ترجمات

الانخراط الأمريكي العالمي حقائق واساطير

الانخراط الأمريكي العالمي: حقائق واساطير

أكتب هذا المقال من بودابست، حيث كانت جامعة كورفينوس Corvinus لطيفة بما يكفي لدعوتي لأكون زميلا دوليا مميزا. (بعد أن كنت أستاذا جامعيا منذ عقود، يمكنني القول بثقة أن كوني زميلا دوليا مميزا أجمل بكثير). سُئلت منذ وصولي إلى بودابست مرارا وتكرارا عن سبب انسحاب الولايات المتحدة من العالم. لقد سمعت هذا من قبل بعض الأمريكيين أيضا، لكن ردي هو نفسه دائما: الولايات المتحدة تواصل انخراطها العميق في العالم، وأسطورة عدم الانخراط مستمدة من الخطاب الأمريكي وليس التصرفات الأمريكية.
فلنأخذ على سبيل المثال إعادة التفاوض على اتفاقية النافتا NAFTA ، بحيث تشارك الولايات المتحدة في مناقشات مع المكسيك وكندا حول مستقبل التجارة القارية. فلا يمكن اعتبار ذلك مجرد علاقة هامشية فإجمالي سكان أمريكا الشمالية يبلغ حوالي 500 مليون نسمة، وهو تقريبا نفس عدد سكان الاتحاد الأوروبي. كما أن الناتج المحلي الإجمالي المشترك لهذه البلدان الثلاثة هو تقريبا الناتج المحلي الإجمالي المشترك لأعضاء الاتحاد الأوروبي. لذا فإن إعادة تعريف هذه العلاقة التجارية معقد وصعب لأن مثل هذه المفاوضات ستكون في أوروبا.
تحاول الولايات المتحدة أيضا إعادة تعريف علاقاتها التجارية مع الصين. إذ فرضت مؤخرا تعريفات جمركية على عدد كبير من الواردات الصينية إلى الولايات المتحدة، بحجة أن الصين قد انخرطت في ممارسات تجارية غير عادلة من خلال التلاعب بالعملة والحواجز أمام صادرات الولايات المتحدة، وما إلى ذلك. في المقابل ردت الصين بوضع تعريفات الجمركية الخاصة بها أيضا.
في هذه الأثناء، تظل الولايات المتحدة في حالة تأهب بشأن كوريا الشمالية. فيبدو أن الكوريين الشماليين قد تراجعوا عن التزاماتهم بنزع السلاح النووي، كما أن احتمال امتداد ذلك لنشر الصواريخ الباليستية العابرة للقارات القادرة على ضرب الولايات المتحدة لم يندثر. الطائرات الأمريكية لا تزال في وضع الاستعداد في غوام Guam ، بحيث يتم نشر ما يقرب من 30.000 جندي أمريكي في كوريا الجنوبية، كما أن المعدات البحرية متوفرة. رغم أن الحرب ليست قريبة، لكنها لا تزال ممكنة في حين يجري النظر في المزيد من المحادثات.
وفي الوقت نفسه، تقوم السفن الأمريكية بعمليات الملاحة في بحر الصين الجنوبي بكل حرية لتحدي المطالب الإقليمية الصينية. كما دعمت الولايات المتحدة محاولات أستراليا ونيوزيلندا للحد من النفوذ الاقتصادي للصين على الدول الجزرية في المحيط الهادئ مثل تونغا.
يعتبر هذا جزءا من محاولة أوسع للحد من القوة الصينية في المنطقة من خلال الحوار الأمني ​​الرباعي وهو تحالف يضع المرجعية الأساسية للتعاون بين اليابان وأستراليا والهند والولايات المتحدة. سابقا، قامت الدول الأربع بتكوينات مختلفة وتدريبات بحرية في غرب المحيط الهادي بحيث كانت كل من الولايات المتحدة واليابان وأستراليا تريد إضفاء الطابع الرسمي على الجانب العسكري للتحالف. (في حين أن الهند مستعدة للتعاون على أساس هدف معين، ولكن ليس كجزء من تحالف عسكري رسمي). في حين يزور وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتس الهند هذا الأسبوع، ومن المحتمل أن تجري المحادثات بطريقة رباعية بالإضافة إلى ذلك، اتخذت الولايات المتحدة والفيتنام خطوات مهمة لتنسيق جهودهما العسكرية والأمنية، مع التركيز على الصين.
في جنوب آسيا، تشارك الولايات المتحدة في مفاوضات مع طالبان لمحاولة وضع نهاية لحرب 17 سنة في أفغانستان. فقد كانت هناك محادثات سرية في الماضي، لكن المفاوضات الحالية مفتوحة تماما وتتزامن مع إعادة تموضع القوات الأمريكية بعيدا عن العمليات الهجومية. هذه المحادثات معقدة وستشمل حتما باكستان. فليس من قبيل الصدفة، أن يزور ماتيس باكستان هذا الأسبوع.
إلى الغرب، تحاول الولايات المتحدة صقل استراتيجية تجاه إيران. بسبب فشل الولايات المتحدة في تهدئة الأوضاع في العراق، باعتبار أن الإيرانيين يمتلكون يدا قوية هناك، وكذلك في سوريا ولبنان واليمن وعليه فإن انتشار القوة الإيرانية له أهمية أكبر من البرنامج النووي الإيراني، لأنه يشكل تهديدا مباشرا وبالتالي فالولايات المتحدة تزيد من دعمها للقوى المعادية لإيران في العراق، وكذلك للجماعات الكردية في إيران والعراق. كما أن الولايات المتحدة تتشابك في علاقاتها مع إسرائيل ما يشكل تحديا لإيران في سوريا، ومع السعوديين والإمارات العربية المتحدة المتورطون في اليمن. وعليه فالوضع أكثر تعقيدا بسبب ضعف الاقتصاد الإيراني وصعود درجة معينة من المعارضة العامة في إيران.
ثم هناك علاقة الولايات المتحدة مع تركيا. بحيث تحاول تركيا أن تجعل الولايات المتحدة وروسيا يلعبان ضد بعضها البعض، وتهدد بالحد من علاقاتها مع واشنطن لصالح موسكو. وبالنظر إلى التاريخ الطويل للتوترات بين تركيا وروسيا، وحقيقة أنه في أي اتفاق مع موسكو ستكون أنقرة اللاعب الأضعف فإن الولايات المتحدة تميل إلى تجاهل ذلك. ومع ذلك، فرضت الولايات المتحدة على الأتراك تعريفات جديدة حول الصادرات قبل بضعة أسابيع، في وقت كانت العملة التركية في انخفاض. وتستخدم الولايات المتحدة الآن التعريفات كأداة لتشكيل العلاقات السياسية، لكن تركيا لم تتخذ بعد خطوات للانفصال عن الولايات المتحدة.
وفي أوروبا، قامت الولايات المتحدة بنشر قوات وطائرات ومعدات أخرى في بولندا ورومانيا. وعليه فإن احتمال وقوع هجوم روسي منخفض، فقد تراجع الروس إلى الحدود الأوكرانية في الجنوب، كما أنهم يعرفون أن هجوما في الشمال سيتضمن القوات الأمريكية بشكل سريع. قد تكون القوات الأمريكية غير كافية لوقف هجوم روسي كامل، ولكنها جزء من استراتيجية قامت واشنطن بتطبيقها خلال الحرب الباردة. رغم أن الحضور العسكري للولايات المتحدة في برلين الغربية لم يكن كبيرا بما يكفي لوقف هجوم روسي لكن الروس أدركوا أن الهجوم على القوات الأمريكية من شأنه أن يخلف استجابة غير محمودة.
توضح قائمة الأنشطة الحالية أن الولايات المتحدة بعيدة عن الانسحاب عن العالم. لكنها انسحبت من ألمانيا وأوروبا الغربية لمجرد أنه لا يوجد أي تهديد للولايات المتحدة هناك في هذا الوقت، ولن تستطيع هذه الدول وحلف شمال الأطلسي تقديم دعم جوهري ذي أهمية إستراتيجية كبيرة للمصالح الأمريكية الرئيسية في المحيط الهادئ. على الرغم من مشاركة الولايات المتحدة في بولندا ورومانيا، فإن التصور الأوروبي، كما سأضعه بصراحة، هو أنه إذا لم تكن الولايات المتحدة متورطة مع فرنسا وألمانيا، فهي ليست منخرطة في العالم. هذا لأن فرنسا وألمانيا يفكران في أن يكونا مركزا للعالم. هذا تصريح قاسٍ وربما غير عادل، لكنه يساعد على تفسير هذه الفكرة الغريبة الأوروبية الغربية عن عدم الالتزام الأمريكي العالمي.
من المهم أيضا ملاحظة أن العديد من هذه الارتباطات هي مجرد استمرار للسياسات القديمة. فعلى سبيل المثال يعود تاريخ الملف النووي لكوريا الشمالية إلى إدارة كليــــنتون، التي كانت تتعامل بنفــس الخطوط الحمراء. ونفس الشي ينطبق على التحالف الرباعي الذي نشأ في إدارة جورج دبليو بوش. كما أن العلاقة مع الفيتنام والهند تطورت من خلال الإدارات السابقة، وكانت المفاوضات مع طالبان مستمرة على الأقل منذ إدارة الرئيس السابق أوباما. كما بدأ الانتشار الأمريكي على طول الحدود الروسية في عهد جورج دبليو بوش وازداد تحت حكم أوباما، في حين تعود الأزمة في العلاقات الأمريكية التركية على الأقل إلى الانقلاب الفاشل عام 2016، رغم أن هناك بعض التطورات الجديدة، على سبيل المثال استخدام التعريفات الجمركية، ومفاوضات اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية، والحاجة إلى الحد من التوسع الإيراني.
هناك بالتأكيد معركة سياسية بين التيارات المختلفة في الولايات المتحدة، والجو متوتر. لكن الجدير بالذكر أنه بغض النظر عما قد يعتقده البعض، فإن السياسة الخارجية للولايات المتحدة لديها استمرارية أكثر بكثير من الانقطاع. فالبيئة تغيرت غير أن استراتيجية الولايات المتحدة قد تطورت فقط. فالجغرافيا السياسية تفترض أن الدول مدفوعة في علاقاتها الرئيسية بحكم الضرورة، وهذا ينطبق على الولايات المتحدة.
لطالما كان هناك اختلاف كبير بين خطاب السياسيين والواقع الأمريكي. لطالما كانت سياسة الولايات المتحدة صعبة الفهم على كثير من الأوروبيين وغيرهم. في نفس الوقت يشعر الأمريكيون أنفسهم بالحيرة من أمريكا. لكن رغم كل العواصف والضغوط، تظل الولايات المتحدة منخرطة بعمق في العالم. فيمكننا أن نتفق أو نختلف مع إجراءات معينة، لكن فكرة عدم الانخراط لا أساس لها في الواقع(*)..
عنوان المقال الأصلي:
George Friedman, « America’s Global Engagement: The myth of disengagement derives from American rhetoric and not American actions », Geopolitical Futures , September 7, 2018.


(*) الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى