
الخضوع للعجز: النظام المصري والعالم متعدد الأقطاب وفرص واشنطن
نشرت مجلة ناشيونال إنترست الأمريكية، التي يصدرها مركز ناشيونال إنترست، وهو مركز أبحاث متخصص في السياسة العامة ومقره واشنطن العاصمة، نشرت مقالاً للمحلل السياسي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، سام فؤاد، بعنوان: “كفاح مصر لولوج الواقع الجديد متعدد الأقطاب فرصة لواشنطن”، بالنظر إلى أن الضائقة الاقتصادية الأليمة التي تعاني منها مصر كان لها دور كبير في الحد من مرونة مصر الجيوسياسية. وقد جاء المقال على النحو التالي:
في حين أن جيران مصر، مثل المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، يمكن أن يتصرفوا بسلاسة ما بين القوى العظمى المتنافسة، تفتقر مصر إلى مثل تلك المرونة بسبب الضغوط الاقتصادية الشديدة التي تعاني منها.
وكانت الإمارات والسعودية من أسرع الدول في الشرق الأوسط للاستفادة الكاملة من العالم متعدد الأقطاب الجديد الذي وجدا نفسيهما في وسطه. وتمكنت الدولتان من استغلال جميع أطراف الصراع بنجاح لتحقيق مصالحهما الخاصة. فاستخدمت الرياض على وجه الخصوص بقوة وبشكل صارخ مكانتها الجديدة الأكثر قوة في البيئة الجيوسياسية المتغيرة، للضغط للحصول على مطالبها من القوى العظمى، مع تجاهل اتسم بالفظاظة لنظام هيمنة عالمي آخذ في التلاشي بتسارع ملحوظ.
ومن أحدث الأمثلة على ذلك، تلك التقارير المتداولة بأن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان هدَّد “بعواقب اقتصادية كبيرة لواشنطن” إذا صدر منها رد فعل انتقامي على تخفيضات الرياض في معدلات إنتاج النفط. وبنفس الطريقة، استشعرت أبوظبي الجرأة الكافية للانسحاب من تحالف بحري تقوده الولايات المتحدة ومقره البحرين بسبب الإحباط من الولايات المتحدة لعدم قيامها بما يكفي لردع إيران في مضيق هرمز.
وفي تناقض صارخ مع الموقف العدواني الذي تبنته الرياض وأبو ظبي (تجاه الولايات المتحدة)، تجلس القاهرة وهي مكتوفة الأيدي، وتتعثر في خطواتها عبر هذا الواقع الجديد. وهذه الصعوبة التي تجدها القاهرة ترجع لأسباب متنوعة؛ أبرزها اقتصادها المتدهور بوتيرة سريعة. ومع ذلك، فإن هذا الوضع يوفر للولايات المتحدة فرصة فريدة لمساعدة مصر في تحسين الحالة البائسة لشعبها، وبالتالي استعادة الكثير من زخم النوايا الحسنة التي فقدتها واشنطن خلال السنوات القليلة الماضية.
ذهاباً وإياباً
ظهرت أولى العلامات التي دلّت على نضال مصر للتكيف مع البيئة الجيوسياسية الجديدة المتغيرة عندما تم الكشف عن أن الجنرال عبد الفتاح السيسي أمر بشحن ما يصل إلى 40 ألف صاروخ سراً إلى روسيا. تم إنكار هذه المعلومات الاستخباراتية المسرَّبة بعد ذلك بوقت قصير من قبل مصر. وفي وقت لاحق، تم تداول تقارير بأنه بدلاً من ذلك فقد تمت الموافقة على بيع ذخيرة المدفعية تلك إلى الولايات المتحدة لنقلها إلى أوكرانيا.
ولكن على الرغم من أن مصر نفت بقوة صحة التقرير الذي تحدث عن هذا النقل المفترض للأسلحة إلى روسيا، فقد بدا أن الخبراء والنقاد في موسكو وأماكن أخرى من العالم كانوا يعتقدون أن هذا النقل للأسلحة كان احتمالاً حقيقياً. ثم تبدى عدم الالتزام بالوفاء به والتردد تجاه مثل هذه الصفقة، حتى قبل الكشف عن التسريبات، من خلال إلغاء مناورات “جسر الصداقة” البحرية المشتركة والتي كان من المقرر إجراؤها في يوليو 2022 بين البلدين.
ويختلف هذا السلوك اختلافاً كبيراً عما تقوم به دولة الإمارات، على سبيل المثال، حيث حضر رئيسها محمد بن زايد منتدى سانت بطرسبرج الاقتصادي الدولي، وهو أكبر وأهم قمة اقتصادية في روسيا. وقد وصف أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لمحمد بن زايد، حضور الأخير بأنه “مخاطرة محسوبة بشكل إيجابي” ضمن سياسة الإمارات العربية المتحدة لخفض التصعيد والحوار. وبالمثل، قام وزير الداخلية الروسي فلاديمير كولوكولتسيف – وهو مسؤول روسي كبير يخضع لعقوبات فرضها الغرب – بزيارة الرياض وعقد اجتماعات مع نظيره عبد العزيز بن سعود.
وفي حين أن الانخراط الدبلوماسي من ناحية وبيع الأسلحة من ناحية أخرى ليسا هما نفس الشيء أو في نفس الكفّة، إلا أن الموقف المتعجرف الذي تتبناه الإمارات والسعودية والقسوة الشديدة اللتان تنتهجانها في السعي وراء مصالحهما الخاصة قبل أي شيء، مع إعطائهم مساحة كافية للمناورة والمرونة لتجنب الانحياز إلى طرف على حساب الآخر، هو شيء واضح للعيان.
وفي الجهة الأخرى، تبدو مصر مترددة وغير حاسمة بشأن السعي وراء مصلحتها الذاتية، وتراوح ما بين القرب والبعد بين الطرفين إلى ما لا نهاية. باعتبار أن إلغاء التدريبات العسكرية مع روسيا (جسر الصداقة) يتزامن مع تعزيز الشراكة البحرية المصرية مع الولايات المتحدة، حيث نقلت القيادة المركزية للقوات البحرية الأمريكية ثلاث زوارق دورية إلى البحرية المصرية في 21 مارس خلال احتفال تم تنظيمه بالإسكندرية. ومع ذلك، فهذا يحدث أيضاً في الوقت الذي تخطط فيه مصر لإسقاط التعامل بالدولار الأمريكي لصالح العملات المحلية في التجارة الثنائية مع الهند والصين وروسيا، وسط تقارير تفيد بأن القاهرة تقدمت رسمياً بطلب للانضمام إلى مجموعة البريكس.
يجب فهم كل هذه التعاملات والمناورات الثقيلة في سياق الاقتصاد المصري المتعثر. وقد تم تداول تقارير في أواخر مايو تفيد بأن الجهة المخوّلة بشراء الحبوب في مصر قامت بتأجيل فتح خطابات اعتماد لدفع ثمن مشترياتها من القمح، بسبب نقص العملة الصعبة الأجنبية. ولم يمضِ وقت طويل، في السادس من يونيو، حتى ظهرت تفاصيل تفيد بأن مصر تكافح من أجل جمع السيولة اللازمة لسداد الديون الخارجية بعد أن ضاعفت اقتراضها الخارجي أربع مرات على مدى السنوات الثماني الماضية.
وتصل هذه المدفوعات، التي تدين بها مصر لصندوق النقد الدولي وحملة السندات الأجانب – ومعظمهم في الخليج – إلى حوالي 4.5 مليار دولار، أكثر من نصف الإيرادات السنوية التي تأتي من قناة السويس. وفي 13 يونيو، تبين أن مصر تخصص 4.14 مليار دولار لبرنامج دعم المواد الغذائية، والذي يواجه صراعات خطيرة منذ الغزو الروسي لأوكرانيا. ومنذ بداية الحرب بين روسيا وأوكرانيا، تراجعت قيمة العملة المصرية بمقدار النصف تقريباً، وسحب المستثمرون الأجانب أكثر من 20 مليار دولار من البلاد.
وباختصار، ففي حين أن جيران مصر من الخليجيين يمكنهم أن يتصرفوا بانسيابية بين القوى العظمى المتنافسة دون خوف من التعرض لانتقام خطير، فإن مصر مجبرة على المضي قدماً في التحرك بمرونة أقل بسبب ضغوطها الاقتصادية الأليمة. إن سعي القاهرة لسياسة خارجية متعددة التوجهات يسمح باتباع طريق وسطي في ظل هذا الوضع، ولكن هذا لا يمكن أن ينجح إلا إذا كانت الحكومة مرنة بما يكفي لعدم الالتزام الكامل بمساندة أحد الجانبين على الجانب الآخر. وتفتقر الدولة المتعثرة التي تُثقل كاهلها هذه المشاكل الاقتصادية، إلى مثل تلك القدرة على المناورة.
هل تتقدم واشنطن للإنقاذ؟
وحتى هذه اللحظة، سعت الولايات المتحدة للضغط على مصر للعمل بطرق معينة من خلال حجب المساعدات العسكرية عن القاهرة. وستكون هذه السياسة فعالة إذا ظلت أمريكا كما هي القوة المهيمنة في عالم أحادي القطب. ولكن في عالم اليوم متعدد الأقطاب، يمكن أن تأتي المساعدات من أماكن أخرى، مثل الصين، وبسهولة أكبر. إن التعددية القطبية في حد ذاتها تفسح المجال لتقديم الجزرة أكثر من التلويح بالعصا.
ومع ذلك، فإن المشاكل الحالية التي تعاني منها القاهرة تقدم فرصة من ناحية أخرى. حيث يحاول السيسي بالفعل إجراء محادثات مع ما تبقى من معارضته السياسية – في إشارة واضحة إلى أنه يدرك الموقف الصعب الذي تعيشه بلاده. وعلى واشنطن أن تنتهز هذه الفرصة لتقديم مساعدات اقتصادية للسيسي لتحسين حالة الشعب المصري، بدلاً من مجرد التهديد بوقف المساعدات العسكرية. فمن خلال مساعدة القاهرة على إعادة الاقتصاد المصري إلى مساره الصحيح، يمكن للولايات المتحدة الاستفادة من اللحظة الحالية لصالحها، بدلاً من رؤية مصر في النهاية تفعل ما تفعله دول الخليج، وهو الأمر الذي سيضر واشنطن في نهاية المطاف.
لذلك على صانعي السياسة في الولايات المتحدة التفكير جديّاً في القيام بذلك. إن حزمة من الإغاثة الاقتصادية السخية يتم تخصيصها للشعب المصري حصراً، وليس للجيش، إلى جانب حملة علاقات عامة جيدة، لن تكون فوزاً دبلوماسياً كبيراً فحسب، بل ستساعد أيضاً في ضمان استمرار القاهرة في طلب المساعدة من الولايات المتحدة. قد تفتح التعددية القطبية خيارات أخرى للدول، لكنها لا تمنع من البقاء إلى جانب جهة “محسنة” سابقة.
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.