fbpx
اقتصادالسياسات العامة

السياسات الزراعية المصرية تشجيع الكبار وسحق الصغار

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

السياسات الزراعية المصرية

بينما تشارك ملايين المزارعين في الدلتا القلق والخوف جراء سياسات تقليل المساحات المنزرعة بالأرز، وهو محصول رئيسي هام جدا لهم، فإن قلقاً أكبر يسيطر على ملايين المزارعين في صعيد مصر جراء السياسات التي تستهدف تقليص المساحات المنزرعة بقصب السكر والذرة وهي محاصيل اقتصادية هامة جداً بالنسبة لهم وتمثل مجال العمل والدخل الأساسي لهؤلاء المزارعين.

تتخبط السياسات الزراعية المصرية ما بين مشاريع زراعية عملاقة تخدم الشركات الكبرى وبين الإنتاج من أجل التصدير أو استهداف السيطرة على عملية إنتاج الألبان وتركيزها في أيدي هذه الشركات وتثير أزمة النقص الحاد المتوقع في المياه تساؤلات عدة حول الانحدار من الدفاع عن الحقوق المائية إلى نقطة القبول بأي شيء ومحاولات التكيف مع ما تفرضه حالة الضعف العام في السياستين الداخلية والخارجية المسيطرة على مصر التي حولت ثورة عظيمة إلى حالة حرب دائمة وممتدة على الإرهاب وسعي دائم لكسب شرعية دولية، تفقد الدولة المصرية سيادتها الغذائية لصالح الشركات العالمية المسيطرة على عملية انتاج البذور والتقاوي والمخصبات والأسمدة تماماً كما تفقد سيادتها على بعض جذرها ونفوذها في أفنيتها الخلفية.

لا يمكن للباحث في موضوع السياسة الزراعية المصرية أن يتلمس سياسة أو استراتيجية واضحة المعالم والأهداف والآليات فموقع وزارة الزراعة المصرية لا يعمل ولا يشتمل موقع الهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية على أكثر من إعلانات طروحات الأراضي الجديدة ومواعيد تسويات وتقنين الأوضاع بالنسبة للأراضي المستصلحة حديثا ولا تحوي أية بيانات ذات قيمة حول المساحات المستصلحة أو مشروعات الاستصلاح المزمع البدء فيها أو المخطط لها.[1]

 وفي بلد زراعي النشأة والتطور لا يبدو أن هناك حصراً واضحاً للمساحات الكلية المنزرعة حالياً بالمحافظات وإنما تتناثر البيانات بين تصريحات لجهات مختلفة أو تقديرات مراكز البحوث الزراعية وباحثي كليات الزراعة، من بين 77 برنامج ومشروع للتنمية الاقتصادية ضمن استراتيجية مصر 2030 يتعلق عشرة مشروعات منها بالزراعة بشكل مباشر أو غير مباشر وهي (إنشاء تجمعات للصناعات الزراعية-  زيادة الرقعة الزراعية ودعم التصنيع الزراعي – تنمية مشروعات الزراعة السمكية – إنشاء مركز تحديث الزراعة – البرنامج القومي لتنمية الثروة الحيوانية والداجنة والسمكية- تنمية المياه الجوفية ومواجهة التعديات عليها – تطوير الشركات التابعة للشركة القابضة للصناعات الغذائية – مشروعات الشون المطورة – مشروعات الصوامع – مشروع إقامة المركز اللوجيستي العالمي لتجارة وتداول وصناعة الحبوب)، دون أية مؤشرات واضحة لقياس مدى التقدم في قطاع الزراعة على غرار القطاعات الأخرى المذكورة في الاستراتيجية ببرامجها ومؤشراتها[2]، ويأتي موضوع الأمن الغذائي والمائي في نقاط مقتضبة من تصريحات حكومية ولا نجد سوى فقرة وحيدة عنه ضمن المحور التاسع للتوجه الاقتصادي للحكومة المنشور على موقع هيئة الاستعلامات حيث تظهر إشارة لتوجه بزراعة 1.1 مليون فدان في أفريقيا.[3]

نمط الإنتاج الكبير والتكنولوجيا العالية تناقض رئيسي مع مصالح صغار المزارعين:

يجري الترويج في مصر لأهمية الاستثمارات الزراعية الكبرى عبر شركات ومستثمرين عالميين بينما يعاني المزارعون المصريون من سياسات خفض الدعم وانخفاض الملكيات وتفتتها بفعل التوارث والزحف العمراني وضعف سياسات الاستصلاح الفردي والتعاوني وتوجه الدولة صراحة لدعم الشركات والتكتلات الكبيرة، وبينما روجت أجهزة الدولة لصورة تدعي كسل وفشل الفلاحين، لتبرير نزع الدعم عنهم وإغداق الأراضي على المستثمرين، ثم الآن تعود الدولة والإعلام لتحميل الفلاحين مسؤولية الأزمة، ولكن باتهامهم “بالإنتاج الزائد” والنشاط الكبير ومن ثم الحاجة لترشيد المحاصيل الأكثر استهلاكاً للمياه كحلول وحيدة للتكيف مع أزمة المياه.[4]

يعاني مزارعو المناطق المستصلحة حديثاً سواء في الوادي الجديد أو سيناء ومطروح والظهير الصحراوي للمحافظات من سوء الطرق ووسائل المواصلات غير الآدمية وضعف الخدمات العامة التعليمية والصحية ويتشاركون مخاوف كبرى على الصحة والبيئة من جراء عمليات استخدام مياه الصرف الصحي في الزراعة التي تنوي الحكومة المصرية التوسع فيها كاستجابة للنقص المحتمل في المياه جراء أزمة سد النهضة، ويشكل هذا الهاجس أمراً شديد الإزعاج لهؤلاء المزارعين حيث قد تتأثر مناطقهم أولاً وقد يتحول بعضهم من نمط الري البحِاري بدون وقود إلى نمط ري أكثر كلفة في ظل الرفع التام للدعم عن الوقود الذي سيجري تطبيقه كمرحلة ختامية لبرنامج صندوق النقد الدولي بحلول يونيو المقبل.

كما يعاني هؤلاء من عدم وجود خدمات الإرشاد الزراعي وانتشار الحشائش كما لو كانت بذورها تسري في المياه ومن ثم ارتفاع تكلفة مقاومة الحشائش والآفات وانتشار الاستعمال غير الآمن للمبيدات والأسمدة، وارتفاع كلفة الأدوية والتحصينات الدورية البيطرية وتباعد المسافات بين القرى والوحدات البيطرية وكذلك المستشفيات التابعة لها مع انعدام وجود مواصلات عامة وارتفاع كلفة الانتقال بمواصلات جماعية أو خاصة ومن ثم ارتفاع كلفة الانفاق على صحتهم وصحة حيواناتهم من الجيب.

ويعاني المزارعون في ريف الوادي والدلتا من مشاكل ضعف الإنتاجية وتدهور البيئة وغياب خدمات الصرف الصحي وتأثيراتها على موارد المياه وعلى الصحة العامة فوفقا لليونيسيف من بين ٧.٣ مليون مصري محرومون من الوصول لمياه شرب نقية، نجد منهم ٥.٨ مليون شخص في المناطق الريفية[5]. وقد كشفت حملة 100 مليون صحة وما صحبها من اكتشاف انتشار الفيروسات الكبدية عن حجم المخاطر التي يمكن أن تنجم عن تدهور البيئة والصحة في المناطق الريفية

وبرغم أن شركة الريف المصري الجديد والسياسات التي تستهدف زراعة مليون ونصف المليون فدان كمرحلة أولى من أربعة ملايين فدان ضمن رؤية مصر 2030 وفقا لموقع الشركة.[6] كمشروع قومي عملاق تبدو الفكرة براقة وتعطي أملاً لجيل الشباب في التملك وتبدو مشجعة على إعادة التوزيع إلا أن هذا المشروع في جوهره يشجع نمط الإنتاج الكبير فالمشروع نفسه طرح كشركة عبر إنشاء شركة الريف المصري الجديد، والقطع التي يفترض أن تكون ملكيتها تشاركية وتعاونية التي يتم توزيعها تستهدف تكوين شركات وتوزيع مساحات كبيرة لا تستطيع استزراعها سوى شركات برساميل كبيرة، فالحد الأدنى للمساحة المطروحة 230 فدان وعدد الأفراد المشتركون في القطعة الواحدة يتراوح بين 10 و23 شخص، وعليهم دفع مقدم 2 مليون جنيه عند الاستلام وهو مبلغ كبير إذا كان الشباب وصغار المزارعين هم الفئة المستهدفة خصوصا أنه لزراعة الأرض للموسم الأول قد تكلف مبلغا أكبر من دفعة الاستلام وبالتالي فإن هذه الشروط لا تنطبق على الشباب أو صغار المزارعين أو حتى الشركات الصغيرة وإنما على الشركات المتوسطة والكبيرة حيث القدرة على الانفاق دون انتظار عائد في السنوات الخمس الأولي وكذلك القدرات الائتمانية والتسهيلات التي تقدمها لها البنوك لشراء معداتها ومستلزمات الإنتاج المعفاة من الضرائب والجمارك.

ويتعرض الكثير من المزارعين الصغار لعمليات نصب واحتيال جراء تحول الكثير من الشركات والمستثمرين الكبار للمضاربات في الأراضي بديلاً عن المضاربات العقارية الراكدة، وهو الأمر الذي خلق تضخماً كبيراً في أسعار الأراضي الزراعية ونحّى صغار المزارعين لصالح الاستثمارات الكبيرة سواء في البنية التحتية أو المعدات والمستلزمات الزراعية.

ومع انخفاض وتفتت المساحات وتقلبات الطقس وارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج يلجأ المزارعون للزراعات الأقل كلفة والأكثر تكيفاً وذات العائد الجيد كالأرز في الدلتا والقصب في الصعيد كمحصولين رئيسيين لملايين المزارعين، إلا أن السياسات الزراعية في ظل ضغوط أزمة المياه تجور على حقوق واختيارات هؤلاء المزارعين إذ تُجبر الدولة الطرف الأضعف في معادلة القوة على دفع الفاتورة كاملة، والطرف الأضعف في المعادلة المائية هم المزارعون.[7]

وتنعكس هذه الضغوط بشكل مباشر على المزارعين ويمكن ملاحظة ذلك بمراجعة بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء حول الزراعة والموارد المائية والأمن الغذائي إذ تراجعت المحاصيل الاستراتيجية الرئيسية التي تعرف بمحاصيل الأمن الغذائي كالقمح والأرز وقصب السكر في السنوات القليلة الماضية.

السياسات الزراعية المصرية تشجيع الكبار وسحق الصغار-1

كما يبدو من الرسم البياني أعلاه تراجع انتاج القمح من 9.5 مليون طن في العام 2012/2013 إلي 8.4 مليون طن، وهو ما يعني فقدان 1.1 مليون طن من الإنتاج أي تراجع المساحة المنزرعة لصالح محاصيل تجارية شتوية أخرى جراء انخفاض العائد الاقتصادي لزراعة القمح بعد السير في طريق سياسات رفع الدعم عن المزارعين، هذا يعني مزيد من العجز في الميزان التجاري الزراعي وحاجة إلى استيراد كمية أكبر من القمح ويضغط على الاحتياطي من النقد الأجنبي، وقد تراجع الاكتفاء الذاتي من القمح من 74.4% في عام 2009 إلي 34.5% عام 2017،[8] ما يعني أنه لم يعد هدفا أو أن السياسات الزراعية المتبعة فشلت في تحقيقه.

لا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لزراعة استراتيجية هامة وتاريخية كالأرز والذي انخفض انتاجه انخفاضاً حاداً من 7.3 مليون طن عام 2007/2008 إلى 5 مليون طن في عام 2016/2017، وهو ما يتوافق مع رؤية الدولة التي تشجع استيراده ويعني أرباحاً أكبر لصالح عدد محدود من الشركات المستوردة له من الخارج على حساب خسارة كبرى لملايين المزارعين في الدلتا لهذا المحصول الذي ارتبط بنمط غذائي سائد وراسخ وهو الأمر الذي يهدد طريقة عيش هؤلاء المزارعين وحياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية ومتوقع استمرار هذا النقص مع السياسات الجديدة المتبعة تكيفا مع أزمة المياه والتي تفرض غرامات كبيرة على مخالفات المساحات المحددة لزراعة الأرز.

السياسات الزراعية المصرية تشجيع الكبار وسحق الصغار-2

الأمر نفسه ينطبق على زراعة قصب السكر والذي يتراجع انتاجه والمساحات المنزرعة به، ويأتي هذا ضمن سياسة التخلي عن دعم المزارعين الجدد للمحصول فمن تنتهي دورة زراعته للمحصول ثم يحاول زراعته من جديد يجد صعوبات في تسجيله لدى المصانع المتلقية له ومن يزرعونه لأول مرة لا يتلقون دعما على الإطلاق وعليهم شراء الأسمدة ومستلزمات الإنتاج كافة بسعر السوق الحر.

السياسات الزراعية المصرية تشجيع الكبار وسحق الصغار-3

إن زراعة قصب السكر ارتبطت بأجيال من المزارعين الذين يزرعونه في أجواء شديدة الحرارة صيفاً باعتباره حصالة ولا يحتاج لخدمة كثيرة في الصيف ليقوموا بكسره طوال فصل الشتاء وهي مواسم تستوعب ملايين من العمالة الموسمية ولا يسهل استبداله بمحاصيل أخرى بالذات في قنا والأقصر وأسوان حيث الصيف شديد الحرارة وإنتاج الذرة الشامية في الأراضي الجديدة في الظهير الصحراوي لهذه المحافظات ضعيف جداً وكثير من المساحات المنزرعة به يصيبها الجفاف أو تعطي إنتاجية لا تغطي التكلفة، كما أن كثير من المزارعين في محافظات الصعيد تنحسر خبراتهم في المحاصيل التقليدية التي اعتادوا عليها وبالتالي ففكرة استبداله بالبنجر تبدو صعبة جدا وبخاصة أن المصانع تحتاج لإحلال وتجديد للماكينات لكي تستطيع استخدام البنجر بديلاً للقصب. 

انتاج الألبان نحو الانتزاع من الصغار وتركيز الاحتكارات:

مؤخرا أطلقت الحكومة المصرية تصريحات رسمية غريبة حول إنتاج الألبان في مصر باعتبار أن “السوق مفتت ويحتاج لمشروع عملاق لتفادي أي أزمة قد تحدث إذا ما قرر الأفراد التخلي عن تربية أبقارهم”، وهي التصريحات التي أطلقها وزير قطاع الأعمال العام هشام توفيق، الذي يواصل تصفية القطاع ، ومن ثم التمهيد لإقامة مشروع عملاق للإنتاج الحيواني والدواجن على مساحة 28 ألف فدان في توشكي بأقصى جنوب مصر، بالشراكة مع الصندوق السيادي المصري “ثراء”، لمواجهة “استحواذ صغار ملاك الأبقار على إنتاج الألبان”، ويتخوف كثيرون من سيطرة الشركات الدولية على انتاج الألبان.[9] ومعروف أن الشركات الإماراتية والسعودية تسيطر على القسم الأكبر من المزارع والأراضي بتلك المنطقة تملكا وتأجيرا ومن ثم فإن التخوف من تلك الاحتكارات يبدو منطقيا وبالأخص إذا علمنا أن شركة المراعي السعودية هي الشركة العالمية المتكاملة الأكبر لإنتاج الألبان، وتستزرع شركات سعودية ومصرية الأعلاف الخضراء كالبرسيم وتقوم بتصديرها للسعودية.

وبعد أن مثلت الثورة تحدياً لسلطة وسطوة الشركات الخليجية العاملة في القطاع الزراعي سواء برفعها قضايا ضد فساد هذه الشركات وعمليات تخصيص الأرض لها أو بمطالبتها بتقنين أوضاع العمالة الموسمية وتحسين أوضاعها، فعلى سبيل المثال انتزعت المراكز الحقوقية من المحاكم المصرية أحكاما تاريخية بفساد تخصيصات أراضي توشكى لصالح شركة المملكة القابضة لصاحبها الوليد بن طلال وكذلك قرار مجلس إدارة الهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية بوزارة الزراعة في أحد اجتماعاته ببطلان عقد تخصيص ١٠٠ ألف فدان بمشروع توشكى لشركة الظاهرة الإماراتية الزراعية، طبقاً لرأى مجلس الدولة لمخالفة العقد أحكام قانون تنظيم المناقصات والمزايدات[10]

وكذلك قضية “أرض العياط” وهي أراضي مساحتها الإجمالية 42 ألف فدان منحت الحكومة المصرية للشركة المصرية الكويتية 26 ألف فدان فقط بأسعار بخسة 200جنيه للفدان بغرض استصلاحها بينما استولت الشركة على مساحة 16 ألف فدانا أخرى، لكن الشركة طرحتها لاحقاً للاستثمار العقاري، وعقب الثورة ووجهت الشركة والحكومة بقضايا لمراجعة تلك العقود وصولا لمطالبة الوزارات والهيئات التابعة لها هذه الأراضي للمجلس الأعلى للقوات المسلحة باستردادها.

لكن أصبحت مصالحات ما بعد ترتيبات الثالث من يوليو 2013 والتحالفات الإقليمية بعدها تذليلاً لتلك العقبات وتراجعا عن مسارات التقاضي بدعاوى جذب الاستثمار الأجنبي وتحسين مناخ الاستثمار والاحتياجات المحلية لهذه الاستثمارات، بل ودافعا لتلك الشركات للتوحش في استغلال الأرض للحد الذي يدفع باتجاه محاولة السيطرة على صناعة الألبان سواء عبر الترويج لأهمية الشركات الكبيرة والصناديق السيادية وشراكتها مع القطاع الخاص العالمي من أجل السيطرة على انتاج الألبان بدلاً من صغار المزارعين.

الإنتاج من أجل التصدير إنهاك الأرض والمزارعين والطرق:

يمكن بالعين المجردة ملاحظة هذا الإنهاك لطرق ومهندسي وعمال وموارد مناطق مثل توشكي وشرق العوينات والوادي الجديد، فالطرق الواصلة بين شرق العوينات وتوشكى من ناحية ومحافظات أسوان والأقصر والوادي الجديد في غاية السوء وتبدو مسافات كبيرة منها كما لو كان جراراً زراعياً قام بحرثها، وهذا ناجم عن استنزاف الشاحنات الخاصة بالشركات الكبرى لهذا الطريق بتجاوز حمولاتها توفيراً لنفقات وأوقات النقل وزيادة في أرباح الشركات الناقلة.

كما أن أغلب هذه الشركات تستخدم تكنولوجيا زراعة وتسميد وجمع عالية ولا تحتاج عمالة كبيرة ومن ثم فهي توظف عدداً قليلاً جداً من العمالة الثابتة بعقود هشة في مقابل استخدامها للعمالة الموسمية في أسابيع الجمع المعدودة وغالباً ما يتم التعامل مع هؤلاء عبر مقاولين وليس تعاملاً مباشراً وبالتالي تستنزف حقوقهم التأمينية والمالية ويعملون في ظروف قاسية بأجور متدنية، فأكبرها لا تحتاج لأكثر من بضعة مئات من العمال بينما مشروع توشكى كان يستهدف خلق 450 ألف وظيفة سنويًا واستيعاب من 4 إلى 6 ملايين مواطن وإقامة مجتمعات بشرية جديدة بتلك المناطق، وبعد أكثر من 20 عاماً على انطلاقه لا يزال بعيداً تماماً عن هذه الأهداف.

ويشير بعض الباحثين إلى أن حوالي 3 ملايين فدان في مصر يتم استغلالها وفق ذات النمط الإنتاجي المستهدف للتصدير و/أو إنتاج العلف.[11] وتخالف العديد من الشركات الخليجية الكبرى العاملة في قطاع الزراعة في مصر القواعد الخاصة بالمقننات المائية وبالمساحات التي يجب ألا تتجاوزها زراعة البرسيم من الأراضي المخصصة لتلك الشركات حفاظاً على المقنن المائي، فعقود الشركات العاملة في توشكى وشرق العوينات لا تتيح لها زراعة أكثر من 5% من المساحة المخصصة لها بالبرسيم الحجازي ومع ذلك فإن بعضها يزرع معظم المساحات المخصصه بالبرسيم وهي عمليات تصدير للمياه، كما أنها تستهلك كميات كبيرة من الطاقة وتتهرب من الضرائب عبر سلسلة شراكات معقدة[12]،  لكن لا يتم معاقبة هذه الشركات من الجهات المسئولة سواء بدوافع تيسير الاستثمار أو لأن قوانين وتسهيلات الاستثمار أقوى من تلك القواعد في بلد يلهث خلف الاستثمارات الأجنبية الضعيفة ويملك سجلاً حافلاً من الخسائر في قضايا التحكيم الدولي بفضل اتفاقات الاستثمار الثنائية المجحفة بحق مصر والمصريين و التي تعطي المستثمرين حقوق اللجوء للتحكيم الدولي كأولوية على التقاضي المحلي.

الفساد الذي ينخر في القطاع الزراعي:

ففي عهد مبارك واستشراء تحالف الفساد والأمن والبلطجة تحولت ملايين الأفدنة المخصصة للاستثمار الزراعي إلى استثمارات عقارية وتجارية وصناعية كبرى إذ قدرت تقارير للجهاز المركزي للمحاسبات الأراضي التي جرى تحويلها إلى منتجعات سياحية فاخرة وقصور وبخاصة منها الموجودة على طريق مصر – الإسكندرية الصحراوي وفي الساحل الشمالي بحوالي 3.5 مليون فدان[13]، ويتكرس هذا الاتجاه في عهد السيسي حيث الأولوية الأولى للاقتصاد المصري هو الاستثمار العقاري وإنشاء مدن على غرار نموذج دبي الذي يبدو مسيطراً على عقول المخططين والاقتصاديين المصريين، فيجرى الترويج لشركات التطوير العقاري باعتبار العقار أفضل استثمار ولقطاع التشييد والبناء باعتباره رافعة الاقتصاد المصري، وهو الأمر الذي أحدث طفرة عقارية في السنوات العشر الماضية ضاعفت التعديات على الأراضي الزراعية، بصورة غير مسبوقة، مما يهدد باتساع الفجوة الغذائية وعدم القدرة على الوفاء بالمتطلبات الغذائية للمستهلك المصري.

وجراء سوء التخطيط وفساد المحليات والنمط الاقتصادي السائد القائم على السمسرة واستشراء ثقافة “شراء العبد خير من تربيته”، “حديدة في حيط خير من بهيمة في غيط” وتأثراً بسياسة الاهتمام بالقطاع العقاري والمضاربات فيه اتجه كثير من المزارعين للربح السريع على المستوى الشعبي البعيد عن التخطيط فقد انتشرت العديد من صور التعدي على الأراضي الزراعية مثل إقامة مشروعات تجارية كمزارع دواجن وصالات أفراح ونوادي ومقاهي ومحطات بنزين ومولات تجارية، أو التقسيم والتسوير بالطوب الأبيض من أجل تحويلها لسكنية والتجارة فيها، أو تحولها لمنافع عامة كالمدارس والمساجد ومراكز الشباب والمستشفيات، وتحولت التعديات لأمر واقع تصالحت معه الحكومات المتعاقبة وصولا لقانون التصالح في مخالفات البناء رقم 17 لسنة 2019، والتي تحيلها مضاربات عقارية تشجع عليها السياسات الكلية المتبعة، ولهذه السياسات تأثير مباشر في توسيع الفجوة الغذائية وزيادة العجز في الميزان التجاري الزراعي كما توثقه العديد من الدراسات.[14]

خاتمة:

تظهر الدولة بهيئاتها المختلفة بمظهر تاجر الأراضي الأكبر والذي عند ركود تجارته في العقارات اتجه إلى الإتجار بأراضي المناطق الصحراوية الشاسعة ويتحول المستثمرون والمقاولون المتعثرون وكبار رجال الجيش والبيروقراطية لسماسرة أراضي يسعون خلف الثراء السهل والسريع، وتتحول المشروعات الكبرى غير المدروسة جيداً إلى مجرد محاولات لتقنين أوضاع اليد مقابل تحصيل بضعة مليارات من الجنيهات دون كبير تأثير في هيكل الملكيات أو الخلل الزراعي والفجوة الغذائية التي تتحول لأزمة مستدامة يستفيد منها أصحاب شركات الاستيراد والتصدير الكبرى.

لا جدوى من تنمية ومشروعات قومية لا تشمل آثارها الإيجابية الفئات المهمشة في الريف في مجتمعات ريفية النشأة والتطور، ولا تشتمل أهدافها الحفاظ على أسعار سلع غذائية مناسبة لمستويات الدخول المتدنية، ولا تتضمن رؤى كلية للسيادة الغذائية وتستهدف خفض فقر الريف وتعزيز دخول سكانه ورغبتهم في البقاء في مقابل مغريات الهجرة للمدينة أو للخارج.

لبناء سياسة زراعية جادة لابد من بناء قواعد للبيانات الإحصائية في مجال الإحصاءات الزراعية عامة وإحصاءات الثروة الحيوانية بصفة خاصة، بحيث يسهل رصد الفجوات بين الإنتاج والاستهلاك للمحاصيل المختلفة وتجارب الإنتاجية المرتفعة، ومعرفة أعداد رؤوس الماشية والدواجن وتقدير مستلزماتها ومن ثم بناء سياسات قائمة على معلومات، وهذه الإحصاءات لا تقل أهمية عن المسوح السكانية التي تتم بصفة دورية.

أية سياسة زراعية متكاملة تقتضي أن يكون هناك رؤية تخطيطية جيدة لحق سكان الريف في السكن الملائم والصحي واللائق، بحيث يتاح التوسع الرأسي بشروط ميسرة لسكان القرى ويتم توجيه جزء عادل من مخصصات الإسكان للقرى أيضاً، وتقتضي الإسراع بتوصيل خدمات الصرف الصحي والغاز الطبيعي للقرى كافة وتعزيز خدمات الانترنت بها، بل إن أية سياسة عادلة تقتضي تعويض هؤلاء عن ضعف ونقص الخدمات العامة لعقود وتأخر توصيلها مما كلفهم الكثير بحسابات الفرصة البديلة.

كما تقتضي تيسيرات تمويلية للمشروعات المنزلية التي لا تتطلب مساحات كبيرة، والمشروعات الزراعية وكذلك قروضا ميسرة لهذه المشروعات في كافة مراحلها، واهتماما أكبر بتحويل المنتجات الزراعية الأولية لمنتجات مصنعة أو شبه مصنعة بما يرفع من قيمتها المضافة وجدواها ويعزز دخول صغار المزارعين بحيث يصبح بقائهم في قراهم أكثر جدوى من الهجرة للمدينة.

مالم تتغير الرؤية السلبية للمزارعين وتتحول من رؤية طبقية لهم باعتبارهم فلاحين أدنى منزلة إلى رؤية مساواتية عادلة تؤمن بأهمية الزراعة للجميع وأهمية صغار المزارعين ومربي الماشية ومنتجي الألبان في تحقيق السيادة الغذائية بأبعاده المختلفة وعدم التمييز ضدهم وضد أبنائهم على أساس جغرافي وطبقي، ومالم يتم إعطاء أمل للعاملين بهذا القطاع فسوف يواصل التدهور وستهجره الأجيال الأصغر بحثا عن تحقيق ذاتها سواء بهجرات داخلية أو خارجية.

لكي تجتذب المشروعات الزراعية في المناطق المستصلحة حديثا فئة الشباب وصغار المزارعين لابد من ميزات تنافسية كتوفير خدمات عامة أقوى ووسائل نقل منتظمة وآليات اقراض للمشروعات قيد الانشاء وليست المشروعات الناجحة فقط، وكذلك التوسع في القروض الشخصية الميسرة لشراء السيارات في مناطق الاستصلاح فالمسافات بين مدن وقرى الظهير الصحراوي شديدة التباعد ودعم أطر لأشكال تمويلية تعاونية أمر غاية في الأهمية.

لا تزال هناك نواة جيدة لأية عملية لإصلاح القطاع الزراعي تتمثل في المركز القومي للبحوث الزراعية والمعاهد البحثية التابعة له والتي تحوي نخبة متميزة من أساتذة وباحثي الزراعة والثروة الحيوانية بالجامعات المصرية، وكذلك في فروعه بالمحافظات المختلفة، لكن عند اهتمام السياسات بالشركات فقط فإن العديد من هؤلاء يصبحون في خدمة القطاع الخاص العالمي الذي يستنزف الأراضي والمياه المصرية بديلا عن صغار المزارعين.

في أية سياسة بديلة لا بد من مراجعة عقود كافة الشركات المحلية والدولية وتقييم مدى التزامها بالمساحات المخصصة لها وللاشتراطات الخاصة بالمحاصيل والمقننات المائية وتقييم جدوى عملياتها الإنتاجية بحيث تستبعد الشركات التي تعزز تسرب القيمة من الاقتصاد المصري للخارج وتنتج محاصيل لا يحتاجها السوق المحلي وتستهلك كميات كبيرة من المياه وتستنزف الأراضي والطرق والمرافق.


الهامش

[1] انظر موقع الهيئة العامة للتعمير والتنمية الزراعية، http://garpad.gov.eg/wp/

[2] انظر استراتيجية التنمية المستدامة مصر 2030، جمهورية مصر العربية، رئاسة مجلس الوزراء، http://bit.ly/2T4ZlPu

[3] الهيئة العامة للاستعلامات، التوجه الاقتصادي لحكومة الدكتور مصطفى مدبولي تحت شعار ” مصر تنطلق “، http://bit.ly/2SPhOjS

[4] صقر النور، السد والأرز والدولة.. العنصرية البيئية تجاه فلاحي الدلتا، موقع المنصة، بتاريخ 5/3/2018، https://almanassa.com/ar/story/8895

[5] اليونيسيف، برنامج المياه والصرف الصحي والنظافة، https://www.unicef.org/egypt/ar/water-sanitation-and-hygiene

[6] انظر موقع شركة الريف المصري الجديد، على الرابط التالي: https://elreefelmasry.com/about

[7] صقر النور، السد والأرز والدولة.. العنصرية البيئية تجاه فلاحي الدلتا، مرجع سابق.

[8] الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، نسبة الإكتفاء الذاتى من القمح، http://bit.ly/2mr9hpZ

[9] عبد الرحمن أحمد، مخاوف من احتكار إماراتي للألبان بمصر.. مشروع حكومي يقضي على صغار المنتجين، الجزيرة نت، بتاريخ 17/12/2019، http://bit.ly/2T2nqpW

[10] متولي سالم، «التنمية الزراعية» تناقش بطلان عقد بيع ١٠٠ ألف فدان للشركة الإماراتية في توشكى الأحد، المصري اليوم، بتاريخ ١/ ٤/ ٢٠١١.

[11] صقر النور، صراع أبناء النيل لإطعام أبقار الخليج، موقع المنصة، بتاريخ 7/12/2017، https://almanassa.com/ar/story/7260

[12] صقر النور، ندى عرفات، كيف تحقق مياه مصر أمن دول الخليج الغذائي؟، مدى مصر، 22/3/2019، http://bit.ly/2SNyeJJ

[13] علي الرجال، الأرض في مصر: صراع النفوذ والثروة والبقاء، السفير العربي، بتاريخ 15/4/2019، http://bit.ly/2HJrXsh

[14] منتصر محمد حمدون، تحليل اقتصادي للتعديات على الأراضي الزراعية في مصر، مجلة الاقتصاد الزراعي والعلوم الاجتماعية، جامعة المنصورة، العدد 5، صـ 1117-1128، http://bit.ly/2SJET7z

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close