
تمهيد
تشير كافة المعطيات التي يمر بها الاقتصاد المصري وبالأخص العجوزات المزمنة في الميزان الجاري والموازنة العامة وغيرها إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية المصرية، التي كانت سابقة على الظروف الصعبة التي أصابت الاقتصاد العالمي جراء انتشار فيروس كورونا ومن بعدها الحرب الروسية على أوكرانيا، وما كانت تلك الظروف إلا معجلا لمزيد من البروز لتلك الاختلالات الهيكلية والتي زادت حدة وعمقا جراء السياسات الاقتصادية التي اتبعتها الإدارة المصرية طوال السنوات الثماني الماضية.
وكنتيجة منطقية لتلك السياسات فقد تفاقمت الفجوة الدولارية، لا سيما بعد التوسع المحموم في الاقتراض الخارجي، الذي أهدرت موارده على مشروعات غير ذات عائد يكفي لسداد أقساط وفوائد القروض، فوقعت البلاد في دائرة مفرغة من تدوير القروض الخارجية، حيث يتم الاقتراض الخارجي لكي يمكن سداد أقساط وفوائد القروض القديمة.
الا أن المشكلة أن موارد الاقتراض الخارجي وحدها من المرجح عدم كفايتها من حيث التوقيت والكمية للوفاء بالتزامات مصر الخارجية، والتي لا تتوقف فقط عند خدمة الديون، بل تتعداها إلى فاتورة الواردات التي تزايدت بصورة غير مسبوقة خلال السنوات الخمس الأخيرة، ليتخطى عجز الميزان التجاري 40 مليار دولار، وبذلك فمن المنطقي أن تحاول الإدارة المصرية التوسع في تنويع مصادر النقد الأجنبي خلال الفترة القادمة.
وبناء على ذلك، تحاول هذه الدراسة البحث في مصادر النقد الأجنبي التي يمكن أن تلجأ إليها مصر للتعامل مع الأزمة الراهنة، وتكلفة هذه المصادر الاقتصادية، ومدي كفاية هذه المصادر للابتعاد بمصر عن شبح الإفلاس عند تخلف الدولة عن السداد.
وستحاول الدراسة الإجابة عن تلك التساؤلات من خلال النقاط التالية:
أولا: مستجدات الأزمة الاقتصادية المصرية
بداية يجب التأكيد على أن المستجدات الطارئة على الاقتصاد المصري والناجمة عن تداعيات انتشار فيروس كورونا أو الحرب على أوكرانيا ليست السبب الرئيس في مشكلات الاقتصاد المصري[1]
، ولكنها ساهمت في تسريع بروز المشاكل، وبالتالي تسارع خطوات السلطة في مواجهتها، ويمكن توضيح تلك المستجدات كما يلي:
1- نزوح الأموال الساخنة إلى الخارج
ربما يعد نزوح الأموال المستثمرة في أدوات الدين المحلي المصرية أهم وأخطر التداعيات المستجدة على الاقتصاد المصري في أعقاب الحرب على أوكرانيا، وقد سجلت استثمارات الأجانب في أدوات الدين (الأذون والسندات) نحو 34 مليار دولار منذ سبتمبر/أيلول من العام الماضي، حسب تقرير فيتش للتصنيف الائتماني الصادر يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي [2]. وبحسب وكالة (بلومبرغ) الأمريكية فقد سحبت من هذا الرصيد أموال وصلت إلى 15 مليار دولار من سوق الدين المحلي في الأسابيع الثلاثة الأولي بعد بداية الحرب، ومن المرجح أن تتزايد تلك المبالغ خلال الفترة القادمة.
ومن الجدير بالذكر أن هذا النزوح الجماعي من سوق أدوات الدين المصري لم يكن الأول من نوعه، فيعد أيام قلائل من الانتشار الهائل لتداعيات فيروس كورونا حدث نزوح غير مسبوق لتلك الأدوات بخروج 20 مليار دولار كاملة في غضون عدة أسابيع.
ومن المعروف أن المستثمرين في الأموال الساخنة يفضلون الملاذات الآمنة في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الكبرى خاصة في أوقات الأزمات التي تصيب الأسواق العالمية بحالة عدم اليقين، وعلى هذا الأساس، وقبل الأزمة الأخيرة في أوكرانيا، فإن الخبراء في العالم أجمع كانوا يتوقعون هذا النزوح من مصر ومن دول الاقتصادات الناشئة بعد انتهاء مراحل التسهيل الكمي في أمريكا والدول الغربية وبالتالي بداية رفع أسعار الفائدة خاصة من جانب البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لمواجهة موجة التضخم العالمي التي تصاعدت في الأونة الأخيرة.
ويؤكد ذلك ما أفادت به وكالة فيتش للتصنيف الائتماني في مطلع مارس/ آذار بأن الأسواق الناشئة تواجه مجموعة متنوعة من مخاطر الائتمان الإضافية الناجمة عن الصراع بين روسيا وأوكرانيا، مشيرة إلى ضغوط الأسعار وتقلّص تحمّل المستثمرين للمخاطر.[3]
ولعل ذلك ما دفع وزير المالية المصري للتأكيد على أن النزوح الجماعي للأموال الأجنبية من أدوات الدين السيادية كان متوقعا، وهو ما يبرز السؤال المهم: لماذا لم تتحوط الإدارة المصرية ضد ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية وهو القرار الذي يتوقعه وينتظره الجميع منذ عدة أشهر.
ومن العجيب أن الإدارة المصرية انتظرت ما يقارب الشهر من بداية الحرب لكي تبدأ أولي خطواتها برفع سعر الفائدة وخفض قيمة الجنيه المدار منذ سنوات من خلال البنك المركزي، لا سيما أن التعجيل برفع سعر الفائدة وخفض الجنيه ربما كان يعمل ولو جزئيا على تباطؤ النزوح للأموال الساخنة نحو الخارج.
كما أن هذا التباطؤ في التحوط لهذا الأمر قد أدى إلى خسائر ضخمة تحملها الشعب المصري، وبحسبة بسيطة فإنه لو خرجت 15 مليار دولار وفقا لتقديرات بلومبرج (ربما تكون أكثر من ذلك عند تطبيق القرار) بسعر صرف 18.5 جنيه للدولار بدلا من 15.5 التي جمعت بها الدولارات وخرجت على أساسها فعليا، لوفر الاقتصاد المصري نحو 45 مليار جنيه كاملة (2 مليار دولار تقريبا)، وهي غرامة البطء في اتخاذ القرار وعدم الاستعداد له.
عموما يجب التأكيد على أن الأموال الساخنة كانت في طريقها للتخارج من السوق المصرية على أي حال، ولكن بصورة تدريجية مع كل رفع لمعدل الفائدة الأمريكية- سواء أحدثت الحرب في أوكرانيا أم لم تحدث- والذي أعلن بنك الاحتياطي الفيدرالي توقعه أن يكون لست مرات قادمة، وهو الأمر الذي لا يؤكد حقيقة الخسائر السابق الإشارة إليها فقط وإنما أيضا يشير إلى إمكانية تكرار هذا النزوح مع توالي الارتفاعات لمعدل الفائدة الأمريكية وبالتالي استمرار نهج السلطة المصرية في رفع سعر الفائدة وتخفيض قيمة الجنيه، ومن اليسير أن نتوقع أن تلتهم فوائد وأقساط الديون ما يصل إلى 100% من الإيرادات العامة المصرية وربما أكثر في الموازنة العامة القادمة.
2- ارتفاع أسعار النفط والحبوب
لم تكن الحرب على أوكرانيا سبب اشتعال أسعار النفط التي بدأت بالتصاعد المستمر منذ النصف الثاني من عام 2020، ومع التنافس العالمي الشديد لتعويض خسائر الاغلاق بسبب فيروس كورونا تأجج هذا التصاعد ليس في سعر النفط فقط وانما في أسعار كل المعادن الهامة للصناعة على المستوي العالمي.
توازي هذا التصاعد في أسعار النفط والمعادن مع سلسلة من الأزمات الناجمة عن الفيروس مثل أزمة سلاسل الإمداد والتوريد، وفشل الاتفاق مع دول أوبك بلس لزيادة الإنتاج، والحرب التجارية الصينية – الأمريكية، وهي الأمور التي دعمت الاتجاهات المتصاعدة لأسعار النفط والمعادن، وكلها كانت قائمة قبل اندلاع الحرب على أوكرانيا.
وقبل الحرب كذلك تصاعدت أسعار الحبوب الغذائية الرئيسية لا سيما في ظل صعوبات الشحن والتوريد، علاوة علي الفوائض المالية الضخمة الناجمة عن التوسع في برامج التيسير الكمي والتي تسببت في تضخم الانفاق الاستهلاكي المكبوت طوال اغلاقات كورونا، وهي الأمور التي سببت تصاعدا مستمرا في معدلات التضخم في كل دول العالم، والذي يغذيه بوضوح أسعار البترول وأسعار الحبوب والزيوت العالمية.
اندلعت الحرب على أوكرانيا وسعر البترول حول 100 دولار للبرميل وسعر القمح قد تجاوز 350 دولار للطن، وفي خضم كل ذلك كانت وزارة المالية المصرية قد حددت سعر البرميل في الموازنة المصرية بحوالي 60 دولار فقط، بينما حددت 255 دولار لطن القمح، وهي الأسعار التي تضبط من خلالها رقميا عجز الموازنة المقدم لصندوق النقد الدولي في إطار تعهدات القروض السابقة، وكذلك في اطار مباحثات القرض الجديد والتي بدأت منذ أكثر من عام ولم يعلن عنها رسميا الا منذ أيام فقط.
يمكن القول أن الحرب علي أوكرانيا أسهمت بنسبة لا تزيد عن 20% من الارتفاع في أسعار النفط، ولأن مصر دولة مصدرة للغاز والنفط كذلك فمن المرجح أن الزيادة الكبيرة في صادرات الغاز الطبيعي من مصر ستعوض جزءا من تداعيات ارتفاع أسعار النفط علي الموازنة المصرية، وإن كان هذا الجزء صغير نسبيا حيث لايمكن الزيادة عن طاقة الإسالة في حدها الأقصى القائم بالفعل من خلال محطتي دمياط وإدكو بما لايمكن تجاوزه، وربما هنا يجب التساؤل حول سبب تأخر وزارة المالية المصرية عن التأمين ضد مخاطر ارتفاع أسعار النفط والتي أعلنت نيتها مرارا في التعاقد عليه؟
أما عن ارتفاع أسعار القمح فرغم اتجاهه الصاعد خلال ما قبل الحرب الا أنه لا يمكن التغافل عن أهمية القمح الروسي والأوكراني الرخيص لمصر المستورد الأكبر في العالم، ولكن في نفس الوقت فإن انحدار زراعة القمح في مصر هي نتيجة منطقية للسياسات الحكومية المصرية تجاه القطاع الزراعي.
وربما يكفي التدليل على ذلك الإشارة إلى أن إجمالي الدعم المقدم للقطاع الزراعي في موازنة العام الحالي يبلغ 365 مليون جنيه فقط (مقارنة بحوالي 3 مليار جنيه دعم للصادرات) والعجيب أن 300 مليون جنيه منها موجهة للبنك الزراعي المصري لمساندته في مواجهة تعثر المزارعين عن سداد القروض جراء انتشار فيروس كورونا، وبالتالي فإن إجمالي الدعم الموجه للمزارع المصري هو 65 مليون جنيه فقط.
عموما تجدر الإشارة إلى أنه وفقا للتقديرات الحكومية المحلية فإنه من المتوقع أن تتحمل الخزانة المصرية 17 مليار جنيه إضافية (أي نحو مليار دولار) جراء ارتفاع أسعار القمح والحبوب المستوردة. وعلى هذا الأساس، يمكن تقدير الفجوة الدولارية الإضافية نتيجة ارتفاع أسعار النفط والقمح والحبوب الأخرى عن تقديرات الموازنة العامة بنحو 5 مليار دولار، تضاف إلى العناصر الأخرى التي تغذي ارتفاع العجز في المتوفرات الدولارية بما يضغط على احتياطي النقد الأجنبي بشكل كبير.
من الطبيعي أن ارتفاع أسعار النفط والغاز والمعادن والسلع الزراعية الرئيسية تؤجج معدل التضخم المحلي كما هو في كل دول العالم، ولكن تجدر الإشارة إلى أن معدلات التضخم في مصر كانت قد اشتعلت في السابق تزامنا مع برنامج صندوق النقد الدولي الأول، وحينها تكبدت القوة الشرائية للأغلبية الساحقة من المصريين خسائر لم تستطع تعويضها حتى الآن، وعلى الأرجح فإن الموجة الحالية من التضخم تعني تخلي هذه الأغلبية جبراً عن وجبة غذائية أو أكثر يوميا.
3- الأثار السلبية للحرب في أوكرانيا على القطاع السياحي المصري
تشير بيانات الشكل التالي إلى أن مصر استقبلت عام 2019 حوالي13 مليون سائح أجنبي تقريبا، محققة دخلا يقدر بحوالي 13 مليار دولار، بينما تشير بيانات البنك المركزي المصري إلى تكبد 3 مليار دولار تكلفة سنوية شبه مستقره للسياحة والسفر العكسي [4].
وبالطبع فقد تأثر القطاع السياحي سلبيا بشدة بسبب القيود على السفر جراء فيروس كورونا، حيث تناقصت الإيرادات السياحية إلى نحو 4.4 مليار دولار فقط عام 2020، قبل أن تعاود الارتفاع إلى 13 مليار دولار مرة أخرى بنهاية عام 2021.
ووفقا لأرقام وزارة السياحة وغرفة المنشآت السياحية المصرية يمثل السياح الروس والأوكرانيون نحو 40 في المائة من حجم السياحة الشاطئية التي تأتي إلى مصر سنوياً، وقد احتلت أوكرانيا المركز الثاني في حركة السياحة الوافدة إلى مصر خلال عام 2019 قبل جائحة كورونا، حيث استقبلت المدن السياحية المصرية نحو 1.6 مليون سائح أوكراني، بنسبة ارتفاع 32%[5] في مقابل أكثر من 727 ألف أوكراني فقط زاروا الأراضي المصرية عام 2020، مما يشكل 21 %من مجموع السياح الأجانب الذين توافدوا خلال العام.
أما فيما يتعلق بالسياحة الروسية فقد استؤنفت منتصف العام الماضي فقط بعد انقطاع دام أكثر من خمس سنوات وتحديدا منذ أكتوبر/ تشرين الثاني 2015، بسبب تفجير طائرة ركاب روسية فوق شبه جزيرة سيناء، وحينئذ بلغ أكبر عدد نحو 3.2 مليون سائح روسي في العام ذاته أي حوالي 33% من إجمالي السياحة الوافدة إلى مصر.
ومنذ استئناف حركة السياحة بين مصر وروسيا في حزيران/ يونيو العام الماضي وحتى نهاية العام بلغ عدد السياح الروس نحو 700 ألف سائح، بحسب المديرة التنفيذية لاتحاد شركات السياحة التنفيذية وبذلك أصبحت مصر المقصد السياحي الثاني للسياح الروس بعد تركيا.
تحليل الأرقام السابقة للسياحة الروسية والأوكرانية يشير إلى فقدان نحو 1.6 مليار دولار سنويا جراء توقف السياحة الأوكرانية، وربما مليار دولار من السياحة الروسية المتوقفة منذ فترة، أي أن إجمالي خسائر القطاع السياحي الحقيقة قد تصل إلى 3 مليار دولار، بفرض استمرار الحرب وتداعياتها.
من الجدير بالذكر أن مصر فشلت في تنويع أسواقها السياحية ولا تزال تعتمد على الأسواق التقليدية، ويشير ذلك بوضوح إلى محدودية الطموح السياحي المصري مقارنة بالإمكانات الهائلة المتوافرة. عموما يمكن القول أن هذه الخسائر يمكن تعويضها ببعض التركيز علي أسواق سياحية جديدة، وهو ما لا يحدث بالفعل.
خلاصة التحليل السابق تشير إلى فقدان مصر في العام الحالي لحوالي 3 مليار دولار مستجدة جراء تضرر القطاع السياحي من الحرب علي أوكرانيا، علاوة على ما يقارب مليار دولار إضافية علي فاتورة استيراد الحبوب، بالإضافة إلى الزيادة المتوقعة في فاتورة استيراد النفط بما لن يقل عن 4 مليار دولار، ومن المتوقع بعد ارتفاع رسوم المرور في قناة السويس زيادة جيدة في دخل القناة ولكنها لن تدخل إلى الموازنة العامة في ظل استمرار توريد ثلث الإيرادات فقط للموازنة وسرية الثلثين الآخرين.
وبالطبع ووفقا للتحليل السابق تشكل الموارد الدولارية من الأموال الساخنة النازحة إلى الخارج العبء الأكبر علي الاقتصاد المصري خلال ما تبقي من العام الحالي وربما العام القادم كذلك. كما يؤكد التحليل كذلك علي أن الحرب لم تكن إلا معجلا لظهور النتائج المترتبة علي السياسات المتراكمة منذ ثمان سنوات. لكن في النهاية يمكن تقدير الفقدان الإجمالي للموارد الدولارية نتيجة خروج الأموال الساخنة وارتفاع أسعار النفط والحبوب، فضلا عن انخفاض دخل السياحة، بما يقارب 25 مليار دولار.
ومن هنا يبرز التساؤل حول أهم الإجراءات والموارد التي يمكن من خلالها للإدارة المصرية مواجهة هذه الخسائر التي أضيفت إلى الأعباء الضخمة الناجمة عن الفجوة الدولارية الاعتيادية للاقتصاد المصريـ والتي تفاقمت بشدة بعد إضافة أعباء القروض الخارجية عليها، وعن إمكانية كفاية هذه الإجراءات. وهذا ما تحاول هذه الدراسة الإجابة عليه وذلك كما يلي.
ثانيا: الإجراءات المتوقع اتباعها لمواجهة الأزمة
لم تثمر المشروعات الاقتصادية التي نفذتها الدولة عن إيرادات تذكر لغير مقاوليها، حيث التركيز المحموم على مشروعات البنية التحتية وبالأخص الطرق والكباري، والعاصمتين الشتوية والصيفية الجديدتين، كما أن الحرب على أوكرانيا وبعض التبعات المستجدة جرائها، علاوة علي أوضاع الاقتصاد المصري المتفاقمة سلبيا نتيجة للسياسات المتبعة خلال السنوات الماضية، كلها أمور لا بد أن تتعامل معها السلطة المصرية. وتستعرض السطور التالية أهم النقاط التي من المرجح ان تتبعها السلطة، أو بدأت بالفعل في اتباع بعضها، لمواجهة المأزق الاقتصادي الراهن، وذلك كما يلي:
1- السياسات النقدية
أصابت موجة تضخمية عارمة السوق المصرية في أعقاب ما سمي آنذاك بتعويم الجنيه في نهاية عام 2016، وهو الأمر الذي دفع السلطة المصرية للحفاظ على استقرار سعر الصرف بعد ذلك للتدليل علي نجاح سياساتها الاقتصادية، وللسيطرة علي الأسعار في الداخل، علاوة علي الحفاظ على السعر المناسب للمستثمرين في أدوات الدين المحلية حين تخارجهم.
وجاءت أزمة كورونا لتزيد الأمر تعقيدا حيث تسببت في أزمة تضخم عاتية أصابت العالم جراء محاولات الإنعاش الاقتصادي وتعويض الخسائر الناجمة عن الأزمة، وبالطبع انتقلت تلك الموجة التضخمية العالمية إلى المواطن المصري الذي لم يكن قد تعافي بعد من موجة التضخم الأولى في أعقاب اتفاق صندوق النقد الدولي والتعويم.
وكان من المنطقي انتقال موجة التضخم العالمي إلى اقتصاد يعتمد على استيراد معظم احتياجاته من الخارج، ولم ينجح في شحذ فاتورة صادراته، الأمر الذي زاد من تخوفات السلطة من اتحاد وتكامل بين التضخم المستورد والتضخم المحلي الذي قد يطرأ كنتيجة لانخفاض قيمة الجنيه، فجاهدت في تثبيته (كما يتضح من الشكل التالي) مما تسبب في اتساع الفجوة بين قيمته الحقيقية والسوقية بمرور الوقت.
وعلي سبيل المثال أشار بنك جولدمان ساكس – قبل اندلاع حرب أوكرانيا بأكثر من شهرين- بأنّ النماذج التي لديه تشير إلى أنّ الجنيه أصبح مقوما بأكثر من قيمته بنحو 15%، بما يعني أنّ القيمة العادلة لسعر الدولار مقابل الجنيه تتجاوز 18 جنيهاً، وقلل البنك من أهمية النسبة الحالية مقارنةً بنسبة 40% التي كانت موجودة قبل التعويم الأخير [6].
وبذلك فإن السلطة النقدية باتت في معضلة هل تخفض قيمة الجنيه فيتأجج التضخم المشتعل أساسا، علاوة على الأثر السلبي الكبير لهذا النسبة (15%) علي صافي الفائدة الحقيقية التي من المحتمل أن يحصل عليها مستثمرو الأموال الساخنة، والتي من المرجح انخفاضها حال تطبيق هذا الانخفاض، وببساطة فإن هذا الانخفاض كفيل بالإطاحة بكل عوائد السندات التي يحصل عليها مستثمرو أدوات الدين بالجنيه المصري في عام كامل.
ولذلك فقد جاء قرار البنك المركزي بالتخفيض المتوقع للجنيه مقرونا برفع سعر الفائدة بمقدار 1%، ليقدم بذلك مصلحة المستثمرين الأجانب في أدوات الدين المحلية على الأغلبية المطحونة من الشعب المصري، وليستبق موجة من الدولرة والسوق السوداء كانت قد بدأت ارهاصاتها فعليا.
عموما قد حدثت بالفعل موجة التخفيض الأولي للجنيه والرفع الأولي لمعدل الفائدة، ومن المرجح أنهما لن يكونا الأخيرين، فطبقا لمونيت دوس، محلل أول للاقتصاد الكلي وقطاع الخدمات المالية في بنك الاستثمار “اتش سي”، أنَّها “تتوقَّع انخفاضاً تدريجياً في قيمة الجنيه خلال عام 2022، نظراً للضغوط على ميزان المدفوعات في مصر، بسبب جدول سداد الديون الخارجية لمصر”. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا التوقع كان قبل اندلاع الحرب الأوكرانية، علاوة علي تأكيدها أن الانخفاض سيكون لأكثر من مرة (تدريجيا).
كما تشير نائب رئيس البحوث في “زيلا كابيتال” إلى أنه “ما تزال أساسيات الجنيه المصري على المدى المتوسط والطويل غير مواتية، بالإضافة إلى الاعتماد المتزايد على تدفقات رأس المال، وما يزال ميزان المدفوعات يعاني من انخفاض مستوى الاستثمار الأجنبي المباشر، والنمو المتواضع في الصادرات غير النفطية.”
والسؤال المنطقي بعد استعراض هذه الآراء حول أسباب الانخفاض ثم توقعات الانخفاض التدريجي، هل من الممكن أن يحدث تغيير يذكر لهذه العوامل المؤثرة في قيمة الجنيه في الأجلين القصير أو المتوسط؟ والاجابة الواضحة أنه لن يحدث أي تغيير يذكر علي مستوي تدفقات الاستثمارات الأجنبية أو عجز الميزان الجاري أو أية تغييرات ذات أهمية لعناصر مؤثرة في تدفقات النقد الأجنبي (سوى الديون والودائع الخليجية)، الشيء الوحيد الذي ربما يعاود الظهور مع الرفع المتوالي لسعر الفائدة هو الأموال الساخنة، ومن المرجح ألا تعود لقيمتها العالية سريعا لا سيما في ظل تنافس الاقتصادات الناشئة عليها، وفي ظل الرفع المتتالي أيضا لسعر الفائدة الأمريكية.
2- السياسات التقشفية (المالية)
التزايد المنتظر لعجز الموازنة العامة والناتج من الارتفاع العالمي لأسعار السلع التي تستورده مصر من المرجح ان تقابله الحكومة بموجة كبيرة من التقشف، ربما لن يكون التقشف كما تعرفه الأدبيات الاقتصادية والذي يعني خفض الانفاق الحكومي، حيث يتركز معظم الانفاق في بنود ثابتة يصعب التجرؤ عليها، ولكنه سيكون على استحياء في تأجيل بعض النفقات الاستثمارية لمخصصات بعض الهيئات، ومن المؤكد انه لن يقترب من آلاف العسكريين المنتشرين في الجهاز البيروقراطي للدولة، وأنه لن يمس كذلك أجور كبار موظفي الدولة.
من المرجح أن تنصب معظم السياسة المالية المعدلة على جانب الإيرادات، فرفع أسعار الوقود وازاحة ما تبقي من الدعم تدريجيا، ورفع أسعار السلع التموينية، وأمنيات الحكومة برفع سعر الخبز المدعوم، علاوة علي زيادة رسوم الخدمات الحكومية، ومن المؤكد كذلك أن نشهد موجة جديدة من زيادة الضرائب غير المباشرة علي القيمة أو غيرها، وكذلك رفع الضرائب الجمركية، وحتى توجهات الدولة بالانتقال بالدعم نحو القطاع الخاص عبر دعم سعر الغاز والكهرباء للمصانع من المرجح أن تتباطأ إلى حد كبير.
وسيبقى دائما تقليل المصروفات العامة الملاذ الأخير للحكومة في إطار سعيها نحو خفض عجز الموازنة، ومهما كانت إجراءاتها تجاه الإيرادات فلن تؤدي إلى النتائج المرجوة في ظل سيطرة الاقتصاد غير الرسمي على 55% من الاقتصاد المصري.
3- الاقتراض الخارجي
يعني نزوح 15 مليار دولار من أدوات الدين المحلية تآكل نسبة لا يستهان بها من الاحتياطي النقدي، كما أن سداد المستحقات على مصر من أقساط وفوائد القروض الخارجية في العام الحالي والبالغة 14.9 مليار دولار، يعني تبخر الاحتياطي في عام واحد ولن يتبقى لتمويل الصادرات الا حوالي 10 مليار دولار فقط كافية لأربعة أشهر على الأكثر، وذلك يعني أن السلطة في طريقها نحو موجة جديدة وكبيرة من التوجه نحو الاقتراض الخارجي.
دأبت السلطة المصرية في الأونة الأخيرة على الحفاظ على الاحتياطي النقدي في حدود 40 مليار دولار، وهو الاحتياطي الذي يكفل تحكمها في سعر الصرف، وفي ظل تآكل نسبة لا يستهان بها من الاحتياطي من المنطقي أن نتكلم عن زيادة غير معتادة في الاقتراض الخارجي، ربما تتوقف إلى حد كبير على إيجاد المصادر المستعدة للإقراض.
ومؤخراً أعلنت الحكومة المصرية بعد طول نفي أنها تتفاوض مع صندوق النقد الدولي بشأن قرض جديد، وكانت مصر قد لجأت إلى صندوق النقد الدولي 3 مرات في السنوات القليلة الماضية حيث:
- اقترضت 12 مليار دولار في إطار برنامج “تسهيل الصندوق الممدد” في نوفمبر/تشرين الثاني 2016.
- و2.8 مليار دولار بموجب اتفاق “أداة التمويل السريع” في مايو/أيار 2020.
- و5.2 مليارات دولار بموجب أداة “اتفاق الاستعداد الائتماني” في يونيو/حزيران 2020.
أي بمبلغ إجمالي 20 مليار دولار تضع مصر في المرتبة الثانية عالميا في حجم الاقتراض من الصندوق بعد الأرجنتين، وقد تسربت مؤخراً أنباء عن التفاوض على 8 مليار دولار كقرض جديد، لكن من الواضح أن هناك اختلافا حول قيمة القرض وليس مبدأ تقديم القرض ذاته، لان المفاوضات بدأت منذ فترة وكان الطرفان ينتظران الذريعة التي سيعلنان ويعللان بها القرض، فالطرف المصري ما فتئ يتحدث عن إنجازاته الاقتصادية، وصندوق النقد دائما ما يتباهى بما يسميه بالنموذج المصري، وإعلان القرض الجديد يضرب مصداقية الطرفين، وجاءت الحرب على أوكرانيا لتوفر المناخ الملائم للإعلان.
الخلاف بين الطرفين يدور حول آلية الحصول علي القرض، حيث رفض صندوق النقد اقتراحا مصريا بأن يتم منح القرض باستخدام نفس الآلية التي حصلت بها مصر على قرض 2016، لأنه استند إلى أن هذه الآلية تمثل حالة استثنائية ترتبط فقط بالأزمات الكبيرة، وأوضح أن الآلية المطروحة حاليا هي آلية الاستعداد الائتماني، التي تماثل قرض 2020، إلى جانب وجود شروط ملحقة بالقرض سيكون على مصر الالتزام بها نظرا لتجاوز القروض التي حصلت عليها مصر الحد المتاح لها.
عموما يبدو أن تأخر المفاوضات حتى الآن ليس بسبب الشروط التقشفية الجديدة التي من الواضح أن الإدارة المصرية لا تبالي بها كثيرا، ولكن لأن صندوق النقد أعرب عن إحباطه من انخفاض الاستثمار الخاص، وعدم استجابة الجانب المصري لمطالب الصندوق بتعديل قانون المنافسة، بالإضافة إلى الشرط الأهم للصندوق وهو توقف مصر عن دعم سعر الجنيه في السوق[7]. وذلك يدعم الآراء القائلة بالخفض المتدرج لأكثر من مرة خلال الفترة القادمة لا سيما بعد الحصول على القرض، وأن الإسراع برفع سعر الفائدة وخفض قيمة الجنيه بشكل مفاجئ جاء ليتيح مباحثات أكثر نجاحا مع الصندوق.
عموما فمن الجدير بالذكر أن مرونة سعر الصرف التي يطالب بها الصندوق ستكشف زيف الادعاءات التي تروجها السلطة بتقدم الاقتصاد المصري، كما أن المنافسة ستخلع تدريجيا هيمنة الجيش علي الاقتصاد ومن ورائها حمايته للنظام، ومن المرجح أن يقبل النظام بالأولي إلى حد ما، وأن يتحايل علي الثانية بالتوسع الكبير في ملكية الجهات السيادية للمشروعات ثم التنازل بالبيع لنسبة لا تساوي حجم التوسعات السابقة وبما يعني زيادة الملكية والهيمنة.
لن يتوقف الاقتراض بالطبع عند صندوق النقد الدولي، ولكنه سيمتد إلى كل سوق ممكنة أو محتملة للاقتراض الخارجي بالسندات باليورو أو بالدولار أو بسندات الساموراي أو بأي عملة أجنبية ممكنة، بل أن أهمية قرض صندوق النقد تكمن بالأساس في كونه شهادة تسمح للأخرين ببعض الثقة في الاستمرار في عملية الإقراض. ويمتد هذا أيضا إلى ودائع خليجية جديدة على غرار ماتم الإعلان عنه مؤخرا عن وديعة جديدة بمقدار 5 مليار دولار من المملكة العربية السعودية في البنك المركزي، والحديث أيضا عن وديعة كويتية جديدة، فضلا عن مد أجل بعض الودائع القائمة بالفعل.
ويشير أحد تقارير بنك الاستثمار هيرميس[8]، إن مصر تستعد أيضا للاستفادة بـ 2 إلى 4 مليار دولار من صافى التدفقات الداخلية مع إدراجها فى مؤشر”JP Morgan Global Emerging Market “ للأسواق الناشئة. وهو الخطوة التي من المرجح تسارعها بشدة خلال الفترة القصيرة القادمة.
وفي إطار اللجوء إلى الاقتراض الخارجي تجدر الإشارة ليس فقط إلى اضطرار السلطة بدفع أعلي أسعار الفوائد في العالم للاقتراض نظرا للظروف السلبية الجمة المحيطة بالاقتصاد المصري، ولكن أيضا تحمل قيمة ارتفاع تكلفة التأمين على ديون مصر السيادية، والتي بلغت طبقا للشكل التالي 19% منذ بداية العام، ووصلت إلى أعلى مستوى لها منذ مايو 2020، وسط تراجع في صافي الأصول الأجنبية بالبنوك المصرية، وارتفاع العوائد على السندات السيادية المستحقة في 2029 و2032.
وبالطبع تتزايد أهمية مدفوعات التأمين على القروض الخارجية في ظل التنامي الحاد لها منذ عام 2013 حين كانت قيمة هذه الديون 47 مليار دولار مقارنة بحوالي 137.4 مليار دولار بنهاية سبتمبر عام 2021، مما يشكل الزيادة إلى 3 أضعاف قيمتها في ظرف 8 سنوات فقط.
ويجدر الإشارة كذلك إلى أن القروض الثنائية سيكون لها دور كبير خلال الفترة القادمة، وستبرز على الأرجح الصين كرافعة للاقتصاد والنظام المصري، ويعرف القاصي والداني حجم الاشتراطات والرهونات الصينية للاقتراض، وربما تتعرض الأصول المصرية المرهونة للمصادرة من الجانب الصيني حال التوقف عن السداد، كما تشير العديد من تجارب الدول الافريقية.
4- بيع الأصول المملوكة للدولة (الخصخصة)
ربما يبدو هذا الأمر معلنا مسبقا وليس وليد التطورات الحالية، حيث أعلنت الحكومة المصرية مرارا وتكرارا عن برنامجها للطروحات الحكومية، والشركات المزمع خصخصتها، والذي تأجل لأكثر من مرة منذ عام 2018 بحجة تراجع أسعار الأسهم، والانتظار حتى تعاود الارتفاع، ولكن الجديد في هذا أنه أصبح ملحاً لمواجهة التحديات الحالية.
ومؤخرا أعلنت وكالة “بلومبيرغ“، إن صندوق أبوظبي السيادي ممثلا في شركة أبوظبي القابضة ADQ أجرى محادثات مع مصر لشراء حصص مملوكة للدولة المصرية في بعض من أهم الشركات العامة الناجحة، وعلى رأسها حصة 18% في البنك التجاري الدولي، وشركة «فوري» للخدمات المصرفية وتكنولوجيا الدفع، وحصص مملوكة للحكومة المصرية في شركات أبو قير للأسمدة والصناعات الكيماوية و شركة مصر لإنتاج الأسمدة “موبكو”، وشركة الاسكندرية لتداول الحاويات والبضائع، بإجمالي 2 مليار دولار.
ويكشف الإعلان عن هذه المبيعات الحكومية للإمارات عن عدة أمور، من بينها الأمور التي اعتدناها من الحكومة المصرية مثل بيع الشركات الأعلى ربحية مثل البنك التجاري الدولي، والشركات الاستراتيجية عالية الربحية أيضا مثل شركات الأسمدة. وكذلك تعمق حالة عدم المكاشفة في تقييم الشركات بالطرق المعتاد عليها في ذلك الاتجاه.
إلا أن الجديد في ذلك ربما سيكون تقديم خيار بعنوان “اختر ما تريد للشراء” فما أعلن عن بيعه للإمارات لم يكن بأية حال مطروحا للبيع وفق برنامج الطروحات الحكومية المعلن والذي كان يعرض بنك القاهرة على سبيل المثال، وهو الأمر الذي يوضح حجم المأزق الذي تورطت فيه السلطة المصرية.
كما أعلن مؤخرا في إطار التقارب المصري – القطري الاتفاق على أن تستثمر قطر مبلغ 5 مليارات دولار في مصر، يرجح أنها ستكون في شراء أصول مثيرة للشهية على غرار الاتفاق مع الإمارات، وتبع ذلك الإعلان عن توقيع صندوق مصر السيادي اتفاقية مع صندوق الاستثمارات العامة السعودي، بشأن استثمار الصندوق السيادي السعودي في مصر ما يصل إلى 10 مليارات دولار بالتعاون بين الصندوقين في مختلف القطاعات، بما في ذلك التعليم والرعاية الصحية والزراعة والقطاعات المالية.
التسارع الكبير في التفريط في أصول الدولة الاستراتيجية بأبخس الأثمان عنوان المرحلة القادمة للخصخصة، والاستمرار في تنفيذ المشروعات القائمة، والحفاظ على القواعد الاقتصادية والسياسية لأصحاب المصالح ستبقي العناوين العريضة للمرحلة القادمة، ويجدر الإشارة هنا إلى أن الأثمان المدفوعة لتلك الأصول هي مبالغ ضئيلة مقارنة بالالتزامات على الحكومة المصرية، القديمة منها والحديثة المترتبة على الأزمات الدولية، وستتبخر بذات الطريقة التي تبخرت بها تلال القروض الخارجية.
ثالثا: هل الاقتصاد المصري معرض للإفلاس
أشار الاستعراض السابق لمجمل المستجدات التي أصابت الاقتصاد المصري مع بداية التعافي العالمي من فيروس كورونا والتي تعمقت مع اندلاع الحرب على أوكرانيا، والمتكاملة مع الأوضاع السيئة المستمرة للاقتصاد المصري جراء السياسات الاقتصادية المتبعة، مما يدفع باتجاه مخاطر كبري قد تقود الاقتصاد إلى عدم القدرة علي سداد التزاماته الخارجية، لا سيما في ظل أن البدائل المطروحة أمامه ذات طبيعة متغيرة نتيجة الظروف العالمية متسارعة التقلب، ومن هنا نحاول في الجزء التالي الإجابة عن التساؤل حول الاقتصاد المصري وإمكان تعرضه للإفلاس.
مفهوم الإفلاس السيادي:
الإفلاس السيادي Sovereign default)) هو فشل أو رفض حكومة دولة سداد دينها بالكامل، أو الحصول على أموال من جهات خارجية لدفع ثمن ما تستورده من البضائع والسلع، وقد يرافقه إعلان رسمي من قبل الحكومة بعدم السداد (الرفض) أو السداد الجزئي لديونها (المبالغ المستحقة)، أو الوقف الفعلي للدفعات المستحقة.
وتقترض البلدان والكيانات السيادية الأموال في أسواق السندات المحلية والدولية لتمويل بنود الميزانية المختلفة مثل برامج البنية التحتية وخدمات الرعاية الصحية، ويجوز لأي بلد إصدار سندات للمستثمرين مع التزام تعاقدي بدفع المبلغ الأصلي والفائدة لحملة السندات، تضمن الحكومة سداد مدفوعات حاملي السندات باستخدام عائدات الضرائب التي جمعتها من مواطنيها.
ومع ذلك، خلال فترة الدين، قد تواجه الحكومة مشاكل في التدفق النقدي بسبب عوامل مختلفة مثل عدم الاستقرار السياسي، وضعف الاستثمار، وسوء إدارة أموال المستثمرين، وما إلى ذلك.
ويجب التفرقة ما بين طلب دولة متعثرة عن السداد من دائنيها إعادة هيكلة ديونها وبين رفض الدولة سداد الديون المستحقة عليها، حيث في الحالة الأولي (التعثر) قد تتجه بعض الحكومات لطلب مد استحقاق السداد، وقد تطلب خفض قيمة الدين أو شطب جزء منه بالاتفاق مع الدولة الدائنة، كما حدث عام 2001 عندما طلبت الأرجنتين سداد ثلث ديونها البالغة 81 مليار دولار، بينما في الحالة الثانية (الإفلاس) تعلن الدولة عدم السداد كليا أو جزئيا.
كما يجب التفرقة كذلك بين التوقف عن سداد الديون السيادية للدول (إفلاس الدول) وبين إفلاس الشركات، ففي حالة الشركات يصعب على الدائنين الحجز على أو مصادرة ممتلكات أو كيانات ذات سيادة، بينما يسهل عليهم الاستحواذ على أصول شركة.
عند الاستثمار في الديون السيادية يراقب حاملو السندات الاستقرار السياسي والبيئة المالية للكيان السيادي لتحديد مخاطر التخلف عن السداد السيادي، وعندما يشك حاملو السندات في احتمال تقصير الحكومة في الوفاء بالتزاماتها المتعلقة بالديون، فقد يسعون إلى مراجعة أسعار الفائدة للتعويض عن زيادة مخاطر التخلف عن السداد.
يُعرف مثل هذا السيناريو بأزمة الديون السيادية، وهو أمر شائع في الحكومات التي تعتمد على الاقتراض قصير الأجل لأنه يخلق عدم توافق بين السندات قصيرة الأجل والقيمة طويلة الأجل للأصول الممولة من خلال الديون.
عموما يحدث الإفلاس السيادي بعد سنوات من الإنفاق المفرط وميزانيات الطوارئ، مع تسوية عجز الموازنة والميزان الجاري باستخدام ديون جديدة من المستثمرين المحليين والدوليين، والاعتماد على القروض الجديدة لخدمة الديون القديمة، ويشير ذلك إلى فساد الهيكل الإداري للدولة، وغياب الإفصاح والشفافية.
دول تعرضت لإعلان إفلاسها من قبل
وفي قائمة بلدان العالم الأكثر وقوعا في الإفلاس، تتصدر الإكوادور، التي أعلنت إفلاسها 10 مرات، وبعدها تأتي البرازيل والمكسيك، وأوروجواي، وتشيلي، وكوستاريكا، وإسبانيا، وروسيا، بإعلان إفلاسها 9 مرات خلال القرنين الماضيين، وألمانيا 8 مرات.
وفي 17 أغسطس في العام 1998، أعلنت روسيا إفلاسها، بعد عجزها عن سداد الديون الخارجية المتراكمة جراء إصدارات سندات حكومية قصيرة الأجل، وبسبب الأزمة الاقتصادية الناتجة عن تحولها من دولة شيوعية إلى دولة رأسمالية، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في 25 ديسمبر 1991.
وفي عام 2001، أعلنت الأرجنتين إفلاسها، بسبب الأزمة المالية وتعاظم الديون، وقال الرئيس الأرجنتيني أدولفو رودريجز، حينها، أنه قرر وقف سداد الديون الأجنبية الهائلة المترتبة على بلاده، حيث كان البلاد غارقة في كساد منذ أربع سنوات، وكانت ديون الارجنتين تبلغ 132 مليار دولار.
تداعيات الإفلاس السيادي على الدول:
يري البعض أن إعلان الدولة إفلاسها يمثل فرصة جيدة لها للإفلات من قبضة الدائنين، وأنها خطوة جريئة يمكن لبعض الدول اتباعها لإنقاذ اقتصادها، ولكن هؤلاء يتجاهلون التداعيات التي تحدث مباشرة عقب إعلان الدولة إفلاسها ومنها:
- عندما تتخلف الدولة عن سداد ديونها، فإنها تصبح أقل جاذبية للمستثمرين، وسيصبح من الصعب على الدولة الوصول إلى أموال جديدة من سوق السندات الدولية. كما ستقوم وكالات التصنيف الائتماني بمراجعة وضعها المالي ومنحها تصنيف ائتماني منخفض، يتحدد وفق عوامل مختلفة من بينها التخلف عن السداد الإجرائي، وعدم الالتزام بشروط وأحكام الدين، ومصروفات الفائدة على القروض.
– كما أنه سيعقب إعلان دولة إفلاسها حدوث هزة اقتصادية عنيفة على الصعيد المحلي حيث يندفع المستثمرون وأصحاب المدخرات – الذين يتوقعون هبوطا قويا في قيمة العملة المحلية – لسحب أموالهم من الحسابات المصرفية ونقلها خارج البلاد.
– تلجأ الحكومة المتعثرة في سداد الديون من أجل وقف هبوط قيمة العملة ومسحوبات الأموال إلى إغلاق البنوك وفرض قيود على حركة رؤوس الأموال.
– أما على الصعيد الخارجي وكعقاب على التعثر في السداد، تفرض أسواق رأس المال إما معدلات اقتراض عقابية أو رفض الإقراض مجددا، ثم تصدر وكالات التصنيف الائتماني تحذيرات بشأن الاستثمار في الدولة المتعثرة.
– تتم تسوية الديون أو إعادة هيكلتها بين الحكومات المتعثرة والدائنين دون وجود قوانين دولية تنظم هذا الأمر، ولكن التفاوض بشأنها يكون مكلفا ومرهقا لجميع الأطراف حتى يتم التوصل إلى اتفاق مرض.
– تكون تداعيات التعثر عن السداد مؤلمة للدولة المدينة خاصة لو كان الأمر غير متوقع وغير منظم وتؤثر على اقتصادها بشكل فوري فضلا عن تأثيرها السلبي علي تصنيفها الائتماني.
– هل الدولة المصرية معرضة للإفلاس
بداية تجدر الإشارة إلى أن إعلان الإفلاس قرار حكومي تتداخل فيه العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ويتوقف في الأساس على طبيعة نظام الحكم القائم وعلاقته بالفواعل المجتمعية الرئيسية، كما يتوقف على عمق الأزمة الاقتصادية وطبيعة المصادر المتاحة داخليا وخارجيا للمساندة الاقتصادية.
كما تجدر الإشارة إلى أن حالة الإفلاس لها العديد من المقدمات الاقتصادية التي قد تتوافر بعضها في حالات وبعضها الآخر في حالات أخرى، الأمر الذي يعني أن السقوط لا يكون عموديا ومفاجئا، بل متدرجا وأفقيا وخلال فترة زمنية قد تمتد لعقد من الزمان وربما أكثر.
وفي الحالة المصرية فمن المرجح أن الأوضاع السياسية الداخلية لسلطة قفزت على السلطة بانقلاب عسكري لا يسمح حتى بالتلويح بالتوقف عن السداد ولو جزئيا، ويدفعها إلى امتطاء أية وسائل تمكنها من الإفلات من فخ الإفلاس مهما كانت التكاليف الاقتصادية والاستراتيجية والاجتماعية لاستخدام تلك الوسائل، وبالتالي فإن حالة الإفلاس ربما تختلف عن الحالات الطبيعية المشار إليها سابقا بحيث تأخذ شكل السقوط والتداعي السريع كنتيجة لاستمرار المقاومة حتى النفس الأخير.
وبناء على ذلك فإن البحث حول الوسائل المتاحة للسلطة المصرية في الأجلين المتوسط والقصير يمكن أن توضح بقدر معقول من الدقة درجة ومدة صمود الاقتصاد المصري ضد شبح الإفلاس.
ومن الجدير بالذكر قبل تحليل تلك الوسائل الانتباه إلى أن الاقتصاد المصري بات داخل دائرة مفرغة من عملية تدوير القروض كما ذكرنا سابقا، بمعني الاقتراض الجديد لسدادا أقساط وفوائد القروض القديمة، وأن الإفلات من هذه العملية يتطلب توفير 140 مليار دولار تقريبا وهو مقدار القروض الأجنبية نقديا (بفرض توقفها عند تلك القيمة دون زيادة)، وهو المبلغ الذي قد يساوي ضعف قيمة ما تبقي من أصول القطاع العام المصري.
ذلك يعني ببساطة أن حالة الاستمرار في الاقتراض والاعتماد على الأموال الساخنة باتت تعد حالة راسخة دائمة تعتمد عليها الدولة حتى في الأجل الطويل، لا سيما في ظل عجز الإنتاج المحلي وفشل التصدير وتصميم السلطة علي المضي قدما في مشروعاتها “المبهرة”، وبالتالي من المنطقي أن تتخطى آثار القروض الخارجية السلطة الحالية إلى سلطات مصرية قادمة، وذلك ما يرجح الاستنتاج السابق أن البحث في مصادر الأموال المتاحة حالا واستقبالا هو الذي يمكن من خلاله الإجابة عن التساؤل حول عرضة الاقتصاد المصري للإفلاس.
وقد أسهبت الورقة في فقرات سابقة في التعريف بالوسائل التي من المتوقع أن تعتمد عليها السلطة ليس فقط في الموقف الراهن، ولكنها ستعد بمثابة نهجا اقتصاديا مستمراً، ستظهر فيه السلطة الحالية ومن يخلفها من سلطات بمظهر حكومات تسيير الأعمال التي لا تملك من أمرها شيئا، والتي تنتقل بمرور الوقت من التبعية الجزئية والوظيفية إلى الانبطاح الشامل لأوامر المالكين لأمر تلك الوسائل.
ويشير الاستعراض السابق لتلك الوسائل إلى أنها تتمثل بالأساس في أدوات الدين المحلية، والاقتراض الخارجي بأنواعه ومصادره المختلفة، وبيع الأصول المملوكة للدولة، فضلا عن السياسات المالية التقشفية، وسيلجأ النظام إلى كل أو بعض هذه الوسائل وفقا للظروف الاقتصادية العالمية والمحلية، والتي وإن كانت لا تزال تعطيه بعضا من الخيارات والمخارج، إلا أنه ليس من المرجح أن تستمر في نفس درجة المرونة و الإتاحة لفترة طويلة، لا سيما في ظل التصاعد المتوقع لأرقام الديون و الالتزامات الخارجية، إضافة للمتغيرات السياسية التي يمكن أن تغير من طبيعة الدعم الدولي و الإقليمي لمنظومة الحكم، وهو الأمر الذي سيقدم وسيلة في مرحلة معينة ويؤخرها في مراحل أخرى، ويجعل الفجوة بين المطلوب و المتاح تتصاعد بسرعة، قد تكون حادة في ظروف معينة.
وتوجد اثنتان من بين الوسائل المذكورة تقع نظريا تحت تحكم السلطة المصرية، وهما التقشف في السياسات المالية، سواء بخفض الإنفاق أو زيادة الإيرادات العامة عبر الأدوات التي تم التطرق إليها سابقا، وكذلك بيع الأصول المملوكة للدولة، ورغم أن القرار فيهما نظريا في يد السلطة إلا أن الإقدام على تنفيذ أي منهما واقعيا يخضع لحسابات ربما تتعدي الحدود الاقتصادية إلى زوايا أمنية وسياسية يخرج بحثها عن إطار هذه الدراسة.
فعلي سبيل المثال فإن زيادة الإيرادات العامة عبر فرض المزيد من الضرائب يخضع فنيا للقدرات المالية للممولين، وفي ظل الانكماش الاقتصادي المستمر الذي تعانيه الدولة المصرية من جهة، والتضخم المتصاعد من جهة أخرى، فمن المرجح أن تنكمش أعداد الممولين وقدراتهم التمويلية، وبالتالي تصبح الحصيلة الضريبة رهينة لكبار الممولين، وتتآكل مرونة الايراد الضريبي، بمعني انخفاض استجابته للزيادة التي تطلبها السلطة.
كما أن الأمر ينطبق على بقية الإيرادات العامة من الرسوم علي الخدمات الحكومية التي كادت أن تبلغ حدا أقصي مبالغا فيه مقارنة بنظيراتها في دول العالم المختلفة، وحتى فرضية بقاء قدرات البنوك المحلية في تمويل القروض العامة علي حالها محل شك كبير، وقد رأينا مؤخرا كيف تآكلت 85% من احتياطيات النقد الأجنبي في البنوك التجارية في العام الماضي، بالإضافة إلى الأثر السلبي لاشتداد مزاحمة الحكومة للقطاع الخاص علي هذه الأموال.
أما عن تخفيض المصروفات العامة، فالموازنة العامة تلتهم مصروفاتها الفوائد، وقريبا لن يتبقى للأجور مصدرا داخليا لتمويلها، الأمر الذي يعني أن هامش امتلاك السلطة لأدوات تخفض تلك المصروفات محدود للغاية ولا يعدو بضعة مليارات من الجنيهات لن تنفع الحكومة في شيء يذكر.
وبالنسبة لبيع الممتلكات العامة للدولة فمن المرجح أنه الوسيلة التي تمتلكها الدولة نظريا وعمليا، فبداية تمتلك الدولة المصرية سلسلة ضخمة من تلك الأصول، كما أنها تتنوع بين قطاعات الأنشطة الاقتصادية المختلفة من تعدين وبترول وصحة وصناعة وغيرها الكثير، وتتميز الإنتاجية منها بتوافر الايدي العاملة الرخيصة والسوق الداخلية المحتاجة، وشبكة النقل الداخلي والموانئ الجاهزة للتصدير، وكلها أمور شديدة الجاذبية للمستثمر الأجنبي، الذي تضمن له سفارته وتحالفاته في الداخل المصري معاملة أكثر تميزا بمراحل عن نظيره المصري، حتى في ظل التغول الواسع للأجهزة السيادية على المراحل المختلفة للعمليات الإنتاجية والتسويقية.
كما أنه من عوامل جذب هذا المستثمر الأجنبي المشتري قدرته على المساومة السعرية- والشراء بأبخس الأثمان- مع طرف واحد فقط في الدولة المصرية، فلا توجد آليات واضحة للتسعير، ولا أحد يستطيع أن يراقب أو يطعن على العقود الحكومية المحصنة بقوة القانون، وربما يستطيع في المستقبل اختيار المشروع الذي يريده، حتى لو لم يكن مطروحا على الأجندة البيعية للدولة.
وباختصار يرجح الباحث الاعتماد المفرط للدولة على بيع ممتلكاتها العامة خلال الفترة المقبلة كوسيلة أساسية للوفاء بالتزاماتها، وستستطيع أن تسوق ذلك جماهيريا بصورة أو بأخرى، تارة تحت بند البيع الكلي المباشر كما في الحالات الإماراتية أو القطرية الأخيرة، وأخرى تحت مظلة الصندوق السيادي كما في حالة الاتفاق السعودي مؤخرا، وثالثة بالمشاركة وهكذا، وما يزيد من ترجيح هذا التوجه أنه لا يلقي أية أعباء على شرائح عريضة من المواطنين، وسيتمكن المشتري بمعاونة القبضة الأمنية رضاء أو جبرا من اسكات المتضررين من العمال.
ومن الجدير بالذكر أن الترجيح السابق لتزايد بيع الممتلكات العامة والاعتماد عليها كمصدر مهم لمواجهة الاحتياجات من النقد الأجنبي لا يعني بأي حال عدم استخدام بقية الوسائل الأربعة، ولكن المقصود حقيقة هو وضعها في المركز الأول انطلاقا من التحكم الكامل للسلطة فيها وعدم اكتراث الشعب وعدم تضرره كثيرا (ظاهريا وفوريا ) ببيعها، ولكن سيبقي استخدام الوسائل الثلاثة الأخرى رهينة للظروف الداخلية والخارجية.
أما عن الأموال الساخنة والاقتراض الخارجي فهما وسيلتان النسبة الكبرى من المتغيرات التي تتحكم بهما لا تقع تحت السيطرة، كما أنهما يختلفان من حيث العوامل المؤثرة في إمكانية الاعتماد عليهما.
فنظريا تجتذب معدلات الفائدة المرتفعة الاستثمار في أدوات الدين المحلية، ولكن تبقي الملاذات الآمنة لتلك الأموال والتي تستثمر فيها بالدولار أو بالعملات الدولية المستقرة منافسا خطيرا ودائما لبلدان الأسواق الناشئة، وسرعات ما تهرب هذه الأموال برفع بسيط في معدل الفائدة في هذه الملاذات، وهو الأمر الذي يعني سباقا علي المزيد من رفع سعر الفائدة علي هذه الأموال.
ولكنه يتبقى أنه في ظل حرص تلك الأموال على التنويع الجغرافي للاستثمار وتوزيع المخاطر وكذلك تقلب أحوال الاقتصادات الكبرى بين التضخم والتوازن فمن الممكن القول باستبقاء وجذب نسبة منها تساعد على بعض الاستقرار المؤقت في الاقتصاد المصري.
إلا أنه يجب التنويه إلى استمرار التقلب في كميات تلك الأموال المتاحة خروجا ودخولا، واستمرار رفع الفائدة المحلية للحفاظ على أكبر قدر منها، وما يشكله ذلك من ضغط على تكلفة الإنتاج والتضخم المحلي وعلي بنود الموازنة العامة، إلا أن هذه الوسيلة ستبقي ذات أهمية كبيرة خلال الفترة المقبلة، فما تخارج الآن ربما يعود جزء منه مع استمرار رفع سعر الفائدة، وربما بتوجيهات سياسية لمحافظ استثمار عالمية تعمل علي توليفة ما بين الأصول المحلية المعروضة للبيع والأموال الساخنة الداعمة لافتعال حالة استقرار اقتصادي في مصر، ولكنه من الطبيعي أن يبقي هشا في كل الأحوال.
أما عن الاقتراض الخارجي كمصدر لتمويل المستحقات على الاقتصاد المصري خلال الفترة القادمة، فمن المهم التنويه انه حتى كتابة هذه السطور لايزال التصنيف الائتماني لمصر جيدا، وهو الامر الذي يدعم الاكتتابات في السندات المصرية بأنواعها المختلفة، وحتى بفرض خفض التصنيف الائتماني لدرجة واحدة (حال صدر التصنيف قبل حصول مصر على قرض الصندوق) فالحل سيكون في رفع سعر الفائدة ولو 1 أو 2%، ومع إتمام اتفاقية القرض الجديد مع الصندوق ستبقى الجاذبية الكبيرة للسندات المصرية والناتجة عن تقديمها لأسعار فائدة مرتفعة، وستظل طروحات السندات في الخارج أحد المصادر الهامة لمواجهة الفجوة الدولارية.
لا يوجد شك في موافقة صندوق النقد الدولي على طلب مصر بالاقتراض مجددا، ويبقي الاتفاق على قيمة القرض واشتراطاته تفاصيل سيتم الاتفاق عليها، ولكن تجدر الإشارة إلى أنه لن يكون القرض الأخير، ولن يمر سوي عام واحد حتى تبدأ المناقشات حول الاقتراض من الصندوق مجددا.
كما ستشكل التدفقات للداخل الناتجة عن إدراج مصر فى مؤشر”JP Morgan Global Emerging Market “ للأسواق الناشئة أحد مصادر الدخل المهمة خلال النصف الثاني من العام الحالي والعام القادم.
الخلاصة
دار التحليل السابق حول محاولة الإجابة على تساؤل “هل الاقتصاد المصري عرضة للإفلاس؟” وبعد استعراض المستجدات الطارئة على الاقتصاد المصري والتي تبين أنها عجلت بإظهار أزمات الاقتصاد المصري الكامنة، واستعراض أهم السبل التي من المرجح استناد الاقتصاد المصري إليها لمواجهة تحديات الفجوة الدولارية والالتزامات الخارجية المترتبة على القروض الأجنبية وفوائدها، فإنه يمكن تلخيص ما استنتجته الدراسة في النقاط التالية:
1ـ انزلقت مصر بالفعل في الدائرة الخبيثة للقروض الأجنبية، وبات تدوير القروض بأشكالها المتنوعة أمرا لا مفر منه، ومن المرجح أن يمتد هذا الأمر ربما لعقود قادمة.
2ـ عمّقت أزمة كورونا والحرب على أوكرانيا أزمات الاقتصاد المصري وعجّلت ببروزها وحتمت على السلطة الاعتراف بوجودها والتحرك لمواجهتها.
3ـ ستلجأ السلطة المصرية إلى أربعة مسارات، بدأت في البعض منها بالفعل، لمواجهة أزمتها في المدفوعات الخارجية للديون والفوائد سواء في العام الحالي أو حتى بعد مرور الأزمة الأوكرانية، يمكن ترتيبها وفقا لدرجة الاعتماد عليها كما يلي:
الأول: التفريط (بيع) بالأصول المملوكة للدولة بأبخس الأثمان، وخاصة لمشترين خليجيين.
الثاني: محاولة استبقاء واسترداد أرصدة الأموال الساخنة عبر تسابق تنافسي محموم في رفع أسعار الفوائد.
الثالث: الاقتراض الخارجي بأشكاله المختلفة سيشكل رافعة مهمة للاقتصاد المصري، وستتوالى برامج الاقتراض من صندوق النقد الدولي، وكذلك القروض الثنائية خاصة من الصين والسعي وراء الودائع الخليجية، وغير ذلك.
الرابع: سياسات تقشف الموازنة العامة للدولة والمزيد من الأعباء على المواطنين.
4ـ ستتقدم بعض من هذه المسارات ويتأخر البعض الأخر وفقا للظروف الداخلية والخارجية، وفي حال استمرار الأزمة الحالية سنشاهد اللجوء لجميع الوسائل – إن أمكن- في نفس الوقت.
5ـ النجاح في استخدام كل أو بعض هذه الوسائل من المرجح أن يمدد قدرة الاقتصاد المصري علي مواجهة المخاطر التي سيتعرض لها على المدى القصير، ومن المرجح ألا يتعرض للإفلاس خلال السنوات القليلة القادمة على الأقل، حيث ستستخدم السلطة كل أدواتها المتاحة للحيلولة دون ذلك، خاصة إذا استمر الدعم الدولي و الإقليمي الواضح للنظام القائم، والذي حدا مثلا بدول الخليج على الاتفاق مع الحكومة المصرية في خلال عدة أيام قليلة على مبالغ قد تتجاوز 22 مليار دولار أمريكي في صورة ودائع في البنك المركزي أو شراء أصول مصرية، فضلا عن الاتفاق المنتظر مع صندوق النقد الدولي. لكن ذلك سيعتمد أيضا على مقدار الفجوة بين الاحتياجات والمتوافر من العملات الأجنبية، وعلى مدى استقرار الحالة الدولية والإقليمية، والتي تؤثر كثيرا بالطبع على اقتصاد يعتمد في معظم متطلباته على الخارج، حيث تظهر قيمة المبالغ الضخمة التي تم الاتفاق عليها مؤخرا مدى فداحة الأزمة الحقيقية التي يمر بها الاقتصاد المصري العاجز عن توفير الاحتياجات الأساسية للدولة دون هذا الدعم الخارجي الضخم.
6ـ لا يعني ما سبق من توظيف لهذه الوسائل أن الاقتصاد المصري يمكن أن يتحول للأفضل خلال خمسة أعوام مثلا، لعدم توافر الإرادة ولا القدرة على تغيير هذا الواقع في الوقت الراهن، ومن المرجح استمرار السلطة في إنفاق الأموال على المشروعات منخفضة العائد، بما يعني استدامة الاعتماد على المسارات السابقة.
7ـ ربما في غضون بضع سنوات في الظروف الاعتيادية، أو حال وقوع ظروف قوية غير معتادة تقلل من هذه المدة كثيرا أو قليلا، أن تقل قدرات الاقتصاد المصري علي الصمود، وتحت وطأة المزيد من الانكشاف على الخارج، وربما مع سلطة جديدة، أو حتى تحت نفس السلطة القائمة، سيجبر الجميع على إعلان الإفلاس الاقتصادي.
إذا فالإفلاس الاقتصادي لمصر قادم لا محالة، قد يختلف على تقدير المدة طولا أو قصرا، ولكنه مرجح بشدة في ظل المعطيات الحالية والتحليل والاستنتاجات السابقة، ويبقي إعلان إفلاس الدولة والتهرب من سداد مديونياتها مسألة تحتاج إلى المزيد من البحث والدراسة لموازنة الاثار السلبية والايجابية، ولكنه من المؤكد أنه بعد استنفاذ نتائج تلك المسارات المشار إليها في التحليل، وسيكون إعلان الإفلاس هو الحل الوحيد مهما كانت النتائج المترتبة عليه.
الهامش
[1] تعد هذه الدراسة استكمالا للدراسة السابقة المنشورة في مطلع العام الحالي تحت عنوان” الاقتصاد المصري 2022 ـ 2025: قراءة استشرافية”
[2] بعد خروج “الأموال الساخنة”.. توقعات بانخفاض قيمة الجنيه المصري
[3] ماذا تعرف عن “الأموال الساخنة” ومدى تأثيرها على انخفاض قيمة الجنيه المصري؟
[4] د/ أحمد ذكرالله: الاقتصاد المصري 2022 ـ 2025: قراءة استشرافية
[5] كيف تتضرر السياحة المصرية من حرب روسيا وأوكرانيا؟
[6] الجنيه المصري في 2022.. مؤسسة عالمية متفائلة بقوة
[7] مصر تتفاوض مع صندوق النقد على قرض جديد
[8] توقعات سعر الدولار الأمريكى مقابل الجنيه المصري خلال 2022