fbpx
قلم وميدان

التوبة المؤسسية من منظور ادارى

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

التوبة تمثل في ضمير الأفراد معنى العودة والرجوع عن الأخطاء والإقلاع عن ارتكاب المفاسد سواء تلك المخالفة لتعاليم الدين والشرع أو قيم المجتمع الذي يعيش فيه، وفعل التوبة هو فعل إيجابي في العموم يعود بالارتياح النفسي على الأفراد حين يمارسونه بين الحين والآخر والذي يعطى الإنسان شعورا بالتطهر المستمر وارتياح الضمير وحالة التصالح مع الذات التي ينشدها الجميع.
ويعتبر المفهوم الشرعي للتوبة هو أعلى درجات التوبة حين يعود الإنسان الى تعاليم الإله ويشعر بندمه على إقترافه أي ذنب قد يغضب الله بل وينتقل من مجرد الندم إلى مرحلة الإقلاع – بيد أن التوبة في الحقيقة هى ثقافة يجب أن تترسخ في نفوس الأفراد ويتم ترجمتها في سلوك يمارسه الانسان خلال فترات حياته وكلما زادت تلك الفترات تقارباً كانت التوبة أكثر أثراً وعمقاً وممارسة بما يعنى القدرة على ضبط ايقاع الحياة واعادتها الى مسارها الطبيعي كلما انحرفت وتجاوزت حدود الانضباط والسلوك السوى وفق مقاييس الدين والشرع والقيم العليا التي تشكل ثقافة المجتمعات.
وبنظرة أكثر شمولية على مفهوم التوبة فإننا يمكن أن نسحب هذا المفهوم على كل الكيانات والمؤسسات ولا يجب أن يقتصر على الأفراد بل قد يكون تعميم المفهوم على الكيانات والمؤسسات أكثر نفعاً وأثراً على الأفراد فحين ينضبط السلوك المؤسسي ينضبط الأفراد المتصلين بهذه المؤسسات والكيانات بالتبعية.
ولا شك أن المؤسسات حينما تعتاد عملية المراجعة والتقويم وتصحيح الأخطاء سيكون ذلك كفيلا بضبط المجتمع كله حين يعتاد الأفراد على التعامل مع مؤسسات منضبطة وأقل انحرافا وأكثر محاربة للفساد ومن هنا ينشأ مفهوم التوبة المؤسسية.

هل تذنب المؤسسات؟

سؤال تأسيسي يمكن أن ينبني عليه رؤية جديدة للتعامل مع المؤسسات، وإذا سلمنا بأن المؤسسات فعلا تذنب وتخطأ فما هي تلك الذنوب؟ ومن يحكم على المؤسسات بالانحراف والضلال إذا ضلت؟ وما هى المعايير التي تحكم تقييم الانحراف والخطأ؟ وكيف تعترف المؤسسات بخطاياها؟ ثم يأتي السؤال الأخطر وهو – كيف تتوب المؤسسات؟
إن الاجابة على كل هذه التساؤلات كفيلة بإعادة النظر للكيانات وأسلوب التعامل معها وتناول سلوكها بنظرة مغايرة عن النظرة الروتينية التي اعتدناها في التعامل مع هذه المؤسسات والكيانات فإجابات هذه الأسئلة هى إجابات كاشفة لكل نواحي الانحراف والأخطاء داخل المؤسسات فإذا كان الستر محمودا في مساحة الخطأ الفردى فإن التستر على الأخطاء والانحرافات المؤسسية يعد جريمة كبرى وسلوك منحرف يمثل ايضا أحد أخطر ذنوب المؤسسات.

كيف تنحرف المؤسسات؟

إن إنحراف المؤسسات يظهر في عدم التزامها بقواعدها التأسيسية التي بُنيت عليها فيما يٌعرف بين المشتغلين بالعملية الادارية بالمزيج الاستراتيجي الذى قامت عليه المؤسسة، فالمؤسسات تنحرف حين تفقد القدرة على تحقيق غاياتها أو رؤيتها وحين تفقد البوصلة لإدراك رسالتها وكذلك حين تنهار منظومة القيم التي وضعتها أو حين تكفر بأهدافها الاستراتيجية التي تسعى من خلالها لتحقيق غايتها ورؤيتها .
هكذا نكتشف انحراف المؤسسات حتى وإن نجحت في جانب من الجوانب وتميزت فيه فإننا يجب أن نرى المؤسسات بصورة متكاملة من جميع جوانبها ولا يغرنا نجاحها في بعض المجالات ونغض الطرف عن انحراف المجالات الاخرى لأن ذلك سيكون بمثابة القنبلة الموقوتة التي ستنفجر في وجه الجميع وتطيح بكل النجاحات التي حققتها .
فبينما كانت شركة فيسبوك تتربع على عرش الشركات الاكثر نموا وربحية في العالم كأن هناك مؤشر خطير على انحراف الشركة وهو خيانة الشركة للقيم التي تأسست عليها وأهمها سرية بيانات العملاء وقد ظهر ذلك في فضيحة عالمية هزت اركان الشركة واستدعت قيامها بتعديل معايير الخصوصية لديها وقيام رئيسها بالاعتذار وتقديم اعتذار رسمي للعملاء .
ولن ينسى العالم الفضيحة الاكبر والتى دوت في ربوع عالم الاعمال وتسببت في انهيار كيانات كبرى وهى فضيحة شركة إنرون للطاقة والتى اصابت الوول استريت اصابة مباشرة في مطلع القرن الواحد وعشرين واضطرت الحكومة الامريكية للتدخل وتعديل قوانين الاستثمار  وبعدما أعلنت الشركة عن إفلاسها تهاوت قيمة السهم فيها من 91 دولار تقريبا الى 67 سنتا للسهم وما تبع ذلك من انهيار شركة آرثر اندرسون العالمية في مجال المحاسبة حيث اتضح مدى التدليس الذى قامت به شركة المحاسبة العالمية للتغطية على فساد شركة انرون والتدليس في القوائم المالية الخاصة بها .
والدرس المستفاد هنا أننا يجب ألا ننبهر ببريق الارباح أو اتساع الشهرة أو تحقيق مكاسب مؤقته ولكن يجب علينا أن ننظر إلى المؤسسات من كل جوانبها فكم من كيانات حققت نجاحات هشة وكانت تسير نحو الهاوية بينما يظن القائمون عليها أنهم يسيرون نحو الأمجاد ولم يكن لذلك سببا سوى غياب المراجعة والتصحيح والتوبة عن الانحرافات والرجوع الى أسس وقواعد المؤسسة ورؤيتها المنشودة .

من يرصد إنحراف المؤسسات؟

المؤسسات كما الأفراد لا تعيش منعزلة عن العالم أو المجتمع المحيط وحينما اطلق ادوارد فريمان نظرية أصحاب المصالح (Stakeholders )  لفت نظر الجميع إلى أن النظرة الضيقة لمصالح المؤسسات والتى كانت تقتصر على مصلحة اصحاب رؤوس الأموال واصحاب السلطة قد انقضت وتلاشت وأصبح أداء المؤسسة يقاس بقدرتها على تحقيق أهداف جميع اللاعبين المتصلين بالمؤسسة وأن المؤسسة إن لم تراعي أصحاب المصالح والأثر والنفوذ فسوف يمثل ذلك أحد أوجه القصور والإنحراف لديها .
أذاً وبكل بساطة يستطيع اصحاب الاثر والنفوذ والمصالح رصد كل إنحراف يحدث بالمؤسسة وعلى القيادة الرشيدة أن تسمع لصوت هؤلاء وتنصت لنصائحهم وتقيس مدى الرضا الذى وصلوا اليه نتيجة أدائها .
وإذا كانت القيادة تملك من الادوات والوسائل الواضحة والمحايدة ما يعينها على رصد الانحرافات أولا بأول فإن ذلك يعد من وسائل نجاحها وادراكها للانحراف ولا يجب على الادارة أن تكتفي بلعب دور رجل الاطفاء وكلما اشتعل حريق في منطقة بادرت باخماده ولكن عليها أن ترصد بجدية كل الانحرافات وتعمل على معالجتها قبل وقوع المشكلة فالوقاية خير من العلاج دائما.

أدوات رصد الانحراف المؤسسي

تمتلك الادارة العديد من ادوات رصد الانحراف المؤسسي وتتنوع هذه الادوات بتنوع المجالات التي ترغب الادارة في رصد انحرافاتها فمنها ما هو مالي لرصد الانحرافات المالية مثل التقارير المالية الدورية وقياس العائد على الاستثمار ومقياس السيولة ومقياس الاصول ومنها ما يرصد اداء الموظفين مثل تقارير الاداء ومراجعة التوصيفات الوظيفية وتقارير الانجاز وكذلك هناك ادوات ترصد رضا العملاء مثل الاستبيانات وحلقات المناقشة وتقارير الخدمة وخدمات ما بعد البيع وهناك بعض الادوات الخارجية والتى تمثل نوعا من الرقابة على المؤسسة من خارجها متمثلة في بعض الجهات الحكومية والمكاتب الاستشارية ومكاتب المراجعة المالية وغير ذلك من الادوات .
ومن أبرز الادوات الحديثة في تقييم الاداء ورصد الانحرافات هى بطاقات الاداء المتوازن والتى تُعنى بقياس الاداء المؤسسى على اربعة محاور رئيسية للمؤسسة وهي

  1. المحور المالي
  2. محور العملاء
  3. محور العمليات
  4. محور التعلم والتدريب

وتعد بطاقة الاداء المتوازن من الادوات الناجحة في التقييم المؤسسي سواء على المستوى الاستراتيجي أو المستوى التنفيذى وتعطى رؤية شاملة عن المؤسسة من كل الجوانب في نفس الفترة الزمنية وهذا أكبر ما يميزها عن غيرها من ادوات التقييم المؤسسي.

كيف تتوب المؤسسات

التوبة قرار، والقرار عند القيادة واصحاب السلطة والمسؤلية حينما تريد القيادة تطهير المؤسسة من خطاياها وانحرافاتها سيكون لها ما تريد
أما إذا أُرغمت القيادة على عملية الإصلاح نتيجة الضغط الشديد من أصحاب المصالح (Stackholders ) فستواجه المؤسسة أحد احتمالين هما :
الأول : إما أن تخرج الأمور من يد القيادة عن نصابها و يكون الإصلاح في هذه الحالة مصحوبا بالخسائر الكبيرة التي لا يمكن التنبؤ باثاراها على المدى البعيد
والثاني : أن تراوغ الادارة في تنفيذ الإصلاح المنشود وتكتفي بالظاهر دون تحقيق الجوهر من عملية الاصلاح فتكون التوبة في هذه الحالة توبة غير صادقة وسرعان ما تعود الامور كما كانت  بل أسوأ مما كانت في معظم الأحوال .
واذا كانت القيادة صادقة في الاصلاح وتحقيق التوبة المؤسسية فعليها القيام بالعديد من الخطوات حتى تصل الى الاصلاح المنشود وهى كما تعرف في علم الادارة بالتفكير المنطقي لحل المشكلات وهى كما يلي:

1-تعريف المشكلة: وهذه المرحلة هى مرحلة التوصيف والتعريف وفيها يتم استخدام كافة الادوات الممكنة لتعريف المشكلة وفى هذه المرحلة علينا الحذر من أمرين هامين وهما:

  • عدم الاستغراق في التوصيف حتى لا يأخذ حيزا أكبر مما يليق به ويكون التوصيف موجزا معبررا غير مشتت.
  • عدم الانسياق وراء الاعراض والتركيز على توصيف الامراض وتحليل الاسباب فمسكنات الصداع لا تعني بحال من الاحوال ان الطبيب قد عالج المرض ولكنه فقط سكن العرض وهذا أخطر ما يمكن فعله.

وفى هذه المرحلة يمكن استخدام العديد من الادوات مثل أسلوب باريتو في تحليل المشكلات وطريقة إشيكاوا وأسلوب الاسئلة الخمسة وغيرها من ادوات تعريف وتحليل المشكلات.

2- تحديد بدائل الحل: وحبذا لو تم تحديد الحلول الممكنة من خلال المختصين ومجموعات تتميز بالاحتراف والانفتاح على جميع الحلول وإعلاء قيمة الابتكار والتميز والريادة.

3- تقييم الحلول: وتعد هذه الخطوة من أخطر مراحل الاصلاح المؤسسي حيث تتجلي معاني التجرد والموضوعية وعد الانحياز إلا لمصلحة المؤسسة بعيدا عن الانطباعات وتحيزات الافراد.

4- اختيار الحل الأنسب: والفارق كبير بين الحل الأمثل والحل الأنسب فنحن أمام واقع يجب أن ندرك أبعاده كلها وكذلك لدينا إمكانات محدودة يجب أن نتعرف عليها بدقة ولذلك على القيادة المؤسسية الواعية اختيار الحل الأنسب لبيئتها الداخلية والخارجية حتى لا تصطدم بواقع مرير بينما هى تحلق في الاحلام والامنيات.

5- تطبيق الحل الأنسب: وفى هذه المرحلة تتجلى الإرادة الصادقة للانتقال من التنظير الى العمل الفعلى والتطبيق فكم من الخطط الجيدة كان مصيرها ظلمات الادراج أو الرقود بين الاتربة فوق الأرفف  وفى مرحلة التطبيق العملى للحلول يُنصح أولا بعمل محاكاة على نموذج صغير كعينة للحل حتى تتعرف الادارة على أهم السلبيات والمشكلات التي تواجه الاصلاح ومن ثم تستطيع التعميم على المؤسسة مستقبلا بعد تلافى المشكلات . وهنا تبرز قدرة ادارة العمليات الاجرائية على مهارة التنفيذ واختيار الطرق الابداعية وتبسيط الاجراءات وتطوير اساليب العمل.

6- المراجعة والمتابعة والتقويم: وذلك من خلال المتابعة ورصد التغذية الراجعة وعلاج الانحرافات اولا بأول حتى لا تضيع جهود الاصلاح سدى .

وختاما

يبقي قرار التوبة المؤسسية قراراً جريئا يحتاج إلى ارادة نابعة من قيادة متجردة مخلصة لمؤسستها ويكون مرجعها في توبتها هى رؤيتها وغايتها وأهدافها الاستراتيجية وقيمها الحاكمة وأى إنحراف عن هذا المزيج يتطلب توبة صادقة ومراجعة موضوعية لتتطهر المؤسسات من درنها وخبثها وخطاياها وتعود الى منطلقاتها وأسباب وجودها الأساسية التي خلقت لأجلها (* ).


(* ) الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close