهيمن الدولة الحديثة على التشريع (سواء كان مستمدًا من الشريعة أو من أي مصدر آخر) وحده، بل هيمنت على القضاء نفسه، ليس فقط عن طريق سلطتها في تعيين القضاة وعزلهم، بل -وهو الأهم- عبر مصادرة مرجعيتهم الشرعية التي كانت بمثابة تحرير لهم من أي سلطة بشرية، وميدان فسيح للإبداع المنهجي في كيفية تحقيق العدالة بين الناس دون أن تُحاصر بنصوص بشرية محدودة الأفق يضعها أفراد بعضهم يجيدون القراءة والكتابة بالكاد يسمون (نواب الشعب)، بعد أن كان القضاة يعتمدون على نصوص ذات مصدر إلهي، تتجاوز البشر والزمان والمكان، واجتهادات تستنبط من تلك النصوص أحكامًا تَتَغَيَّا مصالح الناس، وتراعي الزمان والمكان والأحوال والأشخاص التي تصدر في ظلها.
وقد يدفع البعض بأن الدولة الحديثة تتبنى مبدأ الفصل بين السلطات، وهو المبدأ الذي يحد من مخاطرة هيمنتها على التشريع والتنفيذ والقضاء في الوقت نفسه، ولكن هذا الدفع مردود بأنه حتى في أعتى الديمقراطيات الغربية قد تضيق المسافة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية عندما يفوز حزب رئيس الدولة بأغلبية أعضاء البرلمان في النظام الرئاسي، أو حين تشكل الأغلبية النيابية الحكومة في النظام البرلماني، وقد بات هذا هو الوضع الغالب في غالبية الدول “الديمقراطية” الحديثة، حيث تحدث عادة “وحدة عضوية” بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، تعاني منها السلطة القضائية.
وإذا كان هذا هو حال الدولة الحديثة الديمقراطية، فكيف بالدولة التي ترتدي ثوب الحداثة وهي في حقيقتها دولة متسلطة، تجمع دائمًا بين سلطتي التشريع والتنفيذ ومن ثم يسهل لها تمامًا التحكم في القضاء لتكون هي وحدها مصدر السلطات ومرجعها والحكم بينها في الوقت نفسه، كما هو حادث في غالبية الدول التي تسمى بدول العالم الثالث حاليًا، التي كاد حكامها أن يدَّعوا “الألوهية” نتيجة سلطاتهم المطلقة المنصوص عليها –صراحة أو ضمنًا- في دساتير لا توضع عادة للحد من هذه السلطات بل لضمان إطلاقها دون حسيب أو رقيب!
والواقع يشهد بأن هيمنة الدولة الحديثة لم تقتصر على سلطاتها العامة الثلاثة وحدها، بل امتدت لتشمل المؤسسات الدينية كذلك، حتى إنها تتحكم عبر تشريعاتها في الإطار العام الذي يحكم عمل هذه المؤسسات، وكذلك في نظامها التعليمي، وفي مراقبة أعمالها، بينما تزداد هذه الهيمنة في الدول التسلطية التي تتحكم –فضلا عما سبق- في التعليم الديني ومناهجه، وفي تعيين العاملين والدعاة بهذه المؤسسات وفي عزلهم، وفيما يقولون ولا يقولون، حتى إن بعض حكام هذه الدول باتوا يتحكمون علنًا في تحديد موضوعات خطب الجمعة التي سيلقيها الخطباء (المعينون من قبل الدولة بموافقة مسبقة ولاحقة من مؤسساتها الأمنية) على مدى سنوات مقبلة، وقد تمكنت من السيطرة تلك بعد أن ألغت –تدريجيًا- استقلالية هذه المؤسسات وصادرت الأوقاف التي كانت تمثل ضمانًا لتلك الاستقلالية عبر تكفلها بمعاش العلماء والدعاة والإداريين، الذي أصبح بيد الدولة منفردة.
وهذا هو نموذج الدولة الحديثة الذي فرضه الاحتلال الأوروبي على دول العالم الإسلامي بما يضمن تبعيتها له بعد جلائه عن أراضيه؛ دولة متضخمة (على حد تعبير د. نزيه نصيف الأيوبي في كتابه: تضخيم الدولة العربية) متغولة على المجتمع/الأمة، موظفة للدين في إحكام هيمنتها تلك، حتى كادت أن تصبح هي نفسها –من الناحية العملية- دينًا يُعبد من دون الله، وحاصرت كل المؤسسات التي من شأنها أن تحد من تغولها وتألهها، فتحكمت في المجالات التي كان يتولاها المجتمع الإسلامي من قبل عبر نظام الوقف، والزكاة والصدقات، كمجالات التعليم والصحة والاقتصاد وغيرها من المجالات.
فالدولة الحديثة بنوعيها (الديمقراطي والتسلطي) باتت تتحكم في الدين –بدرجات متفاوتة- مثلما تحكمت في الدنيا، وساعدها على ذلك تحكمها في وسائل الإعلام، واحتكارها شرعية امتلاك وسائل القوة واستعمالها حسبما تذهب بها مصالحها. وعلى الرغم من تلك الحقيقة الناصعة فإن الغالبية العظمى لا تزال تحذر من مخاطر “الدولة الدينية” الغائبة تقريبًا عن الواقع العربي الإسلامي، ونادرًا ما يتحدث أحد عن “الدين الدولتي” الغارق فيه هذا الواقع البائس!
وماذا بعد؟
قد يبدو من العرض السابق وكأن الحل في فصل الدين عن الدولة الحديثة كما نادى العلمانيون من قبل ومن بعد، بحيث تلغى النصوص الدستورية على أن “الإسلام دين الدولة”، وهذا الأمر يعقد المسألة ولا يحلها لاصطدامه مع عقيدة الأمة والنظام العام في الدولة دون تأثير حقيقي على العلاقة السائدة بين الدين والدولة، فالمستهدف الآن ليس الفصل العلماني المطلق (الأسطوري) بينهما، بل تحرير الدين من هيمنة الدولة ووصايتها، وتحرير المجتمع من استبداد الدولة به عبر الدين، وهذا المقصد لا يكون بتغيير النصوص الدستورية المقررة لإسلامية الدولة بل بتأكيد هذا المعنى؛ أي بالتأكيد على “أسلمة الدولة” لا “دولنة الإسلام”، وأن كون الإسلام دين الدولة لا يعني أنه ملكها تفعل به ما تشاء، بل هي التي تخضع له؛ قيما ومقاصد وأحكامًا كلية وجزئية.
فالأسلمة المرجوة للدولة ينبغي أن يتغير مفهومها بأن تقترب من المعنى اللغوي للإسلام، أي بإخضاع الدولة نفسها لله عز وجل عبر إلزامها بمقاصده في الخلق، وبالقيم الأساسية التي بعث من أجلها برسله عليهم السلام، وعلى رأسها أن تقوم بالعدل، وتُحكَم بالشورى، وأن تحرر الإنسان ليكون عبدًا لله وحده، وتكون رحمة بالناس، تزع عنهم المنكر، وتحثهم على المعروف، لا كما هو حاصل منذ عقود عدة، حين أُسيء فهم الأسلمة بحيث كادت تنحصر في حرية إعفاء اللحى وارتداء الحجاب وتطبيق الحدود (العقوبات المقدرة شرعًا)، وذلك عبر استخدام القوة غير المشروعة (الإرهاب) أو من خلال البرلمانات التي قد تكون منبثقة عن انتخابات زورت فيها إرادة الشعب، أو ضللت عبر إعلام طاغ يتلاعب بالعقول، كما يحدث فعلاً في كثير من الدول الحديثة شرقًا وغربًا.
وحتى تتحقق الأسلمة بمعناها السابق لابد من أن يُفتح الباب للتفكير العملي الراشد، الذي يبدو أن المسلمين يتهربون منه في منذ قرون (كما ذهب بحق مالك بن نبي في كتابه شروط النهضة) وكذلك كي يفهمه غيرهم ممن يجهلونه فيخافونه.
ويمكن تلخيص مقتضيات هذا التفكير الراشد في ضرورة تفعيل مقاصد الشرع الإسلامي في سياسة الدولة تجاه المجتمع، عبر التوافق على رؤية استراتيجية تمهد الطريق لغل يدها عن المواطن –المسلم وغير المسلم- من خلال إعادة النظر في فلسفة التشريع ومنطلقاته، والعمل على ضمان استقلاليته وتعبيره عن حاجات المواطنين ورغباتهم في العيش فيما بينهم في عدل وسلام وأمان وحرية مسئولة ومساواة، والعمل على تحقيق توازن فعلي بين السلطات العامة التي تتولى الوظائف الأساسية في المجتمع (وهو أمر يسهم فيه التوافق على مرجعية شرعية إنسانية)، وأن تترك للمجتمع حرية تحديد كيفية التعامل مع مؤسساته الدينية بما يحقق استقلالية أعضائها إداريًا وماليًا ومن ثم فكريًا، وهو الدور الذي كان يتولاه الوقف الإسلامي قبل أن تحاصره الدولة الحديثة وتصادره لحسابها، والذي يمكن إعادة تفعيله من جديد بالتزامن مع دعم ما يسمى بالقطاع الثالث، وهو القطاع الخيري، وتفعيل أدوار المجتمع الأهلي (المدني) بصفة عامة.
عندئذ يكون الدين لله وحده بعد أن يتحرر من سلطة الدولة، وهو أمر من شأنه أن يسهم في تحرير الأمة/المجتمع من تغول الدولة وفي استعادتها لدورها الحضاري المهدد بالانقراض! (1).
—————————————-
الهامش
(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.