fbpx
دراسات

الانتقال الديمقراطي: العوامل والمراحل والأشكال

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

من النادر حدوث عملية انتقال ديمقراطي دون وجود مقدمات تدفع الحكم التسلطي بل تجبره على تقديم تنازلات، فالديمقراطية في كل تجارب الأمم حق ينتزع بالقوة، عندما تصبح تكلفة الحكم التسلطي عالية الثمن، لذلك فهي لا تتم إلَّا ضمن عوامل وأسباب تدفع بالأوضاع نحو التحول الديمقراطي.

الفصل الثالث: عوامل التحول الديمقراطي

حظيت العوامل التي تؤدي إلى التحول الديمقراطي إلى اهتمام الباحثين والمفكرين خاصة أن هذه العوامل تختلف من دولة إلى أخرى لاختلاف الدوافع والأسباب، فقد يكون سبب التحول استجابة لمطالب ورغبات المجتمع المحلي، وقد يكون مفروضاً بالقوة من الخارج، وقد يكون هناك ارتباط بين حصول الدولة على مساعدات ومعونات خارجية ودرجة الإصلاحات الديمقراطية التي تنتهجها.

كما قد تدفع هذه الأسباب مجتمعة بدولة ما إلى التخلي عن النظام السلطوي اللاديمقراطي والسير باتجاه التحول الديمقراطي.

وبالتالي فإنه يمكن القول إن الأسباب التي تؤدي إلى التحول الديمقراطي قد تكون داخلية، وقد تكون خارجية، مع اختلاف درجة تأثير هذه العوامل من حالة إلى أخري، فقد يكون بعضها جوهري وبعضها ثانوي وبعضها داخلي والآخر خارجي.

وفي ذلك الصدد يقول “جابرييل آلموند” و”بنجهام باول”: “إن المبادرة من أجل التغيير السياسي يمكن أن تنبع من ثلاثة مصادر، من النظام السياسي نفسه أي من النخبة الحاكمة ومن الجماعات الاجتماعية في البيئة الداخلية ومن النظم السياسية في البيئة الدولية، وعادة ما تتفاعل هذه العناصر الثلاثة مع بعضها البعض”[1].

ففي حالة الهند مثلاً كان التحول الديمقراطي نابعاً من الداخل، أما في حالة اليابان فقد فرضت عليها الديمقراطية عقب هزيمته العسكرية في الحرب العالمية الثانية، وهناك حالات أخرى ارتبط فيها التحول الديمقراطي برغبة من الدول المعنية في تلقي المساعدات الاقتصادية من الخارج، وهذا إن دل فإنما يدل على أن موجات التحول الديمقراطي تمت في إطار تداخل وتشابك بين مجموعة من العوامل التي يمكن تقسيمها إلى عوامل داخلية وعوامل خارجية.

وسوف نتناول كلاً من العوامل الداخلية والخارجية بشيء من التفصيل وذلك من خلال المبحثين التاليين:

المبحث الأول: العوامل الداخلية.

المبحث الثاني: العوامل الخارجية.

المبحث الأول: العوامل الداخلية

عندما تتفاقم حدة الأزمات الداخلية ويفشل النظام الاستبدادي غير الديمقراطي عن مواجهتها بفاعلية لتصل إلى درجة التأزم يؤدي ذلك إلى تحريك عملية التحول الديمقراطي، وهذه الأزمات قد تكون سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية وقد تنشأ نتيجة هزيمة عسكرية، وهذه العوامل متعددة ونشير إليها على النحو الآتي:

أولاً: العامل الاقتصادي والتحول الديمقراطي

يعد العامل الاقتصادي من أهم العوامل المحركة لعملية التحول الديمقراطي، فهو من العوامل شديدة التأثير سواء سلباً أو إيجاباً على الديمقراطية، فالعلاقة بين الاقتصاد والسياسة شديدة الترابط والتداخل لدرجة أن البعض يرى أن الاقتصاد هو الذي يحدد شكل المؤسسات السياسية من حيث الهيكل الوظيفي، بينما يرى البعض الآخر أن الشكل السياسي للدولة هو الذي يحدد نوعية السياسات الاقتصادية وكيفية توظيف الموارد.

إلَّا أنه من المؤكد أن تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية يعتبرا من العوامل المؤثرة والحاسمة في اهتزاز شرعية الأنظمة السياسية، وظهر ذلك جلياً في الكثير من الانتفاضات والمظاهرات التي عمت بعض البلدان العربية ومنها على سبيل المثال ما حدث في مصر في 18، 19 يناير سنة 1977 وعمت جميع المدن المصرية وكانت بسبب مضاعفة أسعار المواد الغذائية الأساسية خاصة الخبز وأطلق عليها وقتها “انتفاضة الخبز” وأطلق عليها النظام ” انتفاضة الحرامية” !!!.

والأمر ذاته تكرر في العديد من الدول العربية منها على سبيل المثال انتفاضة الخبز في تونس عام 1986، وانتفاضة الخبز في الجزائر عام 1986 وتكرر في عام 1988، وانتفاضة الخبز في الأردن في عامي 1989، 1996 وغيرها.

فالتدهور الاقتصادي يثقل كاهل المواطنين لأنهم هم من يتحملوا عبء ارتفاع الأسعار والبطالة والديون الخارجية، كما أن التدهور الاقتصادي يهيئ بيئة جيدة لانتشار الفساد وإهدار المال العام وهروب رأس المال الأجنبي وكل الآثار السلبية المترتبة على هذه الأوضاع يتحملها المواطن.

ويترتب على هذه الأوضاع موجة عنف ومعارضة متزايدة من الطبقات الفقيرة ضد الطبقة الحاكمة مما يؤدي إلى حالة عدم استقرار سياسي وزيادة المطالبة بالحرية والديمقراطية[2]، حيث ارتبطت شرعية النظم العربية بما يتمتع به المواطن من مستوى معيشة ورفاهية اقتصادية.

إلَّا أن تردي الأوضاع الاقتصادية يعجل بالاتجاه نحو مزيد من الإصلاحات السياسية والاقتصادية في محاولة لامتصاص الغضبة الشعبية، وهذا الإجراءات الإصلاحية تدعم التحول الديمقراطي، فالعلاقة بين التنمية الاقتصادية من ناحية والديمقراطية من ناحية أخرى هي علاقة معقدة، وقد تتفاوت من مكان إلى آخر، وإن كانت هناك مؤشرات على أن النمو المعتمد على آليات السوق يشكل أساساً جوهرياً للديمقراطية[3].

العلاقة بين التنمية الاقتصادية والتحول الديمقراطي

وعلى الرغم من ذلك نجد أن هناك انقساماً بين الباحثين حول تصور العلاقة بين التنمية الاقتصادية والتحول الديمقراطي، هذا الانقسام أخذ شكل اتجاهين فكريين:

الاتجاه الأول: يرى أنه ليس من الضروري أن يكون هناك علاقة بين التنمية الاقتصادية والديمقراطية، فقد تتم التنمية في إطار نظم تسلطية أو ديمقراطية على السواء، غير أنه إذا وجدت مثل هذه العلاقة فهي تسير في اتجاه أن التنمية الاقتصادية هي التي تفضي إلى الديمقراطية، فبمجرد أن يحقق النظام السياسي نمواً اقتصادياً يتميز بقواه الذاتية، فإنه يكون الأساس الاقتصادي الذي يمكنه من توسيع المشاركة السياسية لتشمل تدريجياً فئات اجتماعية أوسع، فالتنمية الاقتصادية تؤدي إلى توسيع النطاق الاقتصادي القومي وتعقيده بما يجعل من الصعب إدارته بدون قدر من اللامركزية الديمقراطية، ومن ثمَّ هناك علاقة تبادلية، غير أنها في الأغلب تصف في اتجاه التأثير على النظام السياسي[4].

واستند أصحاب هذا الرأي إلى تجربة “النمور الأسيوية” في النصف الثاني من القرن العشرين التي حققت معدلات تنمية اقتصادية عالية في حين لم تشهد إصلاحات سياسية ديمقراطية إلَّا في المرحلة لاحقة للطفرة الاقتصادية.

بل هناك من ذهب لأبعد من ذلك حيث يرى “جورج سورنسن George Sorensen” أن الديمقراطية عائق للنمو الاقتصادي، حيث إن التنمية الاقتصادية تتطلب استثماراً، وأن الأنظمة غير الديمقراطية هي المتمكنة في مقاومة الضغوط الشعبية للاستهلاك الفوري والمباشر وأن الحكام التسلطيين أقدر على خلق فائض اقتصادي لاستثمار طويل الأجل لكونها محمية إزاء الموجات السياسية الاحتجاجية التي يولدها التغير الاقتصادي السريع[5].

ويرد على هذا الطرح بنموذج عملي حيث نري دولة فقيرة مثل ” الهند قد قطعت شوطاً طويلاً نحو الديمقراطية وتعتبر مثالاً يحتذي به، في حين أن دولاً أكثر ثراءً لا تتمتع شعوبها بأي قدر من الحريات والديمقراطية، مما يعني التقليل من أهمية الارتباط الإيجابي بين التنمية الاقتصادية والديمقراطية، لكن الأمر لم يحسم بعد[6]، فالدليل الإحصائي على العلاقة بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية ليس قطعياً، حيث إن كافة الدراسات الكمية تقترح بأن نوع النظام ليس له تأثير ثابت ومستمر على الأداء الاقتصادي[7].

وعلى الرغم من أن بعض المفكرين أمثال “برزوفورسبكي” و”ليمونجي” يروا أن الديمقراطية تنمو بصورة أفضل في الدول الأكثر ثراءً، وأن استمرار الديمقراطية الحديثة يستند إلى حد كبير في أدائها الاقتصادي، ولكن ذلك لا يعني حتمية أن الديمقراطية كانت وليدة النمو الاقتصادي، فالديمقراطية يمكن أن تنشأ في أي مستوى من التنمية الاقتصادية وبمجرد نشأتها يصبح للاقتصاد دور محوري[8].

الاتجاه الثاني: يؤكد على وجود علاقة عضوية وثيقة بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية، وأن هذه العلاقة تسير في اتجاه تأثير التنمية إلى حد بعيد بالإطار السياسي، ومن ثمَّ فمن الصعوبة أن تحقق التنمية القائمة على اقتصاد السوق أهدافها دون أن تكون الديمقراطية ركناً أساسياً من أركان النظام الاقتصادي حيث يهيئ المناخ الديمقراطي مناخا ملائما وفعّالا للأنشطة الاقتصادية خاصة الاستثمارات الأجنبية[9].

ويري “مارتن ليبست” وهو من أبرز الرواد الذين ربطوا بين الرأسمالية والتنمية الناتجة عنها الديمقراطية حيث يرى أن الرأسمالية تمثل قلب الديمقراطية، ولإبراز هذه العلاقة قام بعمل مقارنة بين عدد من الدول وفقاً لثرواتها ودرجة التصنيع والحضرية ومستوى التعليم باعتبارها مؤشرات للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتبين له من المقارنة أن البلدان الأكثر ديمقراطية في العالم كانت تتمتع بمستويات تنمية اجتماعية واقتصادية أعلى من البلدان الديكتاتورية، وقد افترض “ليبست” وجود تطابق بين التنمية الاقتصادية والنظام الديمقراطي، فالتنمية الاقتصادية ترتبط بازدياد التعليم والاتجاه نحو المزيد من المشاركة كما أنها تضعف من حدة التفاعلات السياسية وتنشئ مصالح متقاطعة وانتماءات متعددة تعمل على تسهيل بناء الإجماع الديمقراطي والاستقرار السياسي[10].

وفي نفس السياق يرى هانتنجتون أن للتطور الاقتصادي أهمية قصوى لإمكانية تحقيق الديمقراطية، حيث قام بالربط بين الثراء والديمقراطية حيث إن التحول إلى الديمقراطية يحدث في المقام الأول في منطقة انتقالية عند مستويات الطبقة المتوسطة والعليا، والتحول في الدول الفقيرة غير وارد وفي الدول الغنية قد يحدث التحول بالفعل[11].

وقد تعرض هذا الاتجاه للنقض خاصة من أنصار المدرسة الماركسية حيث يرى “اودنيل” أن تعميق الرأسمالية في الدول النامية يؤدي إلى بزوغ ديكتاتورية وليس ديمقراطية، حيث التمكين لعدد قليل من البرجوازيين المسيطرين سياسياً من استخدام الدولة لتعظيم منافعهم عن طريق القمع[12].

وتشير الدلائل إلى أن الثراء وحده قد لا يمثل عاملاً حاسماً وإنما النمو الاقتصادي ذو القاعدة العريضة والذي يشمل درجة عالية من التصنيع من مبيعات موارد طبيعية قد لا يؤدي إلى التحول الديمقراطي وإنما قد يزيد من قوة بيروقراطية الدولة نتيجة لتراكم العائدات وتحد من الحاجة لفرض الضرائب وكلما انخفض مستوى الضرائب قلت الأسباب لدى الجماهير للمطالبة بالحياة النيابية[13].

ثانياً: تآكل شرعية النظم التسلطية

يكاد يكون هناك اتفاق بين الباحثين على أن أهم أسباب التحول الديمقراطي هو تآكل سيطرة وشرعية النظم السلطوية في الحياة السياسية.

ويعد تآكل شرعية النظم الاستبدادية أحد أهم الأسباب التي تؤدي إلى التحول الديمقراطي فضلاً عن بروز معارضة قوية حيث تقوم هذه المعارضة بدور قوي وفعّال في عملية التحول الديمقراطي وتغيير النظام القائم.

حينما يفقد أي نظام سياسي آليات الضبط السياسي ويعجز عن أداء وظائفه فإن شرعيته تصبح مهدده، لأن في النظم السلطوية ليس هناك فرق بين شرعية الحاكم وشرعية النظام، وذلك لأن ضعف أداء النظام يعني سقوط الحاكم ونظامه.

تعود أسباب اهتزاز شرعية النظم السلطوية وتآكلها إلى غياب آليات التجديد الذاتي حيث تزداد هذه المشكلة خاصة في النظم الدكتاتورية التي يصعب عليها أن تجدد ذاتها، فتنصرف هذه النظم لمواجهة إشكالية الشرعية بإحدى الطرق الآتية[14]:

  • ترفض النظم السلطوية الاعتراف بضعفها المتزايد على أمل استعادة قوتها في السلطة.
  • محاولة النظم السلطوية البقاء في السلطة بزيادة القمع وكبت حريات الأفراد.
  • قيام الحاكم السلطوي بإثارة نزاع خارجي في محاولة لاستعادة الشرعية بالاستناد إلى النزعة الوطنية.
  • محاولة إقامة صورة باهتة عن الشرعية الديمقراطية للنظام السلطوي، وذلك من خلال تقديم وعود باستعادة الديمقراطية أو إجراء انتخابات ولكن في الوقت المناسب.
  • المبادرة بوضع حد للحكم السلطوي وإقامة نظام ديمقراطي.

ثالثاً: دور المجتمع المدني

نشأ مفهوم المجتمع المدني فـي الفكر الغربي عندما حاول مفكرو القرن السابع عشر “لوك، هوبز، روسو” البحث عن بديل أكثر قدرة في التعبير عن الإرادة العامة للشعوب في مقابل نظرية السياديتين أو السيفين، أي سيادة الملكية والتي كان فيها المواطن مجرد رعية من الرعايا لا ينفع ولا يضر خاضع للسلطة السياسية، وسيادة الكنيسة والتي في ظلها كان المواطن مجرد عبد مسير غير مخير خاضع للسلطة الدينية.

من هذا المنطلق ظهر مفهوم المجتمع المدني كبديل عن الدولة والكنيسة، حيث يصبح الإنسان فيه عضواً بمحض إرادته، لذلك ارتبط مفهوم المجتمع المدني بمفهوم المواطنة الدستورية في مواجهة الدولة، وبمفهوم الحرية والمساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين في مواجهة السلطة، وبهذا يكون مفهوم المجتمع المدني مفهوماً متوسطاً بين الأسرة والدولة لحماية الفرد من الطابع الكنسي والسلطوي الملكي من دون المرور على السلطة الدينية ولا السلطة السياسية، فالمواطن في دولة الحق والقانون حاكم ومحكوم في الوقت ذاته، فهو حين يطيع القانون فإنما يطيع ذاته، وذلك هو مبدأ السيادة الشعبية.

وعليه فإنه يمكن تعريف المجتمع المدني بأنه “مجموعة المؤسسات السياسية والاجتماعية والمهنية والنقابية والتطوعية التي تنظم العلاقات الاجتماعية، وتمثل مصالح القوى والجماعات في المجتمع وتعمل باستقلالية كاملة أو نسبية عن الدولة[15].

ويتجلى المجتمع المدني في الاتحادات والهيئات والنقابات المهنية والروابط الاجتماعية والجمعيات الأدبية والعلمية، وهو النشاط العام للفرد الذي لا تستطيع الدولة السيطرة عليه أو منعه، بل تستطيع فقط تنظيمه بما يسمي بقانون الجمعيات والنقابات أو المنظمات غير الحكومية، لذلك فإن أهم ما يميز منظمات المجتمع المدني استقلالها التنظيمي والإداري عن الدولة والسلطة السياسية، فهناك اعتراف ضمني بأن الأصل في العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني هو ألا تتدخل الدولة في مجال نشاطات المجتمع المدني، ومما لا شك فيه أن شرط الاستقلالية يعد من أهم شروط بروز وتطور المجتمع المدني، لان هذه الاستقلالية تعبر عن قدرة الأفراد على تنظيم شئونهم والتعبير الصادق عن مصالحهم ورغباتهم، ومن ثم لا يمكن قيام المجتمع المدني في ظل استتباع المؤسسات التطوعية والأهلية للدولة[16].

ويقوم المجتمع المدني على أربعة مقومات أساسية[17]:

الأول: الفعل الإرادي الحر أو التطوعي، فهو غير مؤسسات الأسرة والقبيلة وغير مؤسسات الدولة.

الثاني: التنظيم الجماعي في شكل منظمات أساسها بطاقة العضوية بمحض الإرادة الحرة.

الثالث: قبول التنوع والاختلاف بين الذات والآخر، مما يعني الاعتراف له بحق تكوين منظمات مجتمع مدني أخري.

الرابع: عدم السعي للوصول إلى السلطة خلافا للأحزاب السياسية، وإنما تعمل على ممارسة الضغط السلمي على السلطة للدفاع عن مصالح أفرادها.

فالمجتمع المدني هو أساساً مجتمع التعددية، فهو متعدد الجماعات والروافد والاتجاهات والقناعات والميول، فلا يمكن تخيل المجتمع المدني بغير هذه المؤسسات المجتمعية والأهلية والتي تتنوع بتنوع الفئات والجماعات، وتختلف عن بعضها من حيث النشاط والدور والحجم وعمق الانتماء ودرجة التضامن، كما تختلف باختلاف مستوى وعي الأعضاء بمصالحهم وشرعية مطالبهم[18].

ومن ثمَّ فإن هذه المنظمات تساهم بشكل كبير وفعّال في نشر القيم الديمقراطية، مما يجعلها مدارس لتمكين الأفراد وتدريبهم على إدارة الصراع بالوسائل السلمية في ظل التسامح والاحترام والتراضي، لذلك لا يوجد حدود لنشاطها إلَّا في مجتمعات العالم الثالث التي ما زالت نظمها السياسية والاجتماعية غير مستقرة، حيث يحظر عليها النشاط المجتمعي الديني والسياسي، لذلك يضعف نشاطها لأن الدين والسياسة هما أهم محركين في مجتمعات العالم الثالث.

وجماعاً لما سبق، فإن أول معيار نبحث عنه بهدف دعم التحول الديمقراطي هو المجتمع بحد ذاته من خلال ما يعرف بالمجتمع المدني، هذا المجتمع الذي يشكل الرافعة الأساسية للنظام الديمقراطي بوجهه الإيجابي من منظور ثنائية الدولة والمجتمع، لأنه في هذه الحالة يكون المجتمع المدني مسانداً للدولة ومصدراً لشرعيتها عبر مشاركة منظماته وفئاته الاجتماعية المختلفة في صنع القرار، ومن ثمَّ فمن الخطأ التسليم بالوجه السلبي من غاية المجتمع، أي مقاومة الدولة باسم المجتمع المدني، لأنهما – أي الدولة والمجتمع المدني – ليسا مفهومين متقابلين، بل هما مفهومان متكاملان متلازمان، فلا يمكن أن ينهض المجتمع المدني ويؤدي رسالته في التقدم من دون دولة قوية تقوم على مؤسسات دستورية، كما أنه من الصعب أن نتصور وجود دولة قوية من دون مجتمع مدني يساندها، لهذا فإن أول التحديات التي تواجه المجتمع المدني هو التعامل الإيجابي مع الدولة في سبيل الوصول إلى الأفضل من خلال تأليب رأي عام فاعل وضاغط في وجه أي انحراف للسلطة[19].

ومما لا شك فيه أن شعور الحاكمين بأن الجماعات المنظمة من منظمات المجتمع المدني وعناصر الرأي العام لن تغفر لهم إن مارسوا الاستبداد والطغيان بما لهم من حق في الثورة والخروج سيجعلهم يفكرون كثيرا قبل الخروج على قواعد الديمقراطية.

رابعاً: دور القيادة السياسية في التحول الديمقراطي

لعل من أهم العوامل التي تؤدي إلى التسريع باتجاه التحول الديمقراطي هو القيادة المتربعة على قمة النظام، إذ من الممكن أن تتعرض لضغوط داخلية وخارجية فتلجأ إلى توسيع نطاق المشاركة السياسية وتوزيع الموارد الاقتصادية، إذ يكون بيدها اتخاذ قرار التحول، مع ما قد يترتب على هذا القرار من فقدها لمركز القيادة، وتعتبر الحالة الإسبانية مثالاً في هذا المقام، حيث قاد الملك “خوان كارلوس” عملية التحول من ملكية استبدادية إلى ملكية دستورية في أعقاب موت الجنرال “فرانكو”، واكتملت عملية التحول الديمقراطي في عام 1982 بعد أول تداول سلمي للسلطة في أعقاب الانتخابات البرلمانية[20].

وقد تجد القيادة نفسها إزاء معارضة قوية واحتجاجات شعبية تجبرها على المبادرة بالتحول الديمقراطي بعد أن تدرك أن محاولة الاحتفاظ بالسلطة لفترة طويلة لم تعد مجدية، ومن هنا فالمبادرة من قبل الحاكم بالسير في طريق التحول تمكنه من تجنب مخاطر محققة، فضلاً عن أن هذه المبادرة تخلق آمالاً كبيرة بإمكانية حماية مصالح أساسية للنظام السلطوي ذاته إذا تحول إلى الديمقراطية.

وبناءً على ما سبق فإن من أسباب توجيه القيادة السياسية للتحول الديمقراطي[21]:

  • إدراكها – أي القيادة السياسية – أن تكاليف خروجها المبكر من السلطة بكرامة أقل من تكاليف البقاء فيها.
  • الحد من المخاطر التي سيواجهونها إذا ما تشبثوا بالسلطة ثم يفقدونها.
  • الإيمان بأن الديمقراطية هي الشكل الصحيح للحكم، وأن دولتهم قد تطورت إلى مرحلة ينبغي أن يقوم فيها “حكم ديمقراطي”.
  • عدم قدرة القيادة السياسية على إيجاد بديل يضمن لهم الحفاظ على شرعيتهم.

خامساً: -الثقافة السياسية:

تشير الدراسات المعاصرة إلى أن الثقافة السياسية تلعب دوراً حاسماً في تحديد اتجاه وسرعة عملية التحول نحو الديمقراطية، ولكن يجب في هذا الصدد التميز بين الأنماط الثقافية الدائمة للمواطنين والتوجهات قصيرة الأجل التي تمثل رد فعل الجماهير تجاه أحداث معينة، كما يجب التمييز بين ثقافة النخبة وثقافة الجماهير.

إذ يختلف دور العامل الثقافي من مرحلة لأخرى في إطار عملية التحول الديمقراطي، ففي بداية التحول نحو الديمقراطية تكون الثقافة أقل أهمية وأكثر تكفياً، وعندما يتم بناء المؤسسات السياسية الديمقراطية تبرز أهمية الثقافة مرة أخرى وتصبح لها أهمية قصوى، وفي مرحلة تعزيز الديمقراطية لابد أن يتعلم المواطنون كيف يتعايشون مع هذه المؤسسات وكيف يديرونها ويعملون داخلها[22].

المبحث الثاني: العوامل الخارجية

لقد كشفت موجة التحول نحو الديمقراطية تأثير وأهمية العوامل الدولية في هذه العملية باختلاف درجاتها، وإن كثيراً من العوامل الخارجية لا تتضح أهميتها بالنسبة للباحثين، حيث تشير الدراسات المقارنة لأدبيات التحول الديمقراطي إلى أنها عملية داخلية، وأن العامل الخارجي يأتي تأثيره لاحقاً على العوامل الداخلية، وهناك القليل من الدراسات التي تناولت البعد الدولي[23].

والمقصود بالعوامل الخارجية الضغوط الدولية النابعة من خارج بيئة النظام السياسي إقليمياً ودولياً، والتي تعلب دوراً بارزاً في تدعيم أو تثبيط عملية التحول الديمقراطي خاصة في الدول النامية، وسواء كانت هذه الضغوط تمارسها دول أو منظمات دولية، ويمكن إجمال هذه العوامل – الضغوط – الخارجية فيما يلي:

أولاً: -النظام الدولي

شهد العالم مع نهاية الثمانينات انهيار النظم الشيوعية كما حدث في الاتحاد السوفيتي وبلدان شرق أوروبا وتحول اغلبها إلى الديمقراطية مما اعتبره البعض انتصاراً للديمقراطية والقيم الغربية، ومن هنا بدأ الضغط على النظم غير الديمقراطية حتى تجري إصلاحات وتغييرات على نظمها السياسية وتدعم هذا الطرح لدى قوي المعارضة التي أصبحت تطالب بالحرية وبحقها في التعبير والمشاركة السياسية والمنافسة على كسب رضا الرأي العام والوصول إلى السلطة.

وقد ظهر هذا الأمر جلياً إثر تفكك الاتحاد السوفيتي وتخليه عن الأنظمة التي كانت موالية له وترك الساحة الدولية للولايات المتحدة الأمريكية كقطب أحادي في العالم حيث وجدت الديمقراطية لها مكاناً ضمن أولويات السياسة الخارجية الأمريكية التي تسعى إلى إنجازها في أي مكان في العالم وذلك ضمن التوجه العام لعالمية سياستها الخارجية والتي لا تنفصل عن رغبتها في الهيمنة على العالم، كما تسعى إلى تطبيق الديمقراطية في مختلف الدول ما لم يتعارض ذلك مع مصالحها[24]، أما إذا تعرضت مثل هذه المصالح لخطر في حالة التحول الديمقراطي حيث لا يكون هناك مجال للحديث عن ضرورة التحول الديمقراطي حيث لا توجد فيه مصالح أمريكية، كما حدث في تعاملها مع الانقلاب العسكري على أول تجربة ديمقراطية في مصر في يوليو 2013.

ومن باب الإنصاف فإن هذا الأمر لا تنفرد به السياسة الخارجية الأمريكية فقط بل يشاركها في ذلك الغرب وفرنسا خاصة تجاه أفريقيا، فالالتزام بالتحول الديمقراطي له صيغة انتقائية وانتهازية.

فإذا كانت الانتخابات الحرة والنزيهة ستأتي بالقوي والتيارات الإسلامية إلى سدة الحكم أو المشاركة فيها، فلا بأس من غض الطرف عن الديمقراطية وممارستها إذا كان من مصلحة أمريكا بقاء تلك النظم في الحكم، فالديمقراطية الأمريكية تدور حسبما تدور المصالح الأمريكية.

ومن الأمثلة البارزة في هذا الصدد الارتباط بين الانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي وتطبيق الديمقراطية، ومن ثمَّ كان التحول الديمقراطي في بداية الموجة الثالثة “البرتغال، إسبانيا، اليونان” مرتبطاً بالانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، حيث كان هذا الانضمام يمثل لهذه الدول أهمية اقتصادية كبرى وبالتالي كانت الديمقراطية خطوة جوهرية للنمو الاقتصادي والرخاء، وفي ذات الوقت كان الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي يدعم الالتزام بالديمقراطية.

ثانياً: ضغوط المؤسسات المالية الدولية

يبرز دور المؤسسات المالية الدولية المانحة للقروض في توجيه السياسات والخيارات الاقتصادية، حيث تربط تلم المؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مساعداتها المالية والإدارية والفنية بإدخال إصلاحات سياسية على النظم السياسية التي تلجأ إليها سعياً في الحصول على القروض والتسهيلات الاقتصادية، كما تشترط تلك المؤسسات أن تتبنى برامج التكييف والتعديل الهيكلي القائمة على الاقتصاد الحر وخصخصة القطاع العام ودعم القطاع الخاص، وهو ما يعني في النهاية تقليص دور الدولة في الاقتصاد والمجتمع[25].

ومن هذا المنطلق ظهر مصطلح “المعونات المشروطة” أي المعونات المرتبطة ببرامج التكييف الهيكلي والتي يرجع تاريخها إلى أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي حيث ظهر ما يعرف بالجيل الأول للمشروطية الذي ركز على آليات الإصلاح الاقتصادي مدفوعاً بما عانته الدول النامية من أزمات اقتصادية، ثم ظهر بعده الجيل الثاني للمشروطية مع بداية التسعينيات والذي تضمن المشروطية السياسية بما شمله من شروط متعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان ودعم الحكم الرشيد[26].

وقد دفعت الشعوب خاصة الفقراء منهم الثمن باهظاً لمثل هذه الضغوط الدولية، فكان من الطبيعي أن تؤدي مثل هذه السياسات إلى زيادة حدة التفاوت الاقتصادي والاجتماعي وارتفاع معدلات البطالة، الأمر الذي أوجد ظروفاً مواتية لتنامي ظواهر الاحتجاج الجماعي والعنف الذي درج البعض على تسميتها باضطرابات صندوق النقد الدولي[27].

ثالثاً: أثر العدوى والمحاكاة

يقصد بأثر العدوى والمحاكاة أن نجاح التحول الديمقراطي في دولة ما يشجع على إحداث تحول ديمقراطي في دولة أخري، وقد عبّر عنها صامويل هانتنجتون “بكرات الثلج”، حيث أن وجود نماذج ناجحة في أوائل موجة التحول شجعت الدول الأخرى على المضي قدماً في طريق الديمقراطية فيما يشبه كرات الثلج التي تتزايد في حجمها كلما تدحرجت.

وتتم عملية التحول بالمحاكاة سواء نتيجة تشابه المشاكل التي تواجه الدول المعنية أو الاعتقاد بأن نجاح التحول الديمقراطي يوفر الحل لهذه المشاكل، أو لأن الدولة التي تحولت إلى الديمقراطية أصبحت قوية وتعتبرها الدول الأخرى نموذجاً سياسياً يقتدي به بيد أن أثر “العدوى” كما يقول “وايتهاد” لا يخبرنا عن كيفية بداية هذه السلسلة ونهايتها والترتيب المحتمل لتطورها[28]، كما أن نجاح التحول يثبت للقيادة السياسية إمكانية إنهاء النظام السلطوي وإرساء دعائم النظام الديمقراطي عن طريق تقليد ومحاكاة الأساليب التي اتبعتها الدول التي فيها التحول الديمقراطي[29].

وقد ساعد على ذلك الثورة الهائلة في عالم الاتصالات والتي جعلت من الصعب على النظم السلطوية السيطرة على تدفق المعلومات من العالم الخارجي أو أن تحجب عن شعوبها المعلومات عن سقوط الأنظمة السلطوية في الدول الأخرى.

كما جعلت من استخدام أساليب العنف لقهر المعارضة وانتهاك حقوق الإنسان ظواهر عالمية لا تخص دولة بعينها مما يشكل قيداً على هذه الحكومات عند لجوئها إلى العنف ضد مواطنيها.

كما ساعدت تلك الوسائل على نشر الوعي السياسي وكشف زيف ديمقراطية النظم السلطوية خاصة مع تمدد ما يعرف بالمجتمع المدني المتمثل في المنظمات والهيئات الدولية غير الحكومية التي تهتم بقضايا حقوق الإنسان والحريات العامة[30].

وعلى صعيد آخر أنهت ثورة المعلومات والاتصالات احتكار الأنظمة السلطوية لمصادر المعلومات، فلم تعد قادرة على منع التدفق الإعلامي والمعلوماتي القادم من الخارج عبر الانترنت والفضائيات، كما مكنت ثورة الاتصالات قوي المعارضة من الاتصال بالعالم الخارجي بسهولة ويسر مما يسمح لها بحشد رأي عالمي أو على الأقل لفت انتباه المجتمع الدولي لانتهاكات حقوق الإنسان التي قد تمارسها أنظمة الحكم السلطوية.

وهذه الأمور لا شك أنها ساعدت في نشر “عدوي الديمقراطية” عبر الحدود، إذ أصبح من الصعب على هذه الأنظمة أن تعزل نفسها ومجتمعاتها عن تأثيراتها وتداعياتها في إطار ما أصبح يعرف بالعولمة والتي ساعدت في إيجاد بيئة دولية مواتية لترسيخ القيم الديمقراطية، وبالتالي بات لزاماً على هذه النظم التكيف مع تلك التطورات بالاتجاه نحو التحول الديمقراطي.

وختاماً فعلي الرغم من أن الضغوط الخارجية على الأنظمة التسلطية تعتبر من العوامل المهمة التي تدفعها للسير في طريق التحول الديمقراطي، إلَّا أنها وإن كانت لا تصنع التحول أو بمعني أدق لا تلعب الدور الحاسم فيه وإنما تكون بمثابة الدافع إليه إذ أن العوامل الداخلية هي الأهم.

الفصل الرابع: مراحل التحول الديمقراطي

لاشك أن عملية التحول الديمقراطي عملية معقدة للغاية، وتتضمن مراحل متعددة تقود إلى ترسيخ الهياكل والأوضاع المؤدية إلى تحول هيكلي، وتغيير النظام من الحكم السلطوي إلى النظام الديمقراطي، فهناك من يرى أن هذه العملية تمر بثلاث مراحل أساسية بدايتها الاستمرار والتأهب حيث تزداد خلالها حدة الصراع السياسي والاجتماعي بدرجة تهدد استمرار سيطرة وبقاء نظام الحكم غير الديمقراطي، مروراً بظهور إجماع حول ضرورة التغيير وتحديد مطالب ومجالات أساسية ومؤسسية وفي مقدمتها إنشاء وتفعيل دور البرلمان، وصولاً إلى تأمين التحول الديمقراطي من خلال إرساء مجموعة من القواعد والممارسات التي تدعم تماسك المؤسسات التمثيلية وتنمي الثقافة السياسية والديمقراطية.

في حين ميّز كلاً من “فليب شميتر hilipe Schmaiter “، “جليرمو أودونيل Jelermo odonnel” بين مرحلتين أساسيتين هما، مرحلة التحول إلى الليبرالية السياسية ثم مرحلة التحول إلى الديمقراطية[31].

في حين قسّم “دانكورت رستو” المراحل التي يمر بها التحول الديمقراطي إلى أربع هي:

  • مرحلة نشوء اتفاق عام حول الهوية الوطنية وشبه إجماع بقبول الحدود السياسية للبلد المعني.
  • مرحلة بروز صراع عنيف أو مسالم بين شرائح اجتماعية أو طبقات داخل الكيان السياسي الجديد ينتهي إما بانتصار كاسح لإحدى الفئات مما يعيق التقدم نحو الديمقراطية أو بنشوء توازن اجتماعي جديد.
  • مرحلة القرار السياسي في ظل الصراع غير المحسوم تعقد الأطراف الصفقات وتتوصل إلى الحلول الوسطي، وذلك بناءً على حسابات عقلانية للربح والخسارة.
  • المرحلة الأخيرة يظل مستقبل الديمقراطية متأرجحاً إلى أن تتحول تدريجياً إلى ممارسة يومية وتصبح عرفاً اجتماعياً.

ويري “هانتنجتون” أن عملية التحول الديمقراطي تنطوي على ثلاث مراحل وهي انهيار النظام السلطوي القديم، إقامة النظام الديمقراطي، وأخيراً دعم وتوطيد النظام الديمقراطي.

ومنهجنا في تقسيم مراحل التحول الديمقراطي أنها تمر بأربع مراحل:

المرحلة الأولى: مرحلة القضاء على النظام السلطوي

هي الفترة الزمنية التي تمر بين الانتقال من النظام السلطوي إلى النظام الديمقراطي، ويشهد المجتمع خلالها العديد من الصراعات بهدف إرضاء مصالح من يقودوا عملية التحول وتحديد قواعد اللعبة السياسية والفاعلين المسموح لهم بدخول الساحة السياسية.

وينهار النظام التسلطي بسبب مجموعة من العوامل أهمها الصراع بين المعتدلين الذين استفادوا من مناصب في ظل النظام السلطوي لكنهم اقتنعوا بضرورة إحداث تعديلات عليه لإعادة بناء شرعيته المهتزة وبين المتشددين الذين يرفضون إحداث أي تحول ديمقراطي ويدافعون على بقاء النظام السلطوي، ويمثل هؤلاء مصدر تهديد للنظام الجديد بتدبير انقلابات ومؤامرات، ويحدث هذا الصراع في ظل انشقاقات وانقسامات داخل النظام القائم وفي ظل ضغوط دولية لتبني تحول ديمقراطي[32].

وقد لا يترتب على انهيار النظام السلطوي بالضرورة قيام نظام ديمقراطي، وإنما صورة أخرى من صور النظم السلطوية، إذ يلاحظ أن المرحلة الأولى من التحول الديمقراطي لا تعتبر عملية خطية أو ذات اتجاه واحد تصاعدي، فالتحول الديمقراطي قد يفشل في بعض الدول نتيجة العديد من الأسباب مثل المقاومة من جانب النخب المدنية أو العسكرية أو غياب الأوضاع الاجتماعية والثقافية والمؤسسات الملائمة[33].

ويشهد المجتمع خلال هذه المرحلة العديد من الصراعات بين الذين يقودون عملية التحول الديمقراطي الذين يريدون عمل بعض الإصلاحات في النظام للحفاظ على شرعية النظام القائم، وبين المتشددين الذين لا يريدون إجراء أية إصلاحات على الإطلاق[34].

وتتوقف عملية انهيار النظام القديم على درجة تماسكه وقوة المعارضة وتماسكها، ومقدار الضغوط الخارجية والداخلية، وحدة الاستقطاب والصراع بين المتشددين والمعتدلين.

المرحلة الثانية: مرحلة اتخاذ قرار التحول الديمقراطي

تشكل هذه المرحلة الفترة الزمنية للانتقال من النظام السلطوي إلى النظام الديمقراطي، ويحدث هذا التحول عندما يتكيف النظام مع المطالب والضغوطات الجديدة، أو عندما يكون غير قادر على الحفاظ على ذاته ويتم إحلاله بنظام جديد.

وتنطوي هذه المرحلة على خطوات من شأنها إرساء الدعائم الأولية لأي تطور ديمقراطي محتمل فيما بعد، وهذه المرحلة تستدعي إجراء تعديلات دستورية لتقنين حرية ممارسة العمل الحزبي وضمان حماية الحريات العامة، ويواكب ذلك إجراء انتخابات عامة وحرة يتنافس فيها عدد من الأحزاب.

ولأنها تعتبر فترة من عدم التأكد والشك حيث تزيد مخاطر الانتكاس والتراجع إلى الحكم السلطوي، فقد وصفها ” آدم بريزفورسكي Adam Przeworsi” بأنها تشبه آلة الغزل، فبمجرد أن ترتفع الكرة لتدور إلى أعلى فهي أيضاً يمكن أن تهبط وتدور إلى أسفل بطريقة سريعة، خاصة في ظل وجود مؤسسات النظام القديم إي جانب مؤسسات النظام الجديد، وبالتالي الديمقراطيون والسلطويون غالباً ما يتقاسمون السلطة سواء من خلال الصراع أو الاتفاق[35].

وعادة ما يرتفع سقف مطالب الديمقراطية في تلك المرحلة وتتسع حركات الاحتجاجات وتبرز المطالب ضد الفساد والاستبداد والقمع، وتبدأ الشعارات التي تطالب بالديمقراطية الكاملة التي تتجاوز الخطوات الجزئية كإصلاح الانتخابات أو الأحزاب أو المؤسسات لتضمن المشاركة والمحاسبة لكل الشخصيات والقيادات بما فيها الزعيم السياسي.

وتشهد هذه المرحلة حالة من التحول الليبرالي والذي يعتبر مقدمة للتحول الديمقراطي، إذ نجد تنازلات معينة من قبل القيادة السياسية الحاكمة، كما يترتب عليه مطالب الشعب بمرحلة أعلى من مراحل التحول الديمقراطي.

ويترتب على هذه المرحلة مجموعة من الآثار الهامة بالنسبة لعملية التحول الديمقراطي إذ يتم إعادة تعريف وتوسيع نطاق الحريات المسموح بها للأفراد وذلك من خلال تقديم عدد من الضمانات لحماية الفرد والجماعة من تعسف الدولة، كما تتضمن الإفراج عن السجناء السياسيين والسماح بالتعبير عن الرأي في القضايا ذات الاهتمام العام، والحد من الرقابة على الانتخابات[36].

المرحلة الثالثة: مرحلة تدعيم وتوطيد النظام الديمقراطي

تكتسب هذه المرحلة الطابع المؤسسي، حيث يتم الاتفاق بين القوي السياسية المختلفة على قواعد اللعبة السياسية الحاكمة لها، ويتم الالتزام بها من قبل القوي السياسية الفاعلة، وهذه المرحلة كما يرى “لورانس وايتهاد Lawrence Whitehad” تتضمن التزامات وتعهدات على قواعد اللعبة الديمقراطية أكثر من المؤسسات، حيث يسود فيها الاعتقاد لدى الفاعلين السياسيين الرئيسيين بعدم وجود بديل عن العملية الديمقراطية للوصول إلى السلطة، وبالتالي يتحقق التماسك الديمقراطي بتخلي النظام الجديد عن المؤسسات الموروثة عن النظام السلطوي القديم، وفي نفس الوقت بناء مؤسسات جديدة تعزز القواعد الديمقراطية، ويسود اعتقاد لدى القيادة السياسية والفاعلين السياسيين بحتمية الديمقراطية من أجل استمرار النظام وبقاءه، كما تقوم القوي المعارضة بطرح قضايا هامة وتظهر هياكل جديدة ويكون هناك شفافية في الطرح بالإضافة إلى الاهتمام بنشر القيم والثقافة السياسية لترسيخ الديمقراطية[37].

المرحلة الرابعة: مرحلة النضج الديمقراطي

فهذه المرحلة تهدف إلى تحسين الأداء الديمقراطي ورفع كفاءة وقدرة المواطنين على المشاركة بحيث تحقق الدولة الرفاهية الاجتماعية لمواطنيها، وهي تتضمن تحول أوسع يغطي المؤسسات الاجتماعية الخاصة ويطالب ليس فقط بمجرد المساواة الشكلية في الفرص ولكن بتحقيق مساواة فعلية فيما يتعلق بتوزيع المنافع المحققة.

وتتضمن هذه المرحلة عمليتين مستقلتين ولكنهما مترابطتان وهما الديمقراطية الاجتماعية والديمقراطية الاقتصادية.

وتعني الديمقراطية الاجتماعية أن يكون العمال والشباب وأعضاء جماعات المصالح والأحزاب السياسية وغيرهم من الفاعلين لهم حقوق وواجبات متساوية، ذلك أن التحول نحو الديمقراطية هو عملية يتم بموجبها تطبيق المواطنة على المؤسسات السياسية التي كانت تسير سابقاً على هدي مبادئ أخرى.

وتعني الديمقراطية الاقتصادية أنها تتضمن الوصول إلى آليات وسياسات تكفل توزيع المنافع الاقتصادية على أفراد وفئات المجتمع استناداً على معايير العدالة والمساواة.

فمرحلة النضج تعني توفير الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين، وتشمل هذه الحقوق تقارب مستويات الدخل والثروة، وإتاحة التعليم والرعاية الصحية والحق في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والمساواة في الفرص دون تمييز.

الفصل الخامس: أنماط التحول الديمقراطي

يرى “محمد عابد الجابري” أن الانتقال من الحكم اللاديمقراطي إلى حكم ديمقراطي يفترض: إما أن يتولى الحكام أنفسهم القيام بعملية الانتقال هذه، وفي هذه الحالة سيكون عليهم التنازل عن السلطة، وإما إجبارهم بوسيلة من الوسائل عن التنازل بشرط وجود قوي في المجتمع قادرة على فرض الديمقراطية والحفاظ عليها”[38]، ونخلص من ذلك أن الانتقال إلى الديمقراطية يطرح من الناحية العملية أحد خيارين:

الأول: التدرج وذلك بالعمل على إفساح المجال للقوى الديمقراطية في المجتمع لتنمو وتترسخ.

الثاني: الضغط وذلك بحمل الحاكم على التنازل تحت ضغط القوي الديمقراطية أو إزاحته من طرف هذه القوي.

وحول هذا المعني يقول “جان ليكا” إنه لا يجب أن ننظر إلى الانتقال إلى الديمقراطية على أنه أمر مفروغ منه، كما ينبغي تفحص ظروفه بصرف النظر عما نرغب أن نعتقد به كمواطنين، إن موجات التحرك نحو الديمقراطية لا تشبه تحرك موجات البحر فهي تتكسر بسهولة أكبر، ولكن ارتدادها أقوى بكثير ولا يمكن التنبؤ به.

الأنماط المختلفة للتحول الديمقراطي

أنماط التحول الديمقراطي هي مجموعة من الأساليب والإجراءات التي تتبعها عملية التحول من النظم غير الديمقراطية بمختلف مسمياتها بهدف الوصول إلى نظم ديمقراطية، أو هي المسارات التي تتخذ للوصول إلى الديمقراطية، ويمكن وصف عملية إنهاء النظم السلطوية بأنها عملية كفاح مستمر وممتدة زمنياً لكن يكتنفها الغموض في الكثير من المراحل، وهي تمر عبر مسارات مختلفة للتغيير تتراوح بين التدرج السلمي والانقلاب العنيف[39].

وإذا كانت عملية الانتقال إلى الحكم الديمقراطي تحدث نتيجة عوامل عديدة، داخلية وخارجية، يتفاوت تأثيرها من حالة إلى أخرى، فإن طبيعة الفاعلين السياسيين وميزان القوة النسبي بينهم هو الذي يحدد في الغالب طريقة أو أسلوب الانتقال.

ومع التسليم بصعوبة تصنيف طرق الانتقال إلى الحكم الديمقراطي نظراً لتعددها وتداخلها، فإنه من واقع خبرات وتجارب الدول التي شهدت انتقالاً ديمقراطياً خلصت بعض الأدبيات إلى بلورة أربعة طرق رئيسية للانتقال تختلف مسمياتها من باحث إلى آخر، وهي: الانتقال من أعلى، أي الذي تقوده النخبة الحاكمة أو الجناح الإصلاحي فيها، والانتقال من أسفل، وهو الذي تقوده قوى المعارضة على إثر انهيار النظام الحاكم أو الإطاحة به من خلال انتفاضة أو ثورة شعبية، والانتقال من خلال التفاوض والمساومة بين الحكم وقوى المعارضة، وأخيراً التحول الناجم عن تدخل عسكري خارجي.

أولاً: التحول من أعلى Transformation

وفقاً لهذا النمط من التحول تبادر القيادة السياسية في النظام غير الديمقراطي باتخاذ الخطوات والإجراءات التي تؤدي إلى تحول النظام باتجاه الديمقراطية، فقادة النظام غير الديمقراطي هم الذين يلعبون الدور الحاسم في إنهاء نظمهم وتحويلها إلى نظم ديمقراطية، فهو انتقال تقوده القيادة السياسية أو الجناح الإصلاحي في النخبة الحاكمة، أي أنه انتقال يتم من داخل النظام القائم، لذلك يسميه البعض “منحة الديمقراطية” حيث تمنح السلطة الحاكمة للشعب حق ممارسة الديمقراطية.

وقد لا تكون مبادرات التحول الديمقراطي التي تقوم بها قيادات النظام غير الديمقراطي ناتجة عن الإيمان بالمبادئ الديمقراطية بقدر ما يكون الدافع في الغالب حينما تشعر القيادة والنخبة الحاكمة أن الانشقاق على النظام القائم قد تصاعدت حدته، وأن محاولة استخدام القوة ضد الجماهير أصبحت وشيكة الوقوع، لذلك تأخذ بزمام المبادرة وتمنح الشعب بعض الإصلاحات أو تعده بذلك، وقد يكون ذلك لرغبة حقيقة في التحول نحو الديمقراطية، أو حيلة سياسية للخروج من مأزقها، وبالتالي تتيح لنفسها الوقت لصياغة آليات جديدة تمكنها من مد هيمنتها وإطالة عمرها.

لذلك يقدمون على القيام بخطوات بطيئة على طريق التحول تسمح لهم بالحفاظ على مصالحهم عن طريق وضع مجموعة من القوانين التي تنظم معالم التحول وتعطي لقيادات النظام قدر من السلطة يسمح لهم بمقاومة هذا الانفتاح، حتى إذا ما تغيرت الظروف التي أجبرتها على اتخاذ تلك الخطوات أو هددت مصالحها المباشرة أوقفت تلك التحولات وتراجعت عما تحقق.

وفي بعض الحالات يكون للجناح الإصلاحي داخل النخبة الحاكمة دور كبير في عملية الانتقال، ومع الأخذ بعين الاعتبار حقيقة وجود تباينات بين تجارب الدول التي شهدت انتقالاً ديمقراطياً من أعلى، فإنه يمكن القول إن عملية الانتقال طبقاً لهذا المسلك غالباً ما تتم بإحداث تحول تدريجي للنظام السياسي عبر مراحل متعددة ومتداخلة، تبدأ بالتحرك على طريق الانفتاح السياسي، ويكون ذلك مقدمة للانتقال الديمقراطي.

وفي ظل هذا المشهد يمكن التمييز بين نوعين من القيادة التي تبادر بإحداث التحول، فهناك مبادرة القيادة السياسية المدنية حيث يرتبط اختيار هذه النخبة بالحاجة لإجراء تغيير رمزي تستقبله القوي الاجتماعية والإقليمية والدولية المعنية باعتباره نقطة تحول جوهرية واختلاف تام مع الحقبة السابقة خاصة على مستويات التنظيم الاقتصادي والاجتماعي والخطاب الإيديولوجي، وذلك عن طريق اتخاذ جملة من القرارات التي تستهدف إحداث هذا التغيير الجذري، وبالتالي يعتبر تحولاً دعائياً من وجهة نظر النخبة الحاكمة إلَّا أنه لا يفقد المغزى المهم لعملية التحول، بمعني آخر لا ينبغي اعتباره مبرراً لتجاهل التطور الذي حدث في النظام السياسي بسبب التحول لأن الطابع الدعائي يختفي تدريجياً لصالح تحول ديمقراطي تدريجي.

وهناك مبادرة القيادة العسكرية الحاكمة حيث لا يعتبر العسكريون أنفسهم حكاماً دائمين للبلاد ويقدمون تصوراً مفاده أنه بمجرد أن يصححوا الأخطاء التي دفعتهم لتولي السلطة سوف يتنازلون عن السلطة، ومع ذلك يحتفظون لنفسهم بحق العودة إلى السلطة مرة أخرى عندما تكون هناك ضرورة لذلك أو عندما تتهدد مصالحهم، وهذا يعني أن قادة النظام السلطوي سواء كانوا مدنيين أو عسكريين هم الذين يؤدون دوراً حاسماً في إنهاء نظامهم وتحويله إلى نظام ديمقراطي.

ويتميز هذا النوع من التحول بالسمات الآتية:

  • أن قادة النظام السلطوي يمكنهم قلب محاولاتهم ومبادراتهم إذا أدي الانفتاح السياسي إلى بروز موقف تكون فيه تكلفة التسامح أعلى من تكلفة القمع بحيث يضر هذا التسامح بالنظام العام.
  • بإمكان القادة السلطويين صياغة قواعد رسمية للعملية السياسية تضمن الحفاظ على مصالحهم الحيوية في ظل نظام ديمقراطي جديد، فيما ينتج ديمقراطية مقيدة نظراً لاستمرار بعض القادة السابقين في هيكل السلطة بما يمكنهم من استمرار مقاومة الإصلاحات الديمقراطية التي تضر مصالحهم.

ثانياً: التحول من أسفل Replacement

يأخذ هذا النمط للانتقال شكلين رئيسيين، أولهما الانتقال نتيجة لتكثيف الضغوط على النظام الحاكم من خلال مظاهرات واحتجاجات شعبية قد تكون منظمة تقودها وتشارك فيها قوى المعارضة، وقد تنطلق بصورة عفوية بحيث تجبر النظام في نهاية المطاف على تقديم تنازلات تفتح الطريق للانتقال الديمقراطي على غرار ما حدث في كل من الفلبين وكوريا الجنوبية والمكسيك.

وثانيهما الانتقال الذي تقوده قوى المعارضة على إثر انهيار النظام غير الديمقراطي أو إطاحته بواسطة انتفاضة أو ثورة شعبية، ففي أعقاب ذلك تبدأ مرحلة تأسيس نظام ديمقراطي جديد يحل محله، وبصفة عامة يعكس هذا النمط من الانتقال حدوث خلل كبير في ميزان القوى بين الحكم وقوى المعارضة لصالح الأخيرة، وبخاصة في حالة انهيار شرعية السلطة، وتصدع النخبة الحاكمة، وتخلى الجيش عن مساندة النظام التسلطي، ووجود تأييد شعبي واسع للمعارضة.

وعادة ما تتوافق قوى وأحزاب المعارضة على خطوات وإجراءات لتأسيس نظام ديمقراطي على أنقاض النظام التسلطي، وقد حدث الانتقال وفقاً لهذا النمط في بلدان عديدة من بينها البرتغال واليونان والأرجنتين ورومانيا.

ثالثاً: التحول من خلال التفاوض Transplacement

يحدث التحول الديمقراطي هنا على أرضية اتفاق أو تعاقد يتم التوصل إليه عبر المفاوضات والمساومات بين النخبة الحاكمة وقوى المعارضة، وغالباً ما يأتي ذلك كمحصلة لوجود نوع من التوازن النسبي في ميزان القوى بين الطرفين، فالنخبة الحاكمة تصل إلى قناعة مفادها أنها غير قادرة على الاستمرار في السياسات المغلقة والممارسات القمعية بسبب الضغوط الداخلية والخارجية، وأن كلفة الانفتاح السياسي والانتقال إلى صيغة ما لنظام ديمقراطي ضمن اتفاق مع المعارضة يضمن بعض مصالحها – أي مصالح النخبة الحاكمة – هي أقل من كلفة الاستمرار في السياسات غير الديمقراطية.

وعلى الطرف المقابل تبدو قوى المعارضة غير قادرة على الإطاحة بالنظام، وبالتالي تجد أنه لا بديل أمامها غير التفاوض والمساومة مع النخبة الحاكمة من أجل الانتقال إلى الديمقراطية، ويُلاحظ أن المفاوضات والمساومات بين الجانبين تكون قد جرت في كثير من الحالات على خلفية تظاهرات واحتجاجات شعبية حركتها قوى المعارضة وممارسات قمعية من جانب السلطة.

ومن بين العوامل المهمة التي تدفع النظام السلطوي إلى الدخول في المفاوضات مع القوي المعارضة هي احتمال أفول نجم النظام السياسي أو أفول نجم أيدولوجيته والتردي الاقتصادي الذي قد يصل إلى حد الإفلاس أو ضغوط خارجية متزايدة.

وفي كثير من الحالات تجري النخبة الحاكمة مع المعارضة مفاوضات سرية وعلنية للوصول إلى حل يحمي مصالح الأطراف الفاعلة وعن العوامل التي تدفع الأطراف للمفاوضات هي من جهة شعور المعارضة بافتقادها القوة الكافية التي تساعدها على الإطاحة بالنظام القائم ومن جهة ثانية تعرض النظام إلى ضغوط داخلية وخارجية كبيرة.

ولا يشترط أن تكون عملية التفاوض مكتوبة فقد تكون عبارة عن تفاهم غير مكتوب بين الطرفين يعكس التزام كل طرف بتنفيذ بنود ذلك الاتفاق.

وقد حدث هذا النمط من التحول في بلدان عديدة منها الجزائر عام 1988 في عقاب أعمال احتجاج سياسي عنيف وواسع النطاق، وكذلك حالة جنوب أفريقيا خلال عامي 1989 – 1990 بعد سنوات من الكفاح المسلح ضد العنصرية.

رابعاً: التحول من خلال التدخل العسكري الخارجي

غالباً ما ارتبط هذا النمط من التحول الديمقراطي بحروب وصراعات تؤثر فيها وتحكمها مصالح وتوازنات داخلية وإقليمية ودولية، وهو يحدث في حالة رفض النظام الحاكم التغيير وعدم بروز جناح إصلاحي داخله، وعجز قوي المعارضة عن تحديه والإطاحة به بسبب ضعفها وهشاشتها نتيجة لسياساته القمعية.

وفي ظل هذا الوضع لا يكون هناك من بديل للإطاحة به والانتقال إلى نظام ديمقراطي سوي التدخل العسكري الخارجي الذي يمكن أن تقوم به دولة واحدة على نحو ما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية في كل من جرينادا وبنما في ثمانينات القرن الماضي، أو تحالف يضم مجموعة من الدول على غرار الحرب التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية بمشاركة دول أخرى ضد أفغانستان في عام 2001، وضد العراق في عام 2003.

وعادة ما يحدث التدخل العسكري الخارجي لأسباب وذرائع مختلفة منها إلحاق الهزيمة بنظام ديكتاتوري، أو التدخل لأسباب إنسانية ووضع حد لحرب أهلية طاحنة، ويلاحظ أن غالبية حالات التدخل العسكري الخارجي لم يكن الهدف الرئيسي منه تأسيس نظام ديمقراطي بل كانت هناك أهداف ومصالح أخري، وإذا كان التدخل العسكري الخارجي قد نحج في بعض الحالات كما هو الحال في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية فإنه فشل في حالات أخرى كثيرة منها على سبيل المثال فشله في أفغانستان والعراق[40].

وقد اهتمت دراسات عديدة بتفسير ظاهرة فشل التدخل العسكري الخارجي في تحقيق الانتقال الديمقراطي في العديد من الدول والتي انتهت إلى أن طريقة الانتقال تؤثر على نوعية أو طبيعة النظام الوليد وعلي فرص واحتمالات استمراره وترسيخه في مرحلة ما بعد الانتقال، حيث إن الانتقال السلس والسلمي الذي يتم بمبادرة من النخبة الحاكمة أو من خلال التفاوض بين الحكومة والمعارضة، أو بعد الإطاحة بالنظام بواسطة انتفاضة أو ثورة شعبية سلمية غالباً ما يكون مصحوباً بدرجة أعلى من الديمقراطية، وفرص أفضل لاستمرار وترسيخ النظام الديمقراطي الناشئ.

وبالمقابل فإن الانتقال العنيف يكون في الغالب مقروناً بدرجات أدني من الديمقراطية وفرص أقل لاستمرارية النظام الديمقراطي واستقراره، بل إنه تزداد في مثل هذه الحالة احتمالات الارتداد إلى شكل من أشكال التسلطية، أو وقوع البلاد في صراع داخلي أو حرب أهلية.

وختاماً فإن التحول الديمقراطي عملية معقدة ومتعددة المراحل، وتشهد من الناحية الواقعية تداخلاً بين أكثر من نمط من الأنماط السابقة.

الفصل السادس: أشكال التحول الديمقراطي

يختلف الباحثون حول الطرق التي يتم بها الانتقال الديمقراطي فنمط التحول يختلف من دولة إلى أخري، ومن نظام سياسي إلى آخر، ويرجع هذا الاختلاف إلى طبيعة النظام السياسي القائم حيث يوجد شكلين أو طريقتين يحدث بهما التحول الديمقراطي.

أولاً: التحول الديمقراطي بالطرق السلمية

يتم هذا التحول دون اللجوء إلى استعمال العنف والإكراه المادي، فالتحول الذي يحدث يكون مفتوحا من طرف السلطة الحاكمة لإدراكها بضرورة التغيير والتكيف مع المعطيات الجديدة والأوضاع الراهنة، وقد يكون الضغط من خارج السلطة الحاكمة لكن أن يصل ذلك إلى استعمال العنف، مثل لجوء الشعب إلى العصيان المدني.

ووسائل التحول الديمقراطي السلمي متعددة منها الانتخابات الحرة والتداول السلمي للسلطة والتحول والتكيف والإرغام اللاعنيف والتحلل، ففي مرحلة التحلل تقر السلطة الحاكمة بمشروعية أهداف المعارضة، وفي مرحلة التكييف يقدم الحكم تنازلات محدودة لا تصل إلى التغيير الجذري وإنما يقدمها لتفادي تنازلات أكثر، وفي مرحلتي الإرغام والتحلل تبدأ تباشير تغير علامات موازيين القوة وتوازناتها ثم يتغير الموقف بأكمله.

ثانياً: التحول الديمقراطي بالطرق غير السلمية

إذا أصبحت الحاجة والرغبة إلى التغيير والتحول الديمقراطي ضرورة حتمية وإذا لم يتم ذلك بالطرق السلمية فحتماً سيأخذ منحي آخر باللجوء إلى العنف كوسيلة للتحول الديمقراطي سواء كان ذلك عن طريق الانقلابات العسكرية حيث يتم الإطاحة الفجائية والسريعة بالنخبة الحاكمة وغالباً ما تتسم بالعنف، أو تتم من داخل النخبة الحاكمة ذاتها فتحل محلها نخبة جديدة محل التي تم الإطاحة بها، وغالباً ما يتم ذلك بمساعدة المؤسسة العسكرية أو أجهزة الأمن ولا يساندها عادة مساندة شعبية.

أو عن طريق العنف الشعبي حيث يتحول السخط الشعبي عن النظام إلى قوة تقوّض أسس النظام عن طريق الثورة الشعبية، ويعتبر العنف ظاهرة عامة لا تختص به جماعة معينة ولا دولة بعينها، حيث يوجد في كل المجتمعات ولكن بدرجات متفاوتة وفي مراحل زمنية مختلفة، وبصور وأشكال متعددة ولأسباب متداخلة[41].


الهامش

[1]– جابرييل إيه. آلموند، جي. بنحهام باويل الابن – السياسة المقارنة في وقتنا الحاضر ” نظرة عالمية” – ترجمة أحمد علي وأحمد عناني – القاهرة مكتبة الوعي سنة 1966 – صفحة 184، 185.

[2]– صامويل هانتنجتون – المرجع السابق – صفحة 120.

[3]– صامويل هانتنجتون – المرجع السابق – صفحة 120.

[4]– د. محمد السيد سليم، د. نيفين مسعد – العلاقة بين الديمقراطية والتنمية في أسيا – مركز الدراسات الأسيوية – كلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة – سنة 1997 – صفحة 20.

[5]– George Sorensen، Democracy، Democratization: Processes and Prospects in changing world، 1988، P. 65.

[6]– د. أماني عبد اللطيف – التحول الديمقراطي في روسيا الاتحادية ” 1990: 2008 ” – رسالة ماجستير -صفحة 38.

[7]– د. خيري أبو العزايم فرجاني -التحول الديمقراطي في النظام المصري – صفحة 47.

[8]– Jean Gruged Democratization: A Critical Introduction، 2002، P.51.

[9]– Laurence. Whitehead ، Democratization theory experience ، New York ، Oxford University Process ، inc. 2002.

[10]– Jean Gruged Democratization: A Critical Introduction، op.cit.P،48.

[11]– صامويل هانتنجتون – المرجع السابق – صفحة 125.

[12]– Jean Gruged Democratization: A Critical Introduction، op.، cit.، p.49.

[13]– صامويل هانتنجتون – المرجع السابق – صفحة 125.

[14]– صامويل هانتنجتون – المرجع السابق – صفحة 118.

[15] – د. محمد كامل عبيد – المرجع السابق – صفحة 103.

[16] – د. محمد كامل عبيد – المرجع السابق – صفحة 104.

[17] – د. سعد الدين إبراهيم – المجتمع المدني والتحول الديمقراطي – طبعة 2000 – صفحة 13.

[18] – د. محمد كامل عبيد – المرجع السابق – صفحة 103، 104.

[19]– د. أمين عاطف صليبا – المرجع السابق – صفحة 42، 43.

[20]– د. معتز بالله عبد الفتاح – التحول الديمقراطي في الوطن العربي في دور تسلطية تنافسية، كيف وصلت الدول إلى الديمقراطية – صفحة 30.

[21]– د. شادية فتحي إبراهيم عبد الله – الاتجاهات المعاصرة في دراسة النظرية الديمقراطية – المركز العلمي للدراسات السياسية الأردن – الطبعة الأولى سنة 2005 – صفحة 34.

[22]– د. شادية فتحي إبراهيم – المرجع السابق – صفحة 34.

[23]– د. شادية فتحي إبراهيم – المرجع السابق – صفحة 36.

[24]– د. حسن فياض عامر – الديمقراطية الليبرالية في مركبات وتوجهات السياسية الخارجية الأمريكية إزاء الوطن العربي – مجلة المستقبل العربي – العدد 261 – نوفمبر 2000 – صفحة 149.

[25]– د. حسنين توفيق إبراهيم – التطور الديمقراطي في الوطن العربي “قضايا وإشكاليات” – مجلة السياسة الدولية – العدد 142 – أكتوبر 2000-صفحة 27، 28.

[26]– د. راوية توفيق – الحكم الرشيد والتنمية في إفريقيا “دراسة تحليلية لمبادرة النيباد” – معهد البحوث والدراسات الإفريقية – جامعة القاهرة 2005 – صفحة 39.

[27]– د. حسنين توفيق إبراهيم – النظم السياسية العربية “الاتجاهات الحديثة في دراستها” – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – طبعة 2005 – صفحة 135

[28]– د. برهان غليون – الديمقراطية العربية “جذور الأزمة وآفاق النمو” دراسات نقدية – صفحة 141.

[29]– صامويل هانتنجتون – المرجع السابق – صفحة 153.

[30]– د. حسنين توفيق إبراهيم – المرجع السابق – صفحة 99.

[31]– د. بلقيس أحمد منصور – الأحزاب السياسية والتحول الديمقراطي ” دراسة تطبيقية على اليمن وبلاد أخري – مكتبة مدبولي – القاهرة 2004 – صفحة 28: 30.

[32]– د. شهرزاد صحراوي – هيكلة التحول الديمقراطي في المنطقة المغاربية – رسالة ماجستير مقدمة لكلية الحقوق والعلوم السياسية – جامعة بسكرة – الجزائر 2012: 2013، صفحة 12.

[33]– د. إيمان عبد الحليم – المرجع السابق – صفحة 22.

[34]– د. أميرة إبراهيم حسن – التحول الديمقراطي في المغرب ودور المؤسسة الملكية ” 1992 – 1998 ” – صفحة 23.

[35]– د. إيمان عبد الحليم – المرجع السابق – صفحة 23.

[36]– د. نجلاء الرفاعي البيومي – المرجع السابق – صفحة 26.

[37]– د. نجلاء الرفاعي البيومي – المرجع السابق – صفحة 29، 30.

[38]– د. محمد عابد الجابري – الديمقراطية وحقوق الإنسان – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – الطبعة الأولى 1994 – صفحة 80.

[39]– د. حمدي عبد الرحمن – قضايا وإشكاليات التحول الديمقراطي في إفريقيا – ندوة مستقبل الديمقراطية في إفريقيا – نظمها مركز البحوث والدراسات الإفريقية – جامعة القاهرة الفترة من 17 إلى 19 مارس سنة 2002 – صفحة 11.

[40]– د. حمدي عبد الرحمن – المرجع السابق – صفحة 25.

[41] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close