fbpx
قلم وميدان

الثورة المصرية ومنطلقات التفكيك والتركيب

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

( 1) حين خرج الثوار فى ميادين التحرير بالعالم العربي فى عام 2011، لم يكن فى أذهانهم ولم يكن كذلك فى أذهان خصومهم المعنى الحقيقي لمفهوم الثورة. فقد كانت هبات الشعوب حينها مجرد هبات صادقة لحالة من الغليان غير المسبوق فى الشارع السياسي والاجتماعي العربي.

لم يكن يدرك حينها الثوار أنهم ثوارا، ولكن فى هذه اللحظة وقف المتخصصون وخبراء الإجتماع السياسي بالمعسكر المعادي لحراك الشعوب، ووجدوا أن هؤلاء الثوار “مشروع ثوار يوشك أن يكتمل” وهنا ابتدأت الخطة وارتسم الطريق.

أعد هؤلاء الخُطة المحكمة وكانت فلسفتها تبدأ بتسميتهم “الثوار ”، وكأن الثورة أُختزلت كلها فى السقف الذي حققه الثوار فى هذه اللحظة ولا زيادة، وأخذوا يزجون فى وعي الجميع أنها ثورة بيضاء لا تتلوث بدم، ومرة أخرى أنها ثورة بدون قيادة فلا تتشكل بخطة، وهكذا حتى رسموا لها طريقا سريعا نحو الفشل والإخفاق.

وتعثر الربيع العربي، ولعل العقبة الكؤود فى تقدم الربيع العربي أو انحسار معدلات إخفاقه وفشله تكمن فى “الثورة المصرية”، فالبعض يرى، وأنا منهم، أن الثورة المصرية هي أمل البشرية جمعاء وليست أمل العرب وحدهم، ونجاح الثورة المصرية هو رصيد مضمون ورافعة قوية ودافعة رئيسية لكل معارك التغيير والتحرير فى العالم كله، وعلى صدارتها معارك التغيير فى العالم العربي.

إني أجزم أن هناك بذور ثورات فى كل عواصم العالم الفاعل بدون استثناء، وأن الإنسان قد ضاق ذرعا بطرائق معيشته والإستبداد القابع عليه فى كل ساعة يعيشها، والثورة المصرية هي تلك الشمس التي إن أُزيح الغَمام عنها أنارت بضوء الثورة كل تلك الربوع، ولتغير العالم من بعدها ليكون مغايرا تماما فى الشكل والتصورات والقيم والمكونات والإرتباطات فيما بينها.

ولعل هذا هو ما جعل هؤلاء يجعلون من أمر الثورة المصرية مسألة حياة أو موت بالنسبة لهم، وأهم ما يزجه هؤلاء الأن فى مفاهيم الجميع، أن الثورة عمل اجتماعي غير قابل للتخطيط له وأنه غير قابل كذلك للإعداد له لأنها مجرد “حالة” غير معروف نتائجها ومآلاتها وكيفيات الوصول إليها. وهذه “الحالة” يجب على الفاعلين حينها أن يتسابقوا على النتائج ويتعاملوا مع الواقع الذي رسمته تلك الحالة ووفق ما فرضته هي عليهم وعلى الجميع.

إن كثير من القيادات السياسية المصرية قد بلغ بهم هذا المفهوم إلى عميق فكرهم، فهم ينتظرون تلك الحالة التي لا تستطيع أي قوة صناعتها، فهي – بحد تعبيرهم – نتاج كمٌ هائل من المتغيرات والتفاعلات فى المجتمع مما يؤدى نهايته إلى حدوث ثورة، وهذا الكم الهائل من المتغيرات والتفاعلات يستحيل لأي قوة مهما بلغت أن تتحكم بها وتسيطر عليها مهما امتلكت من أدوات وإمكانات ومهما بلغت من قوة وقدرة.

والحل إذن من وجهة نظرهم يكمن فى استراتيجيتين: أولها: الإنتظار، ثانيها: أن تكون جزءاً أصيلاً من الغضب الشعبي وأن تكون عنصراً فاعلاً فى تلك التفاعلات والمتغيرات بحيث يُمكنُّك ذلك من الجلوس على طاولة تقسيم الغنائم الثورية وقت نجاح الثورة، لأنك كنت معهم منذ اليوم الأول وتحملت معهم تكاليف النضال الثوري، هذا إن كان هدفك هو تحقيق مصالح سياسية جراء وقوفك فى المعسكر الثوري.

ومن حق الجميع أن يطلب السلطة والحكم، وأن يُقدّر الطرف الأقرب للربح والمكسب السياسي وأن يقف معه ويسانده ويتحمل مسئولية وقوفه مع هذا وجنوحه عن ذلك، أما إن كان هدفك قيمي ورسائلي بحت مجرد من أي مصلحة سياسية أو غرض الوصول للسلطة، فأنت تقف مع الشعوب فى حراكها ونضالها وكفاحها ضد المستبد فقط لتساند الشعوب فى معاركها الفاصلة، فهذه الرسالية لا نطالب بها أحد ولا ننكر على أحد أنه لم يتحلى بها.

هكذا تنحصر رؤية هؤلاء فى أنه علينا فقط أن نشارك يوميات الشعب الغاضب وننتظر، ولن يلبث هذا الشعب المسكين أن ينزاح عن غضبه وأن يكون جُل ما يفعله جراء غضبه هو التنفيس بين نفسه ومرآته ليقترب يوما بعد يوم من حد الجنون. كل هذا لأن حاملي لواء التغيير لا يقدرون على تحويل غضبه إلى عمل ثوري يُنتج بالضرورة مكاسب سياسية أو ينقل المعركة خطوة أو خطوتين على منحنى مسار التغيير.

بداية نقول: الثورة ليست حالة، الثورة نتيجة عمل مخطط ودؤوب ومتناسق ومترابط، ولكن يراها البعض أنها مجرد حالة لأنهم لم يكونوا يوما من صانعيها، الثورات تُصنّع وتُخلّق، الثورات التي لا تبدأ بأناس اجتمعوا فى غرفة ما على طاولة ما وقالوا لأنفسهم “نريد إحداث ثورة” ونريد “إطاحة نظام بثورة شعبية” فهي لن تكون إلا هبات شعبية يقفز عليها الطغاة لتأتى للشعوب بطاغية جديد.

ولن أستطرد فى الحديث عن أهمية التخطيط والإعداد الممنهج للرد على من يزعمون أن الثورة هي مجرد حالة علينا فقط التفاعل معها، ولكنى أقول أن التخطيط والإعداد ورسم الاستراتيجيات وتكوين الأدوات، كل هذا من لوازم الثورة، وإن تخليت عنه أو تغافلت عنه، فإن ثورتك ستكون كثورة الحسين وعبد الله ابن الزبير رضي الله عنهما مجرد هبات وفوران لحظي لم يلبث أن تُحتوى وتوأد، ولستم أفضل عند الله منهما، ولكنها سنن الله التي لا تحابي أحدا. أما إذا كنتم تريدون ثورة فلتكن كثورة بنو العباس الذين خططوا وأعدوا ودبروا سنوات للإنقضاض على ملك بنى أمية فى لحظة واحدة، فانتصروا بثورتهم وأسسوا ملكهم الذي دام سنين، أو لتكن كثورة الخومينى الذي أعدها وخطط لها عشرات السنين حتى إذا أتته الفرصة وسنحت له إنقض عليها، وأسس بها دولة تتحكم بالقرار بخمسة عواصم عربية الآن (بغداد، دمشق، صنعاء، المنامة، مسقط)، وتعتبر عنصراً فاعلا لا يمكن تجاوزه فى معادلة الصراع العربي والإقليمي.

إن التخطيط للثورة يؤدى بالضرورة إلى ثورة تؤسس دولة تدوم سنينا، أما التعامل مع الثورة على أنها مجرد “حالة” فلن يكون حينها إلا الدم والجهد والبذل ثم يجنى غيرك الثمار، وبعدها ستلعن الشعوب المسكينة مشروعات التغيير على الجُملة، فلا يدعو أحدٌ للتغيير إلا حورب وعودي من أبناء قومه ومجتمعه وذوييه.

اللافت للنظر أن معظم الساسة فى أروقة مناهضي الإنقلاب يبذلون كل الجهد فى إطار ملتزم بأسس الدولة والأطر العريضة التي يرسمها لهم النظام، ولا يحاولون نقل الصراع إلى تلك المساحات الصادمة للبعض وهي المساحات الثورية، فيتعاملون بأداء الحزب المعارض أكثر من كونهم طلائع ثورية حقيقية ليس عليها أن ترتبط أو تلتزم بما ترسمه لهم الدولة من أطر وثوابت. ولا أدرى كيف يقول أناس أننا نريد ثورة تحافظ على مؤسسات الدولة؟

هؤلاء لم يرقوا حتى لمجرد أن يكونوا معارضة خشنة لنظام سياسي شرعي! فالثورات هي التي تُزيل السلطة والحكومات بمؤسساتها، لتحمى الوطن من فسادها وإجرامها، وتكوين مؤسسات جديدة بمفاهيم جديدة وبمكونات جديدة، هكذا أعرف الثورات. لقد تغافل الكثيرون عن تقديم تصور متماسك لـمشروع “التفكيك والتركيب” للمنظومة الحاكمة بمصر، وأيضا لأن الفاعلين السياسيين الآن معظمهم من الإسلاميين، والإسلاميين فى هذه النقطة ينقسمون إلى شطرين: الأول، ساسة بلا شوكة، والثاني: شوكة بلا ساسة، والاثنان متفرقان لا يصلحان ولا يقوم عليهما أي مشروع تغيير. وليت أنصار الفريق الأول يُدركون أنهم ينقصهم الشوكة فيركنون إلى الثاني، فيكتمل النصاب، وليت الثاني أيضا يُدرك أنه ينقصه السياسة فيرتكز إلى الأول، فيعتدل الميزان، ولكن كل منهما يرى أن الصراع يؤتى بطريقته “وحدها”. الحل إذاً يكمن فى مشروع متكامل لخوض الصراع وخطة متماسكة مُفَصلة للفراغ الذي يجب أن يُملأ لمنهجية “التفكيك والتركيب”.

ومراحل مسار “التفكيك والتركيب” من وجهة نظري كالتالي:

أولها: فهم الدولة المصرية المُراد الإطاحة بسلطتها المستبدة. وأقصد به تشريح كامل ومفصل للدولة المصرية، فالدولة المصرية تتمتع بقدر من البيروقراطية الذي يجعل الإطاحة بسلطتها المستبدة شيئا يسيرا نسبيا لمن إستطاع فهمها وتمكن من الإدراك العميق لمراكز ثقلها ونقاط ارتكازها، وثغرات النظام وكيفيات الولوج منها. إضافة إلى الكم الهائل من الأزمات التي تعانيها الدولة ونُدرة مواردها مع الكم الهائل من الإحتياجات والإلتزامات يجعلها لا تطيق ولا تتحمل مجرد نوايا الثورة فضلاً عن العمل الثوري صاحب الفلسفة ” جذرية التغيير”.

ثانياً: تحديد الهدف والغاية بوضوح بالغ، فالأهداف يجب أن تكون “ثورية”، وسمة الثورية تعكسها أهداف جذرية لا تُغير نظاماً أو شخوصاً أو قادة مؤسسات، بل تُغير فلسفات الحكم نفسها وتقيم أطرا ومنطلقات سياسية واجتماعية جديدة، تنبثق منها تفاصيل بناء الدولة بمكوناتها الجديدة وعلاقة كل مكون بغيره.

ثالثاً: وضع الإستراتيجيات الهجومية على النظام، ويجب أن يستند فكر التفكيك والتركيب إلى شمولية وتكامل خوض الصراع الثوري بناءً على معلومات دقيقة عن النظام قبل البدء فى تحديد الاستراتيجيات.

رابعاً: تكوين الأدوات والاستحقاقات اللازمة لخوض الصراع الثوري، بعدما فهمت المستبد ونظامه ثم حددت أهدافك الثورية بوضوح، ثم حددت إستراتيجياتك فقد انتهيت من مرحة التخطيط الإستراتيجي لمسار “التفكيك والتركيب” يبقى الآن ما تحدده تلك الخطة من قائمة موارد لتبدأ فى مرحلة الإعداد.

خامساً: تحديد الخطاب السياسي المشرعن لهذا المشروع التفكيكى التركيبي، فالشعوب بطبيعتها يجب إقناعها، ولا يجب أن تزيح الشعوب أبدا عن معركة التغيير، وهنا تكمن أهمية تثوير المجتمعات وأن تكون فاعلة فى مرحلة التفكيك والتركيب، فمن الخطر أن تخوض معركة الثورة وحدك مهما كنت قويا أو تنوب عن الشعب فى معاركه، فالصحيح أن تضع خططك ومشروعك للتفكيك والتركيب، بما يجعله مُقنعا وجاذباً للشرائح الفاعلة من الشعب، وهذا سيعتمد على جاذبية الخطاب السياسي وقدرته على الحشد الثوري والتغطية السياسية لأنشطة مسارات التفكيك والتركيب وشرعنتها، وهنا تتلاحم الشوكة مع السياسة.

سادساً: أهمية وضرورة وجود مشروع سياسى وتصور بديل للدولة الوليدة، فمعاول التفكيك لن تشتد قوتها إلا حين تكون أعين حامليها ترمق البناء الجديد.

————————–

الهامش

( 1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close