الإطار المنهجي: بين الإمكانات الغربية المتاحة والمنهاجية الأصيلة والبديلة
إن الحالة البحثية والمنهجية قد تشير الى بعض عناصر عدم الاكتمال تلك وحال التشوش البحثي والمنهجي والتي تشكل في واقع الأمر الحالة الداعية الواعية الساعية إلى التفكير بعملية البناء المنهجي في منظورها الإسلامي، بإسهاماته المتراكمة في هذا المقام وتحديد أصول ذلك البناء، وإمكانات تفعيله، وقدرات تشغيله فضلا عن علاقته بالأنساق المنهجية المغايرة وإمكاناته ـ ضمن شروط متعددة؛ وذلك بالتعامل معها وتناولها وفق أصول:
- المنهج النقدي
- المنهج المقارن
- المنهج الاصطفائي
وفي إطار هذه الرؤية الكلية والتكاملية وفق أوزانها العدل تتأسس لبنات البناء.
1-مفهوم المنهج:
“لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا”[1]، فالمنهاج هو الطريق الموصل للمقصد، وبقدر اكتمال المقصد وبيانه يكون المنهاج المؤدي إليه كذلك[2]، والمنهج ودراسته لا يمكن أن يكتمل إلا بالفطنة لما يمكن تسميته بما قبل المنهج، أي الأساس الذي لا يقوم المنهج إلا عليه، فالمنهج ينقسم إلى شطرين: شطر في تناول المادة وشطر في معالجة التطبيق[3]“.
فالمنهاجية تعتبر علم بيان الطريق والوقوف على الخطوات أو الوسائط والوسائل التي يتحقق بها الوصول إلى الغاية والمقصد على أفضل وأكمل ما تقتضيه الأصول والأحوال[4]، وأهم خصائصها الوضوح والنظامية والضبط والعمق في التحليل والتفسير، وفقدان أي وظيفة من تلك يفقد المنهاجية جوهرها ومعناها.
2-الوعي المنهجي:
من الضروري الإشارة إلى الوعي المنهجي؛ ذلك أن افتقاد هذا الوعي يجعلنا ننحرف بالمنهاجية ووظيفتها، بل قد يتطرق بنا الأمر إلى الإطلاق على بعض منها اسم المنهج، رغم أنها لا تمت لهذه التسمية بصلة. فالمنهاجية في حقيقتها تعد مصدرًا لابتغاء الرشد وتحقيق الوعي، فإذا كان المنهج هو الطريق الموصل إلى المقصد فإنه يفرض علم الطريق وبيان الوصول، وبقدر صحة منطلقاته وسلامة وجهته يكون قيامه مقام المرشد الأمين الذي يبين معالم الطريق.[5]
وتفرض الدراسات الإسلامية ذلك التأصيل للفكر المنهجي لتحقيق التحصين الثقافي والتميز الحضاري، وضرورة العودة إلى الجذور والينابيع الأساسية والتمكن من العلوم الأصيلة لتراثنا، واستئناف البناء على الأصول الحضارية والثقافية الإسلامية، ليأتي التجديد من مواضع صحيحة، مبنيًّا على أصول سليمة، وتحكم حركته ضوابط شرعية، ويقف على أرض صلبة في مواجهة كل ما يحاصره أو يطارده ليرده عن دينه إن استطاع، ويتحقق به الصلاح المطلوب لعمارة الأرض والقيام بأعباء الاستخلاف الإنساني عن جدارة وأهلية واستحقاق.
ومن الحقائق التي هي في حاجة إلى التأكيد الدائم والتنبيه المستمر أن غياب المنهج وفقدان الضوابط الشرعية يؤديان إلى الفوضى الفكرية في الحياة العلمية والثقافية وهو ما يتمثل في ضياع المقاييس وكثرة التكرار والاجترار والتبعثر وضياع الرؤية الشاملة، وعدم إبصار الأولويات، وتوالي النكسات الفكرية والسياسية، والتجاوز في دخول الساحة الفكرية ومحاولة المساهمة فيها ممن يحسن ذلك وممن لا يحسنه، والاجتراء على القول في الدين وتفسير مقولاته ونصوصه بلا فقه ولا علم. فلكل علم منهجه وأهله وضوابطه؛ لذلك تبقى الحاجة ماسة إلى الكتابات المكثفة في المنهج، بعد هذه الفوضى الفكرية التي تسود حياة المسلمين الثقافية، والتي تشكل بحق أزمة في المنهج.[6]
ويبقى المطلوب دائمًا إشاعة علوم المنهج في الأمة بشكل عام، واستمرار تناولها بالبحث والدرس والنقد والموازنة والترجيح، حتى يشكل البحث في المنهج مناخًا عامًّا ينشأ عليه عقل الأمة ويشكل جوهر وعيها بالمنهج والشرعة. ولا خيار ونحن نحاول إصلاح ما فسد وتقويم ما انحرف وإحياء ما غُيِّب أو اندرس وتجديد الأمة بدينها، إلا بالعودة لتمثل العلوم الأصيلة، واكتساب المناهج التي قامت عليها حضارتنا وتراثنا (الوعي بالمادة).
إلا أن هذا التمثل لا تكتمل عناصره ولا مكنات تفاعله إلا (بفقه عملية التطبيق) والتي تعني الوعي بأمرين:
الأول: أنه من المطلوب أن نقف مع العلوم الأصيلة لوصلها بواقع الحياة بعد أن توقفت وأصبحت تجريدات بعيدة عن الواقع، ومقولات نظرية ومنظومات محفوظة لا تلد فقها ولا تدخل واقعا، ولا شك أن هذه الدراسات المنهجية ليست مقدسة لذاتها، وإنما تكتسب قيمتها بما تقدمه من نتائج تنعكس حضاريًّا وثقافيًّا على حياة الأمة؛ لأنها في نهاية المطاف من علوم الآلة التي تكتسب للاستخدام، ومن المؤسف حقًّا أن الكثير من هذه العلوم التي تشكل المنهج الأساسي للعقل المسلم لم يبق لها في حياتنا إلا القيمة التاريخية، أما القدرة على الاستفادة من الماضي وصناعة الحضارة فلا تكاد تذكر، خاصة على مستوى المنهاجية[7]. إن هذه الخطوة الإيجابية التي تشكل جوهر التجديد على المستوى الفكري والمنهجي إنما تقود إلى الوعي بالأمر الآخر.
الثاني: أن منهاجية التلفيق، والتجديد من خارج، إنما تعبر عن إخفاق على المستوى المنهجيّ ساهم في تكريس التخلف وتنميته؛ لأن هذه المنهاجية أخطأت جوهر المنهج ذاته بينما قاست الواقع الحضاري للأمة بغير مقياسه الصحيح، وقومت البناء على غير أسسه ودرست ظواهره بغير أبجدياته وعناصر خصوصياته، واعتبرت الحضارة الغربية وعلومها هي المقياس لكل حضارة، وهو أمر آن الأوان لمراجعته بل ومواجهته.
ومن هنا تبدو عملية الوعي المنهجي ذات عناصر متعددة متفاعلة[8]:-
- الوعي بالمادة ومصادر التنظير المنهجي الإسلامي.
- الوعي بالإمكانات المنهاجية الغربية المتاحة ومراجعتها.
- الوعي بالتطبيق المنهجي والتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي.
- الوعي بالصعوبات.
- القدرة على ترجمة ذلك الوعي في عملية بناء منهاجية متكاملة تتعلق بالحديث عن الكليات والإجراءات في عملية متصلة غير مقطوعة عن النظام المعرفي ولا ممنوعة من عمليات التفصيل والتشغيل.
3- منهاجية التغريب والتراجع إلى مواقف الفكر الدفاعي:
إن الحديث عن منهجية التغريب هو أمر من قبيل التجاوز، وهي في جوهرها ـ أي المنهجيةـ تجد مصادرها وأسسها ومظاهرها في كتابات الاستشراق، ومؤلفات التنمية، والكتابات الغربية المتعددة في الوطن العربي والشرق الأوسط، فضلا عن ذلك كتابات معظم المتغربين الذين احتذوا بالفكر الغربي حذو القذة بالقذة، وانحشروا معهم في جُحر الضب، وهي منهاجية تتعامل مع مختلف الظواهر المتعلقة بالمسلمين والإسلام والواقع العربي خاصة، وفق منظومة المفاهيم الغربية وقياسًا عليها، ولا تحسن إلا بالاستعانة بالمناهج الغربية من دون نقد أو مراجعة[9]، وهي حتما تعتمد في ذلك على مصادر غربية تجعل مقولاتها ومفاهيمها المعيار. وهي لا تقف عند هذا الحد بل تنطلق في سبيل تحقيق الإحلال لهذه المفاهيم والمناهج والمقولات والمصادر وتكريس وجودها، والتعامل معها على أنها العلم المعاصر وكل ما عداها ليس بعلم، وتسعى إلى تهميش كل منهج أو مفهوم أو مصدر ينبع من حضارة غير حضارة الغرب، وتؤكد تخلفه وعدم صلاحيته وفقدانه للفاعلية. وكل هذه الكتابات ما زالت ترث منهاجية الاستشراق ـ قديمها وحديثها ـ في معالجة كل فكر مغاير أو مناقض.
وليس من قبيل المصادفة أن يبدأ الاستشراق بالهجوم على العقيدة في البداية، ثم تشويه النظم التي ارتبطت بالخبرة الإسلامية، وأخيرا الانتقال إلى رسم سياسات للحركة وعملية الإنماء، حتى تكون عملية الإحلال راسخة، وعلى هذا تعد معظم الكتابات الغربية في التنمية السياسية والشرق الأوسط ليست إلا استشراقًا جديدًا اتبعت نفس أصول منهاجية الاستشراق، وإن اختلفت أساليبها وأشكالها وأدواتها المنهاجية.
وتشترك هذه الكتابات في الغالب الأعم في سمة أساسية هي عرض الحجة ونقيضها في دراسة الإسلام والمسلمين، ومن ثم تشير إلى مجموعة الحجج ونقيضها في دراسة الإسلام وعدم قدرته على مواجهة قضايا العصر، كما لم تترك بابا إلا وطرقته من أجل تحقيق مقاصدها[10]، هذا الوضع ربما استدعى موقف الدفاع من جانب الباحثين المسلمين، دون الفطنة إلى أن الاستغراق في هذا الموقف ليس إلا تبديدًا للطاقة الذهنية، والتي تجعل من رد الفعل محور حركتها الفكرية، ويتخذ هذا الموقف الدفاعي[11] أكثر من شكل:
- اتجاه التفاخر.. والذي يحاول إثبات أن الغرب بنى أصول حضارته على أسس المعرفة الإسلامية آنذاك.
- اتجاه التبرير والاعتذار، والذي يجهد في الدفاع عن شبهة هنا أو هناك، دون أن يدري أن هذا أحد أهداف منهاجية التغريب والاستشراق.
- اتجاه افتراض التشابه بين عناصر أو مفاهيم في الفكر الغربي والرؤية الإسلامية من دون دراسة متعمقة في عالم المفاهيم وإجراء المقارنة بينها على أسس علمية ومنهجية رصينة، وهو توجه قد يجهد فكره وتفكيره في إحداث عملية تلفيق قد لا تقوم على أساس منهجي.
وهذه الاتجاهات قد يكون لها ما يبرر قيامها بهذا العمل، وقد تكون أدت أهدافها في حينها، لكنها ظلت الطرف السلبي، القابل والمفعول به لا الفاعل، وقد آن لها ألا تغفل عن الخطورة وتنتقل من موقف ردود الأفعال إلى عملية البناء الفكري والمعرفي والمنهجي.
قضايا حول المنهاجية والمقومات في المنهجية الإسلامية:
تتناول هذه النقطة الحديث عن المنهاجية وصعوبات تطبيقها. وتثار بهذا الصدد مجموعة من الملاحظات الخاصة بتطبيق المنهاجية وطبيعة النظر إليها، ومجموعة أخرى من الملاحظات تتعلق بقضايا نظرية مهمة.
فأما عن الملاحظات الخاصة بتطبيق المنهاجية في الدراسات الاجتماعية عموماً يمكن القول:
- إن كافة المناهج المتاحة والمسيطرة والغالبة لدراسة أي قضية أو ظاهرة من ظواهر العلوم الإنسانية والاجتماعية إنما تعود إلى نتاج الفكر الغربي في تطوره؛ حيث تستخدم هذه المناهج بلا أدنى مراجعة أو فحص.
- إن معظم الدراسات الاجتماعية المعاصرة شأنها في ذلك شأن معظم الدراسات الإنسانية تنظر إلى المنهاجية ـ على أهميتها ـ من حيث تطبيقها البحثي بنوع من التساهل الشديد والتبسيط المخل؛ إذ لا تعالج هذه القضية في إطارها الكلي من فقه المعرفة، والذي يشمل (تاريخ العلم وتطوره ـ نظرية المعرفة ـ فلسفة العلم وأطره المرجعية، علم اجتماع المعرفة والمنهاجية). ومن ثم أصبحت قضية “اللياقة المنهاجية” و”صلاحية المنهاجية” وتكافؤ المنهج مع الظاهرة المراد دراستها بعيدة عن تفكيرها. وظل التطبيق المنهجي ـ رغم ادعاء كل دراسة أنها ستستخدم مجموعة المناهج والأدوات البحثية ـ هامشيًّا، بل ربما لا تستخدم المنهجيات المشار إليها في بداية الدراسة مطلقًا، ولا يكون لها أدنى تأثير في مجرى الدراسات الإنسانية والاجتماعية، وصار التعرض لها في بداية البحث ليس إلا نوعًا من الاستكمال أو “سد الخانة”.
- وفي هذا السياق ظل تطبيق المنهاجية الغربية بتنوعاتها في العلوم الإنسانية والاجتماعية لا باعتبارها مناهج بحثية قابلة للنقد والمراجعة، بل طبقت باعتبارها مسلمات لا يرقى إليها شك غير قابلة للنقد.
- رغم أن هناك محاولات ـ على ندرتها ـ قد أخذت على عاتقها النقد لهذه المناهج، فإنها في جوهرها ظلت تمارس هذا النقد الجزئي من على أرضية الغرب ذاته، وما تبع ذلك من تعديلات جزئية على المنهاجية ذاتها ،وتناست هذه الدراسات جميعًا الرؤية الكلية للمنهاجية وبحثها في إطار “فقه المعرفة”، ولم تطرح مجموعة من التساؤلات التي تشكل في جوهرها مضمون الملاحظات الخاصة بقضايا من طبيعة نظرية تؤثر بدورها على عملية التطبيق المنهجي لها، هذه الرؤى غير مانعة من القدرة على الاستفادة من المنهجية الغربية بما تقدمه من أدوات يمكن انتخاب واصطفاء ما يمكن منها أن يشكل أدوات فاعلة في الدراسة للظواهر المختلفة، على أن يتم تسكينها بل وتمثلها في سياق أنساق المنهاجية الإسلامية وانسجامها في أصول النظام المعرفي الإسلامي.
هذه الملاحظات النظرية يمكن صياغتها في مجموعة من التساؤلات المهمة[12]:
- هل يمكن الفصل في المنهاجية بين فلسفتها وأصولها، وبين طريقة البحث، وأدواتها ووسائلها؟؟
- ويتبع التساؤل السابق: هل من الجائز في ظل الاختلافات الواضحة بين الاستنادات الفلسفية لمناهج متعددة، تحقيق ما يمكن تسميته “بالتكامل المنهجي” بين مناهج متنافرة ومتناقضة، أم أن قضية التكامل المنهجي تصير بذلك غير ذات معنى أو مضمون؟
- هل من الجائز نظريًّا وتطبيقيًّا تجزؤ المنهاجية؟ أو بعبارة أدق: هل يمكن تحويل المنهاجية ـ بإدخال تعديل شكلي عليها ـ عن أصولها واستناداتها الفلسفية؟ وإذا كان الأمر ممكنًا فهل المنهج يظل هو هو، أم لا يصح أن يطلق عليه حتى اسمه السابق؟
- وكذلك هل من المقبول علميًّا استخدام المنهاجية الغربية، في حين تعاني معظم مفاهيمها الأساسية التي تشكل أهم مكوناتها ـ من الغموض ـ أو التعدد في المعاني إلى حد التعارض والتناقض مثل : الطبقة ـ الوظيفة ..الخ؟
- إنه من البين أن المنهج لا يجوز أن يبرز مجرداً من مقولاته ونماذجه ومفاهيمه الأساسية لأنه تشكل فيها ومن خلالها . ومن ثم فإن المنهج الذي تكون عبر دراسة النمط الحضاري الغربي أو النمط الرأسمالي يحمل لا محالة هذا النمط فيحاول إعادة إنتاجه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، إذا ما تدخل في دراسة نمط آخر أو حالات تنتسب لحضارة مختلفة، أو بعبارة أخرى يصبح النمط الغربي معياره في رؤية الأنماط الأخرى، ويظل مقياسه فيما يصدره من أحكام عليها، كما أن المقولات التي يكون المنهج قد أنتجها وسميت باسمه تصبح كالطوق في عنقه فلا يستطيع أن يتحرر منها أو يتحرك في أية دراسة إلا من خلالها أو بتأثيرها .. وكل منهج يحمل في مكنوناته موضوعات ومفاهيم حول: الدين والأمة والفكر والثقافة والاقتصاد والاجتماع والكون والطبيعة والأخلاق والقيم وما إلى ذلك. فهل يمكن استخدام هذه المقولات والمفاهيم المشتقة من تجربة المجتمعات الإسلامية؟ وهل يمكن تعديتها تلقائيًّا وآلياً وبصورة عفوية دون فحص التميز والاختلاف والفروق بين رؤية الإسلام لهذه المفاهيم وبين الرؤية الغربية لها؟ وأخيرًا هل يمكن فهم الإسلام من خلال ما تحمل مناهج الغرب من مقولات حول الدين مثلا.. وكذا النمط المجتمعي الإسلامي؟ أم أن قراءة النمط المجتمعي الحضاري يجب أن تكون ضمن منطقه الخاص، منهج لا يقرأ النمط المجتمعي الحضاري المحدد إلا من خلال منطقه الخاص النابع من آليات حركته ومختلف مكوناته، فضلا عما يلزم ذلك من تفهم وتطبيق أبجدياته[13].
كل هذه القضايا تزكي ضرورة نقد أصول المنهاجية الغربية المتاحة وفق منهج كلي، لا جزئي ينتقد الفروع متغافلا عن الأصول، وهذه القضايا تعد أهم دواعي بناء منهاجية بديلة وأصيلة للدراسات السياسية الإسلامية، وتظل عملية الاستفادة من بعض مفردات المنهجية الغربية (خاصة في مجال الأدوات) أمرا مهما، ولكن في سياق هذه الرؤية الكلية والشاملة لا تفقد معها المنهاجية اللياقة في التناول أو الفاعلية في التطبيق.
المنهاجية الإسلامية الأصيلة والبديلة :
تأسيساً على تلك الرؤية النقدية للنماذج الغربية المنهاجية المتاحة لدراسة الظواهر المختلفة في العلوم الإنسانية والاجتماعية وتجدر الإشارة إلى أهم عناصر المنهاجية البديلة:
أ-المبادئ الأساسية للمنهاجية الإسلامية:
من المهم أن نؤكد أن بلورة النظام المعرفي من خلال استخراج الدلالات الحضارية المترتبة عليها هي الركيزة الأساسية ونقطة الانطلاق الهامة؛ لأي تنظير مجدٍ في مجال منهاجية البحث المتعلقة بالعلوم الإنسانية والاجتماعية وتفعيل العقلية يعني ضمن ما يعني أنه لا بد من “إبعاد منهاجية الفكر الإسلامية عن مناهج الجدل والفلسفة الفاسدة وانغماساتها النظيرة في أمر التفسيرات العقيمة بشأن الكليات الإلهية.. والتي أفسدت على الأمة حياتها ومسئولية سعيها في هذه الحياة، وأدت إلى عجزها عن القيام بدورها في الهداية والقيادة ومجابهة التحديات.. ومن أهم هذه المبادئ الأساسية التي يجب تفهمها وتمثلها ومراعاتها إطارًا ومنطلقًا وأساسًا للفكر الإسلامي والمنهجية الإسلامية وللعمل والممارسة الإسلامية الحياتية: ” التوحيد ـ وحدة الخلق (النظام الكوني ـ الخليقة ـ تسخير الخليقة للإنسان)ـ المعرفة ووحدة الحقيقة ـ وحدة الحياة (الأمانة الإلهية ـ الخلافة ـ الشمولية)ـ وحدة الإنسانية ـ تكامل الوحي والعقل ـ الشمولية في المنهج والوسائل”.[14]
ب-بناء المفاهيم الإسلامية والتأصيل المنهجي:
إذا كانت المفاهيم تشكل اللبنات التي منها تؤسس المنهاجية فإنه ما من عمل منهاجي إلا ويكون قوامه عملية التأصيل للمفاهيم.[15]
إلا أن التأصيل للمفاهيم لا يمكن أن يكون شتاتًا لا جامع بينها، وفرقة لا رابط لها، وفوضى وتعددا لا ضابط عليها. فهي منظومة يشكل الإطار المرجعي أهم روابطها وضوابطها؛ حيث يتيح وضع المفاهيم في مواضعها وإخراجها من قوالبها المستقلة لتوصل فيما بينها، وتشغيلها في تشكيلاتها المتباينة في اتجاه معلوم، في سبيل تحقيق القصد من المنهجية، فالأطر المرجعية هي الكفيلة بتأكيد فعالية المنهجية؛ إذ يتوقف عليها ضبط وتحريك الوحدات الجزئية وإقامة العلاقات الارتباطية بينها، وتمييز المستويات وترتيب الأولويات في ضوء المنظومة القيمية التي تنطوي عليها هذه الأطر.. فالعلاقة وثيقة بين الأطر والمفاهيم؛ فحيث يقدم الإطار الضابط الناظم للمفاهيم، فإن دعائم الإطار تقدمها المفاهيم.
وعلى هذا تبدو عملية التكامل المنهجي والمعرفي لا تتخذ نفس مسار الفكر الغربي الذي بدأ يهتم بهذه القضية محاولا الجمع بين المناهج بعد اكتمالها، وهذا النهج في حقيقته إنما يعبر عن محاولة تلفيق شديدة تخفق غالبا في نتائجها لعدم توافر أهم مكونات التكامل المنهجي؛ نظرًا لاختلاف القيم الأساسية والفلسفة الكامنة خلف المناهج المتناقضة. ولكن الرؤية الإسلامية تختلف في مسارها؛ فهي تعتبر منذ البداية أن التكامل في مجال المفاهيم هو قاعدة الأساس في التكامل المنهجي. ومن الجدير بالإشارة أن تكامل المفاهيم يطرح من جانب الرؤية الإسلامية على مستويات أربعة: الأول: يشير إلى التكامل داخل المفهوم الواحد (عناصره ومستوياته)، والثاني: يشير إلى تكامله مع منظومة المفاهيم الإسلامية الأخرى بشكل تفرضه طبيعة هذه الرؤية، والثالث: يشير إلى أن المفهوم الواحد يصلح كأساس للتعبير عن منظومة من المفاهيم بمفرده، فمفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يشمل كل معروف أو منكر في الشرع؛ حتى يدخل فيه نسق الشريعة كلها ومفاهيمها، والرابع: يشير إلى ارتباط كل منظومة المفاهيم بقصد أساسي وهو “التوحيد”.[16]
ويعد بناء المفاهيم الإسلامية ضرورة منهجية على المستويين التنظيري والحركي في آن واحد ـ انطلاقًا من أن الإسلام بوصفه منهج حياة شاملاً يلعب دورًا جوهريًّا في حركة الإنسان الحضارية. وترجع هذه الضرورة إلى كون المنهج ـ في جوهره ـ مجموعة من مفاهيم يوظفها الباحث في معالجة موضوعه، ويستعين بها على تتبعه وتحليله وتفسيره بل وتقويمه، الأمر الذي يعني أن أي خطأ أو عدم وضوح في بناء المفاهيم ينعكس في النهاية على البناء المنهجي في ذاته فيحد من صلاحيته ويقلل من فاعليته ويبدد من إمكاناته في الدراسة والتحليل[17].
فالمنهج لغة هو الطريق الواضح والسلوك المبين والسبيل المستقيم، يُقال: نهج الطريق أبانه وأوضحه ونهج –أيضًا- سلكه. وبمقارنة هذا المعنى بالكتابات الغربية التي تميل إلى حصر مفهوم المنهج ودلالاته في نطاق النشاط الذهني أو الفكري للإنسان وتستبعده من مجال الممارسة والحياة اليومية، بينما يعبر عن الأخيرة باصطلاح آخر غير Method هو Way of Life؛ لذا غالبا ما توضع دراسات المنهج في إطار الدراسات النظرية أو الكتابات الفلسفية. بينما تؤكد معظم الكتابات في التراث الإسلامي التي ترد كلمة منهج أو منهاج في تسميتها، الشمول لجانبي التنظير والحركة[18]. وبين المفاهيم والمنهج علاقة أكيدة فكما يقول الجابري فإن: ” المنهج أولاً وقبل كل شيء مسألة مفاهيم، فالمنهج لا يضع قواعد ولا جملة خطوات إلا في النصوص التي تتحدث عن المناهج، أي في الخطاب الذي يريد التنظير للمنهجية”. أما في الواقع ـ أي في الممارسة العملية للبحث”.. فالمنهج هو أساساً المفاهيم التي وظفها الباحث في معالجة موضوعه والطريقة التي يوظفها بها..
ومن هنا فإن المنهاجية وباعتبارها علم “بناء المناهج” ليست بأي حال منبتة الصلة عن نظام الإسلام (الصبغة) وليست منقطعة عن النظام المعرفي الإسلامي (الصيغة). وابتناؤها على هذه وتلك إنما يفترض أن تنبثق (الصياغة) من مشكاتهما في علوم مستجدة واجتهادات بحثية مستمرة.
وعملية الصياغة للمنهاجية ليست إلا مكونًا ضمن مكونات متنوعة مترابطة متفاعلة، والمنهج موصول بين قاعدته النظرية ومقاصده التطبيقية، وهو من أهم نماذج الجمع بين القراءتين: قراءة كتاب الوحي المسطور وقراءة كتاب الكون المنظور، فإذا كان الجمع التفاعلي بين القراءتين من أهم شروط إحسان القراءة وانفتاحها، فإن “منهج القراءة” هو جوهر عملية بناء المنهاجية وصياغتها.
وهذه الأشكال اللاحقة التي نقدمها ليست إلا تنويعات نظن أهميتها لعملية الوصل بين القراءتين وما يولده ذلك من سياقات منهجية تسهم في تأسيس علم بناء المنهاجية، وهي في هذا المقام ترجمة لمجموعة من القواعد والأصول، المقدمات والمقومات التي لا تنظر إلى هذه العملية إلا باعتبارها لبنة أو لبنات في بناء أكبر وأرسخ، فمثل هذه العناصر التي تقدمها المنهجيات المختلفة والأدوات والمصادر كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وهي توضح بهذا الاعتبار:
- العلاقة بين الصبغة والصيغة والصياغة في بناء المنهاجية الإسلامية وتأثير ذلك في رؤية العالم من المنظور الإسلامي.
- العلاقة بين المصادر التي تمثل التأسيس والمرجعية بالمجالات الجامعة للقراءتين (قراءة الوحي) و (القراءة الكونية) وما يمثله ذلك من إحسان القراءة في بناء أسس وقواعد وإجراءات ومناهج للنظر والتعامل والتناول.
- النظام المعرفي وما يمثله من صيغة دافعة لعملية الصياغة إنما هو الحجر الأساسي في بناء رؤية منهجية متكاملة ومتكافلة ومتضافرة، تربط بين عناصر المنهجيات المختلفة ضمن بناء منهاجية قادرة على استيعاب واستخدام وتطبيق المناهج المتعددة على الظواهر المتنوعة.
- أن المنهاجية وباعتبار مستوياتها المتكاملة (الفلسفة والرؤية، الطرائق والوسائل، الأدوات والإجراءات) ليست مطلوبة لأغراض البناء النظري أو التنظيري، بل هي موصولة بعمليات منهجية متراتبة، ومناهج تسيير وتدبير وتغيير وتأثير وتمكين، وبين هندسة البناء المنهجي والعمارة الحضارية علاقة حميمة ومتكاملة. فإن خلل عناصر التنظير والتفكير في المنهاجية مؤدٍّ بالضرورة إلى خلل من كل مناهج السعي من تسيير وتمكين. ومن هنا فإن منهاجية البحث ليست مفصولة (لا مقطوعة ولا ممنوعة) عن منهج الحياة وعمرانها. فمناهج علوم الأمة مقِّدمة لا يمكن إغفالها لعمارة الأمة وتحقيق شروط شهودها الحضاري.
- أن هذه العلاقات التأسيسية لا بد أن تولّد أجندة (برنامج عمل) وإشكالات أجدر بالتناول على شاكلتها تفّعل عملية التأصيل المنهجي في هذا المقام.
المنهاجية معمار العلاقات بين مصادر النظام المعرفي الإسلامي ومجالاته وأدواته:
تطورت فكرة إسلامية المعرفة بين أطوار عدة وعلامات فارقة وواصلة في آن واحد، فعند بداية هذه الفكرة صار التركيز فيها على برامج سبقتها مواقف (من التراث، الفكر الغربي)، وجعلت هذه البرامج أهم أهدافها ـ ولو على المدى الطويل ـ إمكانية بناء مداخل للعلوم الاجتماعية والإنسانية.
إلا أن المواقف ولدت إشكالات إضافية خاصة في البحث المتعلق بالدائرة المعرفية والفكرية والثقافية، ومن هناك كان التفكير بتشخيص الداء، وبدا ذلك ضمن دواعٍ تقتضي إعادة تشكيل العقل المسلم، والحديث عن أزمة العقل المسلم، وأخيراً الحديث عن الأزمة الفكرية والحضارية، وأسفر هذا التشخيص عن تحديد الداء المتمثل في الأزمة الفكرية وتحديد الدواء في إسلامية المعرفة.
ومن ثم انتقل التفكير من هذه الرؤية الهادفة إلى بلورة الفكرة، إلى المواقف، ومحاولة تشخيص الداء إلى جهد بنائي يتحرك صوب ضرورة تحديد مقدمات ومقومات البناء، فضلا عن تحديد مجالاته وقيمه ووسائله وتوفير الأدوات الموصلة لمقاصد التأسيس والبناء، وتمثل ذلك في تحديد مستويات خمسة من المهم التوجه إليها بالتأليف والتراكم؛ لأنها تستوعب كل الإمكانات والقدرات البنائية وتحدّد مناهج استمدادها من المصادر وبنائها على قواعد منها، فضلا عن تحديد المجالات والأدوات، وأهم هذه المستويات:
- النظام المعرفي ومدى ارتباطه بالنظام العقدي والنظام القيمي في إطار يولد الصيغة (المعرفية) من الصبغة (التوحيدية)، في إطار يستهدف صياغة (الحضارة) وصياغة علوم الأمة وعلوم العمران.
- المنهاجية الإسلامية واشتقاقها من أصول النظام المعرفي، وأهم عناصره ومفاصله الكبرى، وما تعنيه من اهتمام بشق التنظير وشق التطبيق في إطار جامع للقواعد المنهجية الكبرى القادرة على تحديد أصول منهج النظر كمقدمة لمناهج التعامل والتناول.
- بناء النظام المعرفي وكذا منظومة المنهجية الإسلامية عملية لا تدور في فراغ، بل هي لا بد وأن تستند إلى مصادر تأسيس مرجعية (القرآن والسنة)، وهو أمر يؤسس على قاعدة منه نظرية للمعرفة؛ ومن ثم وجب الحديث عن منهجية التعامل مع القرآن والسنة كمصدر تأسيسي في عملية البناء، ومرجعي في عملية قياس ما يراد تقويمه بدقة على الوحدة المرجعية المتمثلة في القرآن والسنة والعلاقة بينهما في تكامل يؤسس نظام المعايير والمرجع القادر على عمليات التقويم المستمرة والمتجددة. منهجية التعامل هنا تنصرف إلى مصادر التأسيس تلك باعتبارها مصادر للنظام المعرفي وبناء المنهاجية المشتقة عنه والمولدة منه.
- أما المستوى الرابع فهو يهتم بمنهاجية التعامل مع التراث الإسلامي الممتد والمتنوع، والذي يشكل نماذج من عمليات التفاعل بين البشر ومصادر التأسيس المرجعية فضلا عن الواقع الحضاري للذين تفاعلوا معه، وفي إطار هذا الجدل تكونت نظرة للمعرفة والعلوم وتصنيفها ونتجت علوم أحدثوا فيها تراكمًا، هذا التراث الممتد والمتنوع افترض ضرورة بناء منهاجية للتعامل معه، وذلك ضمن منظومة أبجديات منهجية في إطار يفترض إحسان قراءة ذلك التراث والاستفادة منه وإمكانية استثماره ضمن عملية البناء، إلا أن هذا التراث الإسلامي لم يعد منفردًا في الساحة الحضارية، بل أنتجت الإنسانية تراثًا إنسانيًّا أصبح يفرض على العقل المسلم ضرورات التعامل معه، وأفرزت هذه الضرورة ضرورة أخرى ملحة في بناء منهاجية للتعامل مع التراث الإنساني، خاصة مع الفكر الغربي الذي مثل الحضارة الغالبة، وبدا الخروج من فوضى المواقف تجاه هذا التراث ـ الذي لا يقل تنوعا أو تعددا أو تراكما عن التراث الإسلامي ـ رهينًا ببناء أصول منهاجية (للنظر والتعامل والتناول) لهذا التراث ضمن سياقات تحرك القدرة على بناء منظومة من العمل النافع (من التراث الإسلامي والتراث الإنساني) ليس ضمن توفيقية مختزلة أو مبسطة، بل باجتهاد واعٍ يستثمر كل إمكانيات البناء والنماء والارتقاء.
إنها مساءلات حول تعريف التراث ما يدخل فيه وما يخرج منه وتأثير ذلك على منهاجية تناول التراث والتعامل معه.
إنها مساءلات توصيف التراث بالأوصاف القادحة أو المادحة، وكأن الأوصاف تطلق هكذا بالجملة، ولا تدور مع نفع الإنسان والإنسانية، والقدرة على الحكم ووزن التراث بدقة وحكمة.
إن توزيع الأوصاف جزافا على التراث لم يكن إلا ضمن عملية عقلية المساجلة الفكرية والتي لم تكن المساجلة التراثية إلا واحدة من معاركها وميادينها، وهي في النهاية لم يكن لها من ضحية إلا اغتيال العقل كما ذكر أستاذنا الدكتور برهان غليون.
إنها مساءلات تصنيف التراث التي أهدرت قراءات الاستثمار الواجبة والخروج من دائرة قراءات الاجترار والافتخار، إنها فقط ستدل على إمكانية مدخل واحد لو فعلت لكان له من الآثار الإيجابية الدافقة والدافعة والفائقة.
إن التصنيفات الحابسة والمسجونة لعبت دورا سلبيا في عدم تحريك خريطة العلوم واستيعاب المعطيات الجديدة على الرغم من أن نسق المعرفة الإسلامية[19] نسقا مفتوحا إحسانيا فياضا يملك القابلية للعطاء والفيضان بخير النعم بما يتوافق مع تنوع الأمم وتعدد التخصصات والهمم، إن تصنيفات العطاء والفيض غير تصنيفات الحبس والسجن وحصار العلوم حتى أفاق ما يمكن تسميته بمستوطنات العلوم التي لم يعد يفيد هذه الحال مع كل هذه التعقيدات والمعطيات.
التوظيف وما أدراك ما التوظيف؟
جعل التراث محنطا يعرض ضمن معارض تدل على الحضارة الغابرة والثقافة التي توارت ولم يبق لها من أثر إلا الحجر، إن هذه الرؤية الحجرية للتراث لم تترك مجالا للتعرف على تواصل البشر في حركة التراث؛ التراث الحي فينا ولنا وبنا، فالتراث بين القراءة الغابرة وإحسان القراءة، وكذا فانه بين حفظين حفظ التجميد وحفظ التجديد.
ذلك أن القراءة الحجرية مارست عملها في القراءة بإلقاء الحجارة على البناء التراثي لتنال منه ولم تتعرف على أصول القراءات العالمة والفاعلة، ومن هنا لابد أن تقترن المساءلة التراثية بالتعرف على ما هو التراث وما هي المعاصرة، ومن ثم لنا أن نتساءل عن؛ ما علاقة التراث بالحداثة؟
المساءلة التراثية لابد وأن تقترن بمقدمات أربع تفهم بميزان الحكمة:
المقدمة الأولى: الذاكرة الحضارية[20] الممتدة.
المقدمة الثانية: قراءة التراث عبر الحداثة، وقراءة الحداثة عبر التراث.
المقدمة الثالثة: قراءات قد تشير إلى التحيز القافل والتحيز الناقل.
المقدمة الرابعة: القراءة البصيرة في إطار الجدل الفكري القائم على ميزان النفع والحكمة والتي نؤكد أنها الأصل الذي يجمع بين التراث والعصر من دون افتعال أو اعتساف أو تحكيم لأحدهما في الآخر، إن علم الموازين الحضارية ليس الميزان (القباني) ولكنه ميزان (الذهب) الحساس لأن الخطأ فيه خلل في الحضارة وخطيئة في حق البشر، وخطأ في حق الإنسانية بموازين الفطرة النافعة والحكمة السامية.
إن الموقف المركب والمعقد هو النافي لحدي التبسيط والاختزال، لا يقف عند حدود التجني أو التبني للتراث أو العصر، بل يقف في موقف الباحث البصير والموقف المستنير في العلاقة بين الواجب والواقع مقوما ومقدما، يعطي الواجب حقه من الواقع، ويعطي الواقع حقه من الواجب، وإلا ظلا مفترقين منفصلين منفصمين هذا الفصام النكد، “وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ {7/58} “[21].
وبدلا من القراءات العليلة أو الكليلة فإن قراءة منهجية نماذجية أمر لا يحتمل التأجيل:
- الرؤية التراثية جزء لا يتجزأ من رؤية العالم في إطار النظر للمفاهيم الحضارية الكبرى التي تشكل مفاصل أي بناء حضاري.
- الإطار المفاهيمي للتراث والتعامل معه، خرائط المفاهيم التراثية وإمكانات تفعيلها وتشغيلها، وما يطرحه ذلك من إشكاليات القاموس التراثي واللغة الوسيطة والمفاهيم ذات الطبيعة المنهجية للتعامل مع التراث.
- الإطار التحليلي للتراث بين خرائط التحليل وأدواته ومستوياته، وقدرات التحليل فيما يتعلق بالذاكرة الحضارية وإمكانات تحليلها، إشارة الى رأس المال الرمزي والديني والفكري كلها رؤوس أموال وجب استثمارها من كل طريق باعتبارها قيم مضافة غير قابلة للإهدار أو التبديد.
ويدخل فى هذا مداخل تحليل الخطاب التراثي من جملة أبنية الخطاب المستحقة للتحليل من جهة والتوظيف من جهة أخرى. وكذلك الإمكانات المنهجية لتحليل النصوص الحضارية خاصة الحرة منها التي تسهم في عمليات البناء والنهوض والإحياء.
ويترافق مع عملية التحليل عمليات التفسير للمادة التراثية ومكوناتها ومكنوناتها ، المسألة التراثية لا تنفصل بحال عن المساءلة المنهجية العدل للتراث ، والعملية التراثية ترتبط بالفهم المتعمق للبناء التراثي وقدراته على العطاء الفياض المتجدد ، وهذا كله مقدمات واجبة للفاعلية التراثية في حركة بحثية دائبة للإحياء والتجديد .
وتكتمل هذه الخماسية المطروحة في نموذج “كون” المعرفي بالإشكالات الأجدر بالتناول ضمن منظومة معايير واضحة تضع أولويات التعامل التراثي ، من خرائط ومناهج وأدوات وآليات ومقاصد هادفة للإحياء والتجديد فى التراث وبه وله :رأس مال فكرى يجب استثماره.
أما المستوى الخامس فقد اقترح لتجسير الفجوة بين العلم النافع والفاعل وإمكانات تفعيله، ذلك أن من إحسان القراءة أن تولد عناصر قراءة فاعلة تفرض بدورها ما يمكن تسميته ببناء منهاجية للتعامل مع الواقع، والواقع هو القاسم المشترك ضمن كل المستويات السابقة، وهو الساحة الحضارية المقصودة بالوعي بها والسعي فيها، إن الواقع صار يستحق من الباحثين مزيد اهتمام في إطار فرض الوقت والقدرة على التعامل معه ضمن متطلبات عناصر الفقه الحضاري.
هذه هي المستويات الخمسة التي استقر الرأي على أن تكون من مناطق تأليف وبحث وتراكم معرفي، يتحقق من خلاله إمكانات البناء لها وقدرات البناء عليها.
هذا التطوير شكل نقلة نوعية ضمن الخطوات البنائية التي يهدف إليها مشروع فكري وحضاري مثل إسلامية المعرفة. ويبدو أن هذا الاهتمام قد بدأ يؤتي بعض أكله في تأليفات وكتابات وبحوث ودورات بحثية وتدريبية وحلقات نقاشية وندوات ومنتديات وورش عمل وأوراق عمل وحلقات نقاشية مفتوحة أو محدودة، إلا أنه قبل الاسترسال في هذا الجهد البنائي، والذي نظن أنه يترجم هذه النقلة النوعية إلى إمكانات تأسيس وتأصيل وتفعيل وتشغيل، من الواجب التنبه إلى بعض مسارات عامة تستلهم بدورها رؤية من خلال الحصاد في التأليف أو النقاش ضمن دائرة المستويات الخمس وأهمها:
أولاً: أن التمييز بين هذه المستويات المتعددة والمتنوعة وتقسيمها وتصنيفها ليس إلا تصنيفاً “مدرسيًّا أو تدريسيًّا”، ومن هنا فإنه في التأليف البحثي وكذا النقاش حول هذه المستويات لا بد من استحضار الرؤية الكلية الواصلة بين هذه المستويات جميعًا، قد يكون التصنيف إلى هذه المستويات مفيدًا، وهو لا شك كذلك، إلا أن ذلك يجب ألا يصرفنا بعد هذا التقسيم والتمييز عن فقه العلاقات والتفاعلات البينية المتبادلة بين هذه المستويات، سواء كانت هذه العلاقات ثنائية أم ما يزيد على ذلك.
ثانيا: أن هذا التفكير يوحي بضرورة النظر إلى هذه المستويات كمنظومة تتكامل فيها المصادر مع العناصر، مع المجالات، مع الأدوات والوسائل، هذا التفكير المنظوري يرى تلك العلاقات البينية من زوايا مختلفة، واقتفاء هذه الرؤية سيجعل تناول هذه المستويات كمفردات ضمن أرضية أسئلة قديمة لم تعد تغطي المتطلبات المعرفية والمنهجية لهذا الزمان، إن الأسئلة المتجددة والتي قد تطرح بإلحاح امتدت إلى دائرة هذه العلاقات البينية، العلاقة ما بين النظام المعرفي والنظام العقدي والقيمي، العلاقة بين هذه الأنظمة وبناء المنهجية الإسلامية المولدة على شاكلتها، العلاقة بين المنهجية الإسلامية (ومناهج التعامل مع القرآن والسنة كمصادر تأسيس مرجعية) و(مناهج التعامل مع التراث الإسلامي والإنساني كخبرات معرفية تفاعلية بشرية) و(مناهج التعامل مع الواقع باعتباره مجال الفاعلية الحضارية ومجال الصياغات المعرفية). الأدوار التي يمكن أن تقوم بها وعليها مصادر التأسيس المرجعية في بناء رؤية للتراث الإسلامي والإنساني من جهة، وبناء رؤية للتعامل مع الواقع، فضلا عن إمكاناتها في تأسيس وتأصيل وتنظير النظام المعرفي والمنهجية، وتصورات العلاقات البينية ومحتملاتها كثيرة نظن أنها تستحق مزيداً من الاهتمام؛ لأن التعامل مع هذه المستويات كمفردات لا كمنظومة قد يعرض مجالات فقه العلاقات إلى مزيد من الإهمال والإغفال، وهذا الإهمال والإغفال غالبًا ما يزيد اتجاهات المعالجة التي تتميز تارة بالانفعال، وتارة بالافتعال، وتارة بالانفصال، وهي جميعًا تخرج عن حد الأداء المعرفي الرصين والوعي المنهجي العميق.
ثالثاً: إن الاهتمام بفقه العلاقات البينية سيجعل المشروع وبرنامج العمل الذي برز في ضرورة تأسيس مداخل للعلوم الإنسانية والاجتماعية أمراً ذاتياً، ذلك أن أحد عناصر هذا الاهتمام في الفقه البيني للعلاقات بين هذه المستويات إنما يتمثل في وصل هذه المستويات بالمجالات المعرفية المختلفة فضلا عن الحقول المعرفية المتنوعة، سواء ما قدمته الخبرة التراثية أو العلوم الإنسانية والاجتماعية أو استحداث علوم جديدة وفق فلسفة تصنيف العلوم والمعارف وفق رؤية إسلامية ناضجة وواعية وواعدة فضلا عن قابليتها للتفعيل والتشغيل.
إن أحد أسباب محدودية الخبرات في بناء مداخل العلوم الإنسانية والاجتماعية ـ على أهمية ذلك في التدريس والتفعيل ـ إنما يعود إلى عدم توافر الآليات وتنظيمها واستثمارها، وهذا كله مرهون ليس فقط ببناء هذه المفردات بل برؤيتها كمنظومة تهتم بفقه العلاقات البينية بينها جميعا فضلا عن مد خطوط اتصال بين هذه المنظومة، وهذه المداخل؛ للبدء والشروع في بنائها على نحو يتفهم مقتضيات الصبغة التوحيدية وضرورات الصيغة المعرفية والمنهجية والمقدمات والمقومات المتمثلة في منهاجيات التعامل مع مصادر التأسيس المرجعية، والخبرات التراثية البشرية ومنهج النظر للتعامل مع الواقع، وهي كلها أمور تسهم في عمليات الصياغة وأهمها بل وأولاها صياغة مداخل للعلوم تستلهم كل ذلك وتستثمر إمكاناته وقدراته.
رابعاً: إن فقه العلاقات البينية بين هذه المستويات هو الكفيل بتوفير إمكانات تسكين مشروعات متعددة ضمن هذه المنظومة الكلية الهادفة والقاصدة إلى الامتداد إلى مساحات مثل: اتجاهات الخريطة الفكرية، مشروعات الخريطة المتعلقة بمدارس واتجاهات الإصلاح، القدرة على التعامل مع الثنائيات الصراعية الوافدة تعاملا واعيًا قادرا على تحويلها إلى أزواج ذات علاقات حميمة، تؤصل معاني الرحم فيما بينها والتراحم بين عناصرها والتكافل والتفاعل والتساند. إن النظر إلى هذه الثنائيات أو الاتجاهات الفكرية أو المشاريع الإصلاحية استقلالا عن الرؤية المعرفية وإسهامات هذه المناطق وتسكينها ضمن هذا المشروع؛ يجعل متابعة هذه الأمور ليس إلا تكراراً واجترارًا لاهتمامات سابقة نظن أنها لم تحسن استثمار هذه المناطق فضلا عن أنها في معظمها ظلت ضمن دائرة قراءة الإهدار لا قراءة الاستثمار والاعتبار، أو ضمن رؤية معرفية هادفة ورؤية منهجية واعية وقاصدة.
خامساً: إن الاهتمام بهذه العلاقات البينية يجعل من التفكير في آليات الربط بين هذه المستويات داعيًا إضافيًا للاهتمام بهذه الروابط المختلفة والتأصيل لها وإمكانات تفعيلها وتشكيلها، ومن أهم هذه الروابط:
- تفعيل نظام القيم كإطار مهم لتشغيل هذه الروابط في سياق هذه المستويات الخمسة.
- تفعيل المقاصد الكلية للربط بين هذه المستويات المختلفة.
- تفعيل التكامل الفقهي (فقه النظر والحكم، فقه الواقع، فقه التنزيل) في إطار يجمع بينها جميعًا في إطار فقه المنهج.
- تفعيل هذه الروابط ضمن العوالم المختلفة: عالم الأحداث والأشياء والأفكار والأِشخاص والنظم.
- تأصيل معادلة الفاعلية: الفاعل (الأمة)، ومجال الفاعلية (الحضارة)، وهو ما يحفظ البحث في موضوعات معينة والمراكمة فيها بما يحدث إمكانات الشهود الحضاري في التفكير والتدبير.
- الخروج عن إطار الأسئلة التقليدية في التعامل مع المصادر المختلفة، والتي تمثل بعض هذه المستويات، ومحاولة إعادة النظر في الأسئلة المطروحة والاتجاه صوب الأسئلة الصائبة والفاعلة في مقام تعميق وتأصيل هذه المستويات والعلاقات فيما بينها. وهو أمر قد يسهم في عملية فرز الإشكاليات كأحد متطلبات هذه الروابط الكلية، وبما يؤدي إلى نفي عناصر الافتعال والانفعال والإغفال والانفصال.
- إن إشكالات التعامل المعرفي مع هذه المستويات غير إشكالات التعامل الفني (التخصصي)، وهي أمور من الأهمية إدراكها لإحداث التراكم المطلوب بالنوعية المقصودة.
- الاستدراك على نقصان عمليات التأصيل والتفعيل والتشغيل، ذلك أن هذه العلاقات البينية واقعة بحكم الإشكاليات المتجددة التي تولدها باقي هذه الممارسات البحثية والمنهجية.
إن الاهتمام بهذه العلاقات يولد مساحات بحثية وبرنامج عمل بالغ الأهمية وربما دراسة هذه الموضوعات، استثناء ـ فضلا عن منهاجية التعامل معها ـ يكون ضعيفًا ومكرورًا لو تعاملنا مع هذه المستويات كمفردات، أما التعامل معها كمنظومة فإنه فضلا عن تحقيقه للمقصود في الرؤية الشاملة، فإنه يحرك إمكانات اجتهادية وتجديدية موصولة ومتواصلة، فضلا عن أنها تجعل الاجتهاد الجماعي كفريضة بحثية ضرورية في هذا المقام وكذا تأصيل قيم الشورى البحثية وتفعيل آلية أهل الذكر واستثمار مساحة التداخل بن التخصصات والعلاقات البينية بين العلوم المختلفة.
سادساً: إن تفعيل الجمع بين القراءتين وإتيان ذلك بثمرته المرجوة لا يمكن أن يؤتي أُكله إلا في سياق فقه العلاقات بين هذه المستويات المختلفة، خاصة حينما تجعل من فقه الواقع ومنهاجية التعامل معه القاسم المشترك بين هذه المستويات جميعًا، هذا التكامل غالبا ما يُحدث فهمًا أعمق وأدق وأكثر تنظيماً ووضوحا للواقع وما يتعلق به من ظواهر اجتماعية وإنسانية.
سابعاً: إن فقه هذه العلاقات البينية غالباً ما يؤصل لمعاني “النفوس البصيرة” فتاوى الأمة التي يجب أن تخرج من سياقات الفتوى الحكمية الشائعة في الشأن الفردي إلى فتاوى بحثية تفترض القيام بها كعملية بحثية في دراسة الظواهر… عناصرها ومفاصلها وعوامل تكونها، وأسباب تغيرها، والقدرة على تقويمها.. الخ، وهي أمور جميعًا يجب رؤيتها ضمن فقه الحال وفقه المجال وفقه المآل، فضلاً عن ضرورات فقه الأولويات. التربية والتغيير بالفتوى أداة مهمة في عمليات التفكير والتسيير والتدبير والتغيير والتأثير.
ولعل إشارة ابن القيم لها دلالة في هذا المقام من أن هناك نوعين من الفقه لا بد منهما: فقه في أحكام الحوادث الكلية، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس، يميز به بين الصادق والكاذب، والمحق والمبطل، ثم يطابق بين هذا وذاك، فيعطي الواقع حكمه من الواجب ولا يجعل الواجب مخالفاً للواقع.
نظن أن ما نحن فيه وما نشير إليه من فقه العلاقات البينية بين هذه المستويات الخمسة هو مما يدخل تحت هذه العبارة الذهبية (يعطي الواقع حكمه من الواجب، ولا يجعل الواجب مخالفًا للواقع). ونظن أن ذلك والتنبيه إليه من البيان الذي لا يؤخر عن وقت الحاجة، وربما هو ضمن اهتمامات الجماعة البحثية والعلمية هو من جملة فروض الوقت؛ ذلك أن واجب الوقت يتعين جمع الهمم كلها عليه فالعارف ابن وقته، فإن أضاعه ضاعت عليه مصالحه كلها، فجميع المصالح إنما تنشأ من الوقت، وإن ضيعه لم يستدركه أبدًا.
في هذا المقام فنحن أقرب لتحديد هذا الموضوع وأهم مفاصله من خلال مجموعة من الفرضيات المهمة، والتي تحمل معنى المقولات التي يستند إليها في هذا المقام وهي في مجموعها ليست في حاجة إلى مزيد من برهان وأهمها:
أن المنهج أكثر المناطق التي ترتبط بالتفكير العلمي والمنهجي، وهو بهذا الاعتبار يتكون من منظومة مهمة من العناصر أهمها :
- المنهج يرتبط بعناصر فلسفة كامنة، وهذه الفلسفة الكامنة تظل تمسك بخناق المنهج، وتظل كالطوق المحيط بالعنق، وهو بهذا المعنى منطقة بحثية تتفهم الأصول الفلسفية التي يستند إليها المنهج، فإن الوعي بها مقدمة أساسية للتعرف على كثير من تحيزات المنهج الكامنة فيه والظاهرة منه. كما أن ذلك من الخطوات التي يتأكد من خلالها إمكانية تحديد معايير الاستفادة من أنساق معرفية أخرى وما ينبثق عنها من مناهج.
- المنهج بهذا الاعتبار يمثل الوسائل الموصلة، وهو الدابة التي تمتطي فتتحرك صوب الغاية أو المقصد، فاعلية الوسيلة تكمن في قطعها الطريق بين نقطة البداية (المشكلة البحثية) ونقطة المقصد (تقويم الظاهرة موضع البحث)، بكفاءة في أقصى درجاتها، قطع المسافة من أقصر خط بين نقطتين. إن الوسيلة التي لا تكافئ الظاهرة أو تحرك عناصر الفاعلية في التعامل البحثي ليست من المنهج في شيء، وإن بدت في كل المنهج من خطوات وترتيبات (الوعي المنهجي واللياقة المنهجية).
- المنهج ثالثاً أدوات بحثية، الأدوات هنا هي بمثابة إعداد العدة للراحلة السفر المنهجي، وهي أدوات تعين البحث والباحث في قطع “رحلة السفر المنهاجية” على أفضل ما يكون ومن أقصر طريق وبأفضل الطرائق وأحسن الوسائل.
- المنهج رابعًا قواعد، إن المعلومة تفرض مصدرها، والمصدر يفرض أبجديات التعامل معه، والأبجديات يجب أن تنتظم في نسق منهجي على صعيد واحد، وتتكامل في أداء المهمة البحثية والمنهجية.
إن معلومة بلا مصدر لا يليق بها إلا أن تقع في دائرة الخطأ، وهي على أحسن الفروض تعاني من قصور في الاستناد، والثقة. إن الحقيقة الكبرى تعني أن بين التوثيق والثقة صلة لغوية، فهما من جذر لغوي واحد، والإسناد من الدين، ومن بركة القول إسناده إلى أصحابه.
- المنهج خامساً تطبيق وتنظير، فعلى ما يقول الأستاذ محمود شاكر موضحًا للفظ المنهج ومبيناً له “… ولفظ المنهج يحتاج مني هنا إلى بعض الإبانة، وإن كنت لا أريد به ما اصطلح عليه المتكلمون في مثل هذا الشأن، بل أريد به “ما قبل المنهج” أي الأساس الذي لا يقوم المنهج إلا عليه” فهذا الذي يسمى “منهاجاً” ينقسم إلى شطرين: شطر في تناول المادة، وشطر في معالجة التطبيق.
الهامش
[1] سورة المائدة /48
[2] انظر المعاجم اللغوية مادة “نهج”.
انظر أيضا: د.فارس أشقر، مدخل إلى المنهجية في العلوم الاجتماعية، مجلة العلوم الاجتماعية، تصدر عن معهد العلوم الاجتماعية، الجامعة اللبنانية، العدد الأول، 1991، ص 33-47
[3] محمود شاكر، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، القاهرة : دار الهلال، أكتوبر 1987، ص 34 وما بعدها.
[4] د.منى أبو الفضل، نحو منهاجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي بين المقدمات والمقومات، بحث ضمن اللقاء العالمي الرابع، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الخرطوم، يناير 1987، ص 12: طبع هذا البحث ضمن أوراق هذه الندوة في ط1، ص179-232
[5] المرجع السابق، ص 12
انظر وقارن في مفهوم المنهج والمنهاجية : د.نصر محمد عارف، نظريات السياسة المقارنة ومنهجية دراسة النظم السياسية العربية، واشنطن : جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية، 1998، ص 73 وما بعدها
[6] عمر عبيد حسنة (مقدمة)، في د.همام عبد الرحيم سعيد، الفكر المنهجي عند المحدثين، كتاب الأمة، قطر: رئاسة المحاكم الشرعية، المحرم 1408هـ، من 7-12.
انظر وقارن د.نصر محمد عارف (تحرير وتقديم)، قضايا المنهجية في العلوم الإسلامية والاجتماعية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة، 1996، انظر بصفة خاصة المقدمة الضافية التي كتبها ص 7-14
[7] د.همام عبد الرحيم، الفكر المنهجي عند المحدثين، كتاب الأمة، قطر : رئاسة المحاكم الشرعية، المحرم 1408هـ (المقدمة وما بعدها )، انظر أيضا ص 15 وما بعدها
انظر أيضا حول الدواعي والضرورات خاصة في إطار سيادة المناهج الغربية: محمد محمد أمزيان، منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، واشنطن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1991.
وفي إطار البحث في الإمكانية التراثية لتأسيس مناهج بحث انظر: د.علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي، بيروت: دار النهضة العربي ط3، 1984.
[8] سيف الدين عبد الفتاح، النظرية السياسية من منظور إسلامي: منهجية التجديد السياسي وخبرة الواقع العربي المعاصر، القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1998، ص 71، وما بعدها.
[9] المرجع السابق، ص 47 وما بعدها، ص 40 وما بعدها.
[10] انظر في ذلك: منير شفيق، الحجة ونقيضها في محاربة الإسلام، جريدة الشعب، أول يوليو 1986، 8يوليو 1986.
[11] قارن وقرّب إلى هذا : عمر عبيد حسنة، نظرات في مسيرة العمل الإسلامي، كتاب الأمة، قطر: رئاسة المحاكم الشرعية، المحرم 1405هـ، من 58-70.
[12] انظر في جملة هذه الأسئلة وغيرها، سيف الدين عبد الفتاح، في النظرية السياسية من منظور إسلامي، مرجع سابق، ص 43-44.
[13] في سياق ارتباط المنهاجية بالنمط الحضاري والمجتمعي في شق التطبيق انظر: منير شفيق، الإسلام في معركة الحضارة، بيروت: دار الكلمة للنشر، 1984، ص 95-99 ومواضع أخرى متفرقة.
[14] انظر: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، إسلامية المعرفة: خطة العمل ـ الإنجازات، واشنطن ـ القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1986، ص 27 وما بعدها
انظر أيضاً: د.إسماعيل راجي الفاروقي، أسلمة المعرفة: المبادئ العامة وخطة العمل، ترجمة : عبد الوارث سعيد، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الكويت : دار البحوث العلمية، 1984، ص51-91
[15] انظر : د.علي جمعة، د.سيف الدين عبد الفتاح (محرران)، بناء المفاهيم: رؤية معرفية ونماذج تطبيقية، القاهرة : المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996، جـ1، ط2.
انظر وقارن: د.عبد القادر هاشم رمزي، الدراسات الإنسانية في ميزان الرؤية الإسلامية : دراسة مقارنة، قطر : دار الثقافة، 1984، ص5
[16] انظر : سيف الدين عبد الفتاح، النظرية السياسية من منظور إسلامي..، مرجع سابق، ص 13 (الهامش)
[17]انظر في تفاصيل ذلك محمود شاكر، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، مرجع سابق، ص 34 وما بعدها .
د.منى أبو الفضل، نحو منهاجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي، مرجع سابق، ص12.
Buchler, The concept of Method, New York : Calumbia University Press, 1952, pp. 6-10
انظر أيضاً وقرّب إلى ذلك
Charles Hills Kaiser, An Essay on Method, New Burn – Swich , Rutagers university,..
[18] انظر في هذا المقام : د.عائشة عبد الرحمن، مقدمة في المنهج، القاهرة : معهد البحوث والدراسات العربية، قسم البحوث والدراسات العربية واللغوية، جامعة الدول العربية، 1971، ص 9 وما بعدها.
[19] ـ عبد المجيد الصغير، المعرفة والسلطة في التجربة الإسلامية: قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010.
[20] ـ يان أسمن، الذاكرة الحضارية: الكتابة والذكرى والهوية السياسية في الحضارات الكبرى الأولى، ترجمة: عبد الحليم عبد الغني رجب، المشروع القومي للترجمة (486)، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2003م.
[21] ـ الأعراف ـ الآية 58.
المنهجية الإسلامية: مقدمات التفكير ومقومات المنهج