fbpx
دراسات

الانتماء العرقي والديني والأمن القومي: إطار نظري

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

من الصعب المضي قدمًا في دراسة القضايا الاجتماعية والسياسية دون إلقاء الضوء على المفاهيم الرئيسية التي تتعرض لها الدراسة، خاصة في ظل تعدد تعريفات المفهوم الواحد طبقاً لكل مفكر أو مدرسة فكرية، لذلك سوف تدور الدراسة بالأساس حول كل من مفهوم العرقية، ومفهوم الأمن القومي، وسوف يتم العرض لكلا المفهومين بشكل منفصل، تمهيدًا لدراسة العلاقة النظرية بينهما، وسوف يتم التعرض لبعض التعريفات العامة لكلا المفهومين؛ من أجل وضع بعض الخصائص العامة لكل منهما.

أولا: مفهوم العرقية

على الرغم من البساطة الشكلية التي يتسم بها مفهوم “العرقية” إلا أن المفهوم في غاية التعقيد بحيث تتعدد تعريفاته، وتتعدد اقترابات دراسته، فالجماعات العرقية على حسب تعدد المفاهيم قد تتنوع من كونها مجموعات صغيرة داخل الدولة مثل: الأمازيغ في الجزائر، أو تتسع لتشمل الآسيويين واللاتينيين والعرب والأوروبيين والأفارقة، ويرى كل من جون هيتشنسون وانتوني سميث أن مصطلح العرقية هو مصطلح جديد نسبيًا، ظهر لأول مرة في قاموس أكسفورد الإنجليزي في 1953، إلا أن اصوله تعود للصفة “عرقي” التي كان يتم استخدامها بكثره في العصور الوسطى، إلا أن الكلمة تعود في أصولها للكلمة اليونانية ethnos التي كانت تشير إلى القبيلة أو مجموعة الأفراد.[1] وفي العصر الحديث بدأ استخدام المفهوم على نطاق واسع كسبيل للتفرقة بين “نحن” و”هم”، بحيث تشير “نحن” إلى الأغلبية، بينما هم “غير العرقيين”، في حين أن “هم” كانت تشير إلى الأقلية “العرقية”.

العرق في اللغة العربية يعرف بأنه أصل كل شيء[2]، كما يعرف معجم المصطلحات السياسية العرق بأنه مجموعة من البشر يشتركون في عدد من الصفات الجسمانية أو الفيزيائية على فرض أنهم يمتلكون موروثات جينية وثقافية واحدة[3].

وفي الأدبيات العربية أصبح تعبير العرقية يستخدم بشكل متزايد ليقابل التعبير الإنجليزي الإثنية Ethnicity، وعند حديثنا عن العرق سنبدأ بالحديث عنه انطلاقًا من أنه مفهوم مرادف للإثنية، حيث أن هناك اتجاه يركز على مفهوم العرق باعتباره عدد من الخصائص البيولوجية والجسمانية التي تتوارثها جماعات البشر دون أن يضيف إلى ذلك الثقافة السياسية التي تشترك فيها جماعة ما من البشر، فعلى سبيل المثال يرى الدكتور “عمر عبد الجبار” – أستاذ علم الاجتماع بجامعة أم درمان – أن مفهوم العرق يشير إلى الاختلافات الفيزيقية والبيولوجية التي يرى أعضاء مجتمع ما أن لها أهمية اجتماعية، أما الإثنية فهي الهوية الثقافية والمظاهر والممارسات الثقافية لمجتمع معين، والتي نشأت تاريخيًا، وتنزع نحو فصل الناس عن بعضهم البعض، ولكن الدلائل تشير إلى رجحان كفة الاتجاه القائل بأن العرقية هي الإثنية، حيث أن كثيرًا من الدراسات الأوروبية ركزت على الأبعاد المادية لمفهوم الإثنية مرادفة إياها بالعرقية، فكلمة “إثني” مشتقة من الأصل الإغريقي لكلمة Evikos وتعني الوثني أو الهمجي، والمشتقة بدورها من الجذر اللغوي Evos Ethnos بمعنى العرق أو الأمة[4]، في إشارة إلى الشعوب والأمم كما ذكر “هيرودوتس” في القرن الخامس قبل الميلاد وهو ما تؤكده موسوعة العلوم الاجتماعية[5].

كما توافق هذا أيضًا مع الدراسات الأمريكية التي عملت على إضافة الأبعاد الاجتماعية والثقافية للمفهوم، الأمر الذي انعكس تبعًا على التعريفات المعطاة لمفهوم العرقية أو الإثنية في المعاجم والقواميس الصادرة على جانبي المحيط الأطلنطي، فعلى سبيل المثال تؤكد القواميس المدرسية البريطانية التي تستخدم في التنشئة الاجتماعية على ذلك من حيث المعاني والدلالات التي يعكسها هذا المفهوم، كذلك الحال بالنسبة لخبرة الدراسات العرقية على الساحة الأفريقية، فعلى صعيد التعريفات استخدم عدد كبير من الباحثين الإثنية مفهوم مرادف أو مطابق لمفهوم العرقية أو الجماعة العرقية، حيث تشير الدراسات إلى أن أول استخدام لمفهوم العرق في الكتابات المتعلقة بأفريقيا كان على يد سليجمان Seligman عام 1936، وأنه دأب في كتاباته على الحديث عن الجماعات العرقية واللغوية بدلاً من توظيف مفهوم الإثنية في التحليل[6].

وفيما يرتبط بالعلاقة بين العرق والإثنية، فإنه يمكن القول أن المفهوم يشتمل على عناصر كثيرة شديدة التداخل والاختلاط والارتباط على نحو ما تكشف عنه بعض التعريفات في عديد من الدراسات والكتابات، فنجد على سبيل المثال أن معظم القواميس العربية للغة الإنجليزية قد تبنت هذا النهج كقاموس “المورد” الذي ترجم كلمة Ethnic إلى عرقي أو إثني[7]، وكان ذلك من العوامل الرئيسية التي دفعت العديد من الباحثين إلى مهاجمة التفرقة الغربية بين الإثنية والعرق، والتي لا ترتكز على أسس موضوعية[8]، لأنهما مفهوم واحد كما أوضحنا.

وبمرور الوقت، بدأت تظهر العديد من المصطلحات المتعددة مثل “الهوية العرقية”، و”الأصل العرقي” و”المركزية العرقية”، حيث يقصد بـ “الهوية العرقية” أو “الأصل العرقي”: تراث الأسلاف الذي ينتمي إليه الفرد، بينما يقصد بـ “المركزية العرقية”: هي الاعتقاد بأن مجتمعك أو أصولك الثقافية يسمو على غيره من الثقافات، وينتج عن ذلك الكره الشديد لكل مادة، سلوك أو خصائص مادية مختلفة عن ثقافتك الشخصية، وتعتبر أعمال سيان جونز في عام 1997، أحد أهم الأعمال في سبيل وضع تعريف أنثروبولوجي لمفهوم العرقية، وترى جونز أن هناك ثلاثة مصطلحات مرتبطة بما هو “عرقي” كالتالي:

مفهوم “العرقية” ويعرف على أنه: “كل تلك الظواهر الاجتماعية والسيكولوجية المرتبطة بالهوية الثقافية المؤسسة لجماعة ما”، في حين أن “الهوية العرقية” تعرف على أنها: “ذلك الجانب من تصور الشخص لذاته، والنابع من ارتباطه بمجموعة أوسع في رفض للمجموعات الأخرى على أساس الاختلافات الثقافية و/ أو الأصل المشترك”. أما الجماعة العرقية فتعرف على أنها: “أي مجموعة من الأفراد يصنفون أنفسهم، أو يصنفهم الآخرون بمجموعة مميزة هم، ومن يتعاملون، أو يتواجدون معهم على أساس تصوراتهم للتمايز الثقافي و/أو الأصل المشترك”.[9]

تطور المفهوم

استخدم بداية مفهوم العرق كمصطلح بيولوجي، وذلك في النقاشات العامة لتوصيف جماعة من البشر، تنبني روابط بين بعضهم البعض على عوامل أخرى غير العلاقات الوراثية، فمصطلحات كـ “العرق اليهودي” أو “العرق الفرنسي” تنطوي على أن اللغة المشتركة، والدين، والإقامة في البقعة الجغرافية الواحدة، والمواطنة في دولة واحدة، وتخلق كلها روابط عرقية، وتثبت مئات الدراسات أن الخصائص الجسدية التي تميز عرقًا عن عرق آخر ليست لها معايير بيولوجية ثابتة، بل هناك عوامل أخرى بيئية واجتماعية يمكن أن تحدث اختلافًا من جيل إلى جيل[10].

ونظرًا لاحتواء المفهوم على أبعاد ودلالات اجتماعية وثقافية تم إدخاله ضمن العلوم الاجتماعية، ويعود الاهتمام بهذا المفهوم على مستوى الدراسات الاجتماعية إلى عصور تاريخية سابقة تمتد إلى المفكرين اليونانيين القدماء.

فأفلاطون طالب بالقضاء على الولاءات الضيقة وحذر من خطورة عدم شعور جماعة معينة بالانتماء إلى دولتها، أو بالتقارب مع الجماعات الأخرى، وتحولها بهذا الولاء إلى جماعات تعيش داخل دولة أخرى، كما رأى أرسطو عند حديثه عن الثورات أن عدم التجانس والاختلافات العرقية داخل المجتمع قد تؤدي إلى الفتنة والعصيان حيث أن الاختلافات العرقية قد تكون بيئة مناسبة لحدوث الثورات[11].

وأكد ميكافللي أن الاختلافات العرقية تؤدي لصعوبة كبيرة في حكم الشعب الذي يختلف أفراده في اللغة والعادات[12].

كما رأى موزفينيلي أن روما كانت تعد مدينة هائلة من الناحية السكانية ذات نظام هرمي قادر على دمج الأجانب، على عكس أثينا ذات الديمقراطية الإثنية التي كانت تستبعدهم لأنه لا تجري في عروقهم الدماء الأثنية[13].

وفي بداية القرن العشرين شاع الاهتمام بالجماعات العرقية ومجالات البحث فيها بين الساسة وعلماء الاجتماع في الغرب، لا سيما في أعقاب الحرب العالمية الأولى التي أسفرت عن انهيار عدد من الإمبراطوريات والدول الكبرى كالإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية النمساوية والمجرية[14].

وفي النصف الثاني من القرن العشرين بدأ تدشين أسس البحث الأكاديمي في الدراسات العرقية وتطويرها بشكل جزئي كرد فعل على الأدبيات التقليدية فيما يرتبط بعلم الأنثروبولوجى والتاريخ، فقد عملت تلك الدراسات العرقية على دراسة الأقليات وأوضاعهم ولغاتهم وقيمهم، وقد عزز من ظهور تلك الدراسات نشاط حركات في مجال الحقوق المدنية، ودعمها لمطالبات الملونين بحقوقهم ومساواتهم مع غيرهم من الجماعات في المجتمع[15]، ومن أمثال ذلك الأفارقة الأمريكيين، والأمريكيين الآسيويين، والأمريكيين من أصل لاتيني، وذلك في الفترة من أواخر الستينيات إلى أوائل السبعينيات[16].

التعريف التقليدي للعرقية:

ويمكن القول بوجود مدرستين رئيستين تقليديتين في تعريف مفهوم العرقية، أولهما: المدرسة التقليدية، والثانية: المدرسة البراجماتية، فمنظري المدرسة التقليدية، يرون أن العرقية هي: ” ظاهرة طبيعية تضرب بجذورها في العلاقات الأسرية، وتنبع من الارتباط بالأقارب، بحيث يتم تضييق المفهوم الاجتماعي ليقام على أسس بيولوجية.” وعلى سبيل المثال، قام ايزاك أن بتطوير مفهوم أطلق عليه “هوية الجماعة الأساسية”، لدراسة الروابط الأساسية كوسيلة لتفسير قوة واستمرارية الهوية العرقية.[17] وارتبط مفهوم هوية الجماعة الأساسية عند ايزاك بمفهوم الهوية العرقية، والتي نظر إليها على أنها مكتسبه عند الميلاد، وتعتبر طبيعية وأساسية أكثر من الروابط الاجتماعية الأخرى، ويعد أحد أهم الانتقادات التي تم توجيهها للاقتراب الأساسي، هو نظرته لأصل العرق من وجهة نظر طبيعية مستمرة، ولا تأخذ في اعتبارها العملية الثقافية، والعوامل الاجتماعية الأخرى التي تشكل المجتمعات العرقية. فضلا عن أن الاقتراب الأساسي ينظر للهوية العرقية على أنها مكتسبه دون تدخل الفرد، فهي فرض عليه نظرًا لميلاده داخل جماعة معينة دون غيرها. ومن ناحية أخرى، فإن الاقتراب لا يأخذ في اعتباره اختلاف رؤية الافراد أنفسهم للجماعة التي ينتمون إليها ودرجة ارتباطهم بأسرهم ومناطق نشأتهم.[18]

على النقيض، يرى منظري المدرسة البراجماتية أن “العرقية يتم تشكيلها اجتماعيًا، وأن الأفراد لديهم القدرة على المزج والاقتطاع من التراث العرقي، والثقافات المختلفة لتشكيل هويتهم الفردية أو الجماعية”.[19] وعادة ما ينظر للنظرية البرجماتية على أنها ذات اهتمام “بدور العرقية في الوساطة في العلاقات الاجتماعية، والمفاوضات في الحصول على الموارد، مبدئيًا، الموارد الاقتصادية والسياسية”. ويمكن تقسيم منظري المدرسة البرجماتية إلى نوعين: الأول: ويركز على الابعاد الهيكلية-الاجتماعية والثقافية للعرقية ويتبنى اقتراب أكثر موضوعية. والثاني: ويركز على العناصر السلوكية والشخصية للعرقية ويتبنى اقتراب شخصي.

ويمكن إرجاع أصل المدرسة البراجماتية إلى كل من: فريدريك بارث وأبنر كوهين، وقد نظر بارث للعرقية على أنها استراتيجية فردية يقوم الافراد من خلالها بالتحرك من هوية لأخرى لتطوير مصالحهم الاقتصادية والسياسية، أو لتقليل خسائرهم، ومن ثم، فإن الهوية العرقية طبقًا لبارث تتشكل من خلال هيكلة الحدود والتفاعلات ما بين الأفراد، وطبقًا لكل تفاعل اجتماعي، فإن الهوية العرقية للفرد، يمكن النظر إليها عادة بعدة أشكال مختلفة، وبشكل عام فإن التفاعلات الاجتماعية ما بين الأفراد لا تؤدي إلى استيعاب أو تجانس الثقافة، عوضًا عن ذلك، فإن التعددية الثقافية والهوية العرقية لا تزال موجودة، ولكن في شكل غير ثابت، والسمات الثقافية وحتى الأفراد يمكن أن يعبروا الحدود العرقية، وهو ما يؤدي بدوره لتحويل الجماعة العرقية عبر الوقت.[20]

من جانب آخر، فإن كوهين قام بالتركيز بشكل كبير على الجماعة العرقية كاستراتيجية جماعية منظمة لحماية المصالح الاقتصادية والسياسية، حيث يرى كوهين أن الجماعات العرقية تجمعها مصالح مشتركة، وفي سعيها لتحقيق تلك المصالح، فإنهم يطورون وظائف تنظيمية أساسية مثل التميز أو الحدود، والاتصال، وهيكل الدولة، وإجراءات صنع القرار، والأيديولوجية والسمات الاجتماعية.[21] ومن ثم، فإن كل من بارث وكوهين يركزان على الخصائص التنظيمية للعرقية، والعرقية بالنسبة لهم هي مؤسس للمعتقدات والمصالح والممارسات المشتركة، التي تعطي للجماعة تفردها وتميزها وحدودها والبعد التنظيمي اللازم للاستمرارية والتنافس على الموارد الاقتصادية والاجتماعية.

وعلى غرار المدرسة التقليدية، وجهت للمدرسة البراجماتية سهام النقد على عدة مستويات، وكان من أهم الانتقادات التي تعرضت لها:

  • أن المدرسة تأخذ اقتراباً اختزالياً لشرح مفهوم العرقية، فالعرقية تعرف على أسس انتظام السلوك العرقي في مواقف معينة.
  • ومن ناحية أخرى، فإن حصر العرقية في العلاقات الاقتصادية والسياسية ينتج عنه إهمال البعد الثقافي للعرقية، وفي نفس النطاق، فإن منظري المدرسة البرجماتية عادة ما يقعون في خطأ إهمال الأبعاد النفسية للعرقية، فلقد أثبتت العديد من الدراسات أن الأبعاد النفسية والثقافية تلعب دورًا هامًا في رؤية الفرد لذاته، وللجماعة التي ينتمي إليها، فضلاً عن أن تقسيم الجماعات العرقية لجماعات تختلف بناء على أهدافها السياسية، والاقتصادية قد يخلق خلطًا كبيرًا بين مفهوم الجماعة العرقية والأحزاب السياسية وجماعات المصالح.
  • ومن زاوية أخرى، فإن المدرسة تفترض أن السلوك البشري عقلاني، يتجه مباشرة نحو تعظيم المنافع الشخصية، وهو تعميم ينتج عنه إهمال ديناميكية القوة داخل الجماعة، وبين الجماعات وبعضها البعض.

وترفض جونز الاقترابين، الأساسي والبراجماتي، وترى أن هناك بديلاً يجمع ما بين الإثنين ويشكل “نظرية الممارسة”، يمكن من خلالها سد الفجوة ما بين العرقية والثقافة، فترى جونز أن العرقية ليست انعكاس سلبي للتشابهات والاختلافات في الممارسات الثقافية والشروط الهيكلية التي يجتمع عليها الأفراد، وفي نفس الوقت، العرقية ليست ناتجه بالكامل في عملية التفاعلات الاجتماعية، حيث تغيب الرموز الثقافية الثانوية لصالح المصالح الاقتصادية والسياسية.

وبدلاً من ذلك، ترى جونز أن العرقية يتم تشكيلها عبر الوعي والاعتراف اللاشعوري بالأشكال الفردية والجماعية للوكالة الإنسانية”.[22] وتقترح جونز بأن الفهم الحقيقي لمفهوم العرقية يمكن النظر إليه من خلال نظرية الممارسة، والتي تركز على العلاقة بين الشروط الموضوعية، والرؤى الشخصية، وتنطلق نظرية جونز من مفهوم بورديه للخلقة أو الهيئة، وترى جونز أن الخلقة هي “نتيجة التصرفات الدائمة نحو بعض المفاهيم والممارسات مثل: الأخلاق، الأذواق وغيرها، والتي تصبح جزءًا من شخصية الفرد في سن مبكرة، والتي يتم نقلها من محتوى لآخر”، وعليه، ترى جونز أن “البناء الذاتي للهوية العرقية يكمن في التصرفات اللاشعورية المشتركة للخلقة، والتي تشكل وتتشكل عبر القواسم المشتركة الموضوعية للممارسة.[23]

العرقية في هذا النطاق يمكن النظر لها على أنها حالة من التغير المستمر، وإعادة الإنتاج في سياقات اجتماعية مختلفة، وينظر للأفراد على أنهم “وكلاء اجتماعيين يتصرفون بشكل استراتيجي في السعي لتحقيق المصالح”، وبشكل جماعي، فإن الهوية ينظر لها على أنها “التصرفات المشتركة للخلقة”. وخلاصة القول، أن العرقية يمكن اعتبارها بمثابة الناتج لهوية الفرد والجماعة والتي تتشكل بدورها عبر السياقات المختلفة للتفاعلات الاجتماعية، العرقية ليست هي الثقافة ولا مساوي لها، بل هي في جزء منها تمثيل رمزي للفرد أو الجماعة، والتي يتم انتاجها وإعادة انتاجها وتحويلها عبر الوقت، ويمكن القول بأن أي تعريف لمفهوم العرقية، لا بد وأن يتضمن خمسة خصائص معينة كالتالي:

  1. اسم عام ومشترك يمكن على أساسه تعريف جوهر المجتمع.
  2. الاعتقاد بوجود أصل مشترك في مكان ما وفي وقت ما، مما يعطي الأقلية الإحساس الوهمي بالترابط.
  3. مشاركة الذكريات التاريخية، أو بمعنى آخر، وجود الذكريات المشتركة للماضي، بما فيها روايات الأبطال، الأحداث وما لها من آثار.
  4. وجود عنصر أو أكثر من الثقافة المشتركة، والتي عادة ما تتضمن وجود ديانة، لغة وعادات وتقاليد.
  5. وجود ارتباط مع الوطن، ولا يتشرط أن يكون الأفراد مقيمين عليه، ولكن على الأقل مرتبطين به معنويًا.

وعلى نطاق أوسع، يرى جيرالد بيريمان أن العرقية هي: مستوى من التطابق الاجتماعي أو غير المساواة الاجتماعية التي تتضمن العرق، النوع، العمر، الجنس، الطائفة، الملكية، ويرى بيريمان ضرورة التفرقة بين كل من العرقية “Ethnicity” والعرق “Race” والطبقة “Class”، فالعرق عادة ما يكون تعريف غير دقيق مرتبط بالصور النمطية التي عادة ما تكون غير صحيحة، في حين أن العرقية هي مفهوم ينظر للجماعة التي ينتمي إليها الفرد، ويشمل تعريفه للجماعة خصائصه الثقافية وعاداتها وتقاليدها، ومن ثم، فالعرقية كمفهوم أعم وأشمل من مفهوم العرق، فضلاً عن أن مفهوم الطبقة يصنف الفرد لجماعات تختلف باختلاف مستويات معيشتها وحالتها الاقتصادية والاجتماعية وليست الثقافية.[24]

وبشكل عام يمكن تعريف الجماعة العرقية على أنها:

جماعة من البشر يرتبط أفرادها فيما بينهم بقواسم وسمات مشتركة من الناحية البيولوجية الفيزيقية والتاريخية والثقافية والتركيز الجغرافي، مما يجعلها مختلفة عن الجماعات الأخرى المتعايشة معها في نفس المجتمع، ويؤدي إدراك واعتقاد أفرادها بهذا التمايز إلى توليد الولاء والتضامن فيما بينهم داخل الجماعة، كما يتم تكريس هذا التمايز من خلال عمليات التنشئة التي يخضع لها الفرد في إطار جماعته[25].

وبالتالي يضم التعريف عددًا من الخصائص التي تتميز بها الجماعة العرقية:

– التمايز الذي يتسم به أفراد الجماعة العرقية عن غيرهم من الجماعات المحيطة بهم في إطار المجتمع الأشمل، وينقسم هذا التمايز إلى:

  • تمايز يرتبط بالعوامل البيولوجية والفيزيقية والوراثية.
  • تمايز يرتبط بالعوامل الثقافية والتاريخية والجغرافية، والتي تشمل: وحدة الدين والعادات والتقاليد واللغة والبيئة.

– أفراد الجماعة يؤمنون بتمايزهم مما يولد لديهم شعور بالولاء لجماعتهم، ويزيد من وحدتهم وتضامنهم في إطار الجماعة.

– استمرار الجماعة بخصائصها المميزة يتأتى من عمليات التنشئة الاجتماعية، وغرس القيم الثقافية في أفراد الجماعة.

ثانياً: مفهوم الأمن القومي

1التعريف بالمفهوم

الأمن في المعنى اللغوي ضد الخوف والأمن: المستجير ليأمن على نفسهالأمن من آمن يأمن أمناً؛ فهو آمن، وآمن أمناً وأماناً، اطمأن ولم يخف، فهو آمن وأمن وأمين، والأمن يعني الاستقرار والاطمئنان.

قديمًا كانت النظرة الغالبة لمفهوم الأمن القومي لأي دولة أو أمة على أنه يرتبط كلياً بقوتها العسكرية القادرة على صون أمنها من كل خطر، لكن سرعان ما تغيرت تلك النظرة، وأدرك الجميع أن الأمن القومي يتعدى القدرات العسكرية للدولة إلى القدرات السياسية والاقتصادية والعلمية، وأصبح هناك إيمانًا بأن الاهتمام بالبعد العسكري وحده يؤدي إلى تهديد الأمن وليس حمايته، فليس في مقدور دولة تحقيق أمنها إذا كانت عاجزة عن تأمين الحد الأدنى من استقرارها الداخلي القائم على الحد الأدنى من العدالة والمساواة والتنمية.

إن انتهاك الحقوق والحريات وغياب المبادئ الديمقراطية وتفاقم الظلم الاجتماعي، والاستئثار بالحكم، تؤدي في كثير من الأحيان إلى تعريض أمن الدولة للخطر، الأمر الذي يؤكد على العلاقة الجدلية بين الأمن الداخلي والأمن الخارجي، فقد يُسفر عدم الاستقرار الداخلي أحيانًا عن حدوث تدخل خارجي من شأنه الإساءة إلى استقلال الدولة، ولقد شهد عام 1947 بداية ظهور مفهوم الأمن القومي على الساحة السياسية من خلال “قانون الأمن القومي لعام 1947” عن الكونجرس الأمريكي، والذي أسس لمجلس الأمن القومي.

ولكن القانون لم يعرف الأمن القومي، وإنما ترك الباب مفتوحًا لأي تعريف من خلال النص على أن مهمة مجلس الأمن القومي تقديم المشورة والنصيحة للرئيس في أي قضية سياسية كانت أو اقتصادية أو عسكرية.[26]

وبمرور الوقت، ونظرًا للأحداث العالمية المتلاحقة بدءاً بالحرب العالمية الثانية، ومن ورائها حركات الاستقلال الوطني والحرب الباردة وغيرها، انتشر مفهوم الأمن القومي على نطاق واسع بين الدول، وبدأت كل دولة تعمل على صياغة مفهومها الخاص بالأمن القومي الذي تحمي به مصالحها المتعددة في عالم أصبح التغير فيه سمة لا تتغير.

ومن الملاحظ أن مفهوم الأمن القومي قد تطور في تعريفاته ليخرج من النطاق الضيق للمخاطر الخارجية، ليضم ويشمل المخاطر الداخلية التي قد تكون مهددًا للأمن القومي، ففي 1968 عرفت موسوعة العلوم الاجتماعية الأمن القومي على أنه: “قدرة الأمة على حماية قيمها الداخلية من الأخطار الخارجية”.

وفي 1990 عرف تشارلز مائير الأمن القومي على أنه: “القدرة على التحكم في تلك الظروف المحلية والأجنبية التي يرى الرأي العام لمجتمع ما، أنها ضرورية ليتمتع باستقلاليته ورخائه”.[27]

ويمكن القول، بأن السمة الغالبة على الأمن القومي هو تراجع التهديدات العسكرية للأمن القومي إلى مراتب أدنى، لصالح تهديدات أخرى بعضها داخلي، مثل: الصراعات العرقية والطائفية والمذهبية، التي أدت في الكثير من الأحوال إلى تفتت دول بأسرها واختفائها وظهور دول أخرى محلها، كحالة دولة السودان التي تفتت إلى دولتين.

ويمكن القول بأن الدراسة سوف تعتمد على تعريف الدكتور عبد المنعم المشاط للأمن القومي، نظراً لشمولية المفهوم وقدرته على الالمام بجميع جوانب الأمن القومي، حيث يرى الدكتور عبد المنعم المشاط أن الأمن القومي هو: “قدرة الدولة ليس فقط على حماية الوطن من التهديدات التي تواجهه، وإنما يتصل كذلك بقدرة الدولة على حماية مواطنيها، وتحسين كل من نوعية الحياة وجودتها ومستواها”.[28]

ويمكن القول بأن التعريف الإجرائي لمفهوم الأمن القومي، يتضمن:

  • سلامة أراضي الدولة.
  • وجود سلام وانسجام اجتماعي بين الطوائف والعرقيات في الدولة.
  • وجود قوة عسكرية رادعة لدى الدولة.
  • الاقتصاد قوي وتنمية مستمرة
  • توفر استقرار سياسي لدى الدولة.

2أبعاد الأمن القومي

من خلال ما سبق، يمكن القول بأن تطور مفهوم الأمن القومي ارتبط بشكل وثيق بتطور أبعاده، فإضافة بعد جديد للأمن مثل: البعد الاقتصادي أو القيمي، يتماشى مع تطور النظام العالمي والتهديدات الجديدة التي قد تنتج من جراء ذلك التطور، إلا أنه يمكن القول بوجود ستة أبعاد رئيسية للأمن القومي تحافظ عليها الدول جميعا كالتالي:

أ.البعد السياسي:

تعرف الدولة على أنه كيان يتكون من ثلاثة جوانب؛ أرض وشعب وحكومة، من هنا، فإن البعد السياسي للأمن القومي يسعى إلى حماية النظام السياسي في الدولة وحماية الأمن والنظام العام وأجهزة الدولة التي تساهم في عملية الربط بين المواطن والدولة، وتساهم في تسيير الأعمال اليومية داخل الدولة. ويهتم البعد السياسي بخلق عملية الاستقرار الداخلي من خلال خلق نظام ديمقراطي يساهم فيه المواطنون جميعهم في العملية السياسية بحيث يكون المسلك الديمقراطي في الحكم هو الأساس الذي تسير عليه مجريات الأمور في علاقة المواطن بالدولة.

ب.البعد الاقتصادي:

يتمثل في حماية موارد الدولة واقتصادها وتطويره من أجل توفير متطلبات المعيشة للمواطنين، ويعد البعد الاقتصادي للأمن القومي ذو أهمية كبيرة، وذلك لارتباطه بتوفير احتياجات الدولة الاقتصادية، أو بقدرتها تجاه الدول الأخرى. وقد تتمثل هذه الإمكانيات فيما تملكه الدولة من رؤوس أموال، أو خبرة، أو منتجات مصنعة، أو مواد أولية، أو أسواق لشراء المعروض من المنتجات وتسيير التجارة ورؤوس الأموال، وبالتالي تسعى الدولة لزيادة قدرتها الصناعية، كما تعمل على توفير المواد الخام، أو المواد الغذائية اللازمة، ورفع كفاءة العاملين في المجالات الصناعية، بالإضافة إلى دعم قدرتها المالية للوفاء بالتزاماتها الخارجية والداخلية دون المساس باحتياجات المواطنين الأساسية.[29]

ج.البعد العسكري:

يتمثل في حماية الدولة من الاعتداء الخارجي عليها، ويركز على حماية استقلال الدولة وسلامة أراضيها ضد أي عدوان قد يقع عليها حتى لو تم بالعدوان على الدول التي من المحتمل أن تهاجم إسرائيل من خلال نقل المعركة إلى أراضي تلك الدول، عن طريق تدريب إسرائيل وتسليحها بالأسلحة الحديثة، والاهتمام بخطط الدفاع سواء في أوقات النزاع، أو في وقت السلم وإعداد الخطط الدفاعية والدراسات اللازمة لمواجهة الأخطار المحتملة أو المتوقعة، بالإضافة إلى ارتباطها بمجموعة من مواثيق الدفاع القادرة على ردع أي عدوان قد تتعرض له. ويركز هذا البعد على دور ومهام القوات المسلحة للدولة في حمايتها ضد أي تهديد مسلح خارجي يهدد حدودها وسلامة أراضيها، أما دورها الخارجي فهي أن تكون قوة يدركها العالم الخارجي ويقتنع بأنها قادرة على الحفاظ على مصالحها، وتحقيقها في حالة الاضطرار لاستخدام القوة، أو العمل كقوة رادعة للقوى المعادية دون أن تقوم بالفعل باستخدام القوة، الأمر الذي يلقي بمسئولية تحقيق الأمن القومي على عاتق الجيوش وأجهزة المخابرات التابعة للدولة.

د.البعد الاجتماعي:

يتمثل البعد الاجتماعي في توفير الأمن والرفاهية ومستوى جيد من الحياة للمواطنين من أجل زيادة الشعور بالانتماء والولاء للدولة، ويهدف ذلك الجانب إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بين المواطنين من خلال التوزيع المتساوي للفرص بين الأفراد، والتوزيع العادل للدخل بالشكل الذي يضمن الرفاهية للجميع وتقديم الخدمات التعليمية والصحية للجميع. وفي نفس الوقت، يسعى البعد الاجتماعي للأمن القومي إلى تحسين جودة الحياة في الدولة بالشكل الذي يجعل الأفراد مقبلين على الحياة، وغير ناقمين على الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي داخل الدولة.[30]

ه.البعد القيمي:

يتمثل في الحفاظ على ثقافة الدولة وهويتها الوطنية، وحماية معتقداتها وعاداتها وتقاليدها. ولقد ظهرت أهمية هذا البعد حديثاً بالتوازي مع التطور في وسائل الاتصالات والمواصلات المرتبطة بظاهرة العولمة التي ساهمت في جعل العالم قرية صغيرة، يتواصل أفردها بوسائل شتى. ومع ظهور تلك الثورة في وسائل الاتصال ظهرت أنماط جديدة للحروب والصراعات، لا تعتمد في أدواتها على الافراد والأسلحة، بل على شاشات الكمبيوتر والتلفاز التي يمكن من خلالها غزو مجتمع ما ثقافياً، وذلك عبر اجتذابه إلى أنماط حياة مغايرة ومناهج تفكير مختلفة.[31] ومن هنا، أضحى الاهتمام بحماية العادات والتقاليد المجتمعية التي يتعايش معها المجتمع وتحافظ له على كينونته واستمراريته جزءًا لا يتجزأ من الأمن القومي لأي دولة.

و.البعد البيئي:

يتمثل في التعامل مع المخاطر البيئية التي قد تهدد الدولة، مثل: مشاكل التصحر والجفاف وحرائق الغابات أو غيرها من الكوارث الطبيعية، التي يجب على الدولة أن تعد لها العدة بحيث تسيطر عليها، وتقلل من مخاطرها وتأثيرها على البشر المحيطين بها. وفي نفس الوقت يتضمن ذلك التخطيط مع الدول الأخرى من أجل مناقشة القضايا البيئية العالمية كما في قمة يوم الأرض، نظراً لأن العديد من المشاكل البيئية تشترك فيها دول العالم سواء بالسبب او بتحمل الآثار، ولا تتوقف أبعاد الأمن القومي عند ذلك الحد، بل تزداد حسب طبيعة كل دولة، وطبيعة المخاطر التي تتعرض لها، فبعض الدول قد تجد أن للأمن القومي بعداً تكنولوجيا، ً يتمثل في حماية أنظمتها التكنولوجية من مخاطر الاختراق أو القرصنة كما في الدول المتقدمة، في حين أن ذلك لا ينطبق بالضرورة على دول العالم الثالث. وفي بعض الدول تعتبر الموارد المائية وحمايتها أولوية كبرى للأمن القومي لما تمثله تلك الموارد المائية من حياه لتلك الدول.

ثالثا: مفهوما العرقية والأمن القومي على المستوى النظري

إن ظاهرة التنوع، والتعدد العرقي في حد ذاتها لا تمثل خطراً على الأمن القومي، بل هي عامل قوة للدولة ومصدر ثراء فكري وبشري، بشرط المساواة وتحقيق العدالة وليس مجرد التعددية،فظاهرة التعدد العرقي هي ظاهرة طبيعية موجودة لدى كثير من الشعوب والأمم، فحوالي 70% من دول العالم لا تزيد نسبة أكبر جماعاتها الاثنية عن 65% من السكان، فيما أن الدول التي تشكل جماعاتها الاثنية 90% من السكان لا تزيد نسبتها عن 18% من دول العالم.[32] ولكن التعدد ليس دائما سبباً للانقسام ونشوب الصراعات المسلحة وتدمير الكيانات الوطنية، فالكثير من الأمم التي نجحت في إرساء قواعد النظام السياسي الحديث وبناء الوحدة القومية وتجذير المواطنة هي مجتمعات متعددة عرقياً، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وكندا.

ولكن مكمن أن يتمثل الخطر الحقيقي في شعور الأقليات بعدم الأمن على حياتها ومستقبلها وذاتيتها، وإخفاق النظام السياسي في تقديم حلول فعالة لمشكلات الأقليات العرقية فيها، وفي هذه الحالة تصبح الأقليات غير المندمجة خطراً ينبغي علاجه. فمنذ عام 1984، وجميع الصراعات المسلحة في العالم تدور حول قضايا عرقية داخلية فيما عدا الغزو العراقي للكويت، والواقع أن الصراعات العرقية منذ عام 1945 قد أودت بحياة حوالي 16 مليون نسمة، وهو ما يزيد أضعافاً مضاعفة عن هؤلاء الذين لقوا حتفهم في حروب ما بين الدول.[33] وإجمالًا، يمكن القول بأن التعددية العرقية تؤثر إلى حد كبير على الأمن القومي، إما بشكل إيجابي أو بشكل سلبي، ويدور التأثير الإيجابي والسلبي كلاهما، حول الاستقرار الداخلي للدولة بشكل عام.

أ-الآثار الإيجابية

1-تدعيم القوة البشرية للدولة

يمثل مواطني أي دولة قوتها البشرية التي تعتمد عليها في عملية النهضة، والتنمية وتحقيق التقدم، وتسعى كل دولة إلى تعظيم قوتها البشرية بالشكل الذي يمكنها من سد حاجة سوق العمل من الأيدي العاملة، وزيادة القوة العسكرية، وتعظيم السوق الداخلي من خلال زيادة الاستهلاك المحلي وبالتالي تعظيم أداء الاقتصاد الوطني.

وفي هذا الصدد يبرز اقتصاد الولايات المتحدة وكندا وسويسرا كنماذج ناجحة للدول التي تمثل التعددية العرقية والدينية واللغوية فيها أحد النماذج دعائم الاستقرار الداخلي وتحقيق التنمية. فعلى الرغم من أن دولة كالولايات المتحدة لديها تعددية عرقية كبيرة، إلا أنها تتصدر قائمة دول العالم من حيث القوة الاقتصادية.

وفي كندا، فإن متوسط دخل الفرد يصل إلى 42 ألف دولار، مما يجعلها في المرتبة الواحدة والعشرون على مستوى العالم، ويصل إجمالي الدخل القومي لها بما يقدر بـ 1.474 بليون دولار، ما يجعلها في المرتبة الرابعة عشر على مستوى العالم،[34] وكذلك الحال في سويسرا، فقد وصل متوسط الدخل الفردي إلى 44.900 ألف دولار، ما يجعلها في المرتبة الخامسة عشر على مستوى العالم، ويقل معدل التضخم بها إلى -0.7%، وهو ما يجعلها في المرتبة الثالثة على مستوى العالم.

الآثار السلبية

سيادة الخلافات العرقية من شأنه تهديد الأمن والسلم الداخليين للدولة، بما له من تأثيرات مختلفة على الأمن الداخلي والاقتصادي والمجتمعي للدولة، ويمكن أن تضم تلك الخلافات كل من:

2-تهديد الاستقرار الداخلي والحرب الأهلية

عادة ما تلجأ الجماعات العرقية إلى الدولة لتحقيق مطالبها من خلال السبل والوسائل المشروعة مثل الانتخابات، إلا أن عدم وجود تلك السبل الديمقراطية، أو وجودها دون فاعلية، قد يساهم في اتجاه الجماعات العرقية والدينية إلى الانعزال ومحاولة تصريف شئونها بنفسها. وقد يؤدي ذلك إلى انتشار أعمال الجريمة والإرهاب وحدوث الاقتتال الطائفي، كحالة السنة والشيعة والكرد في العراق فهناك صراعات وتوترات مستمرة بين السنة الذين يشكلون 40% والشيعة الذين يمثلون من 55-60%، لاسيما بعد العدوان الأمريكي على العراق، وهو ما أدى بشكل أساسي لظهور جماعات متطرفة لدى الفريقين والتي كان أكثرها تطرفًا تنظيم داعش، هذا إلى جانب محاولات الكرد المستمرة الانفصال عن الدولة الأم وتكوين دولة تحمل القومية الكردية.

وفيما يتعلق بنظريات الحرب الأهلية، فإن التفسيرات المختلفة للحروب الأهلية على الرغم من تعددها الشديد إلا أن أهمها كان يركز على الشق الاقتصادي والأسباب المتفرعة منه. يرى كل من كولير وهوفلر إلى أن تلك الأسباب تنقسم إلى قسمين رئيسيين وهما “الجشع” و”الظلم”.

تقليديًا، لعب الظلم وعدم المساواة دورًا رئيسيًا في اتجاه بعض الجماعات الأهلية للتمرد، ولكن كولير وهوفلر وجدا دعمًا للادعاء القائل بأن الحرب الأهلية هي بمثابة مشروع أشبه بالجريمة، والذي يماثل في كثير من النواحي الجريمة المنظمة، ويرى كلاهما أن الأسباب الاقتصادية، وأهمها نقص الدخل الفردي، تلعب دورًا أكبر في زيادة احتمالية قيام الحرب الأهلية عن غيرها من الأسباب، ولقد تطور النقاش حول الجشع مقابل الظلم في عدد من المقالات التي كتبها كولير وهوفلر حول الأسباب الاقتصادية للصراع المدني.

في دراستها- ربما الأكثر شهرة- قام كل من كولير وهوفلر بجمع البيانات من 99 دولة باستخدام نظرية المنفعة وانحدارات الاقتصاد القياسي ليصلا إلى نتيجة هامة مفادها أن ارتفاع نصيب الفرد من الدخل يقلل من خطر الحرب الأهلية – شرط العدالة – بسبب ارتفاع تكلفة الفرصة البديلة للتمرد، في حين أن وجود الموارد الطبيعية في الدول ذات الدخل المنخفض جنبًا إلى جنب مع وجود التعددية العرقية يزيد من احتمال قيامها، وفي دراسة لاحقة، وجد كولير أن بعض التفسيرات للحرب الأهلية تعتمد على الظلم، والذي يعرفه بأنه يشمل عدم المساواة والقمع، والتهميش العرقي والديني، غير كافية لقيام الحرب الأهلية.

ويؤكد أيضًا أن عدم المساواة، مقاسًا من خلال الدخل الفردي، ليس له تأثير كبير على تشكيل الحرب الأهلية، في حين أن القمع السياسي يعطي نتائج مربكة فقط، بينما تقلص الاختلافات العرقية والدينية من خطر الصراع، وبعبارة أخرى، تقترح أطروحة كولير-هوفلر حول الجشع بأن التوقعات المالية والجدوى من المنظمات المتمردة من خلال السيطرة على السلع الأولية هي أهم العوامل التي تؤدي إلى الحروب الأهلية.[35]

وفي الدراسات التالية لهما، ونتيجة للجدل الذي أثارته دراستهما السابقة، قام الباحثان بإدماج الظلم كمتغير هام في تفسير قيام الحروب الأهلية، فضلا عن استبدال مفهوم الجشع بالتمرد.

ويؤكد الباحثان في نهاية المطاف أن الفرصة الاقتصادية هي متغير هام وحيوي في تفسير ظهور التنظيمات المتمردة التي لا تسعى للربح، ومن الهام في هذا الإطار الإشارة إلى أن كولير وهوفلر وجدا بشكل غير منتظم أن هناك علاقة بين كمية التنوع العرقي اللغوي وبداية الحرب الأهلية، بمعنى آخر، فإن الدول ذات التعددية العرقية الكبيرة لم تكن أكثر عرضة من الدول المتجانسة عرقيًا لتجربة الحروب الأهلية، ولكن الدول التي لديها كمية معتدلة من التنوع العرقي كانت أكثر عرضة للتجربة بداية الحرب الأهلية.[36]

من ناحيتها، وجدت إيلنجسين أن هناك علاقة بين مستوى التنوع العرقي واحتمال بداية الحرب الأهلية، حيث وجدت أن التعددية العرقية تساهم في زيادة احتمالات العنف المنزلي، وبدرجة أعلى، من احتمالات العنف على نطاق واسع،[37] فيما يتعلق بالظروف والأوضاع المحيطة التي تساهم في الحروب الأهلية العرقية، أشار فيرون ولايتن إلى أهمية العوامل البيئية والسياسية التي تحبذ التمرد، ماليًا فإن الحكومات الضعيفة تنظيميًا أو سياسيًا هي أهداف سهلة نسبيًا للجماعات المتمردة التي تستطيع توظيف تكتيكات التمرد، وبالمثل فإن المناطق الوعرة، مثل المناطق الجبلية، توفر بيئة مثالية لمجموعات من المتمردين لشن حملة تمرد ضد الحكومة المركزية.

وفي نفس الإطار، يؤكدان أن المتغيرات الاقتصادية مثل نصيب الفرد من الدخل هو دليل قوي على قوة الحكومة المركزية، وقد كان كل من فيرون ولايتن بتضمين بعض المقاييس العرقية واللغوية جنبا إلى جنب مع مقاييس الاستقطاب الديني والعرقي في نموذجهما ليجدا أنه لا يوجد علاقة، عند التحكم في مؤشر نصيب الفرد من الدخل، بين مقاييس التنوع العرقي واحتمالية قيام الحرب الأهلية.

بينما كان هناك قدر كبير من التداخل بين العلماء الذين يدرسون الحرب الأهلية والصراعات العرقية، لم يكن هناك أي إطار نظري لتحليل العلاقة بشكل متقن وتجريبي. تشمل نماذج الحرب الاهلية التي قام بوضعها بعض العلماء مثل كولير وهوفلر، فضلا عن فيرون ولاتين، تنظر إلى تدابير التنوع العرقي كمتغيرات مستقلة في نماذج الانحدار، ولكن هذه الاختبارات على حد سواء توصلت إلى حقيقة هامة مفادها أن التنوع العرقي له تأثير مباشر على احتمال بداية حرب أهلية.

على عكس من ذلك، فإن النظريات الأدواتية لدراسة الصراع العرقي، تقترح أن العرق، أو التركيبة العرقية، ليست السبب المباشر. بدلا من ذلك، ترى أن التنوع العرقي يخدم كخطوط خطأ طبيعي والتي على هديها تكون للمتغيرات الأخرى تأثير مباشر على احتمال بداية الحرب الأهلية، فهو يمكن أن يشكل حلاً لمشاكل العمل الجماعي التي قد تمنع بدورها تماسك الأفراد وقيامهم بتشكيل تمرد عنيف.[38]

إن المجتمع المتنوع عرقيًا ليس بالضرورة أكثر عرضة من المجتمع المتجانس عرقيًا في تجربة الحرب الأهلية إذا ما تم غياب العوامل التي تزيد من احتمال نشوب حرب أهلية مثل انخفاض نصيب الفرد من الدخل. على سبيل المثال، إذا تم الافتراض بأن هناك بلدان، واحدة متجانسة عرقيًا وأخرى لديها العديد من المجموعات العرقية داخل حدودها، فإذا تم تقديم العوامل التي لها تأثير إيجابي مباشر على بداية الحرب الأهلية، تقترح نظرية الصراع العرقي أن هذه العوامل هي أكثر عرضة للترسخ وإنتاج الحرب الأهلية في الدولة التي بها تعددية عرقية، بسبب التماسك الاجتماعي داخل الجماعات العرقية، مما يسمح لهم بالتغلب على مشاكل العمل الجماعي المرتبطة بالشروع في الأعمال المحفوفة بالمخاطر مثل التمرد والمظاهرات والاضطرابات الأمنية، فضلاً عن توفير الخطوط الطبيعية التي يمكن أن ينقسم على أساسها المجتمع. يمكن أن ينظر إلى ذلك على أنه تفسيرًا للنتائج المتناقضة التي تتعلق بأثر الانقسام العرقي على بداية الحرب الأهلية التي أوردها الكثير من الباحثين.

بشكل عام، فإن دراسة الحرب الأهلية ودور التعددية العرقية في قيامها أمر معقد ينطوي على العديد من النتائج المختلفة والمغايرة. ففي الوقت الذي تتسم به آراء البعض مثل فيرون ولايتن –القائلة بأن الأوضاع التي تحفز على التمرد تؤدي إلى زيادة خطر الحرب الأهلية- مقنعة، ويقومان بتقديم أدلة قوية على ذلك، إلا أنه في عينة من الدول التي لديها مستويات منخفضة من التعددية العرقية، فإن معظم فرضياتهم لا تثبت صحتها، على الجانب الأخر، فإن نظرية الصراع العرقي تتوقع مثل تلك النتائج، مما يوحي بأنه عندما تكون هناك عوامل تزيد من احتمالية نشوب الحرب الأهلية، فإن وجود التعددية العرقية يمكن أن يساهم في زيادة الانقسامات الاجتماعية التي تهدد المجتمع، بالإضافة إلى المساعدة في التغلب على مشاكل العمل الجماعي التي قد تعوق الحرب الأهلية في البلدان التي لم ليس لديها تعددية عرقية. وفيما يتعلق بصانعي القرار الذين يقومون بعملية تقييم المخاطر التي تواجهها الدولة إذا ما قامت حربًا أهلية بحيث يمكن اتخاذ التدابير الوقائية، فإن تجاهل العلاقة غير المباشرة للتعددية العرقية يمكن أن يؤدي إلى خطآن هاما.[39] أولا، إذا كان هناك عدد من العوامل التي تم تحديدها على أنها تؤدي إلى زيادة احتمالات الحرب الأهلية موجودة في بلد ما، بالإضافة إلى انخفاض مستويات التعددية العرقية، فإن احتمال أن يشهد هذا البلد حربًا أهلية يمكن أن يكون مبالغًا في التقدير. ثانيًا، وعلى الجانب الأخر، فإن احتمال أن يشهد البلد حربًا أهلية قد يمكن التقليص من شأنه إذا ما تواجدت العوامل المسببة للحرب الأهلية في مجتمع يعاني من تعددية عرقية كبيرة.

ومن خلال ما سبق إذًا، يمكن القول بأن التعددية العرقية وحدها لا يمكن اعتبارها سببا لقيام الحرب الأهلية، ولكنها تعتبر عامل مساعد على قيامها وزيادة لهيبها، في حين أن الظلم وعدم المساواة اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيا هي الأسباب الرئيسية وراء الحروب الأهلية.

وتسهل التعددية العرقية من قيام الحرب الأهلية من خلال عدم إزالة الخلافات الجماعية، وتوضيح الخطوط الفاصلة والانقسامات التي قد يسير على هديها المجتمع بعد الحرب.

3-الانفصال عن الدولة

قد تؤدي أحداث العنف الطائفي في أقصى حالاتها تطرفًا إلى انفصال الدولة الواحدة إلى دولتين منفصلتين، أفضل النماذج في هذا الصدد هي دولة السودان، فنتيجة للخلافات ما بين سكان الشمال الذين يمثلون العرقية العربية المسلمة، وسكان الجنوب الذين يمثلون الجماعات العرقية الزنجية المسيحية، قامت بين الطرفين العديد من المناوشات المسلحة التي انتهت بهدنة أعقبها استفتاء أدى لانفصال جنوب السودان مكونًا دولة خاصة به. ولقد حاولت الجماعات الدينية المسيحية في نيجيريا الانفصال عن الدولة بعد خلافاتها مع الجماعات المسلمة في شمال البلاد، والذي أدى بدوره إلى قيام الحرب الأهلية بين الطرفين التي راح ضحيتها الملايين، إلا أن تحديد نوعية أثر التعددية العرقية على الأمن القومي، سواءً بالإيجاب أو السلب، يتوقف على مجموعة من العوامل التالية:

4-إدارة السلطة

من سمات المجتمعات ذات التعددية العرقية المتوازنة التي يزداد درجات استقرار المجتمع بداخلها، وتتمتع الدولة والنظام بدرجة عالية من الأمن الداخلي والقومي هو ما يقصد به أن تصبح السلطة منتشرة وموزعة بين الجماعات والقوى السياسية المختلفة، وأن تصبح الروابط والعلاقات بين الجماعات من ناحية والدولة ككيان سياسي من ناحية أخرى ليست إلا تعبيراً عن هذه العلاقة التكاملية، والعكس صحيح. هذا بالإضافة إلى أن أساس هذا التكامل يصبح الالتزام بالقيم المشتركة والإحساس بالانتماء المجتمعي بين النخب، واحترام حكم القانون والالتزام بالعمل التدريجي، وفي هذا الصدد، تبرز الانتخابات الديمقراطية الشفافة باعتبارها الضمانة المثلى لممارسة الأفراد، بمختلف طوائفهم، لحقوقهم السياسية، والمشاركة في عملية صنع القرار، بما يخلق مساحة من الرضا والولاء للدولة، في حين أن استغلال التعددية، أي توظيفها من قبل النخب الاجتماعية في الصراعات السياسية والاقتصادية قد يساهم في جر البلاد إلى أعمال عنف تهدد الأمن القومي.

والواقع من خلال النظر على توزيع الجماعات الثقافية على مختلف دول العالم والدول الأفريقية تحديداً يلاحظ أنه ليس حجم الجماعة ولا نوعها هو الذي يتحكم في الاستقرار السياسي، إنما الذي يؤثر هو مدى استجابة النظام لمطالبها، أو توظيفه للاختلافات الثقافية واتخاذها سنداً لتمييز جماعة ما على ما سواها من الجماعات الأخرى، الأمر الذي على ضوئه تحدد الأقلية دينية أو عرقية علاقتها بالنظام لو كانت إيجابية فتكون أداة النظام أو تصبح إحدى نقائصه على مختلف المستويات.[40]

وفي هذا الصدد، تبرز العديد من الأمثلة الناجحة للدول التي استطاعت إدارة التعددية العرقية لديها بشكل أكسبها استقرارًا داخليًا وتماسكًا مجتمعيًا من خلال الممارسات الديمقراطية، ومن أهم تلك الأمثلة والنماذج هي سويسرا والولايات المتحدة. فبالنسبة لسويسرا يلاحظ أن الألمان يشكلون 65%، الفرنسيين يشكلون 18%، الإيطاليين يشكلون 10%، الرومانيين 1%، وباقي العرقيات يشكلون 6%، وعلى الرغم من ذلك، فنجد أن الاستقرار الداخلي والتماسك المجتمعي أحد أهم سمات المجتمع السويسري. ويمكن فهم ذلك في ضوء الديمقراطية التي يتمتع بها النظام السويسري، حيث يتبع النظام السويسري أسلوب الديمقراطية المباشرة، من خلال امتلاك المواطن السويسري حق التدخل المباشر في شؤون الدولة. وخلال العام الواحد، يستقبل المواطنون السويسريون رسائل من الكونفدرالية ومن الكنتونات، أربع مرات على الأقل، تدعوهم إلى المشاركة والتعبير عن أرائهم حول قضية أو مجموعة قضايا مطروحة على الساحة الوطنية.[41]

وتأتي الولايات المتحدة هي الأخرى باعتبارها أحد أهم النماذج التي يضرب بها المثل في إدارة التعددية العرقية بشكل ديمقراطي، حيث تتكون الولايات المتحدة من عرقيتين رئيسيتين وهما البيض والسود، فضلاً عن نسبة لا تقل عن 4.5% من الآسيويين، وعلى الرغم من التاريخ الطويل للصراعات العرقية بين الطرفين والذي امتد حتى سبعينيات القرن العشرين، إلا أن اتباع النهج الديمقراطي كان السبيل الأمثل للخروج من مأزق الصراعات العرقية. ولقد بدأت الخلافات ما بين الطرفين مع نشأة الولايات المتحدة نفسها وجلب العبيد من افريقيا، ووصل العداء ما بين الطرفين إلى حد إعلان الحرب الأهلية بين ولايات الشمال والجنوب بعد الخلاف هو إقرار قانون تحرير العبيد الذي أقره لنكولن، ومع بدايات القرن العشرين، بدأ الصراع يأخذ منحى عنيف بظهور عشائر الكوكلاس التي كانت تستهدف بالقتل والاصابة كل الزنوج الأمريكيين. وبمرور الوقت، بدأ الزنوج في الولايات المتحدة يحصلون على حقوقهم الاجتماعية والسياسية بشكل تدريجي، إلا أن الحصول على تلك الحقوق كان يأتي كرد فعل على أحداث العنف العرقي التي كانت تقع في الولايات المتحدة وأهمهما حادث حريق حافلة بوسطن، التي كانت تعج بالعديد من الزنوج في عام 1974. ومع حصول الزنوج على حقوقهم السياسية والاجتماعية كاملة، اختفت أعمال العنف العرقي تدريجيًا، وأصبح الاستقرار والديمقراطية هو العلامة المميزة للنظام الأمريكي، وليس أدل على ذلك من وصول باراك أوباما، وهو من الزنوج، إلى منصب رئاسة الولايات المتحدة.

5-تباين الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للجماعات العرقية

تلعب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لكل جماعة عرقية دورًا كبيرًا في تحديد علاقة تلك العرقية بغيرها من العرقيات من ناحية، ودرجة رضا تلك الجماعة العرقية عن الحكومة والدولة ككل من ناحية أخرى. وفي هذا الصدد، فإن تدهور وضع الجماعة العرقية إلى غيرها من الجماعات العرقية الأخرى قد يكون سببًا في انتشار حالات التذمر، التي قد تتطور إلى أعمال شغب وعنف طائفي وسياسي، أما استقرار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لكل عرقية، بغض النظر عن حجمها، يكون سببًا رئيسًا في انتشار روح الحرية والديمقراطية بين المواطنين. ولقد قام تيد روبرت بدراسة حوالي 233 جماعة عرقية وإثنية سياسية في العالم في فترة الثمانينيات، ووجد روبرت أن 63% من تلك العرقيات قد عاشت فترات تمييز اقتصادي، بينما شهدت 72% منها فترات تمييز سياسي ضدها وارتكب النظام الحاكم انتهاكات واسعة لحقوق أفرادها. ونتيجة لهذا التمييز انتظمت 85% من الجماعات في إطار جماعات عرقية واثنية سياسية تعمل على تحقيق مصالحها الجماعية وتبدأ باتباع طرق سلمية لكن مع زيادة لجوء النظام السياسي إلى العنف تتجه الجماعة بدورها الى اتخاذ العنف وسيلة لتحقيق مطالبها.[42]

وتبرز ماليزيا في هذا الصدد باعتبارها نموذجًا جيدًا لحالات الصراع العرقي الناتج عن تفاوت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ما بين العرقيات، وتعدد العرقيات في ماليزيا على النحو التالي: يمثل الملايا السكان الاصليين للبلاد حوالي 65.1 %” من إجمالي سكان الدولة، في حين يمثل الصينيون 26%، بينما يمثل الهنود 7.7%، هذا الي جانب 1.2% للمجموعات العرقية الأخرى من التايلانديين، والأندونيسيين، والأستراليين والأوروبيين بالإضافة إلى الأعراق الصغيرة مثل الكادزان والأبيان التي تقطن ولايتي صباح وسارواك.[43]

ولقد شهدت أوضاع العرقيتين الكبريين، المالاوية والصينية، تفاوتًا كبيرًا على الجانبين السياسي والاقتصادي إلى حد بعيد. فعلى الرغم من قيام تعاون سياسي بين مختلف عرقيات الشعب الماليزي وبالأخص الملايا والصينيين، الذي كان له أكبر الأثر في حصول ماليزيا على استقلالها في 1956، إلا أن ذلك لم يمنع ظهور المتاعب على سطح العلاقات العرقية في البلاد، إذ اعترض الصينيون على انفراد الأمنو الممثل الرئيسي للملايا في الحياة السياسية بقيادة التحالف الوطني الحاكم وتوجيه دفة السياسة الماليزية الداخلية والخارجية.

في حين اعترض الملايا على السيطرة الاقتصادية للصينيين، فبالرغم من أن الملايا كانوا هم السكان الأصليين للبلاد، فإنهم لم يحصلوا إلا على 2.4% من ثروات البلاد، في حين أن الصينيين يستحوذون على أكثر من ثلث ثروات ماليزيا، وفي ظل هذه الأجواء أجريت الانتخابات العامة في البلاد في 10 مايو 1969، وفيها حصلت أحزاب المعارضة على 40 مقعداً من أصل 104 مقعد في البرلمان، هذا بالإضافة الي حصول المعارضة على الأغلبية في أربع برلمانات من الولايات في البلاد، الأمر الذي هدد تفرد الملايا بصنع القرار السياسي وولد لدى الأغلبية المالاوية إحساس بإمكانية تهميشهم من العملية السياسية فضلا عن التهميش الاقتصادي.[44]

ولقد أدى ذلك كله إلى أن أعطى مؤشراً قوياً على ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة لمواجهة تصاعد التوترات العرقية والعمل على استيعابها، إذ كشفت الاضطرابات العرقية عن مدي هشاشة السلام الاجتماعي الذي عاشته البلاد منذ الاستقلال في 1956، وعليه، بدأت حكومة تون عبد الرزاق في العمل على الفور من خلال خطة أطلق عليها “السياسة الاقتصادية الجديدة”، والتي هدفت إلى تطوير أداء الاقتصاد الماليزي، والحرص على تحقيق العدالة في عملية إعادة توزيع الموارد بين العرقيات. ولقد شرعت حكومة مهاتير محمد في تبني سياسة جديدة، كانت بمثابة استمرار لأهداف تون عبد الرزاق، وتقوم على استكمال دعم المالايو في كافة المجالات دون الإضرار بالعرقيات الأخرى. وبادر مهاتير محمد باستحداث سياسة جديدة للتنمية من خلال الخطة السادسة للتنمية والتي عرفت باسم خطة 2020، وتعكس في مجملها رؤية مهاتير للمرحلة التنموية التالية بعد أن نجحت الخطة السابعة في الارتقاء بالمستوى الاقتصادي للملايا.[45]

وعلى الرغم من أنه لا يمكن القول بأن الخلافات العرقية قد اختفت تماما في ماليزيا، إلا أنها يمكن الإشارة إلى السيطرة عليها وتحجيمها ووضعها في إطار من العمليات الديمقراطية التي يحكمها القانون، وتصنف ماليزيا وفقا لجريدة الديلي ميل، على أنها من الدول التي تبرز الخلافات العرقية فيها بدرجة تتراوح ما بين 30 إلى 39%، وإن كانت تلك الخلافات غير ظاهرة على السطح بسبب خطط التنمية الطموحة التي تسير وفقا لها الحكومة الماليزية.[46]

6-الولاء للدولة أم للجماعة

ينتمي كل فرد إلى جماعة إثنية كبيرة أو صغيرة، وفي بعض الأحيان يتصارع لدى الفرد انتمائه لجماعته العرقية وانتمائه لدولته. في هذا الإطار، فإن تفضيل الفرد لجماعته العرقية على الدولة التي ينتمي إليها قد يهدد الأمن القومي لتلك الدولة. في حين أن وجود الولاء للدولة في درجة أعلى من الولاء للجماعة العرقية التي ينتمي إليها الفرد يساهم في تحقيق الاستقرار في تلك الدولة. فضلا عن أن سعي الجماعات العرقية للاحتفاظ بخصوصياتها وهويتها في إطار مجتمع واحد أكبر ايضاً لا يعد مشكلة في حد ذاته إلا بالقدر الذي يتسبب فيه هذا الشعور بالتميز العرقي والعنصري بالاستقلالية وعدم التجانس في المجتمع.[47] وفي أحيان أخرى تستغل الجماعة العرقية إحساسها بالانحدار من أصل واحد والاشتراك في تقاليد اجتماعية وتعاونية واحدة تميزها عما عداها من كيانات المجتمع فتستغل ذلك في المطالبة بالانفصال خاصة في الدول التي تعاني من بروز الحركات الانفصالية التي تثار نتيجة لنقص الموارد والصراع بين انخب السياسية مما يحفز الاقليم الاكثر ثراء للانفصال عن الدولة.

والأمثلة على ذلك متعددة بين الدول، وأقرب تلك الأمثلة في نيجيريا ورواندا، فلقد شهدت كلا الدولتين حربًا أهلية طويلة المدى راح ضحيتها الملايين من الأفراد، نتيجة لتفضيل الأفراد لجماعتهم العرقية على حساب الانتماء للدولة. ففي رواندا، وفي أبريل 1994، شن القادة المتطرفون في جماعة الهوتو، التي تمثل الأغلبية في رواندا حملة إبادة ضد الأقلية من توتسي. وخلال فترة لا تتجاوز 100 يوم، قُتل ما يربو على 800.000 شخص وتعرضت مئات الآلاف من النساء للاغتصاب. وانتهت الإبادة الجماعية في يوليو/تموز 1994، عندما نجحت الجبهة الوطنية الرواندية، وهي قوة من المتمردين ذات قيادة توتسية، في طرد المتطرفين وحكومتهم المؤقتة المؤيدة للإبادة الجماعية إلى خارج البلاد.[48]

وفي نيجيريا، كانت للخلافات ما بين أهالي الشمال المسلمين، وأهالي الجنوب المسيحيين تاريخ طويل يعود لأيام الاستعمار، ونظرًا لأن نيجيريا كانت في نظر أهلها مجرد إقليم جغرافي يضمهم، وليس وطن بالمعنى المتداول، فإن ولاءات الافراد لجماعاتهم العرقية تخطت ولاءهم للدولة. ونتيجة لتباين الظروف الاقتصادية والاجتماعية، والرؤى الخاصة بالدولة ومستقبلها، نشبت بين قبائل الشمال والجنوب العديد من الصراعات العرقية التي امتدت من 1967 وحتى 1970 وراح ضحيتها أكثر من ثلاثة مليون فرد.[49]

وإجمالاً، يمكن القول بأن أسباب الصراعات العرقية مختلفة ويصعب حصرها، وتزداد في المجتمعات التي تتكون من أكثر من جماعة عرقية، ولكن يمكن السيطرة على تلك التعددية، بل وجعلها سببًا من أسباب قوة المجتمع وتقدمه، إذا ما تم الاعتماد على خلق مجتمع يعامل فيه الأفراد بناء على التزاماتهم وواجباتهم وليس انتماءاتهم، ولا سبيل لخلق ذلك المجتمع دون تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية يحصل على عوائدها الجميع بدون تفرقة، وفي نفس الوقت، لابد من نشر الديمقراطية قيما وممارسات بين الأفراد في المجتمع كسبيل للتعبير عن الآراء والمتطلبات في مناخ سلمي لا يضار منه أحد.

7-الموقع الجغرافي للجماعة العرقية

يلعب الموقع الجغرافي للجماعة العرقية في كثير من الأحيان دورًا كبيرًا في تحديد علاقتها بالدولة ودرجة ارتباطها بها. فوجود الجماعة العرقية في مكان منعزل في أطراف الدولة يقوي لديها النزعة الانفصالية عن الدولة، خاصة وأن توافرت عناصر مثل عدم الولاء للدولة أو زيادة أعداد الجماعة العرقية بالشكل الذي يمكنها من بناء دولتها الخاصة بها.

وفي نفس الإطار، تزيد فرص انفصال الجماعة العرقية عن الدولة الأم إذا كان لتلك الجماعة العرقية امتدادات في دول أخرى. وفي هذا الإطار يبرز العديد من النماذج مثل الأكراد في سوريا والعراق وتركيا وإيران، والزنوج في السودان.

وبالنسبة للأكراد، يلاحظ أن عددهم يقدر بين 20 – 25 مليون نسمة، ولذا يعتبرون من القوميات الكبيرة في العالم التي ليس لها كيان سياسي متميز، أو دولة خاصة بهم رغم كون “كردستان”، والذي يعني بلد الكرد، يمتد جغرافياً إلى مناطق واسعة تشمل أراضي من العراق وإيران وتركيا وأذربيجان وحتى سوريا، ولكن هو بلد بدون حدود معينة ومثبتة على الخريطة السياسية للعالم، ولا يدل على أنه وطن يتطابق مع شعب ومع دولة كردية موحدة وإنما هو عدة مناطق منقسمة بين عدة دول متجاورة أو متصلة ببعضها.

وعادة ما يعيش الأكراد الحياة القبلية التي يعطون فيها الولاء لشيخ القبيلة وليس الدولة التي يعيشون بها، فضلاً عن ذلك فإن الأكراد عادة ما يعيشون في المناطق الصحراوية على أطراف المدن التي يتواجدون بها، ولقد ساهم ذلك في انتشار الفكر الانفصالي لدى الأكراد وانتشار الرغبة بينهم في بناء دولة كردستان.

وفي السودان، فقد تسبب العداء بين المسلمين في الشمال، والمسيحيين في الجنوب في انتشار رغبات الانفصال بين الجنوبيين، ولم تر الحكومات السودانية المتعاقبة إلا في أسلوب الحديد والنار الوسيلة المثلى للتعامل مع القضية.

وفي سبيل تحقيق نوعًا من الدمج القسري تم إنشاء مدارس لتعليم القرآن ومعاهد إسلامية متوسطة في الجنوب، وتم استبدال يوم الأحد بيوم الجمعة كعطلة أسبوعية في الجنوب، ثم إصدار قانون الجمعيات التبشيرية المسيحية الذي حظر التبشير المسيحي في الجنوب وانتهى بطرد المبشرين، ولكن ذلك كله لم يزد الأمور إلا تعقيداً، حيث بدأت الحركات المسلحة مثل حركة “أنانيا” في الظهور إلى العلن، وواجهت السلطة كل ذلك عن طريق استخدام الجيش للقصف والطيران وإحراق القرى، مما كان له نتائج غير مرجوه تمثلت في تراكم الحقد والكراهية في نفوس الجنوبيين، ومع قيام حكومة البشير بعمل استفتاء حول استقلال الجنوب، اختار الجنوبيين الانفصال.[50]

ويرى بعض المفكرين أن السبيل الأمثل للقضاء على طموحات الانفصال لدى الجماعات العرقية يكون عبر اهتمام الدولة بها والعمل على دمجها في النسيج الوطني وتشجيعها على تقديم نفسها ثقافيًا، وزيادة الاستثمارات الحكومية في تلك المناطق، في حين يرى آخرون في الكونفدرالية أحد أهم أساليب الإدارة التي تعمل على القضاء على طموحات الانفصال لدى الجماعات العرقية.

في حين يرى البعض الآخر أن السبيل الأمثل لتشجيع الجماعات العرقية على التداخل في نسيج الدولة وعدم التفكير في الانفصال هو العمل على زيادة ولاء تلك الجماعات إلى الدولة الأم من خلال زيادة الاهتمام الاقتصادي بهم ونشر العدالة الاجتماعية التي تجعل الافراد في رضاء عن الدولة وأداء الحكومات المتعاقبة دون التفكير في بديل آخر، ومن ناحية أخرى، يجب على الدولة أن تقابل أي فكرة من أفكار التقسيم بالمزيد من النقاشات والجدالات مع زعماء الجماعات العرقية وليس مواجهة تلك الطلبات من خلال السلاح حتى لا تزيد نسب العداء تجاه الدولة.

وفي نفس الإطار، تبرز فكرة الدولة الفيدرالية، والتي تعد نظامًا من نظم الحكم والإدارة الناجحة التي تسمح للتنوع الاجتماعي في الدول بالتعبير عن الخصوصيات الذاتية لمكوناتها مع الإبقاء على رابط الوحدة في ظل النظام الفيدرالي. وتنشأ الدولة الفيدرالية كشكل من خلال اتحاد عدد من الولايات أو الأقاليم التي تتعايش معا دون انفصال، على الرغم من اختلاف تلك الولايات عن بعضها البعض.

ومن ثم، فإن الدولة الفيدرالية هي دولة واحدة تتضمن كيانات دستورية متعددة، ولكل منها نظامها القانوني الخاص واستقلالها الذاتي، وعادة ما تعرف الدولة الفيدرالية على أنها نظام سياسي من شأنه قيام اتحاد مركزي بين دولتين أو مجموعة من الدول أو الدويلات، بحيث لا تكون الشخصية الدولية إلا للحكومة المركزية، مع احتفاظ كل وحدة من الوحدات المكونة للفيدرالية ببعض الاستقلال الداخلي، بينما تفقد كل منها مقومات سيادتها الخارجية التي تنفرد بها الحكومة الفيدرالية المركزية، ويتألف رعايا الدولة الفيدرالية من مجموع رعايا الدول أو الدويلات المكونة للفيدرالية والتي تعد وحدات دستورية لا وحدات إدارية كالمحافظات في الدولة الموحدة ويكون لكل وحدة دستورية نظامها الأساسي الذي يحدد سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية ولكن الدستور الاتحادي يفرض وجوده مباشرة على جميع رعايا هذه الأقاليم بغير حاجة إلى موافقة سلطاتها المحلية.[51]

مفهوم الاندماج وشروطه

في هذا الإطار ينبغي التحدث عن مفهوم “الاندماج”، والذي ورد معناه في قاموس اكسفورد على أنه: العملية التي يتم من خلالها جمع وتركيب الأجزاء المختلفة لتكون كل واحد متكامل[52].

وغالبًا مايطرح مفهوم الاندماج integration كمقابل لعدم الاندماج disintegration، أو الإقصاءexclusion ، وأحيانًا مقابل للعنصرية أو التمييز racism .

ويميز لاندكير بين أربعة أنماط أساسية من الاندماج على عمومه، هي:

الاندماج الثقافي/ الاجتماعي: الذي يعبر عن درجة الانسجام بين القيم الثقافية في مجتمع ما، والاندماج المعياري: الذي يعني مدى تطابق السلوكيات مع المعايير الجماعية ، والاندماج التواصلي: الذي يتعلق بكثافة تبادل المعاني بين الفاعلين، والاندماج الوظيفي المرتبط بتبادل الخدمات.

وبشكل عام يمكن تعريف الاندماج المجتمعي بأنه : العملية التي يتم من خلالها تعزيز الولاء الوطني للدولة القومية ليعلو على كافة الولاءات الفرعية، بحيث يشعر المجتمع باختلاف عرقياته بأنه كل متكامل، وذلك باستخدام أدوات سياسية واجتماعية واقتصادية لتحقيق الاندماج المجتمعي.

  • عوامل الاندماج وشروطه:

تحدث كارل دويتشعن أهمية التجاوب المتبادل داخل المجتمع، ووجود قدرات وموارد هامة تتعلق بالاتصال والادراك وتوجيه الذات، كما قدم دويتش شروط للوصول إلى مجتمع آمن مندمج، أهمها[53]:

  • القيم الرئيسية المرتبطة بالسلوك السياسي.
  • أسلوب معيشة مميز وجذاب.
  • توقعات لروابط اقتصادية قوية ومفيدة ووجود عائد مشترك.
  • زيادة ملحوظة في القدرات الاقتصادية والسياسية والإدارية
  • وجود درجة معينة من التطابق والولاء المشترك.
  • نمو الاقتصادي.
  • وجود اتصال الاجتماعي بين الطبقات الاجتماعية الرئيسية.
  • توسيع نطاق الصفوة السياسية
  • وجود حرية حركة اجتماعيًا وجغرافيا.
  • تعدد مجالات الاتصالات والتعاملات المشتركة.
  • وجود تداخل بين الجماعات في المناطق المتباينة.

وبصفة عامة نرى أن تراجع المجتمعات التقليدية في القرن العشرين ساهم بشكل أو بآخر في دعم فكرة الإندماج الاجتماعي، فالدولة ذات المؤسسات التي تحفز الديمقراطية والمواطنة بشكل فعلي وليس مجرد شعارات، تحفز بشكل إيجابي الاندماج المجتمعي، أو ما اصطلح عليه كل منآلان تورين ودومنيك شنابر بـ”الاندماج الديمقراطي”، والذي يؤدي غيابه أو تجاهله إلى دفع عدد كبير من أفراد المجتمع وجماعاته إلى الانفلات من مجال تأثيره أو فعله ويلقي بهم في غياهب الجريمة والانتحار والإرهاب والعنف…الخ[54].

ومن المعلوم أن إشكالية الاندماج المجتمعي والديمقراطة وبناء مجتمع المواطنة يعني التفكير في طريقة العيش الجماعي في إطار الوطن أو الدولة، ويعد من أبرز العوائق التي تواجه الاندماج هيمنة الأيديولوجيا الرسمية على المجتمع ككل، وكذا هيمنة هوية الأغلبية على المجتمع والدولة بغض النظر عن الهويات الأخرى المغايرة للعرقيات المتباينة وهو ما يترجم في نظم الحكم والتعليم وتوزيع الثروة .

بالتالي فإن لتفادي الانفصال لابد من توافر عدد من العناصر، أبرزها[55]:

الاعتراف بالحقوق الأساسية لدى الأفراد والجماعات اذ ينبغي أن يشعر الفاعلون الاجتماعيون بأنهم مسئولون عن حريتهم الخاصة ويعترفون بقيمة وحقوق الشخص الإنساني وهو ما يمثل نتاج للمؤسسات التنشئة في المجتمع والعمليات التربوية في المدارس والجامعات والأسرة..الخ.

التمثيلية الاجتماعية للمسئولين وسياساتهم، بحيث تأتي السياسات متوافقة ومعبرة عن المصالح الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لكافة فئات المجتمع بشكل متوازن دون تحيز لعرقية أو فئة على حساب الاخرى، والربط بين المطالب الشعبية للعرقيات المختلفة داخل اطار الدولة الواحدة والقرارات الكبرى للدولة.

الوعي بالمواطنة حيث يشارك المحكومون في الحياة السياسية من قناعة كونهم مواطنين على قدم المساواة، وهو ما يتطلب الوعي بالانتماء لمجتمع سياسي يقوم على الاندماج، ولا يشهد تفاوتات اجتماعية واقتصادية شاسعة، فالوعي بالمواطنة كما أكد مارشال يتيح إعادة رأب وحدة المجتمع المعرضة للتدمير بفعل التفاوت والصراع بين الجماعات، فكلما خضع المجتمع للديمقراطية كلما انخفضت احتمالات تصدع الدولة القومية، حيث أن ضعف الدولة وغياب حقوق الإنسان والديمقراطية وانعدام التنمية الفعلية المبنية على تنظيم وتطوير الانتاج والتحكم في فائض القيمة الذي يصب أغلبه في الخارج جعلها عاجزة عن الاضطلاع بمسؤولياتها تجاه مواطنيها على مستوى تطوير البلاد وتوفير الخدمات والمصالح العمومية والتكفل بالحاجات المتزايدة للأفراد والجماعات، والنتيجة هي تزايد ضغط المجتمع على الدولة ومقاومتها له بقمع متزايد والتالي اللجوء للقوى المادية مما يطرح خيار الانفصال للعرقيات المغايرة.

وتبرز المواطنة باعتبارها أحد أهم الحلول التي يمكن أن تساهم في انتشار قيم الولاء والحرية والانتماء للوطن، فالمواطنة تعمل كصمام أمن للاستقرار المجتمعي وتضع جميع الأفراد سواسية أمام القانون، وتضمن للجميع فرص متساوية في موارد الدولة بغض النظر عن الشكل أو اللون أو اللغة أو الدين أو الثقافة.

والمواطنة وإن كانت تولد مع الفرد فهي تنمو وتزدهر وتتجذر تدريجياً مع إدراكه لما تبذله الدولة من جهد لخدمة مواطنيها ورعايتهم. وبقدر ما يتمتع الفرد باحترام لحرياته وحقوقه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ليس فقط من جانب الدولة ورموزها ولكن من جانب غيره من المواطنين بقدر ارتباطه بوطنه وولائه له وبقدر استقرار الدولة وسلامة أمنها القومي، وينبغي أن تلعب المنظمات الأهلية وجماعات الفكر والأندية الأدبية وجمعيات الثقافة دورًا كبيرًا في التأسيس لهذا النمط من الحركة حيث المواطنة الدستورية هي ركن ركين للدولة الحديثة التي تسعى بكل السبل للرقي بمستوى المعيشة مع الرعاية الكاملة للأفراد ومساواتهم في الحقوق والواجبات.

ويرى كيملكا أن الهوية المشتركة في الدولة الأحادية القومية تتولد عمومًا من وحدة اللغة والثقافة والدين، بيد أن هذه العناصر تحديداً لا تكون مشتركة على الأغلب في الدول المتعددة القوميات ولعل التاريخ هو العنصر المشترك فيها.

ولكن عنصر المساواة في الفرص الاقتصادية والاجتماعية يطل برأسه كعامل موحد بين أفراد الجماعات المختلفة، ويتفق كيملكا مع جون ستيوارت ميل بأن اندماج الأقليات يتحقق عادة إذا تولد الشعور لدى ابناء الاقليات بأنهم يعاملون لا على أساس العدالة المتساوية فحسب بل على أساس الاعتبار المتساوي ايضاً ومن شان ذلك أن يجعل الأقليات مدركة أهمية المنافع التي ستجنيها من الاندماج في الدولة.[56]


[1] John Hutchinson and Anthony D. Smith, Ethnicity New York: Oxford University Press, 1996,pp. 4-5

[2] مجمع اللغة العربية، المعجم الوجيز القاهرة: دار التحرير للطبع والنشر، 1980، ص415.

[3] على الدين هلال، نيفين مسعد محرران، معجم المصطلحات السياسية القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية، 1994، ص215.

[4] سعد الدين إبراهيم، الملل والنحل والأعراق.. هموم الأقليات في الوطن العربي، القاهرة:مركز ابن خلدون للدراسات الإنسانية،1994، ص41.

[5] Mohamed el-sayed, Ethnicities and national integrity, paper president of the international congress of Africans studies ICAS, sixth session, University of Hortoakn ,11-14Dec, 1991,pp1-2.

[6] محمد مهدي عاشور، التعددية الإثينية في جنوب إفريقيا، المؤسسة العربية للعلوم والثقافة،2005، ص25.

[7] منير البعلبكي، المورد بيروت: دار العلم للملايين، 1989، ص321.

[8] أحمد محمد حافظ، سياسة العولمة في مواجهة الجماعات الأثينية.. دراسة مقارنة للسياسة الروسية تجاه الشيشان وتتارستان”1991-2000″، رسالة ماجستير غير منشورة، القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية،2003، ص26.

[9] للمزيد من المعلومات حول رؤية سيان جونز لمفهوم العرقية يمكن الاطلاع على:

Sian Jones, the Archaeology of Ethnicity: Constructing Identities in the Past and Present London: Routledge, 1997.

[10] سهام فوزي حسين، التنوع الأثني والمذهبي والأمن القومي دراسة حالة العراق بعد إبريل2004، رسالة ماجستير غير منشورة، القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2008، ص ص2-3.

[11] سهام فوزي حسين، م س ذ، ص ص3،4.

[12] Panilkos panayi, An Ethnic history of Europe since 1945, London: Oxford press, 2000, p101.

[13] حورية مجاهد، الفكر السياسي.. من أفلاطون إلى محمد عبده، القاهرة: مكتبة الأنجلو، 1999، ص ص305-309.

[14] موزفينيلي، ابتكار السياسة..الديمقراطية والسياسة في اليونان وروما الجمهورية، ترجمة: تمام الساحلي، بيروت: دار الحقيقة، 1990، ص ص11-12.

15 Eetta Prince-Gibson, “The Slaves among Us,” Jerusalem Post, 8 April 2004.

[16] Brian M. Dutoit ED, Ethnicity in modern Africa, London: west view press, 1987, p1.

[17] H. Isaacs, “Basic Group Identity: Idols of the Tribe”, Ethnicity, Vol. 1, No. 15, 1974, pp. 65-66

[18] Sian Jones, Op. Cit., pp. 68-72

[19] John Hutchinson and Anthony D. Smith, Op. Cit., p. 9

[20] Fredrik Barth, “Introduction”, In: Fredrik Barth ed., Ethnic Groups and Boundaries Boston: Little Brown, 1969, p. 9-38

[21] Abner Cohen, “Introduction: The Lesson of Ethnicity”, In: Abner Cohen ed., Urban Ethnicity London: Tavistock Publications, 1974, p. 1-7

[22] Sian Jones, Op. Cit., p. 70

[23] Ibid., p. 90

[24] Gerald D. Berreman, Race, “Cast, and Other Invidious Distinctions in Social Stratification”, Race and Class, Vol. 13, No. 4, April 1972, p. 15

25 Shireen Hassim & Amanda Gouws, “Redefining the public Space: Women’s Organizations, Gender Consciousness Society“, www/crv[/prg/book/Seres02/11- 6/chapter_iv.htm.1998, P90.

[26] Joseph J. Romm‏, Defining National Security: The Nonmilitary Aspects New York: Council on Foreign Relations Press, 1993, p. 3

[27] Manshour Varasteh‏, Understanding Iran’s National Security Doctrine: The New Millennium Leicestershire: Matador, 2013, p. 4

[28] Abdel Monem M. Al-Mashaat, National Security in the Third World Bondle: Westview Press, 1985, p. 23-37.

[29] نزيه عبد المقصود محمد، الأمن الاقتصادي: معوقاته، وآليات تحقيقه: دراسة مقارنة بالفكر الإسلامي الإسكندرية: دار الفكر الجامعي، 2014، ص ص 12-13.

[30] على عبد القادر علي، “التطورات الحديثة في الفكر التنموي والأهداف الدولية للتنمية”، ندوة: الأهداف الدولية للتنمية وصياغة السياسات الاقتصادية والاجتماعية في الدول العربية، المعهد العربي للتخطيط، تونس، 6-8 مايو 2003، ص 2.

[31] روبرت جاكسون، فاضل جتكر مترجم، ميثاق العولمة: سلوك الانسان في عالم عامر بالدول الرياض: مكتبة العبيكان، 2000، ص 339.

[32] James D. Fearon, Ethnic Structure and Cultural Diversity around the World: A Cross-National Data Set on Ethnic Groups, 2002 Annual Meeting of the American Political Science Association, August 29-Sept. 1, Boston, p. 17

[33] محمد محمود عبد العال، التعدد العرقي من التنازع الي التناغم: النموذج الماليزي، النموذج الأمريكي، القاهرة، مركز التنوع للدراسات، 2009، ص 5

[34] https://www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook/geos/ca.html

[35] Paul Collier, “Doing Well Out of War: An Economic Perspective”, in Mats Berdal and David M. Malone eds., Greed and Grievance: Economic Agendas in Civil Wars Boulder: Lynne Rienner, 2000, pp. 91-111

[36] Paul Collier and Anke Hoeffler, “On economic causes of civil war”, Oxford Economic Papers, Vol. 50, No. 563, 1998, p. 73

[37] Tanja Ellingsen, “Colorful community of ethnic witches’ brew? Multiethnicity and domestic conflict during and after the cold war”, Journal of Conflict Resolution, Vol. 44, No. 2, 2000, p. 228-49

[38] James Fearon and David D. Laitin, “Explaining interethnic cooperation”, American Political Science Review, Vol. 90, No. 4, 1996, p. 715-735

[39] Randall J. Blimes, “The Indirect Effect of Ethnic Heterogeneity on the Likelihood of Civil War Onset”, The Journal of Conflict Resolution, Vol. 50, No. 4 Aug., 2006, pp. 545

[40] رحاب عبد الرحمن الشريف، “اشكالية بناء الأمة في السودان 1989-2004″، رسالة دكتوراه، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، ص 74.

[41] Frtiz Sager and Christine Zollinger, “The Swiss Political System in Comparative Perspective”, In Christine Trampusch and Adnre Mach, Switzerland in Europe: Continuity and Change in the Swiss Political Economy New York: Routledge, 2011, pp. 27-43

[42] Ted Robert Guss and Barbara Harff, “Toward Empirical Theory of Genocides and Politicides: Identification and Measurement of Cases since 1945”, International Studies Quarterly, Vol. 32, pp. 359-371

[43] محمد محمود عبد العال، مرجع سبق ذكره، ص 39

[44] جابر سعيد عوض، “محاضير محمد وقضية التعددية العرقية في المجتمع الماليزي”، في: محمد السيد سليم محرر، الفكر السياسي لمحاضير محمد القاهرة: برنامج الدراسات الماليزية، 2006، ص 177-178

[45] المرجع السابق، ص 179-180

[46] http://www.dailymail.co.uk/news/article-2325502/Map-shows-worlds-racist-countries-answers-surprise-you.html

[47] رحاب عبد الرحمن الشريف، مرجع سبق ذكره، ص 73.

[48] Frank Spalding, Genocide in Modern Times: Genocide in Rwanda New York: The Rosen Publishing, 2009.

[49] Alfred Uzokwe‏, Surviving in Biafra: The Story of the Nigerian Civil War, Over two Million Died Bloomington: iUniverse publishing, 2003.

[50] Matthew Arnold and Matthew LeRiche, South Sudan: From Revolution to Independence‏ London: C. Hurst and Co., 2012, p. 226-233

[51] Ruth Hubbard and Gilles Paquet, The Case of Decentralized Federalism Ottawa: University of Ottawa Press, 2010, p. 1-15

[52] en.oxforddictionaries.com.www

[53] https://www.scribd.com.

[54] فوزي بوخريص،”الاندماج الاجتماعي والديمقراطية”، مؤمنون بلاحدود ، 2017، ص2-10.

[55]2 فوزي بوخريص،”م س ذ”، ص2-10.

[56] John Stuart Mill, Representative Government Kitchener: Batoche Books, 2001, pp.181-183

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close