fbpx
تقديراتاقتصاد

الدولار يقفز بالجنيه المصري إلي الهاوية

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

 

فرق كبير بين ارتفاع قيمة الدولار بنسب بسيطة عبر فترات زمنية طويلة نتيجة الفشل في إدارة الملفات الاقتصادية على المستوي القصير ومتوسط الأجل، وبين ارتفاع قيمته بنسب عالية جدا في فترات زمنية قصيرة للغاية والتي لا يمكن تسميتها إلا بالقفز.

فعندما يفقد الجنيه رسميا 40% من قيمته أمام الدولار في ثلاث سنوات هي عمر الانقلاب قد يسمي هذا انخفاضا، أما أن يفقد 100% من قيمته في السوق الموازية خلال نفس الفترة فلا يمكن تسمية ما حدث إلا انهيارا لقيمة الجنيه، كما أن التهاوي المروع في الأيام الأخيرة من يوليو 2016، له أسباب قد تتعدي نطاق التحليل الاقتصادي إلي عوامل أخري، وعموماً قفزات الدولار المتوالية تعني تآكل قيم مدخرات المصريين في البنوك التي لن تنفعهم محاولات رفع سعر الفائدة في الحفاظ على قيم مدخراتهم، كما تتآكل القيم الإجمالية لأصول المصريين.

قفزات الدولار بمعدلات غير مبررة اقتصاديا ترجح سيناريو التلاعب المنظم في السوق لتحقيق مكاسب لها العديد من الأشكال، ولعل الأسباب القادمة تقدم إشارات هامة علي تعمد الإدارة ورضائها بهذا الانهيار:

أولاً: دلائل معلنة لتعمد البنك المركزي خفض الجنيه:

لجأت الإدارة المصرية إلى المؤسسات الدولية للاقتراض بعد سلسلة من الإخفاقات الاقتصادية والتي أثرت سلباً على الدخل القومي بصفة عامة والدخل الدولاري علي وجه الخصوص. فبعد الفشل في استعادة السياحة إلى مصر، سواء باستعادة الأسواق التقليدية أو في استحداث أسواق بديلة، وعدم تأثير الانخفاضات في أسعار عبور السفن لقناة السويس علي زيادة الحركة وعوائد القناة، وعدم استجابة العاملين في الخارج لزيادة تحويلاتهم، وفشل كل مبادرات السيسي “من صبح علي مصر بجنيه” مرورا بشهادات “تحيا مصر” وغيرها، فكانت المؤسسات الدولية المقرضة هي الملاذ الأخير للنظام المصري والذي طالبها بأرقام تزايدت مع الوقت حيث بدأت بطلب قروض بأربعة مليارات دولار وانتهت بطلب 21 مليار دولار على دفعات.

وكانت اشتراطات هذه المؤسسات هي العائق أمام الحكومة المصرية حيث طلبت إصلاحات في أوضاع الموازنة العامة للدولة من خلال تطبيق قانون القيمة المضافة وتطبيق قانون الخدمة المدنية وخفض قيمة الجنيه إلي قيمته الحقيقية التي تعادل عشرة جنيهات لكل دولار رسمياً أي خفض لحوالي 34,5% من قيمته.

والمتتبع للأحوال الاقتصادية في مصر يجد كل الاشتراطات السابقة أصبحت محل تنفيذ، خاصة قيمة الجنيه التي تعمد البنك المركزي العبث بقيمته وذلك عن طريق اتخاذ قرارات من شأنها تأجيج الأوضاع والإسراع بمعدلات الخفض تلبية لتلك الشروط، فبداية من وضع حدود قصوى للسحب، والتضييق على شركات الصرافة وإغلاق بعضها بحجة التلاعب بالأسواق، ثم الخفض الرسمي للجنية بحوالي 15%، ثم تغليظ العقوبات على المتعاملين خارج الإطار الرسمي، ثم منع التعامل من خلال الكروت الذكية للمواطنين بالخارج ونفي القرار بعد تمريره علي البنوك ،ثم العودة إليه مرة أخري علي هيئة قرارات يتخذها كل بنك علي حدة، ومن أمثلة ذلك :

1ـ خفض البنك الأهلي المصري حدود الكاش المتاح للعملاء الحصول عليه قبل السفر من 1000 دولار في السنة إلى 500 دولار ولنتخيل أن هذا الحد كان من فترة قريبة 3 آلاف دولار سنوياً.

2ـ ترك بنك “بي إن بي باريبا”، الأمر للفرع الذي يتواجد به حساب العميل ليُحدد المبلغ الذي سيحصل عليه بالدولار قبل سفره، ويوفر حد سحب نقدي في الخارج أو شراء من خلال بطاقات الفيزا أو بطاقة الخصم بمبلغ 50 دولاراً في الشهر.

3-يشترط البنك العربي على العميل تقديم طلب للبنك للحصول على الدولار في حالة السفر خارج مصر، لتحديد القيمة التي سيحصل عليها، كما يشترط البنك تقديم طلب لتفعيل بطاقة الخصم المباشر (Debit) خارج مصر، على أن يقوم البنك بدراسة هذا الطلب والرد سواء بالموافقة أو الرفض، وتحديد حد السحب المسموح به للعميل يوميا أو شهريا.

4-حدد بنك مصر عمل بطاقات الخصم التي تعمل في الخارج بحد أقصى 500 دولار شهريا للسحب النقدي، بفائدة 6.5%، و30 جنيهاً عمولة سحب، بعد أن كان المسموح 2000 دولار كان مسموحاً بها في فبراير الماضي.

5ـ خفض بنك “إتش أس بي سي” حدود السحب الكاش لعملائه المسافرين الذين يحملون بطاقات Advance الائتمانية من 750 دولاراً إلى 400 دولار، وبطاقات Premier من 1250 دولاراً إلى 600 دولار.

والقرارات السابقة تعني صعوبة كبيرة في حصول المواطنين على الدولار في حالة السفر خارج البلاد، وإجبار المواطنين على اللجوء للسوق السوداء، والالتفاف على القرار السابق من البنك المركزي حول منع الشراء بالكروت الإلكترونية، وبدلاً من صدور القرار من البنك المركزي يصدر الآن من كل بنك على حدة.

6ـ تصريح محافظ البنك المركزي أنه لن يفرح بثبات سعر الجنيه طالما كان بعيدا عن قيمته الحقيقية وأنه على استعداد لتحمل مسئولية الخفض حتى يعود النشاط الاقتصادي إلى سابق عهده، وأن قرار التخفيض الرسمي لقيمة الجنيه قادم ولكنه في انتظار الوقت المناسب.

وهذا التصريح أشعل سوق العملة فقفز الدولار متجاوزا (13) جنيهاً، قبيل لقاء المسئولين المصريين مع مسئولي المؤسسات الدولية المقرضة.

التتبع السابق لمجمل تصرفات البنك المركزي يشير بوضوح إلى مرحلة الإعداد لخفض متعمد في قيمة الجنيه تلبية لرغبات الجهات المقرضة، ولكن هذا الطرح لا يخلو من تساؤلات قد تبدو كعلامات استفهام، يدور معظمها حول كيفية التغلب على الآثار السلبية شعبيا واقتصاديا لهذا الخفض، ويمكن توضيحها فيما يلي:

(أ) خطر الدولرة الناتج عن خفض قيمة الجنيه كآلية للمواجهة الوحيدة وهي سعر الفائدة، ومن الواضح أنه لا يمكن لسعر الفائدة أن يرتفع بنسب تتكافئ مع انخفاض الجنيه، ومن المرجح أن تكون الإدارة قد حسمت أمرها أنه بإجبار المودعين على القبول بهذا الخفض، وقد نري في القريب وضع قيود على سحب الودائع بالعملة المحلية، بل قد أشيع عبر قنوات إعلامية تابعة للنظام عن التفكير في اقتطاع جزء من هذه الودائع لصالح الدولة، تأسياً بتجارب دول أخري مرت بظروف اقتصادية شبيهة.

(ب) التضخم المستعر متعدد الأسباب والذي سيزيده الخفض المتوالي للجنيه اشتعالاً، فمن الواضح أن النظام قد أيقن أنه لا فرار من تلك الأزمة الطاحنة إلا بالقروض، وأنه قد حسم أمره بالتعامل الأمني مع انفلات الأسعار، وتصريح مسئول وزارة الداخلية على نية الوزارة التعامل مع أزمة الدولار ذات أوجه، تبدأ من ملاحقة المتعاملين خارج الإطار الرسمي، وتنتهي بالوعيد لكل من تسول له نفسه التظاهر احتجاجا على انفلات الأسعار.

(ج) الإعلان الرسمي عن بداية جديدة للخصخصة متعمداً في التوقيت، ويؤكد الطرح السابق المتعلق بفشل الدولة في إيجاد مصادر لتمويل عجز الموازنة، فكان الانبطاح لشروط المؤسسات الدولية، ومن بينها خصخصة ما تبقي من المشروعات العامة، وفي الحقيقة ستوفر الخصخصة 10 مليار دولار بقيمة 100 مليار جنيه (بالسعر الرسمي المستهدف) وهو تقريبا ثلث العجز المتوقع، كما ستمثل مناخاً مثالياً للنهب السريع في ظل رخاوة الدولة، إضافة إلي خلق مناخ متسارع ومتشابك في القرارات قد يوفر بيئة جيدة للضبابية المستهدفة خاصة للمواطن العادي،  ولذلك يمكن التأكيد علي تكامل السياسات بين خفض الجنيه والخصخصة وغيرها.

ثانياً: جهات سيادية تستخدم سلطاتها في جمع كميات كبيرة من الدولار:

يٌفسر ذلك تزايد حاجة الجيش للدولار لسداد أثمان السلع التي أعلن رسميا عن نيته استيراداها مثل ألبان الأطفال والتكيفات والأدوية أو تلك التي كان يحتكر استيرادها مثل اللحوم وغيرها خاصة في ظل إعلان الجيش عن إنشاء سلسلة صيدليات تحت اسم “مدنية”، بل وبدأ بالفعل في تعطيل شحنات الأدوية المستوردة لهذه الصيدليات.

كما أن هذه الجهات السيادية تجمع الدولار لحاجتها إلى سداد أثمان الآلات والمعدات التي تحتاجها الهيئة الهندسية للقوات المسلحة للقيام بالمشروعات المسندة إليها بالأمر المباشر بعد تمرير قانون المزايدات والمناقصات خاصة في ظل توغل هذه الهيئة على القطاع الخاص واستئثارها بأكثر من 80% من المشروعات الممولة حكومياً أو عبر المنح والقروض.

وقد تقوم هذه الجهات السيادية بجمع الدولار في ظل وجود صراعات الأجنحة داخل المؤسسات السيادية خاصة أن بعضها تحديدا المخابرات العامة واجهت عمليات تقليص للنفوذ لصالح جهات سيادية أخري وصاحب ذلك تحويل الكثير من قيادات تلك المؤسسات إلى التقاعد لأكثر من مرة، وبالتالي فإن عدم رضاء بعضهم عن تقليص النفوذ لصالح الغير أو تقاعد القيادات قد يدفع نحو عمليات انتقامية تهدف لخلخلة النظام الذي أضر بمصالحهم خاصة أنه نظام يعاني في ملفات متعددة على رأسها الملف الاقتصادي.

ولعل ما قد يٌرجح جزئياً الفرضية السابقة تضرر الكثير من رجال الأعمال من توغل الجيش واستئثاره بالكثير من الأنشطة الاقتصادية فتلاقت مصالحهم مع تلك الجهات السيادية في خلق مناخ من عدم الاستقرار الاقتصادي، وبالطبع يمكن أن يكون هدفهم لفت انتباه النظام إلي قوتهم الكامنة ومدي تأثيرهم في الحياة الاقتصادية والي الأضرار التي يتعرضون لها وقد يتعدى الأمر إلى محاولة خلخلة النظام ذاته في ظل ارتباطاتهم ومصالحهم الإقليمية والدولية.

وكذلك فإن جمع الجهات السيادية للدولار من السوق قد يرجع إلى انتهاز بعض أفرادها للحالة الرخوة التي هي طابع الدولة المصرية في المرحلة الراهنة بغية التربح السريع من المضاربة بالدولار أما بأموالهم الخاصة أو بأموال بعض رجال الأعمال وكلنا يعرف حجم المصالح المتبادلة بين رجال الأجهزة السيادية وطبقة رجال الأعمال التي صنعت في الغالب علي أعينهم ووفق اشتراطاتهم.

ثالثاً: هروب المصريين بأموالهم:

الهروب بالأموال في أحوال الاضطراب السياسي والاقتصادي أمر طبيعي، والعامل المؤثر هنا هو دولرة الثروات بما يشكل مزيدا من الضغط على سعر الجنيه. ورغم ندرة الأرقام التي تبرهن على هذا الهروب واعتباره عاملاً فاعلاً في انخفاض قيمة الجنيه، إلا أنه توجد بعض المؤشرات التي قد تفيد في توضيح الصورة ومنها:

1ـ الخسائر المتوالية للبورصة وخروج العديد من المتعاملين فعلياً من السوق، وتشير الإحصائيات إلي تزايد مبيعات المصريين للأسهم في الآونة الأخيرة (خاصة في ظل سيطرة الأفراد وليس المؤسسات على التعامل السوقي وهي خاصية ينفرد بها السوق المصري) لحساب العرب والأجانب، وبالطبع سيبحث هؤلاء عن أسواق بديلة أكثر استقراراً وربحية لأموالهم.

2ـ التقرير الأخير الصادر عن دائرة الأراضي والأملاك بدبي، عن أن المصريين احتلوا المرتبة الثانية بين المواطنين العرب الأكثر شراء للعقارات والأراضي بدبي خلال الشهور الستة الأولى من العام الحالي 2016، بقيمة 4, 1 مليار درهم من خلال 710 مصريا، وهو ما يدعم الترجيح بهروب بعض الأموال من مصر. ولا شك أن تهريب الأموال يقع تحت سمع وبصر الجهات المعنية التي توافق إما فساداً، أو لقلة الحيلة في ظل التهريب وفق الأطر الشرعية.

3ـ تصريحات محافظ البنك المركزي حول استخدام بطاقات الائتمان من المصريين في الخارج في تحويل ملايين الدولارات بصور مختلفة إلى الخارج، فكان قراره بمنع التعامل بها قبل العدول السريع عنه، قد يدعم هو الآخر فكرة تهريب الأموال للخارج كما يدعم فكرة موافقة السلطة على ذلك.

وحول ما الفائدة التي تعود علي البنك المركزي والإدارة الاقتصادية من ترك الأموال للهروب، يجب أن نلاحظ التشابك الحاد بين الطبقة الغنية والسلطة في مصر وتبادل المصالح المستمر بينهما، فضلا عن تحقيق الهدف العام وهو خفض قيمة الجنيه انبطاحاً لشروط المؤسسات الدولية.

خلاصة:

ما يمكن التأكيد عليه أن الجنيه يسقط فعلياً، ومعه ودائع المصريين وما تبقي من الصورة الذهنية عن الاقتصاد المصري، وبالتالي فان تعافي الاقتصاد وخروجه من براثن أمراضه المستعصية أصبح بعيد المنال خاصة في ظل انعدام الرؤية، والانبطاح نحو التبعية، والاستسلام لشروط المؤسسات الدولية ومصير الدول التي نهجت ذات الطريق بات لا مفر منه، فالمسكنات المشروطة من هذه المؤسسات لن تقضي على الداء بل فقط تؤجل المواجهة مع الإصلاح والتي باتت حتمية (1).

——————————–

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close