الطلاب والعنف ما بعد انقلاب 2013
فرَّق ما بين الجرأة والقلب الحديد والرمى جوا التهلكة
فتّش بإيد على المستفيد، وبإيد عن الصاحب الجدع
فتح إذا الناس غمضت، غمض إذا نظرك خدع
فرغ عياطك على الصحاب دم و خميرة مش بكا
تمهيد:
تعتمد الورقة على إجراء المقابلات المعمقة مع طلاب اشتبكوا في هذا الحراك، فقد تمت المقابلات مع 28 فردًا من الطلاب- 14 طالبة و14 طالب- وتوزعت الطالبات كالآتي:
توزعت 4 فتيات من جامعة الأزهر بين كليتي التجارة والدراسات الإسلامية، و3 فتيات من كليات طب أسنان وصيدلة وتجارة بجامعة عين شمس ، وطالبة من جامعة حلوان تحديدا هندسة المطرية، وطالبة من جامعة خاصة (جامعة المستقبل)، و5 طالبات من جامعة القاهرة توزعن بين كليات الاقتصاد والعلوم السياسية والصيدلة والآداب.
أما الطلبة فتوزعوا بين الجامعات التالية:
طالبان من كلية طب جامعة طنطا، طالب بصيدلة جامعة الإسكندرية، طالبان بجامعة خاصة تحديدًا (الجامعة الكندية والمعهد التكنولوجي فرع 6 أكتوبر)، طالبان بجامعة حلوان كلية الهندسة و4 طلاب من جامعة القاهرة، كليات الاقتصاد والعلوم السياسية والحقوق و الآداب، و4 طلاب من كليات التجارة والخندسة والطب بجامعة الأزهر.
وتنطلق الورقة من سؤال رئيسي هو: كيف كان الحراك الطلابي بالجامعات المصرية ما بعد انقلاب 3 يوليو 2013، أنماطه ومآلاته؟ أي ماذا حدث في الجامعات المصرية بعد حدث مفصلي في التاريخ المصري كحدث انقلاب 3 يوليو، وما أبرز القضايا التي أثارها هذا الحراك الطلابي.
أولًا: الحراك الطلابي ما بعد 2013 الأشد عنفا
تميز الحراك الطلابي ما بعد 2013 بأنه الأكثر عنفًا خلال عقود في تاريخ الحركة الطلابية المصرية، فقد اقتحمت قوات الأمن حرم الجامعة، واعتقل الكثير من الطلاب ومات الكثير منهم كذلك، ومن أبرز ما سيتم التركيز عليه في هذا المحور:
- رصد حالة العنف بداخل الجامعات، وتفاوت العنف بحكم الموقع الجغرافي والعلاقة مع الأمن بداخل الجامعة، وتفاعل الطلاب أنفسهم، وغلبة حضور التيار الإسلامي.
- أسباب كون جامعة الأزهر الأكثر عنفا مقارنة بالجامعات الأخرى.
- العنف المضاد والعمليات النوعية التي شارك فيها الطلاب كرد فعل على العنف الأمني.
كان العنف الممارس من قوات الأمن ضد الطلاب هو الأقوى مقارنة بالعقود السبعة الماضية، فوصل الضرب لاقتحام المدن الجامعية والمدرجات، وخلال الأسابيع الأولى للعام الدراسي 2014 -2015 وحدها سجل 25 اقتحام لقوات الأمن للحرم الجامعي، فالتهديد ليس للطلاب المشاركين في الأحداث ولكن لكل الطلاب في الجامعة أثناء تأدية الامتحانات. ولم يكن هناك سقفًا لاستخدام العنف، وتم بهذا القضاء على حقوق أخرى أساسية كالحق في التعليم مقارنة بحقوق أخرى منتهكة بالفعل كحق التعبير عن الرأي.
كما افتقدت حالات القبض على الطلاب إلى أبسط قواعد المحاكمة أو لإجراءات التقاضي، فمن هذه الحالات الكثيرة، قضية “عمر خلاف” الطالب الذي قتله أحد الضباط، وسجلت الواقعة بالكاميرات، وتوفرت صورة الضابط الذي وجه الرصاص إليه، ولم يقتص منه رغم وجود شهود على هذه الواقعة، وثمة حالات أخرى عن طلاب قتلوا داخل الجامعة كالطالب محمد رضا بجامعة القاهرة. ذلك، فضلا عن الإجراءات التعسفية مثل قرارات الفصل بدون إجراءات مجلس تأديب، فتم فصل بعض الطلاب المعتقلين فصل تعسفي لمدة سنيتن بدون تهمة وبدون تحقيق في الجهات الرسمية كالنيابة اعامة وخلافه.
كما أغلقت كل المساحات التي قد حصل لها الطلاب خلال 2011، وعادت الجامعة للوضع الأسؤا مع حظر الأسر الطلابية اللي لها ظهير حزبي مثل حزب النور ومصر القوية، والأسر ذات صبغة حزبية ودينية، فقد منع العمل السياسي نهائيا، وفي الوقت الذي صدر حكم بالبراءة لمبارك وحبيب العدلي في قضية قتل الثوار في 25 يناير يوم 29 نوفمبر 2014، تم تقييد قضايا قتل الطلاب ضد مجهول.
ثانيا: تفاوت الأوضاع الأمنية من جامعة لأخرى
لقد تفاوتت الجامعات في التعامل الأمني من إلقاء القبض على الطلاب من الحرم الجامعي أوخارجه، فنجد (أ.ب طب طنطا 25 سنة) يذكر أن العقيد في الجامعة لم يكن يسمح لقوات الأمن أن تتعدى على رأسماله الرمزي ووجوده داخل الحرم الجامعي، فلم يُقبض على طالب من داخل الحرم الجامعي بطنطا، وكان العقيد ينسق مع الطلاب مواعيد المظاهرات بحيث يتيح لهم الفرصة للهتاف ثم تنفض المظاهرات عقبها، ومن ثم لم تشهد جامعة طنطا قمعًا يقارن بجامعتي الأزهر والقاهرة حيث كان يلقى القبض على الطلاب من داخل لجان الامتحانات واقتحمت القوات الحرم الجامعي في كلا الحالتين لأكثر من مرة.
لذلك ثمة حالات من الطلاب تم إلقاء القبض عليهم دون مشاركة في الحراك بالأساس، بل كان هؤلاء الطلاب ضمن المتواجدين في الجامعة في هذه الفترة واقتيدوا للعربات بعد أدائهم الاختبارات بشكل عشوائي.
زمن ثم غلب على الحراك خلال الفترة من 2013- 2015 الروح الانتقامية والعنف الشديد والشعور الدفين بالظلم والعداء المتعدد المستويات كذلك، وكانت قوات الأمن تستخدم الغاز والخرطوش والرصاص الحي ويبادلها الطلاب بالطوب والخراطيش وبحد وصف بعضهم – مهرجان أفراح – أي ألعاب نارية.
أما الجامعات الخاصة فغلب عليها التفاوض مع إدارة الجامعة في إدارة المظاهرات والوقفات الاحتجاجية ومواعيدها.
وبطبيعة الحال أدى تفاوت الوضع الأمني بين الجامعات إلى تفاوت درجات العنف بينهم، وبحسب المرصد الطلابي نجد أن إجمالي المقبوض عليهم والملاحقين من الطلاب الجامعيين منذ صدور قانون “عدلي منصور” حتى 15 إبريل 2014 كالتالي:
- 2% من الجامعات الخاصة.
- 42% من جامعة الأزهر بواقع 1266 طالب.
- الجامعات الحكومية فيما عدا الأزهر 46% بواقع 1382 طالب
- المعاهد العليا 8% بواقع 49 طالب
- إجمالي تعليم عالي غير محدد الجامعة 234 طالب[1]
ثالثاً: لماذا جامعة الأزهر هي الجامعة الأكثر عنفًا؟
يتبين وفقا للمقابلات والمواقع الإخبارية التي رصدت حالة الحراك الطلابي آنذاك وللإحصاءات عن عدد القتلى والمصابين والمعتقلين والمفصولين من صفوف الطلاب أن جامعة الأزهر هي الأعلى نصيبا من بينهم، فقد كانت جامعة الأزهر الأكثر عنفًا في هذا الحراك الطلابي، وفما السبب في ذلك؟
يمكن القول أن جامعة الأزهر الأكثر عنفا من بين الجامعات[2]، يرجع إلى عدة أسباب أبرزها:
- خلفية الطلاب لأن أكثرهم من الأقاليم الدلتا والصعيد.
- غلبة التيار الإسلامي بداخل الجامعة.
طالما كانت جامعة الأزهر مصدر قلقٍ أمنيٍ من قبل الثورة بسنوات عديدة، خاصة بعدما فازت جماعة الإخوان المسلمين بـــ 88 مقعد في البرلمان في انتخابات 2005، لذلك لم يكن مستغربًا أن يقابل استعراض الطلاب آنذاك لبعض الرياضات العنيفة برد الفعل القمعي في المقابل، فقد تحولت جامعة الأزهر يوم الوقفة الطلابية إلى ثكنة عسكرية، وأحاط بالإثني عشر طالبًا الذين قاموا بالعرض العام كثيرٌ من قوات الأمن في وضح النهار ما يشير إلى خصوصية تعامل قوات الأمن مع جامعة الأزهر.
وقد سميت هذه الواقعة بـ “ميلشيات الإخوان المسلمين” وكانت ثمة مبالغة في التعامل مع الاستعراضات من قِبل النظام رغم أن الجماعة قد حسمت خيار العنف منذ عقود ولم يعد الأمر سوى استعراضا، لكن اللافت للنظر أنه لم يتم في أي جامعة أخرى سوى الأزهر.
وحينما فتحت الجامعة أبوابها للطلاب في منتصف أكتوبر 2013، مع بداية العام الدراسي، اشتعل غضب الطلاب العارم ضد الانقلاب وأحداث الفض والقمع كما اشتعلت الجامعات المصرية بأكملها، ولكن ظلت جامعة الأزهر في الصدارة من حيث استمرار المظاهرات وقوة الاحتجاجات واشتداد القبضة الأمنية بها، وازدياد عدد المعتقلين بين صفوفها والشهداء من طلابها، فوفقا للمرصد الطلابي فقد بلغ عدد الطلاب من جامعة الأزهر (277) طالب – بنسبة “27.4% من إجمالي الطلاب الذين تعرضوا للاعتقال التعسفي خلال عام 2015 فقط. [3]
ولم تكتف قوات الأمن بحصار جامعة الازهر لقمع الحراك الطلابي من الخارج بل تواجدت بداخل الحرم الجامعي وفي المدينة الجامعية وقامت بتشييد سور فاصل بين مدينة البنين ومباني الجامعة، وهو الأمر الذي رد عليه الطلاب أنفسهم بهدم السور مرتين. كما شن الأمن حملات واسعة على الطلاب في مساكنهم الخاصة بالحي السادس والسابع والعاشر بمدينة نصر.
ويذكر (ع.ع 27 سنة المحلة الكبرى): “الجامعة نص مليون وفيه طلبة قلبها جامد وأبوك مش هيسال عليك وأهلك مش هيعرفوا والضرب كان بيثيرك أكتر، فمفيهوش “مش ولاد ناس” من الاخر بيتحركوا بغشومية، بيكسروا وبيحركوا” فيرى ع.ع أن أسباب العنف في الجامعة يرجع إلى أن معظم طلابها من الأقاليم، الذين يربون في بيئة مختلفة عن القاهريين.
ويقول: م.ص:
“ما زلت أعيش في الريف ولكن بطبيعة الحال فأنا أغيب عن قريتي لفترات طويله بسبب الدراسة، بالطبع النشأة في الريف كان لها دور في تكوين الشخصية، من الممكن أن نقول أنني اكتسبت صفات شاب الريف قوى البنيه حاد الطبع أحيانا، و الجراءة على فعل أمور يعجز عنها البعض، أقصد أن التربية في الريف تساعد على كسب صفات كثيره بطريقه مباشره بدون تعليم”
ويشكل طلاب الأقاليم النسبة الأكبر من طلاب الجامعة البالغ عددهم نصف مليون طالب، ويسود شعور الاغتراب في المجتمع القاهري الجديد على معظهم القادمين من قرى محافظات الدلتا والصعيد، و قد ساعدت العوامل التالية على انخراط أعداد كبيرة من طلاب الأزهر في الحراك الثوري، وهي:
- بعدهم عن الأهل ورقابة أسرهم.
- انتشار التيار الإسلامي بين صفوف الطلاب وأعضاء هيئة التدريس.
- موقع الجامعة الجعرافي وقربها من ميدان رابعة ما شكله من رمزية ثورية للقهر والقمع وأشباح الموت والحرق الراكدة فيه منذ مذبحة 14 أغسطس 2013.
ويروى ع.ع الطالب بكلية التجارة جامعة الأزهر قائلًا:
“كانت 2009 السنة الأولى التي أغادر فيها قريتي بالمحلة الكبرى إلى القاهرة لألتحق بكلية التجارة جامعة الأزهر. أخذت سكن مع شباب قريتي في الحي السابع بمدينة نصر، وفتحت القاهرة أمامي أجواء جديدة لم أكن أعتادها من قبل: أنشطة طلابية وجمعيات خيرية، شاركت في مؤسسة “رسالة” واندمجت معهم قبل 2011، ولأني لم أوفق دراسيًا خلال السنة الأولى كان لدي الكثير من الوقت لأمضيه في التطوع والعمل، لم أكن لدي أي اهتمامات سياسية رغم أن والدي داعم قوي للحزب الوطني ومنظم لمؤتمراته وانتخاباته في بلدتنا، إلا أنني لم أكن اهتم بالسياسة وأمقت الحزب الوطني، شاهدت اعتصامات عمال المحلة، ولكن لم أهتم وقتها بما يحدث، تأثرت بمدرسي المعهد الأزهري من الإخوان، وإن لم يدفعني ذلك للانتماء إليهم تنظيميا، ولكن تأثرت بهم في أفكاري وتربيتي.
ثم قامت الثورة في 2011 وشاركت في أحداث مجلس الوزراء ومحمد محمود وتابعت الندوات الثقافية ليوسف زيدان وغيره الكثير مما أتاحه فتح المجال العام في مصر من بعد الثورة، وكنت أحضر دروس المساجد مثل “يوسف الصحابي” وغيرها، ثم تابعت الاهتمام بالعمل العام السياسي من خلال مبادرة طلابية أطلق عليها اسم” حكومة الظل الشبابية” داخل جامعة الأزهر في 2011. ولكن لن استمر فيها طويلًا، وكثفت جهودي في قوافل جمعية “رسالة”، وازداد حنقي على سياسات الإخوان خلال هذه الفترة، فنزلت الاتحادية ضد الإخوان، ثم حدث انقلاب 3 يوليو 2013.
منذ هذه اللحظة شاركت في احتجاجات الطلاب ضد الانقلاب، شاركت أولاً مع طلبة “الإخوان” ثم “أحرار” وكنت شاهدًا على هذه الأحداث داخل جامعة الأزهر، فكنت أنزل مع أصحابي المظاهرات بشكل يومي خاصة بعد فض اعتصامي رابعة والنهضة، فقد شهدت يوم الفض ونزلت أحداث رمسيس يوم 16 أغسطس، وساعدت في نقل جثث القتلى والمصابين في مسجد الإيمان.
يوم الفض استيقظت على صوت أمي تخبرني بأنهم فضوا الاعتصام بالقوة، سافرت القاهرة ووصلت هناك على الظهر، كان يومًا صعبًا، كان هناك ضرب متواصل، كان لي صديق والده مختفي بالداخل فظللنا نبحث عنه حتى مغرب ذلك اليوم… شاهدنا المنصة تحترق من شقتنا بالحي السابع، وبعدما انتهى الفض ظللت مع أصدقائي نحمل الجثث …خلال هذا العام كنت قد حصلت على تقدير وتمكنت من الإقامة في المدينة الجامعية، ومن بعد الفض، كنت أنزل مع أصدقائي كل يوم المسيرات، كنت أذهب إلى الجامعة للمشاركة في المظاهرات.
جعلني المكوث فترة طويلة بالكلية شاهدًا على الحراك خلال عام 2011 وعام 2013، في عام 2011 لم يصعد الحراك بنفس الدرجة من العنف على الإطلاق مقارنة بما حدث خلال 2013، كنا نقطع طريق النصر، واقتحم الأمن حرم الجامعة، وأطلق الرصاص الحي داخل المدينة الجامعية، وشنت حملات الواسعة لمهاجمة الطلاب في سكنهم الخاص في أحياء مدينة نصر كالحي السادس والسابع، وكان هناك صدام بين الطلاب والأمن والإدارة على السواء، تلك الإدارة التي كانت تسلم أسماء الطلاب للأمن، فتزايد عدد المعتقلين والمصابين والشهداء من الطلاب.”
ويؤكد طالب أخر (هندسة الأزهر ) على أحداث العنف داخل الجامعة قائلا:
“كل أشكال المواجهة كانت مفتوحة..السلطة واجهت الحراك بكل ما تملك من قوة حتى أنهم استخدموا الطائرات الهيلوكوبتر لضرب التظاهرات في المدينة الجامعية، حاولوا إرهاب الطلاب وأحيانا خطفهم من الكليات، فصلوا الكثير من الكليات. كانت الجامعة عبارة عن معسكر أمن مركزي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، تم البطش بالطلاب وأعضاء هيئه التدريس، كان الكل في محل الاعتقال لمجرد أنه أزهري….استخدمت السلطة كل أدوات التنكيل ومن أكثر المواقف التي أثرت في هو استشهاد الشهيد “عبد الغنى حمودة”، وموقف آخر وهو اجتياح قوات الأمن للجامعة يوم الأثنين 9 /12 /2013 إذ كنت أشعر أننا في معركة حقيقة… كل الأسلحة كانت موجودة كأنها حرب، وتم اجتياح الجامعة بخطة عسكرية جاهزة مسبقا، ولم نستطع المقاومة يومها، واضطررنا للانسحاب، وكنت مسئول عن التأمين في إحدى الكليات و التأمين هو اللفظ المستخدم لمواجهه الداخلية.”
تطرح جامعة الازهر الكثير من الأسئلة حول طبيعة الحراك الطلابي في الآونة الأخيرة حيث تغيرت صورة الأزهري من صورة المجاور المقيم في الجامع الأزهر الذي يخرج مع المشايخ المعممين ضد الحكام الظالمين والرافضين لفرض الجباية على الشعب أو ضد المحتل… غابت تلك الصورة في الأزمنة الحديثة مع تحديث مؤسسات التعليم واتخذ الطالب شكلا أخر فصار منتميًا للـ “أفندية”، وشارك الطلاب في الحراك الطلابي واندمج فيه منذ تأسيس الجامعة.
أما طلاب الجامعة الأزهر وإن حرصت فئة منهم على التردد على الجامع الأزهر، ولكن لم يعدوا في صورة المجاورين في صورة الطالب الأزهري الآتي من الريف إلى القاهرة، ولكن ظلوا أكثر محافظة اجتماعية وأكثر تأييدا للتيارات الإسلامية، بينوا مكانة أكبر وصورة بارزة في الحراك الطلابي ما بعد 2013.
يتبين من خلال المقابلات أن من أول شروط الحراك الطلابي هو الاغتراب أو البعد عن سيطرة الأهل حتى لو كان بعد مسافة والمكان فحسب، هذا “البعد” الذي يستطيع من خلاله الطالب أن يسلك مسارًا بعيدًا عنهم بمزيد من التحرر من قيود الأهل. ويضيف البعد فضلاً عن التحرر شعورٌ بالاغتراب عن الآخرين بعيدًا عن أجواء الأسرة الحميمية، ويولد هذا الاحتياج طاقة تحتاج إلى ملئها، فيندفع الكثيرون من الطلاب للمشاركة في الحراك، إذ تحذب الأجواء النضالية الكثيرين من الباحثين عن تعريف لذواتهم وتقدير لها في هذا التيه، تيه المدينة والاغتراب والأجواء الجديدة عليهم، أو تيه الحياة وضبابية المشهد بعد التخرج و الواقع الاجتماعي الثقيل المختنق، هنا يوفر النضال الطلابي مساحة الشعور بالتقدير وأن لنا شيء في هذه الحياة نتحدى به السلطة وقهرها، وأننا قادرين على الفعل.
وبالطبع حينما تتضافر هذه العوامل والاحتياجات مع وضع شديد الظلم، وقدرة على التعبئة، وحضور كثيف للإخوان المسلمين بجامعة الأزهر، كانت الأزهر هي الجامعة الأكثر عنفًا في الحراك الطلابي ما بعد انقلاب 2013، كما أن سقوط ضحايا يجعل الثأر ثأرًا شخصيا وخصومةً شخصيةً، حيث يفضي استخدام العنف لعنف مضاد وحلقة لا تتنهي.
يضاف إلي هذا أن الخلفية الريفية لطلاب الأزهر تجعلهم أشد صلابة وجرأة، فمن الطبيعي أن يكونوا في هذه السن نواة للجان النوعية تحمل القهر والظلم حيث يتضاعف لديهم الشعور بالحنق والسخط لأنهم في سن التطلع و بناء الآمال ، وليس من المستغرب أن نجد بين أحكام التسعة إعدامات الأخيرة طلابا من جامعة الأزهر.
ويثير التطرق إلى الحديث عن أحوال العنف بالجامعات قضية هامة وهي العنف المضاد من الطلاب أنفسهم والعمليات النوعية.
رابعاً: العنف المضاد والعمليات النوعية:
نشر موقع مدى مصر تقريرا بعنوان “العالم المجهول للجان النوعية” جاء فيه عدد من النقاط الأساسية فيما يتعلق بتوجه الطلاب إلى العنف، متخذًا حالة طالب من هؤلاء الشباب الذين شاركوا في هذه العمليات نموذجًا تم به تفحص تجربة الشباب، ومتابعة محتوى التقرير نجد عدة أمور:
- الأول: أن التفكير في العنف جاء كرد فعل على ممارسات الأمن العنيفة، تحديدا من بعد أحداث الحرس الجمهوري في 8 يوليو 2013، التي سقط فيها 51 قتيلًا من متظاهري اﻹسلاميين طبقًا لتقرير الطب الشرعي، فبدأ الحديث داخل أوساط القيادات العليا والمتوسطة بالجماعة عن قضية السلمية/ العنف، لم ترق هذه النقاشات لتصبح خياراً تنظيمياً بشكل عام.
- الثاني: أن الشباب الذين اتخذوا هذا المسار، أكملوا فيه بمفردهم بعيدا عن التنظيم، (تنظيم الإخوان المسلمين) الذي ظل مترددا فيما يتعلق بخيار العنف، وحدثت انشقاقات في صفوف القيادات فيما يتعلق بالرد العنيف على الهجوم الأمني والاعتداء والتعذيب والقمع الذي تعرضوا له.
- الثالث: أن العمليات النوعية لم تتضمن فقط الشباب المنتمين للإخوان المسلمين، بل شملت أطراف عدة منهم العائدون من سوريا. [4]
“هذا الطالب الذي ألتقى به موقع مدى مصر، يسرد تجربته في العمليات النوعية، فيقول أنه اتفق مع أصدقائه بضرورة الاستعداد لمواجهة الاعتداءات من الأمن والبلطجية على السواء، وكان ذلك قرارهم الذاتي، وبالتوازي بدأ الإخوان ينظمون ما عرف بلجان الردع، وتحولت بعض لجان الردع إلى لجان للعمليات النوعية تنشط بشكل أساسي في محافظات شمال الصعيد كالفيوم وبني سويف والجيزة، وتلقى دعمها التنظيمي من بعض قيادات الجماعة.”
لذلك نجد أنه مع بداية العام 2015، شهدت محافظتا الفيوم وبني سويف “ارتفاعًا حادًا في معدل الهجمات”، أرجعه التقرير إلى جبهة المقاومة الشعبية التي تأسست في 24 يناير 2015، قبل ذكرى الثورة بيوم. فقد تشكلت لجان الردع بتكليف تنظيمي بعد تكرار حوادث الاعتداء على مظاهرات اﻹخوان، وتعرف لجان الردع بالآتي:
“هي لجان معتادة موازية لنشاطات الجماعة الجماهيرية عبر تاريخها. في العادة، تنشط هذه اللجان خلال مسيرات الطلبة بالجامعات وأثناء المؤتمرات والفاعليات الانتخابية، ويتصف أعضاءها في الغالب بقدرتهم البدنية وحماسهم التنظيمي. تختص لجان الردع بأمور الحماية والدفاع البدني وتنسيق تحرك التجمعات، لكن عملها هذه المرة كان مختلفاً. لجان الردع هذه قد تحتاج، في ظل هذا المناخ الشعبي والرسمي المعادي، إلى ما هو أكثر من قدرتها البدنية على مواجهة هجوم البلطجية واعتداءات قوات الشرطة على تظاهراتهم، إلى السلاح مثلا؟” [5]
يشير هذا الطالب كذلك إلى أن ثمة فئة شاركت في هذه العمليات النوعية، غير منتمية إلى جماعة الإخوان، وهم الجهاديون، الذين – على حد قوله – قابلهم في اعتصام رابعة العدوية، فقد تعرف عليهم بالاعتصام، واستمع لحكاياتهم عن تجارب اعتقالهم، ويصفهم بأنهم لديهم استعداد للموت في الاعتصام، وليس لديهم أي أهداف أو تطلعات سياسية، لكنهم يفضلون الموت عن السجن مرة أخرى.
ما دفع الشباب للمشاركة في اللجان النوعية، هو تأزمهم من أسلوب المظاهرات والاكتفاء بالهتاف في الشوارع، فلن تمنع المسيرات التنكيل بهم وقمعهم، أن مقاومة القوة غير ممكنة إلا بالقوة، وفي هذه الآونة بدأ سؤال التنظيم والانتماء إليه يدور في ذهنهم، وتشعبت قراءاتهم، والتقت جميعها حول حرب العصابات لجيفارا، الحرب القذرة عن تجربة الإسلاميين بالجزائر أواخر الثمانينيات، فكان العمل المسلح هو ما يشغلهم.
جدير بالذكر أن هذا الشاب لا يختلف كثيرا عن غيره من الشباب الذين التقينا بهم، في أوائل العشرينيات، لم يكن لديهم نشاط في المجال العام سوى من خلال العمل التطوعي، تعرف بعضهم على جماعة الإخوان المسلمين من خلال حلقات التحفيظ بالمساجد، لم يكن لديه قراءات واسعة، ولم يكن على دراية قبل ثورة 2011 باختلاف التيارات الإسلامية، وحدثت الثورة 25 يناير 2011 أثناء فترة الثانوية العامة، فتشكل وعيهم أكثر مع أحداث ما بعد انقلاب 2013.
قرر هذا الشاب ترك الإخوان وتأسيس نواة لمجموعة جديدة مع رفاقه، تضطلع بمهام مختلفة تتناسب مع طبيعة المرحلة كما يرونها. استخدموا أسماء مستعارة، وأجهزة تليفونية وخطوط محمول جديدة، وتعرفوا على كيفية استخدامها بطريقة آمنة، تعلموا إشارة مورس، وهي طريقة تواصل بدائية، أثارت خيالهم من كتاب جيفارا، وقاموا بتحديد قائمة بأشخاص لتجنيدهم لمجموعتهم الجديدة.
بدأت المجموعة في مرحلة ما أسماه بـ “الاستطلاع وجمع المعلومات” عن ضباط الشرطة بالأساس، باﻹضافة إلى زعماء مجموعات البلطجية التي اعتادت الهجوم على مظاهرات اﻹخوان. وتمكنوا حينذاك من إصدار بطاقات شخصية بهويات جديدة بعد دفع عدد من الرشاوى. تعلموا كل ما أتيح لهم عن كاميرات المراقبة وأنواعها، تعرفوا على أنواع السلاح وأماكن شرائه وتكلفته. وحين احتاجوا إلى بعض التدريب على استخدامه، توجهوا إلى صحراء الفيوم.
“بدأت المجموعة في ضم عضويات جديدة إليها: خليط من شباب اﻹسلاميين الغاضبين، انضم لهم لاحقًا بعض الشباب العائد من سوريا ﻷسباب مختلفة، أو أولئك الذين فشلوا في الذهاب إليها للحاق بـ”الجهاد” هناك، لم يكن تشكيل هذه المجموعة جديدا، وإنما هو نمط تكرر في قضايا أخرى أبرزها على سبيل المثال بعض شباب خلية عرب شركس وقضايا عرفت باسم “العائدون من داعش“.
مع زيادة العدد، انقسمت المجموعة إلى لجان صغيرة متخصصة، واقتصر عملها في تلك المرحلة على معرفة طرق صنع العبوات الناسفة واستخدام السلاح بأنواعه من خلال اليوتيوب. وبدأت المجموعة في زرع العبوات الناسفة. بمرور الوقت، تطورت كفاءة هذه العبوات وأصبحت لها قدرات تفجيرية أكبر. فحسب هذا الشاب إنهم قاموا بزرع أكثر من 25 عبوة ناسفة في مناطق مختلفة في يوم واحد لتشتيت انتباه الشرطة وإنهاك قواها.
يروى هذا الطالب مواقف أخرى تؤكد على أن الاعتداء على الشرطة لم يكن هدف مجموعتهم الوحيد، ولكن في بعض الأحيان، كان الأمر تسلية، ففي إحدى المرات قرر تركيب عبوة ناسفة وزرعها في مكان ما، وأخبر الشرطة عنها، وجلس في مطعم مجاور يشاهد قوات الأمن تحاول تفكيكها.”
أشرنا سلفا إلى أن مظاهرات الطلاب لم تكن المواجهة مباشرة بين الطلاب والأمن فقط، ولكن ثمة عنصر أخر تواجد بكثرة في احتجاجات ما بعد 2013، وهم البلطجية، بحسب أحد الطلاب من صيدلة الإسكندرية، يقول: “أننا كنا نتفاجيء في المظاهرات بوجود شباب أشكالهم غريبة، دول مش طلبة، كانوا بيضربوا الطلبة بالطوب والإزاز، ويمسكوا الطلبة يسلموهم للأمن، وممكن يعتدوا على البنات”
لذلك حينما قام بعض الشباب ومن ضمنهم طلاب بتشكيل لجان نوعية، لم تستهدف قوات الأمن فقط، ولكن البلطجية، فحسب – تقرير مدى مصر – قامت إحدى المجموعات المعتمدة على نهج العنف ببعض العمليات الانتقامية ضد البلطجية. يحكي الشاب واقعة اعتداءهم على أحد البلطجية الذين اعتادوا الاعتداء جنسيًا وبدنيًا على اﻷخوات في مظاهراتهم، فانهالوا عليه ضربًا باﻷسلحة البيضاء، ويضيف: “كنا حريصين على ألا يموت لكن لم نترك أي جزء منه دون إصابة، بعدما انتهينا منه، تركناه ممدد على الطريق وانصرفنا”.[6]
وبينما ينقسم التنظيم حول حلول خيار العنف والسلمية، حسمت هذه المجموعة أمرها، وقبل نهاية العام 2014، اتخذت مجموعتهم قراراً بالتخصص في عمليات اغتيال لقائمة من ضباط وأفراد الشرطة والتوقف عن أي نشاطات أخرى.
“وحينما بدأوا في مناقشة التحول لتصفية ضباط شرطة، قرروا أنهم لابد أن يبحثوا عن تأصيل فقهي لنشاطهم الجديد قبل الشروع فيه. غير أن الوقت لم يمهلهم للبدء في تنفيذ خطتهم. فبعد شهرين، ألقت قوات الأمن القبض عليه وعلى مجموعة أخرى من رفاقه نتيجة خطأ أمني ارتكبه أحدهم أدى إلى سقوط عدة أفراد من خلايا مختلفة في يوم واحد.
قضى الشاب مدة صغيرة قبل أن يطلق سراحه مع آخرين لعدم كفاية الأدلة. بعدما ذاق ويلات من التعذيب هناك في السجن، لم يكن هدفها إجباره على الاعتراف ولكن إنهاكه، ويرى أن ما فعله ورفاقه ليس إرهابا ولكن مقاومة، فالفارق – وفقا لهذا الشاب- بين خطاب المقاومة والإرهاب، أن الإرهابي يصف الشرطة بالـ”مرتدين” والـ”كفار” بينما يصفهم المقاومون بـ “شرطة كامب ديفيد” و”كلاب الداخلية””منقدرش نقول عليهم كفار”
ويستدرك: “على فكرة، أنا شاب عادي. كان نفسي آخد كورسات، واشتري هدومي من brands، وأروح اعمل سفاري” ويعبر عن قلقه إزاء أصحابه في هذه المجموعة من تحولهم بسبب التجاهل التعذيب إرهابيين حقيقيين: “بيكتفوا من الدين باستلهام القصص البطولية للصحابة في مجاهدة الكفار. يمتلأون سواداً”، فوجهة نظره في الحل هو تحول تنظيم بحجم الإخوان بالكامل إلى المقاومة، لأن العمل في مجموعات عنف صغيرة يعرضهم لخطر القتل والاعتقال، ولا فائدة ترجى من نشاطهم، وفي التقرير أشار إلى رغبته في الانضمام لتنظيم أحرار الشام في سوريا، لأن سوريا أقرب إلى الهجرة منها إلى الجهاد، فهو – بحسب تعبيره – فلن يعد يصلح لشيء سوى ذلك”.[7]
أما عن تمويل هذه المجموعة، فقد اعتمدت على أموال أعضائها الشخصية بشكل أساسي. ويشير الطالب إلى نقطة هامة، وهي أن طلاب الجامعات الخاصة قد انخرط طلاب منها في هذه المجموعة، بل ساعد بعضهم على تمويلها، حينما قرروا عدم دفع مصاريف كلياتهم لاستخدامها في شراء أسلحة ومواد أولية، فقد كانوا موقنين أن مصيرهم القتل أو السجن، فلم تكن مسألة سداد المصروفات تشكل لهم أزمة كبيرة، ويشير كذلك إلى أنهم تلقوا تبرعات من مجهولين من خلال وسطاء من المجموعة، بعض هذه التبرعات كان مشروطة بطريقة استخدامها.
لكن هذه المجموعة لم تكن الوحيدة، فقد نشأت مجموعات صغيرة بمبادرات فردية مشابهة تتبنى العنف كخيار بديل. لكن هذه “اللجان النوعية” لم تتشكل حصرًا عبر مبادرات فردية. في مقابلة تليفزيونية له مع تليفزيون العربي صرح عمرو دراج، وزير التخطيط والتعاون الدولي في حكومة اﻹخوان ومسؤول ملف المفاوضات بعد فض الاعتصام، بأن حالة السيولة التي تسيطر على المشهد هي ما يدفع الشباب للعنف. بالنسبة إليه، فإنه لا يمكن منع عنف الشباب لأنه يستخدم حقه الشرعي في الدفاع عن نفسه، لكن في الوقت ذاته لا يمكن أن يتم تحويله إلى عمل مؤسسي لأن التنظيم يريد الحفاظ على المسار السلمي.
وعن رأيه في خيار العنف، يعقب (“ه.ك” كلية طب جامعة طنطا) أن ثمة توجهين في التفكير في العنف، استخدام العنف كوسيلة واستخدام العنف كغاية، فالسلفية الجهادية تتخذ من العنف غاية في حد ذاته، وثمة نوع أخر لديه بحكم نشأته وتكوينه حساسية مفرطة تجاه العنف، فينظر للعنف إما باعتباره حرام أو فشل لعدم امتلاكنا أدواته أو التدريب عليه.
وفقا لــ “ه .ك” فالإسلاميين يتصورن أن السلفية الجهادية ظاهرة انحرافيه أصيلة، أخوة المنهج ولكنهم خوارج وظاهرة سرطانية، جانب مما يحدث في سيناء حقيقي ويستحق الوأد، ولكن ينطبق عليه حد الحرابة، أي لابد من رفع المظلمة قبل الحكم عليهم، فلا يجوز قتالهم قبل رفع مظالمهم. وهناك طلاب ذهبوا إلى السلفية الجهادية كنوع من الانتحار وامتداد للشعور بالغضب والثأر والانهزام والانتقام.
ويؤكد ه.ك على أنه يتبنى العنف المتكلم، وليس العنف الصامت بحسب تعبير “حنا أرنت”، فالعنف المتكلم هو قيام أحدهم بقتل مسؤول عام لأسباب واضحة ومعلنة ووجيهة مثل أنه شارك في كذا أو ارتكب جرائم بعينها، وليس العنف المعلن ضد الناس جميعهم، ومن ثم فالعنف المتكلم أشبه بالعنف المعروض في فيلم V VENDETA، وأشبه بعنف الكتائب الفلسطينية، كعمليات “ليلي خالد” في خطف الطائرات مثلا، ويصبح استخدام العنف في هذه الحالات وسيلة ضمن استراتيجية متكاملة للإصلاح.
ولا يوجد حصر دقيق لمؤشرات العنف وإحصاء فعلي لعدد العمليات النوعية التي قام بها الطلاب خلال هذه الفترة من الحراك الطلابي، ولكن طبقًا للتقرير السنوي الذي تصدره مؤسسة “التحرير لسياسات الشرق الأوسط” بواشنطن عن الوضع الأمني في مصر، فإنه في الفترة ما بين يوليو 2013 وديسمبر 2014 بلغت نسبة العمليات الموجهة ضد أفراد قوات الأمن 71% من مجموع العمليات، أكثر من نصفها تم عبر إطلاق الرصاص، بينما شكلت القنابل والعبوات بدائية الصنع ما يقرب من 20% منها.
ولم نتمكن من الوصول إلى طلاب شاركوا في مثل هذه الفعاليات بشكل مباشر ولكن ثمة حالات تعرفت على أصدقاء شاركوا في العمليات النوعية، وكان لهم انتماء للإخوان المسلمين، من هذه الشهادات:
(م.ف 25 سنة هندسة المطرية حلوان القاهرة) الذي أشار إلى أزمة أصدقائه في الأسرة الإخوانية في الحي الذي يقيم به، فجميعهم دون ال25 عامًا إما مطاردين أو مسجونين أو مختفين، ويؤكد أنه كان غاضبًا بعد الفض، ورفض الصمت عن الهزيمة والاستسلام، “شغل سلمية ده مش بيأكل معانا عيش، اللي هيضرب هنضربه”، فخرج هو وبعض أصدقائه بالسلاح في المظاهرات، وشاركوا في العمليات النوعية، وقبض عليهم والبعض حكم عليه، وحينما خرج سافر السودان، كان يعاني من صعوبة التعليم والحصول على فرصة بعيدًا عن الأهل والأصدقاء، إذ يسيطر على الخارجين ظروفهم الشخصية ومعاناتهم التي تمنعهم عن أي حراك اجتماعي.
ولكن المقابلات تبين أن هناك خيار آخر فضله الطلاب بعيدا عن المشاركة ضمن حركة طلاب ضد الانقلاب التابعة لتنظيم الإخوان المسلمين، خيار عد لبعضهم خيارًا أكثر راديكالية، وهو الانضمام إلى حركة “أحرار”.
خامساً: حركة “أحرار”: حماسة الخطابات ووهم الغاية
تعرف حركة “أحرار” نفسها على موقعها الالكتروني بأنها حركة شبابية تضم أنماطاً متنوعة من الشباب الذي جمعه حب “الحرية”، ولكنها لا تعني بالحرية المعنى السياسي ككفالة الحق بالانتخاب وحرية التعبير عن الرأي، وإنما تنشغل حركة “أحرار” بمعنى الحرية بمعنى أوسع، وهي ما تعبر عنه: “التحرر من العبودية التي تجعل الأفراد تروسًا في ماكينة ضخمة تحقق أهداف ملاك هذا العالم، العبودية التي تفرضها الأنظمة العالمية، مقابل فتات العيش”.[8]
بدت حركة “أحرار” الخيار الأنسب والأكثر راديكالية للطلاب وخاصة الأكثر ميلاً للتيار الإسلامي، فاعتبرها البعض بديلًا لحركته عن حركة “طلاب ضد الانقلاب” التي تدير تحركاتها جماعة الإخوان المسلمين. وبدا من خلال المنشورات المتوفرة على موقع “أحرار” أنها تخاطب هذه الفئة التي لديها ميلاً للإخوان، فتوجه رسائلها لأبناء الإخوان المسلمين وتطلب منهم الانضمام إلى حراكهم.
ما يميز حركة “أحرار” ثلاثة أمور:
- هي الحركة الأكثر وضوحًا في معاداة الغرب والنظام العالمي، حيث تعتبره الحركة العدو وليس مجرد العسكر في مصر.
- رأت في القيم الإسلامية الحاكمة سبل التحرر من العبودية لهذا النظام العالمي وباب الخروج من عبادة العباد لعبادة رب العباد،
- اتخاذ الحرية القيمة العليا، فهي المطلب الرئيسي، وليس مجرد مطالب طلابية لتعديل اللائحة أو طرد الأمن أو الإفراج عن الطلاب المعتقلين أو رفع قرارات الفصل عن المفصولين.
وتعرف “أحرار” الحرية كالتالي:
” إن نظرتنا للحرية نابعة من قيم ديننا الذي كانت رسالة حامليه هي إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، رسالة جاءت بحرية لا سقف لها إلا السماء! فالسماء هي السقف الوحيد الذي تدل رؤيته على كونك حراً، وأما تلك الأسقف البشرية التي تبنى من الأرض/ فعلى طلاب الحرية أن يهدموها ولو بناها المستبدون باسم الدين!، إننا نأمل أن نستظل في يوم بقيم السماء الصافية بدلاً من كوننا قابعين تحت قيم المستبدين في الأرض! إن قيم السماء هي التي صاغت من قبل أمة حرة .. قرارها نابع من داخلها، لا يحكمها أحد من خارجها، أمة إذا قالت أسمعت، وإذا سكتت أرهبت، وإذا قررت أنفذت.”
وقد انضم بعض الطلاب الذين قمنا بمقابلتهم إلى “أحرار”، فهي بحسب تعبيرهم: لم تكن بميوعة جماعة الإخوان، وكان طرحها يتناسب مع شعورهم بالظلم والاضطهاد، والرغبة في الثورة على كل شيء، وكان لها منهجًا خاصًا، اعتمدت أحرار على استعادة كتابات “سيد قطب”، واتخذت من القصائد الجهادية وسيلة تحمسية، ورغم أن حركتها لم تكن معلنة وأعضاؤها لم يكونوا معروفين سوى بعض الأسماء مثل “عمرو ربيع”، إلا أنها جذبت الكثيرين إليها.
ولا يوجد حصر لأعداد الطلاب المنتمين إلى حركة “أحرار”، ولكن من خلال الصفحة الخاصة بهم على الفيسبوك، سمكننل ملاحظة أن عدد المتابعين لها يبلغ 152 ألف متابع. ولقد عكس ظهور أحرار في هذه المرحلة فشل الإخوان المسلمين في أن يكونوا حاضنة فكرية للطلاب، وكان هذا نتاج مسيرة طويلة من عدم ادراك الجماعة للأهمية الاستراتيجية للطلاب، والاقتصار على الاستفادة منهم في التعبئة والحشد فقط دون بناء قاعدة طلابية مستقلة. فمن أهم النقد الموجه للإخوان في تعاملهم مع الحركة الطلابية ما ذكره عبدالله النفيسي:
“أنَّه ليس ثَمَّ تركيز من الحركة الإسلاميَّة على تطوير الحركات الطلَّابيَّة لتصبح مضغة اجتماعيَّة، وإنَّ جُلَّ ما يريده التنظيم من الحركات الطلَّابيَّة هو استخدامهم في الحشد والتعبئة. ويرى أنَّ التنظيم يعزل عن جسده عناصرَه الشابَّة القلقة المتسائلة، ويستفرغ طاقتها في معارك وهميَّة ضدَّ خصوم وهميِّين من الطلبة. وهذا ما أكَّدته (أ.ع) أنَّه مع تزايد حدَّة الاستقطاب بعد انقلاب 3 يوليو/تموز استمر خطاب الدفع بتشويه الآخر “العلمانيّ”، رغم أنَّهم، من خلال الاحتكاك الحقيقيّ، لم يجدوا الآخر بهذه الوحشيَّة”.
هل “أحرار” حركة شعبوية؟
يرى “محمود هدهود” أن الحركة الشعبوية كثيرا ما يتحدث عنها خارج العالم العربي، ولكن في مجتمعاتنا العربية ثمة شعبويات متواجدة مرتبطة باليمين كذلك، ويمكن وصف حركة “أحرار” كنموذج لهذه الشعبويات، فهي تستند على تجميع مطالب مختلفة وتحقيقها في هدف واحد يشبه اليوتوبيا، فقامت “أحرار” مع “حازمون” ومؤيدي “حازم صلاح أبو إسماعيل” بطرح تصور وهو محاربة النظام العالمي الرأسمالي، وترى تلك الحركات أنه عند التصدي لهذا التهديد فسوف “نتحرر من الرأسمالية، وسيلقى ذلك صدى في نفوس اليسار المتطلع لتحقيق العدالة الاجتماعية، ونتخلص من التغريب وسيطرة الثقافة الأمريكية والنظام العالمي الرافض للوجود الإسلامي وبالتالي سيتلاقى هدفهم مع غاية الإسلاميين من تصورهم اليوتوبي الذي يتمثل في تحقيق الدولة والشريعة الإسلامية، وحينما نتخلص من النظام العالمي سنتخلص من الجماعات الوظيفية المحلية التي يعتمد عليها النظام المحلي ليرسخ أركانه في البلاد، كالعسكر على سبيل المثال، وبالتالي سيتحقق السبيل نحو الديمقراطية، ومن ثم سيحقق غاية الليبراليين في وجود مجال عام مفتوح.” ومن ثم ، جذبت “أحرار” الكثير من الفئات المتنقدة لضعف المقابل الأيديولوجي والتي تعاني اعتماد التيارات الكبرى على الإفراط في الخطابة والحماسة.
فحركة “أحرار” حركة شعبوية تعتمد على الجماهيرية، وتروج لدال غير معرف وغير مميز، دالٌ مبهم ولكنه جذاب للجماهير، تقوم بتحديد العدو الذي يتفق عليه الجميع، دون تحديد فعلي لكيفية تحقيق ذلك الدال المرجو أو الهدف الملتفة حوله الجماهير، فالدال فارغ مثل قولنا سنحقق الاشتراكية، فما هي الاشتراكية هل هي التعاونيات؟ هل هي اشتراكية العمال؟ وإلخ إلخ، فيتحدد العدو في حركة “أحرار” على أنه “النظام العالمي”، فتقوم على نفي كل ما هو موجود دون تحديد ما تريد إرساءه بالفعل، مثل تصور الإسلاميين لمتخيل الإسلام النقي بنفي الصور الموجود فهو ليس تجربة الترابي وليس داعش، وليس نموذج حماس فهو دال غير موجود، يتفق المنتمين له بالنفي فقط. وهكذا تنفي “أحرار” كل المساوئ، فهي ضد الرأسمالية وضد التغريب وتسعى ليوتوبيا واقعية، ومن سمات الشعبوية أنها غير تنظيمية تقوم بالتعبئة بالخطاب والحماس ضد العدو المشترك.
ويبدو ذلك جليا في المبادئ التي تعلنها “أحرار”، مثل استقلالية الحركة تمامًا عن جميع الهيئات والأحزاب والجماعات الدينية والسياسية، وعدم الانشغال بالمخالفين والرد عليهم ومحاولة إسقاطهم، وأنها تسع كل أنماط المجتمع الفكرية مع الاتفاق الكامل على الثوابت الدينية والمجتمعية وهو معنى كونها “حركة حد الأدنى” أي الحد الذي لا يخالف فيه محب للدين ومحب لمصلحة الوطن.
ووفقًا لـ “هدهود” فإنه باعتبار “أحرار” حركة شعبوية، فهي ترتكز على الزعيم، وقد كانت النماذج الأقرب لحازم صلاح أبو إسماعيل وحسام أبو البخاري هي المرشحة كزعماء لـ “أحرار”، وكأي حركة شعبوية لا يمكن أن تستمر دون أن يكون لها زعيم يجتمع حوله الأفراد حيث تفقد الحركة تماسكها بغياب الزعيم، فقد كان الأفق الوحيد لاستمرار “أحرار” في التأثير هو أن يكون لها زعيم يتواصل مع أتباعه بداخل مصر، ولكن أصبحت الحركة في ذات نفس قصيرة الأنفاس لغياب القائد وإلقاء القبض علي المرشحين للقيادة واعتقالهم، فحازم صلاح أبو إسماعيل كان مرشحًا ليكون مشروع الخميني في مصر ولكنه فشل، فيعد غياب القيادة – وفقًا لهدهود- من أهم أسباب فشل حركة “أحرار”، وعدم استمرارها في تحقيق تغيير فعلي في الحراك الطلابي. ويمكن النظر إلى صعود “أحرار” في هذا الحراك باعتباره رد فعل لفشل تنظيم الإخوان المسلمين في إدارة الحراك الطلابي أو الوضع السياسي في البلاد عامة.
وتثير حركة أحرار وتفاعل الطلاب معهم بعض الأسئلة وخاصة فيما تعلنه من مبادئ رافضة للنظام العالمي والإمبريالية الأمريكية وجعل الحرية قيمة مركزية تشبه حركة طلاب 68 بباريس؟ فقد خلخلت أحداث 68 كثير من المسلمات في المجتمع الفرنسي، ورغم اندلاعها في فترة رخاء نسبي في فرنسا، إلا أنها عبرت عن غضب وتمرد الطلاب عن كل السلطات وهيمنتها، سواء حكومة ديجول أو سلطة الآباء والأسرة أو الهيمنة الأمريكية وثقافتها التي غزت فرنسا، وحملت الحركة عنفوانًا لم يستطع المشاركين فيها وصفه، على حد تعبير أحدهم، “كل ما قيل لا يشبه في شيءٍ ما جرى الشعور به.”[9]
وقد كان اقتحام الحد الفاصل بين مباني الفتيات والشباب في الجامعة إحدى صور هذا التمرد، وكذلك تدمير واجهات المحلات الأمريكية رفضا للرأسمالية وتعمق جذورها في بنية المجتمع، وأوجدت حركة طلاب 68 أفكارًا فلسفية ومفكرين تأثروا بها وأنتجوا كتابات تعكس أن ما جرى في 68 كان حدثًا فارقًا.
أما لماذا نقارن أحرار بشكل خاص بحركة الطلاب بباريس عام 1968؛ فالسبب هو أنها الكيان الأعلى صوتًا في إعلان رفضها للإمبريالية والهيمنة الأمريكية، أما الكيانات الأخرى والأوسع في الحراك كحركة “طلاب ضد الانقلاب” فقد كانت أكثر انهماكًا في الوضع المحلي وأكثر انغماسا في الخلافات حول المطالب: هل نطالب بالشرعية وعودة مرسي أم نرفض العسكر وتوليهم الحكم؟ ووصل الأمر للاحتكاك بين الطلاب أنفسهم في تنظيم المظاهرات، هل نرفع شعار رابعة أم لا؟. فيعبر (م.س صيدلة جامعة الإسكندرية) أن بعض الطلاب رفضوا الانضمام إلى المظاهرات رغم احتجاجهم ورفضهم للانقلاب، وكان الرفض بسبب فشل التفاوض على شعار رابعة، فأحداث “رابعة العدوية” خرجت من كونها تابعة أو مؤشر للإخوان المسلمين إلى كونها مذبحة كبرى وانتهاك لحق البشر في الحياة وبشاعة فعل العسكر والظلم بأبشع صورة.
وبعكس ما كان في حراك الطلاب 68 أن الطلبة من أبناء البورجوازية يجاورون لأول مرة الفقرَ المدقع ويختبرون حياةَ الحرم الجامعي كمكان جديد يعكس الوجه الآخر لباريس[10] نلحظ في الحراك الطلابي ما بعد انقلاب يوليو 2013 أنه حراك للطبقة الوسطى بمختلف شرائحها من الأدنى إلى العليا، إلا أن هذا التمازج لم يحدث بين الطبقات الدنيا الفقيرة والطبقات البرجوازية العليا، كما أن الحراك الطلابي دار في داخل أسوار الجامعات أو حدودها، ففي أخر الأمر كان كل حراك يجري في حرم جامعته الخاصة، فلم يكن طلبة الأزهر – الأكثر تنوعا وتركيبا في تكوينهم لخلفيتهم الإقليمية – على سبيل المثال محتكون بطلبة الجامعات الخاصة كطلبة الجامعة الأمريكية مثلا، كما لم يحدث هذا الاحتكاك والتواصل المباشر لانتشار الحراك في جغرافيات شتى ارتبطت بالحرم الجامعي، ولم يكن هناك مكان واحد يتيح هذا التلاحم والتواصل كميدان التحرير مثلا خلال الحراك الثوري في ثورة 25 يناير أو أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء.
ويمكن رصد أوجه للتشابه بين حراك طلاب 68 بباريس والحراك الطلابي في مصر بعد 2013 في الغضب العارم والعفوية ورفض التنظيمات، فقد عبر رولان كاسترو Roland Castro، مدير صحيفة «قضية الشعب» إبان اندلاع الغضب الطلابي في 68 بعد أن هزمه الشارع على حد تعبيره: “فهمت أن التنظيمات لم يعد لها مكان، وكنت على وفاق مع الحركة العفوية.”[11]
وبالأخير، فإنه من العجلة أن نحكم على الحراك الطلابي بعد مضي أقل من ثلاث سنوات على مآلاته وهل أفرز إنتاجًا فكريًا أو مراجعة لأفكاره السابقة أو قيادات جديدة قد يصبح لها دور خلال العقود القادمة؟ ولذا فإن تتبع مآل الحراك الطلابي في 68 بفرنسا رغم اختلاف السياق الاجتماعي والسياسي والثقافي أمر مهم، ليس كمعيار مقارنة أو حكم بأفضلية، ولكن لفهم ماذا يستطيع الطلاب إحداثه إن امتلكهم الغضب…
سادسا: ليس بالعنف وحده يقمع الحراك الطلابي
سلطة الامتحانات والقوانين
أنا رحت القلعة وشفت ياسين
حوليه العسكر والزنازين
والشوم والبوم وكلاب الروم
يا خسارة يا أزهار البساتين
عيطي يا بهية على القوانين
هل أوقف العنف والقمع الحراك الطلابي؟ يمكن الإجابة بنعم على هذا السؤال، ولكن ثمة شرطين أساسين للتيقن، أولهما شرط الجدوى، ما جدوى التضحية والتكلفة العالية التي يدفعها الطلاب بلا أي أفق أو أمل في تغيير شيء؟، فلم يحدث شيئا – بحسب المقابلات – سوى أنهم يساقون إلى الموت، والثاني سؤال القانون، ما هي اللوائح والقوانين التي تحكم قمع الحراك الطلابي؟ وفي إجابة السؤال الأول، تقول (م.أ طب أسنان جامعة عين شمس):
“كل يوم نذهب بمظاهرات ضد الانقلاب إلى وزارة الدفاع ونعتقل، وخطاب الدعوة والشهادة والكلام أكبر من المردود الفعلي لما نفعله سوى غباء وتسليم نفسنا ونستخدم نفس التكنيك، أول مرة ناس تعتقل وتقتل، أخدت قرار أني لن أنزل مرة أخرى، لن نغير من الواقع شيئا، فتوقفت خلال أسبوعين من بدء الدراسة في سبتمبر 2015.”
وتضيف: “اعتقلت يومين خلال إحدى المظاهرات وما زال عندي جلسات محاكمة، بدأت اسخط جدا على الوضع ونحن نخسر أنفسنا بزيادة، نفسيا كنت مضطربة، طاقة غضب رهيبة بعدما خرجت ورأيت ظلم بين يوم الفض، ورأيت البنت المعتقلة معي التي تجلس على كرسي متحرك بتتأخد يوميا تتعذب وترجع من أمن الدولة، لتعترف وهي القعيدة أنها قتلت ظابط، وخرجت عندها أزمة أكبر في النخاع الشوكي ! رأيت الظلم الذي يُحكي عنه رأي العين، فقررت عدم السكوت وازع بطاقة الغضب وأريد تفريغها صوت الغضب أعلى من أي صوت حتى العقل وتوقفت عن مواصلة الغباوة.”
ويذكر أحد الطلاب بجامعة الإسكندرية أن كلية هندسة بجامعة الإسكندرية هي الأكثر اشتعالا بين الكليات، ولها صوت عالي في الحراك الطلابي بالإسكندرية، ولم تكن قوات الأمن تقتحم أسوار الجامعة أو تلقي القبض على الطلاب إلا خارج الجامعة، ولم تضربهم سوى من خارج الأسوار، وفي اللحظة التي اقتحمت بها القوات الأمنية كلية الهندسة، شعروا بأنهم انكسروا، توقف بعد ذلك الحراك الطلابي في الإسكندرية ولم يخرج الطلاب في مظاهرات مجددا، كان ذلك في عام 2014، لقد ظهرت الصورة بشكل جلي، أننا لن نحدث شيئا وأننا الثمن المدفوع بلا مقابل. ويعبر عن ذلك قائلًا”:
“اليوم الاخير اللي كسرت فيه الجامعة ومات الحراك الطلابي يوم اقتحام هندسة في أول الترم الدراسي في 2014 طلقات حية في الناس كلها، الطلقات لسه موجود آثرها في المباني من 2014 لحد دلوقتي، كان جحيم يومها في هندسة …”عمرو شريف” ده الوحيد اللي مات جوه الأسوار، بعد اليوم ده كل الناس ماتت، الطلبة بقالنا سنة نعمل مظاهرات كسرونا! عايشت فترة اقتحام هندسة …العمل الطلابي وقف، كان فيه اتفاق ضمني إن المسألة ماتت”
لم تكن جامعة الإسكندرية وحدها هي التي توقفت مع الصدام برد الفعل القوي والعنيف من الأمن ضد الطلاب، ولكن حدث ذلك في الجامعات المختلفة، ليصبح القرار بتوقف المظاهرات مع حركة طلاب ضد الانقلاب أشبه بقرار ذاتي تتخذه كل جامعة، وكما تفاوت العنف بين الجامعات، تفاوتت مواعيد وقف الحراك، لكن بشكل عام جرى ذلك في عام 2015 في توقيت متقارب، يمكن أن نستثني جامعة الأزهر لأن العنف بها كان منذ البداية أقوى، فلا نجذم أن التوقف فقط بسبب اشتداد موجات العنف.
ولكن يجدر الإشارة إلى أن ثمة آليات أخرى غير العنف قادرة على تعطيل الحراك الطلابي، مثل الامتحانات، اللوائح والقوانين التي تنظم وضع الطلاب بالجامعات. فيروى طالب ن.ح 24 سنة هندسة الأزهر عن واقعة الامتحانات قائلا:
“كنا في الامتحانات وكان في كلام عن اضراب، فقلت هروح دخلنا وامتحنا تمام، مدخلناش مش فارق، أهم حاجة نبقى سوا، ويوم الامتحان لقيت باشمهندس واقف قدام اللجنة، وبيقول: احنا يا جماعة مينفعش ندخل نمتحن على دم إخواتنا والمعتقلين مبيمتنحنوش عالأقل يخرجوهم يمتحنوا أو يدخلوا الامتحانات ليهم جوا، قلت تمام بس نبقى كلنا، وأنا بعمل ده من باب التضامن، هو كإخوان بيعمله من باب الواجب، وفعلا دخلنا اللجنة واستلمنا الورق، وواحد قام قال الكلمتين اللي اتقالوا قدام اللجنة بس بنبرة صوت عصبية شوية، فالمعيد قال له يقعد وبتاع، وأنا قمت اتكلمت بهدوء عن زمايلنا، وإن الامتحان مايستهلش والاضراب وكده، وقطعت الورقة وخرجت. كذا حد خرج ورايا بس زميلنا الأولاني فضل يتكلم في اللجنة ويزعق، والمعيد بيحاول يهديه بس هو مفهمش كده، والصوت علي والأمن اتدخل وهو جري منهم، والدكتور قال امسكوه، وكان في أمن كتير في الدور وبره الجامعة، وقعد يجري ويجروا وراه، وأنا بجري أشوف هيعملوا في ايه، ومحدش عارف أنا مين، وفي الآخر اتمسك واتكتف واتقدم للظابط، وساعتها أنا كمان صعب علي الولد وروحت مزعق: وأنت ماسكه كده ليه وأنت مش عارف هو مين وازاي تضربه وبتاع ده طالب وليه حقوق وكده.
وأنا بتكلم مع الظابط جه واحد كتفني زيه وبقيت معتقل، ففي واحد زميلي تاني بيصور من بعيد عشان يوثق وينزل عالفيس، فروحت منادي عليه وقلتله صورنا وعرف الناس أن الداخلية بلطجية، فجريوا عليه واتمسك معانا ودخلونا مكتب العميد وخد بطاقتنا وموبايلاتنا، وكنت فاكر آخرنا قلمين ونروح، بس لا كلبشونا وركبونا البوكس، وعدوا على علوم جابوا طالب رابع معانا، وروحنا القسم، كان المفترض نأخد التشريفة بس روحنا بدري، فدخلنا عالزنزانة عالطول، حكمة ربنا يعني عشان اللي اتشرفوا زعلوا أوي، ونزلنا إحنا الأربعة قضية واتحكم علينا بسنة، وبعدين الاستئناف خدنا براءة، وأهلي اتمرمطوا معايا في القسم وبعد الترحيل في السجن والزيارات وكده، واللي زعلني إني اكتشفت إن الطلبة الي جوه بيمتحنوا”
هذا المشهد التفصيلي الذي حكاه الطالب “ن.ح، جامعة الأزهر” عن الامتحانات، يثير عدة نقاط عند الحديث عن الحراك الطلابي على وجه العموم، وهو استخدام السلطة سواء إدارة الجامعة أو الأمن لوسائل وآليات أخرى لوقف الحراك غير العنف والمواجهة المباشرة بالاعتداء والاعتقال والضرب، وهي سلطة الامتحانات، وسلطة إعلانها موعد بدء الدراسة أو تعليقها وتأجيلها، وفقد يواجه الطلاب قوات الأمن ولكن يظل قرار وقف الامتحانات غير مطروح لكثير من هؤلاء الطلاب.
وتظهر هنا سلطة الأسرة وموقف الطالب اتجاهها، لأن الطلاب في النهاية يريدون الانتهاء من الدراسة وتحصيل جيد حتى يتخرجوا من الجامعة وينخرطوا في سوق العمل، نجد أن فكرة وقف الامتحانات وعدم إكمالها رغم اقتحام الأمن نفسه لأسوار الجامعة غير مفعله للطلاب، فبعضهم يمتحن على أصوات طلقات النار بخارج المدرج الذي يمتحن به، كما أكد أكثر من طالب/ة التقينا بهم بجامعة القاهرة.
كما كانت جامعة الأزهر فتيات/ بنين هي الأكثر جرأة على إعلان وقف أداء الامتحانات، وأحيانا يتطور الأمر فيها إلى ما حدث للطالب “ن.ح” وزملائه الذي رفضوا تأدية الامتحانات مع سقوط أصدقائهم قتلى أو غيابهم عنه لاعتقالهم، فقام الأمن باعتقالهم، وهم في آخر الأمر حالات لا يتعدوا العشرات، بينما المئات تواصل تأدية الامتحان في الآن نفسه.
يشير ذلك إلى أن ثمة آليات تصبح ناجعة عن غيرها في الحراك الطلابي، فالإضراب عن أداء الامتحانات أو تعليق الدراسة لن يؤثر في ضم طلاب لصفوف المحتجين، وثمة مراعاة لذلك في الجامعات سواء الخاصة أو الجامعات البعيدة عن الحرم الجامعي نفسه، كليات ذات نطاق محدود مثل كلية التربية النوعية لعين شمس أو كلية هندسة المطرية/ حلوان، فتنظيم المظاهرات مرتبط بمراعاة المحاضرات وتوقيت الامتحانات.
وذلك ليس بأمر جديد، فيذكر أحمد عبدالله في كتابه الطلبة والسياسة في مصر أن من أوجه الأخرى لسياسات القهر التي انتهجتها الحكومة، هو فرض الانضباط المباشر على الطلبة أنفسهم، وكان أول إجراء في هذا الصدد هو تطبيق نظام الامتحانات نصف السنة لشغل وقت الطلبة[12]
وبجانب فرض الامتحانات والنظام الإداري بالجامعة الذي يرسخ سلطة القهر في العملية التعليمية، ويعيد ترسيخ وإنتاج الاستبداد، تشير الوقائع في الحراك الطلابي إلى أمر آخر وهو قوة اللوائح والقوانين، فخلال الحراك الطلابي صدر قانون سُمى بقانون عدلي منصور فتح مدة الحبس الاحتياطي، مما أتاح حبس كثير من الطلاب بدون محاكمة لمدة سنة أو سنتين.[13]
فاللوائح الطلابية لها سلطة القانون في قمع الحراك الطلابي بصورة لا تقل عن العنف المباشر. وعادة، تلجأ الدولة إلى سن لوائح تعطل الحراك الطلابي وتفرض قيود عليه، حتى تحكم سيطرتها. فقد جاء تعديل لائحة 76 بعد تصاعد الحراك الطلابي أواخر الستينات بشكل ملحوظ، ومحاولات الطلاب المستمرة الخروج من عباءة الاتحاد الاشتراكي مع تهاوي الحلم الناصري بعد نكسة 1967.
وفي السبعينات جاءت لائحة 1976 وكان بها بعض المشاكل ولكنها كانت اللائحة الأكثر انفتاحا، وتركت مساحة أكبر للحراك الطلابي، فخرج العمل الطلابي خارج الاتحاد، واعتبر النشاط السياسي أحد الأنشطة المتاح للطلاب ممارساتها، ثم صدرت لائحة جديدة عام 1979 التي حدت من العمل السياسي، ولم تسمح بأي حراك طلابي بدون موافقة أمن الدولة.
وفي انتقاد أداء الإخوان على الساحة الطلابية يعلق الطالب (م.س صيدلة الإسكندرية) وهو أحد أعضاء الاتحاد الطلابي لعام 2012-2013 بجامعة الإسكندرية (ممثلا عن اللجنة الثقافية آنذاك) أن الهيكل التنظيمي لـ “اتحاد طلاب مصر” كان شديد المركزية والهرمية بحيث يصبح رأس الهرم هو من بيده مقاليد كل شيء، فهو المتحكم الوحيد في القرار، وكان رئيس الاتحاد آنذاك – بحسب رأيه- ممثلاً لمصالح ورؤى الإخوان وليس لمطالب الطلاب. كما لم يقم الإخوان المسلمون في فترة إمساكهم بزمام الحكم بتغيير اللائحة الطلابية التي بقيت منذ عهد الرئيس السادات، تلك اللائحة التي لا تتيح ترشيح أحد لا يرضى عنه الأمن وكان لابد من التخلص منها كونهم أول من عانى من ويلاتها ولكن لم يحدث ذلك وكانت تلك واحدة من مظاهر فشل الإخوان المسلمين، فلم تختلتف الائحة الطلابية في عهدهم عن العهود السابقة، ولم يتم تحقيق مطالب الطلابية الثورية التي من شأنها تغيير الحراك الطلابي وتأسيسه بصورة أكثر فعالية، خاصة وأن الطلاب قد بدأوا في تكوين وعي حقيقي بمطالبهم، وخرجت الكثير من المبادرات لتعديل اللائحة، منها محاولات شهدها (م. س. صيدلة الإسكندرية) بنفسه، فالمقترحات التي قُدمت ضمن مبادرة “اكتب لائحتك لاتحاد طلاب جامعة الإسكندرية” كانت جيدة، ولكن لم يتم استثمار هذه المقترحات، ولم يتم استغلال الحرية التي أُتيحت خلال هذه الفترة في إحداث تعديل جذري للقوانين واللوائح المنظمة للحركة الطلابية[14].
يتبع
في الجزء المقبل.
الهامش
[1] وثائقي سنوات الحرية والدم، مرجع سابق
[2]عمرو حمزاوي، حراك الطلاب في مصر… بين مقاومة السلطوية والتراجع بفعل القمع، القدس، متوفر على الرابط التالي: الرابط
[3]سنوات الحرية والدم “وثائقي” متوفر على الرابط التالي: الرابط
[4] تقرير العالم المجهول للعمليات النوعية، موقع مدى مصر، متوفر على الرابط التالي، الرابط
[5] المرجع لسابق
[6] المرجع السابق
[8] الروابط التالية هي المدونة العريفية المتوفرة على موقع احرار، تاريخ الدخول 5-1-2019
١- شرعية المنهج تحكم الرابط
٢- الشرعية لمن؟ الرابط
٣- منهج أحرار في الأحداث الجارية – ميدان سفنكس الرابط
٤- أحرار تعلق قبل ٣٠ يونيو على موضوع الشرعية الرابط
ثانيا: فكرة حركة أحرار بالكامل ولماذا أنشأناها:-
١- توصيف مرئي للحركة:- الرابط
٢- كل ما تريد معرفته حول حركة أحرار وفكرها وومبادئها مكتوبا:- الرابط
٤- نظرة الحركة “للشريعة الإسلامية” وما معنى مطالبتها بجعلها فوق دستورية:- الرابط
ثالثا: فكرة التيار الثالث وكيف نكمل الثورة:- الرابط
[10] 68 للبمتدئين
[11] المرجع السابق
[12] ص 223 أحمد عبدالله، مرجع سابق،
[13] علامات استفهام حول تعديلات “لائحة الاتحادات الطلابية، الرابط
[14] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.