دراسات

العلاقات المصرية التركية: القضايا والإشكاليات

العلاقات المصرية التركية: القضايا والإشكاليات

تمر العلاقات المصرية التركية بأزمة شديدة التعقيد، يعود أساسها لموقف تركيا من النظام المصري بعد 3 يوليو 2013، والذي رأت فيه نظاماً غير شرعي. ومنذ ذلك الحين وتعاونهما السياسي يشهد قطيعة مطلقة، كما تم تخفيض التمثيل الدبلوماسي منذ نوفمبر 2013، من مستوى السفراء إلى مستوى القائم بالأعمال، في حين ظلت علاقاتهما الاقتصادية البينية عند مستوى جيد نسبياً، بالأخص ما يتعلق بحجم التبادل التجاري.

ويمر الإقليم حاليا بعدة تطورات، دفعت قضية العلاقات المصرية-التركية وإمكانية تطبيعها للواجهة، على أساس التفاهم في ملفات إقليمية محددة. فقد ظهرت مؤخراً مؤشرات تشير لرغبة الجانب التركي في عودة العلاقات مع مصر، من بوابة التعاون في ملف شرق المتوسط. وقد أعلنت تركيا عن هذه الرغبة في محطتين زمنيتين، الأولى في يناير 2020، من خلال ياسين أقطاي مستشار الرئيس التركي[1]. والثانية في يونيو 2020، من خلال مولود تشاووش أوغلو وزير الخارجية التركي[2].

وتمثل أهمية هذه القضية في كون طرفي العلاقة يمثلان قوتين إقليميتين مركزيتين في منطقة الشرق الأوسط، بمقوماتهما وإمكانياتهما المادية سياسيا واقتصاديا وعسكريا وجغرافيا وبشريا، والمعنوية من خلال عاملي الموروث التاريخي ورمزية ومكانة كل منهما الإقليمية. وبالتالي فإن أي تحريك إيجابي أو سلبي في ملف العلاقات بين البلدين من شأنه أن يرتب تداعيات تتجاوز طرفي العلاقة، لكامل إقليم الشرق الأوسط بتفاعلاته وأزماته وتوزان قواه.

وتناقش هذه الورقة عدد من المعوقات التي يمكن أن تحول دون عودة العلاقات بين مصر وتركيا على المدى القصير. وفي المقابل تطرح الورقة عدداً من المقترحات، تنقسم لنوعين من الملفات التي يمكن أن تمثل أساس لعلاقات تعاونية بين البلدين، إذا ما قررا عودة العلاقات مستقبلاً.

أولاً: معوقات عودة العلاقات:

هناك عدد من العوامل التي تعوق عودة العلاقات المصرية التركية، أو حتى نسج تفاهمات سياسية في ملفات معينة على المدى القصير. ويمكن إجمالها في محورين رئيسيين: التوازنات الإقليمية، والتوازنات الدولية.

(1) التوازنات الإقليمية

ويمكن تناوله من خلال بعدين رئيسيين:

الأول: يتعلق بطبيعة الدولتين بشكل خاص:

حيث تمثل مصر وتركيا قوتين إقليميتين مركزيتين في منطقة الشرق الأوسط، وإن كان الدور الإقليمي لتركيا أكثر فاعلية وتمدداً في الإقليم. وبالتالي تُرتب تلك الحقيقة محددا مركزيا، وهي أن العلاقات المصرية التركية لن تصل لمستوى التحالف الإستراتيجي، بل ستظل علاقاتهما البينية ودرجة تعاونهما تتراوح ما بين مد وجزر، ودائما ما سيشوبها درجة عالية من التنافس والتدافع. فقيام تلك التحالفات غالباً ما تفشل إذا تمت بين قوتين إقليميتين متعادلتين من حيث القوة؛ نتيجةً لتنافسهما حول ممارسة النفوذ، والقيام بدور القيادة في إطار التحالف ذاته من ناحية، وفي إطار الإقليم ككل من ناحية أخرى.

لكن إذا كان التحالف الاستراتيجي بين قوتين غير متعادلتين من حيث القوة، فإن فرص النجاح تتزايد، وهو ما يفسر نجاح تركيا وقطر في تشكيل تحالف استراتيجي حقيقي. وانعكاس هذا المتغير على العلاقات المصرية التركية لا يعني أن يكون هناك قطيعة مطلقة في علاقاتهما البينية، بل يمكن معه استمرار التفاهم والتعاون، لكنه سيظل محجَّم ومحدَّد عند مستوى معين، لطبيعة القوتين وأدوارهما الإقليمية التنافسية.

وفي هذا السياق، تبرز رؤيتان تركيتان في التعامل مع مصر، الأولى ترى في ضعفها ضرورة؛ لكونها قوة إقليمية منافسة، وقوة مصر تجعل من قدرة تركيا على التحرك في الإقليم أمراً ليس يسيراً. الثانية ترى في قوة مصر ضرورة، ولو نسبياً؛ لأن ضعفها يعطي الفرصة لقوى أخرى، في الظهور كأطراف إقليمية فاعلة. وهذه الأطراف قد تعاني من التبعية الخارجية فضلاً عن عدم رشادة سياساتها الخارجية وأدوارها الإقليمية، وبالتالي تكون قدرة تركيا على التعاطي معها غير يسيرة.

وهاتان الرؤيتان يمكن تلمس تأثيراتهما في تفاعلات الإقليم الحالية، سواء التمدد التركي الكبير في الإقليم، في ظل ضعف الدور الإقليمي المصري من ناحية. وتصاعد سياسة المحاور واشتداد أزمات الإقليم، والتي تقف في أغلبها تركيا في محور ومصر في محور آخر، على طرفي نقيض.

الثاني: يتعلق بالنظام الإقليمي الشرق أوسطي:

حيث تشهد منطقة الشرق الأوسط صراعا مركباً بين ثلاثة محاور إقليمية مركزية، المحور الإيراني والمحور التركي القطري والمحور السعودي الإماراتي المصري. وفيما تعطي السعودية الأولوية للمواجهة مع إيران، فإن الإمارات ومصر تركزان على المواجهة مع تركيا، في ظل توافق أولوياتهما حول المواجهة مع حركات الإسلام السياسي وداعميهم في الإقليم، مع دعم سعودي للإمارات ومصر في هذه المواجهة.

وتعد هذه التوازنات والتحالفات المعوق الرئيسي أمام عودة العلاقات بين مصر وتركيا، فقد تعمقت سياسة المحاور الإقليمية أفقيا ورأسياً على وقع عدة أزمات، كالأزمة الخليجية، ومقتل الصحافي جمال خاشقجي، والأزمة السورية، وصراع شرق المتوسط، والقرن الأفريقي، وأخيراً الأزمة الليبية.

وتمحورت حول محورين إقليميين، الأول كتلته الصلبة تتكون من الإمارات، السعودية، مصر وقبرص واليونان. والثاني يتمثل في تركيا وقطر وحكومة الوفاق الليبية. وفي إطار هذه الملفات يعود للأزمة الخليجية والليبية النصيب الأكبر في توتر العلاقات المصرية التركية وديمومته. فبالنسبة للأزمة الليبية، فإنها تعد الملف الوحيد الذي اشتبك فيه الدور التركي مع منطقة تدخل ضمن نطاق العمق الاستراتيجي المباشر لمصر، خاصة مع ما يدور حول احتمالية نشوب حرب بين الطرفين، انطلاقاً من الساحة الليبية.

أما الأزمة الخليجية، فبعد أن فشلت جهود الوساطة التي قامت بها تركيا لحل الأزمة، باتت طرفاً فيها، من خلال دعمها لقطر في مواجهة السعودية والإمارات ومصر. مما دفعها لتفعيل اتفاقية عسكرية، كانت قد وقعتها مع قطر عام 2015، وبموجبها أنشأت قاعدتها العسكرية الأولى في منطقة الخليج، ما دفع خصوم قطر للمطالبة بخروج القوات التركية من قطر، كأحد شروط حل الأزمة[3]. وهو ما ترفضه الأخيرة بشكل قطعي؛ ومرد ذلك هو أن الوجود التركي يمثل عامل موازن للقوة، ورادع في المستقبل في حال تكررت هذه الأزمة.

لقد كانت آخر مساعي حل الأزمة في يونيو 2020، برعاية كويتية، وبدعم أمريكي. لكن قطر أعلنت في 26 يونيو، عن فشل هذه المساعي في حل الأزمة[4]. ويبدو أنها مستمرة على المدى القصير والمتوسط. إن العلاقات بين القاهرة وأنقرة كان يمكن لها أن تسلك مسارا أكثر إيجابية لو لم تحدث الأزمة الخليجية في يونيو 2017، التي عمّقت من سياسة المحاور الإقليمية في كامل الإقليم وملفاته، وعمّقت التوتر في العلاقات المصرية التركية، وأكسبته طابع أكثر ديمومة. ومن ثَم فإن استمرار الأزمة يمثل عائقا كبيرا أمام عودة التفاهمات والعلاقات بين مصر وتركيا، لتداخل وترابط الملفات الإقليمية ببعضها البعض.

وتضطلع الإمارات بالدور الأكبر والقيادة في المواجهة مع تركيا. في هذا السياق يمكن قراءة ما كشفت عنه أنقرة، بأن أبو ظبي تقف في وجه أي تعاون مصري تركي في شرق المتوسط[5]. فالإمارات من ناحية تستغل انشغال مصر بأزمات الداخل، فضلا عن سوريا والعراق اللتين دمرتهما حروب الداخل، وانشغال السعودية بالصراع مع إيران بالقيام بدور إقليمي فاعل، متمحور حول الصراع الإقليمي مع تركيا.

ومن ناحية أخرى تستغل حقيقة أنها كانت الداعم الأكبر للنظام المصري بعد 3 يوليو 2013، في ضمان الدعم المصري لها في هذا الصراع الذي يتضمن معارك صفرية في كل الإقليم. فقد بلغ إجمالي المساعدات التي قدمتها الإمارات لمصر، كما أعلن عنها حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد، منذ يوليو 2013 وحتى مارس 2015 فقط، 14 مليار دولار[6]. وفي نوفمبر 2019، ​أعلن محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي، عن إطلاق منصة استثمارية استراتيجية مشتركة بين الإمارات ومصر بقيمة 20 مليار دولار[7].

وتبلغ حجم الاستثمارات الإماراتية بمصر نحو 7.2 مليار دولار، عبر 1,114 شركة، جعلها المستثمر الأكبر في مصر. ويبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو 5.3 مليار دولار. كما دشنت شركة موانئ دبي العالمية اتفاقا ضخماً مع الهيئة الاقتصادية لتنمية محور قناة السويس، يقضي بتخصيص 95 كلم مربعا لها، من إجمالي مساحة المنطقة الاقتصادية البالغة 460 كلم مربعا، وبموجب الاتفاق تتصدر الإمارات المركز الأول في الاستثمار في تلك المنطقة، بعد أن استحوذت على 20.6 بالمائة من مساحة المحور بهدف تنميته[8]. أخيراً في يونيو 2020، أشارت تقارير إلى تطلع مصر للحصول على قرض بأكثر من مليار دولار من بنوك إماراتية[9].

وبجانب الأبعاد الاقتصادية، فإن حجم التفاهمات المصرية الإماراتية في الإقليم كبيرة للغاية، خاصة وحدة الهدف، حيث المواجهة مع حركات الإسلام السياسي، بالأخص جماعة الإخوان المسلمين. لكن كما في حالة المواجهة مع تركيا، فإن الإمارات أيضا تضطلع بالدور الأكبر والأكثر حدة في هذه المواجهة إقليمياً. كما يتشاركان في عدم إعطائهما الخطر الإيراني أولوية كمهدد لأمنهما القومي. والذي يقود للقول إن قوة العلاقات التي تجمع مصر والإمارات تفوق تلك التي تجمع مصر والسعودية، وإن تحريك العلاقات المصرية التركية نحو مسار إيجابي، يمكن أن يأتي من بوابة فك ارتباط نسبي، وليس شرطأ أن يكون مطلقاً، في التحالف المصري الإماراتي؛ وهذا أمر صعب لكنه ليس مستحيلاً.

وبرغم منطقية التنافس بين مصر وتركيا في بعض الملفات، خاصةً بالنظر لوزنهما وحجمهما الإقليميين، إلا أن استراتيجية الصراع تلك، التي تستند على معارك صفرية ممتدة لكل الإقليم، لا تتلاءم مع مصالح مصر ومكانتها ووزنها الإقليمي. لذلك يجب على مصر أن تتعامل مع هذا المف بقدر أكبر من المرونة، بحيت تتنافس مع تركيا حينما يفرض الواقع ذلك، وتتتعاون معها حينما تملي المصالح ذلك.

(2) التوازنات الدولية

ويمكن تناوله من خلال بعدين رئيسيين:

الأول: استراتيجي: حيث يرى “أحمد داوود أوغلو” في كتابه “العمق الاستراتيجي لتركيا” أن العاملين الجغرافي والتاريخي عنصران أساسيان في تحقيق التوازن لجيوسياسية الشرق الأوسط، ويتمثل هذا التوازن في المثلث الاستراتيجي الحساس الذي يقع في أطرافه كل من مصر وتركيا وإيران. ويقوم التوازن على أن تجاهل القوى الكبرى لاثنين من هذه الدول الثلاث في آن واحد يشكل عبئا تنوء بحمله الكواهل، وذلك أن تحالف دولتين من الدول الثلاث خارج إطار المنظومة يؤسس مصدر تهديد خطير. ولذلك يلاحظ أنه كلما تم استبعاد إحدى الدول من المنظومة كان يتم اجتذاب الدولتين الأخريين إليها. وعلى هذا الأساس قام التقارب التركي الإيراني ضمن حلف بغداد ضد مصر الناصرية، التي شكلت تهديدا لمصالح قوى النظام الدولي حتى بداية السبعينات، وفي أعقاب الثورة الإيرانية بدأ التقارب بين مصر وتركيا[10].

ومن ثم، في ظل اعتبار إيران الخصم الإقليمي الأكبر للولايات المتحدة، فإن عودة العلاقات المصرية التركية ضرورة أمريكية، لكي تشكل معهما تحالفا موجها ضد إيران، كما حدث بعد الثورة الإسلامية 1979. لكن في ظل الظرف الإقليمي الحالي، فإن هذه الخطوة لا تمثل مصلحة أمريكية؛ فتركيا لا تؤيد المواجهة مع إيران، فضلاً عن العلاقات الاقتصادية الجيدة والتفاهمات السياسية التي تجمع الطرفين. في حين أن علاقة تركيا مع دول أوروبا والولايات المتحدة تشهد أزمة عميقة ومركبة على وقع العديد من الملفات. وفي هذا السياق، هناك محدد استراتيجي في التعاطي الأمريكي مع تركيا، يمكن تلمسه في التباين بين سياسة المؤسسات الأمريكية التقليدية كالبنتاغون والكونجرس والاستخبارات من ناحية، وسياسة البيت الأبيض بقيادة دونالد ترامب من ناحية أخرى تجاه تركيا، حيث يلاحظ أن الطرف الأخير أقرب للتفاهم والتنسيق مع تركيا.

تفسير ذلك يعود لكون ترامب رجل أعمال لا يدرك الحقائق الجيواستراتيجية في العلاقات الدولية. أما المؤسسات التقليدية الراسخة فتدرك تلك الأبعاد وما يرتبط بها من متغيرات حيوية، كالقوى الإقليمية والدولية الصاعدة، وتلك القوى المحافظة، أو المراجعة التعديلية تلك التي ترغب في إعادة تشكيل النظام الدولي. وتركيا في الوقت الحالي تنتمي للقوى التعديلية، خاصةً بعد أن أصبح لدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان القدرة على الإمساك بمقاليد الأمور في الداخل، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة يوليو 2016، وتعديل الدستور إبريل 2018. حيث لجأ لتبني سياسة خارجية أكثر استقلالية وفاعلية بعيداً عن الالتزامات الأمريكية، والتي يراها السبيل الوحيد لفرض تركيا نفسها ليس كقوة إقليمية فقط، بل يمكن لها على المدى البعيد أن تكون قوة دولية. وبينما لا يدرك ترامب هذه المتغيرات أو لا يقتنع بها، فإن المؤسسات التقليدية تضعها في صميم اهتمامها وتحركاتها مع تركيا.

أما مصر ففي الوقت الذي يربطها تحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة، فإنها تحاول تنويع روابطها الخارجية، مع روسيا والصين. وهو ما يمكن تلمسه، في صفقات السلاح بين مصر وروسيا، للدرجة التي دفعت وزير الخارجية الأمريكي لتهديد النظام المصري أنه في حال شراء طائرات السوخوي الروسية، فستفرض بلاده عليها عقوبات شديدة[11]. هذا بجانب عدم إدراج مصر لإيران كمهدد أولي لأمنها القومي.

بالتالي، في ظل عدم قدرة الولايات المتحدة على السيطرة والتحكم الكامل بالقوى الإقليمية المركزية في المنطقة تركيا وإيران ومصر، وعدم قدرتها على جمع مصر وتركيا معا في مواجهة إيران، فإن السعي نحو فك الارتباط والتفرقة بينهم يصبح هدفاً أمريكياً أصيلاً. ومن ثم فإن تطبيع العلاقات التركية المصرية بشكل عام، ودخولها في شكل تحالفي بشكل خاص، يمثل تهديدا للتوازنات الإقليمية والدولية من هذا المنظور. كما قد تخشى الولايات المتحدة، إن حدث مثل هذا التقارب، من أن تمثل تركيا في هذه الحالة حلقة وصل لتطبيع العلاقات المصرية الإيرانية. وهو إن تم، قد يؤدي في المحصلة لعلاقات جيدة تجمع القوى الإقليمية الثلاث. وبينما رأى داوود أوغلو بأن تحالف دولتين فقط منهم خارج إطار المنظومة، أي خارج إطار السيطرة الغربية، يمثل خطرا على المنظومة الدولية، فكيف إذا كان التحالف ثلاثيا!

الثاني: تكتيكي: وهو أن الولايات المتحدة داعم رئيسي لتوجهات اليونان وقبرص وإسرائيل في شرق المتوسط في مواجهة تركيا. وبالتالي من شأن عودة التفاهمات التركية المصرية من بوابة شرق المتوسط، أن يمثل تهديدا لهذا التحالف. أخيراً تعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة في نوفمبر 2020، محددا رئيسيا في هذا الصدد، إذ أن استمرار رئاسة دونالد ترامب للولايات المتحدة قد تكون أحد العوامل الدافعة نحو إصلاح العلاقات المصرية التركية، لأن هناك علاقة جيدة تربطه بكل من السيسي وأردوغان؛ ومن ثم فقد يقوم بدور الوساطة بينهما مستقبلاً. أما إذا خلف ترامب مرشح من الحزب الديموقراطي محسوب على المؤسسات التقليدية، فإن هذه الفرصة قد تتضاءل بشكل كبير.

ثانياً: ملفات العلاقات التركية ـ المصرية:

في هذا الإطار يبرز نوعان من الملفات، الأول ملفات تُمثل محفزا للطرفين لإعادة علاقاتهما وتفاهماتهما السياسية، لما تتضمنه من مصالح مشتركة بين الطرفين، كملف شرق المتوسط، والملف الاقتصادي. الثاني ملفات تحمل تناقضات بين الطرفين، بل تعد أحد أسباب التوتر في علاقاتهما البينية، كالملف الليبي والسوداني. لكنها من منظور مغاير يُمكن أن تمثل جامعا مشتركا للبلدين في إطار تعاوني، والبناء عليه، إذا ما قرر الطرفان تبني مسار إيجابي مغاير في علاقاتهما البينية مستقبلاً.

(1) ملف الاقتصاد:

تُعد العلاقات الاقتصادية بين مصر وتركيا الأقل تأثراً جراء أزمتهما البينية، فقد احتلت تركيا المرتبة الثالثة في قائمة الدول الأكثر استيرادا من مصر للربع الأول فقط من عام 2020، بإجمالي 442 مليون دولار. بينما جاءت في المرتبة الخامسة كأكثر الدول تصديرا لمصر، بقيمة إجمالية تبلغ 808 مليون دولار[12]. لكن في المقابل، وبالنظر لموقع الدولتين الجغرافي ووزنهما الإقليمي وإمكانياتهما، فإن حجم علاقاتهما الاقتصادية، بالأخص حجم التبادلات التجارية والاستثمارات، يعد ضعيفاً. أي أن هناك انعكاس نسبي للتوتر بين البلدين على علاقاتهما الاقتصادية، ومن شأن إصلاح هذا التوتر، أن ينعكس إيجابياً على مستوى تعاونهما الاقتصادي.

وهناك حاجة ملحة من قبل الطرفين لتعظيم تعاونهما الاقتصادي. فالاقتصاد العالمي يمر في الوقت الحالي بأزمة كبرى على وقع تفشي فيروس كورونا. خاصة مع توقع صندوق النقد الدولي بحدوث انكماش في النمو العالمي بنسبة 3%، ولوح بأسوأ ركود يعرفه العالم منذ عام 1930. كما توقع تراجع معظم اقتصادات الدول بنسبة 5 في المائة[13].

كما يُعد البعد الاقتصادي من أكبر نقاط الضعف لدى مصر وتركيا كقوتين إقليميتين، بنسب مختلفة. وبالنظر لحجم التعداد السكاني في مصر وتركيا، 100 مليون و80 مليون تقريباً على الترتيب، فإن هذا المعطى يجعل كلا البلدين سوقاً واعدة لمنتجات الأخرى. كما تمتلك الدولتان إمكانيات مادية وبنية تحتية اقتصادية وصناعية قوية، تمكنهما من تحقيق التكامل الاقتصادي والصناعي في العديد من القطاعات. ويمثل موقعهما الجغرافي، من خلال امتلاكهما حدوداً بحرية مشتركة، عاملا مساعدا في هذا الجانب.

بجانب إمكانية زيادة حجم التبادل التجاري لمستويات تتناسب وحجم وموقع الدولتين، وكذلك تعظيم حجم استثماراتهما المتبادلة.

ويمكن أن تمثل السوق المشتركة نموذجاً مقترحاً للتطبيق بين البلدين، بتوقيع اتفاقية الحريات الأربع، حرية انتقال رأس المال والعمال والسلع والخدمات. فضلا عن تقاسم العمل الصناعي والسلعي بين الدولتين، وبنيتهما الصناعية تسمح بذلك، ويمكن تطبيقها في قطاعات كبرى كصناعة السيارات والصناعات الدفاعية.

على سبيل المثال، تستثمر تركيا منذ عام 2001 في برنامج دفاعي محلي بهدف الوصول لاكتفاء ذاتي في مجال الصناعات العسكرية، لكن ينقصها عامل مهم لاكتمالها هو تقنية صناعة المحركات، سواء محركات الدبابات أو الطائرات.

فكل محاولات التعاون مع الدول المتقدمة في هذا المجال والتي تمتلك التقنية باءت بالفشل؛ بسبب التخوف من تركيا. ومصر لديها برنامج تعاون مع الولايات المتحدة لتصنيع دبابات الجيل الثالث من أبرامز منذ عام 1988، فقد حصلت مصر في الثمانينيات على استثناء نادر لنقل التقنيات الحساسة اللازمة لصناعة الدبابات الأمريكية في مصنع “200 الحربي”.

وبالتالي يمكنها تقديم الحل لتركيا من خلال تعاون، ينقل أسرار المحركات الأمريكية لها، في مقابل حصول مصر، مثلاً، على أسرار طائرات الدرونز التركية[14]. وبينما قد تمنع الولايات المتحدة مصر من التعاون مع تركيا في هذا الجانب، فيمكن حينها التغلب على ذلك، بلوبي مصري تركي ضاغط في واشنطن. بالأخص مع وجود شخص كترامب، والذي يمكنه الرضوخ لهكذا ضغط، بخلاف المؤسسات الأخرى. ويمكن لتركيا من خلال تعرفها على التقنية وأسرارها، أن تعيد تطويرها، وتطور محركات “تيربو جت” للدبابات والطائرات، خاصة مع ما تملكه من تطور تكنولوجي.

(2) ملف شرق المتوسط

لقد تعاظمت الأهمية الجيواقتصادية لمنطقة شرق البحر المتوسط مع اكتشافات المخزونات الضخمة من النفط والغاز الطبيعي، حيث تبلغ الاحتياطات نحو 1,7 مليار برميل نفط، و122 ترليون قدم مكعب من الغاز[15]. وتشكل قضية الخلاف حول ترسيم الحدود البحرية والمياه الاقتصادية لهذا الإقليم البحري مهددا للأمن الإقليمي في المنطقة. وتمثل أهم حالات هذه الخلافات تلك التي بين تركيا وقبرص، وبين الأخيرة وقبرص التركية[16]، وبين تركيا واليونان، وإسرائيل ولبنان. فيما تقتصر الاتفاقيات الموقعة حول ترسيم الحدود البحرية وتحديد المناطق الاقتصادية الخالصة في شرق المتوسط على تلك التي تجمع قبرص مع كل من، مصر عام 2003، ولبنان عام 2007، وإسرائيل عام 2010[17].

وفي السنوات الأخيرة، تم نسج تحالف ثلاثي يجمع مصر واليونان وقبرص حول المصالح المشتركة في مجال الاقتصاد والأمن. وقد تعزز ذلك بالتوتر بين تركيا والدول الثلاث، كما أسس هذا التحالف أمانة دائمة مقرها في نيقوسيا. ومنذ عام 2015، اجتمع قادة الدول الثلاث في ستة اجتماعات قمة مخصصة للتنسيق في العديد من القضايا، بما في ذلك الحدود الاقتصادية في البحر المتوسط​​، وخطوط أنابيب الغاز من قبرص إلى مصانع تسييل الغاز في مصر، وربط الشبكات الكهربائية، وتنمية السياحة، ومكافحة الهجرة غير الشرعية، ومناورات التدريب المشتركة للبحرية والقوات الجوية.

وهذا التحالف الثلاثي يساعد مصر على تعزيز مصالحها تجاه الاتحاد الأوروبي، كما يساعد اليونان وقبرص على تعزيز مصالحهما في أفريقيا. بالإضافة إلى ذلك، تعتبره الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضامناً لتعزيز مصالح شركات الغاز الأمريكية والأوروبية في شرق المتوسط، وتقليل الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي[18].

وقد دخلت هذه المنطقة في مرحلة أكثر تعقيداً وتصعيداً بين أطرافها نتيجة عدد من التطورات. أهمها تشكيل منتدى غاز شرق المتوسط في يناير 2019، بدعوة من مصر، ويقع مقره بالقاهرة، يضم كل من (مصر، قبرص، إيطاليا، اليونان، إسرائيل، الأردن وفلسطين)[19]. مع استبعاد كل من تركيا وليبيا ولبنان وسوريا. وهو ما ردت عليه تركيا، من خلال الإعلان عن إجراء أكبر تدريبات بحرية منذ 20 عامًا في بحر إيجه وشرق البحر الأبيض المتوسط ​​والبحر الأسود في مارس 2019[20].

وفي مواجهة هذه التحركات، قامت تركيا بعقد اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الليبية في نوفمبر، مدفوعةً برغبتها في كسر العزلة والطوق البحري المفروض عليها في شرق المتوسط، وإعادة التوازن الجيوسياسي في المنطقة 2019[21].

وقد استهدفت تركيا من خلال هذه الاتفاقية[22]: إيجاد حليف لها في هذه المنطقة، وخلط الأوراق من جديد، من خلال عرقلتها لمشاريع أنابيب الغاز في شرق المتوسط، والتي باتت تشترط موافقة تركية وليبية عليها. فقد رسم الاتفاق محوراً بحرياً افتراضياً بين دالامان الواقعة على الساحل الجنوبي الغربي لتركيا، ودرنة الواقعة على الساحل الشمالي الشرقي لليبيا، وبالتالي يتيح له هذا الخط اعتراض التكتل البحري الناشئ بين قبرص ومصر واليونان وإسرائيل[23].

وفي 4 يناير 2020، وقَّعت اليونان وقبرص وإسرائيل في العاصمة اليونانية، على اتفاق مبدئي لمد خط أنابيب غاز من الحقول الإسرائيلية شرق المتوسط، مرورًا بقبرص وكريت، وصولًا إلى الأرض اليونانية الرئيسة، ومنها إلى إيطاليا، باسم “إيست-ميد”[24]. ردت عليه تركيا، بالإعلان في 17 من نفس الشهر، عن إرسال سفينة الاستكشاف يافوز، إلى منطقة قبرص التركية البحرية الاقتصادية، للبحث عن الغاز والنفط، طبقًا لرخصة منحتها حكومة قبرص التركية في 2011 لشركة النفط التركية[25].

وجاءت تحركات اليونان لترسيم حدودها البحرية وتحديد المناطق الاقتصادية الخالصة مع دول شرق المتوسط وفق تصورها، المبني على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار1982، والتي لم توقع تركيا عليها؛ لإقرار قانون البحار بأحقية الجزر في امتلاك مناطق اقتصادية خالصة (بغض النظر عن وضعها الجغرافي أو مساحتها)، وهذا يعني بالنسبة لتركيا أن العديد من الجزر الملاصقة للسواحل التركية، وواقعة في نفس الوقت تحت السيادة اليونانية، سوف تؤدي إلى إهدار مساحات كبيرة من المناطق الاقتصادية الخالصة أمام السواحل التركية لصالح اليونان[26].

ولتنفيذ تلك الاستراتيجية، بدأت اليونان بإيطاليا، في 9 يونيو 2020، حيث وقَّعتا اتفاقاً لترسيم الحدود البحرية، ومناطقهما الاقتصادية الخالصة، استناداً لقانون البحار[27]. ثم مع مصر، في 18 يونيو[28]، وآخرها ليبيا في الأول من يوليو من نفس العام، حيث اتفق وزير الخارجية اليوناني نيكوس دندياس، مع رئيس مجلس النواب الليبي بطبرق المستشار عقيلة صالح، على تشكيل لجنة لترسيم الحدود البحرية بين البلدين[29]. وبالتالي في إطار هذه الجولة، نجحت اليونان في تنفيذ أولى خطواتها التكتيكية، بترسيم حدودها مع إيطاليا، في حين لم يتم ترسيم حدودها مع مصر وليبيا إلى الآن.

خريطة (1) توضح إشكالية الخلافات الحدودية في شرق المتوسط

العلاقات المصرية التركية القضايا والإشكاليات-1

المصدر: عربي بوست [26]

في سياق هذه التطورات يجب الإشارة لعدد من المعطيات:

(أ) تضيف اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التركية مع حكومة الوفاق الليبية لحدود مصر البحرية الاقتصادية منطقة تقدر مساحتها بـ 35 ألف كيلومتر مربع، بخلاف ما يفترضه التصور اليوناني-القبرصي[30]. الذي ينتزع تلك المنطقة لصالح اليونان. وتُمثل تلك المنطقة في الخريطة رقم (1) باللون البرتقالي. ولقد توصلت مصر في فبراير 2020، لاتفاقات مبدئية مع كبرى شركات النفط والغاز العالمية، للتنقيب والحفر في المياه العميقة أمام السواحل الغربية لمصر والملاصقة للمنطقة البرتقالية، وهو ما يمكن أن ينتج عنها اكتشافات تمتد إلى المنطقة البرتقالية، أو ربما يقع أغلبها في هذه المنطقة، حينها لن تستطيع مصر أو الشركات العالمية الاستثمار والاستفادة منها؛ لأنها ستكون منطقة يونانية وليست مصرية[31]، إذا ما تم التسليم بالرؤية اليونانية في الترسيم.

(ب) إذا دخل خط “ميد إيست” حيز التنفيذ، سيعني خسارة مصر لدورها المستقبلي كمنصة إقليمية لتصدير الغاز الطبيعي في شرق المتوسط، وبالتالي ليس من مصلحة مصر إنشاء وإنجاز هذا الخط. وأي ترسيم حدود بحري يقطع الطريق على الخط، ويعيق إنشاء هذا المشروع يتماشى بشكل مباشر مع المصلحة المصرية، ويعضد آمالها في أن تصبح المنصة الرئيسية في شرق المتوسط لنقل وتصدير الغاز المسال إلى أوروبا، وهو ما يكفله أيضا اتفاق الترسيم التركي مع حكومة الوفاق[32].

(ج) هذه التطورات تفسر ما قاله وزير الخارجية المصري سامح شكري في 8 ديسمبر 2019، بأن الاتفاقية التركية – الليبية لا تمس مصالح مصر[33]. وفي 29 من الشهر نفسه، قال الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن، إن لديه أن القاهرة سعيدة بالاتفاقية[34]. كما ضغط المسؤولون في وزارة الخارجية المصرية ونظام المعلومات الجغرافية على الرئاسة من أجل قبول الاتفاقية التركية الليبية[35]، فالاتفاق لا يمهد الأرضية لمصر فقط لترسيم حدودها البحرية مع تركيا[36]، بشكل يضمن لها مساحات اقتصادية أكبر في مياه المتوسط، بل يمثل أيضا ورقة ضغط يمكن أن تستخدمها مصر للتوصل مع اليونان لاتفاق لترسيم الحدود بشكل يحقق المصلحة المصرية.

(د) هذا ما يرجح ما أشارت إليه بعض التقارير، من أن الجانب المصري في مفاوضاته الأخيرة مع اليونان، إبان زيارة رئيس وزرائها لمصر في 18 يونيو 2020، تسلّح بشكل غير مباشر بالاتفاق التركي – الليبي البحري، لمطالبة اليونان بالحصول على ٦٠% من مساحة المنطقة الاقتصادية الخالصة المشتركة، في مقابل حصول أثينا على ٤٠% منها[37]. وهو ما لم تقبل به اليونان، ليس فط لأنه يعني خسارة اليونان لمساحات اقتصادية حيوية في المتوسط، بل أيضا لأن هذا التنازل يعني عدم احتكامها لقانون البحار، الذي يعطي مساحات أكثر لليونان في مواجهة مصر من ناحية، ويمكنها من السيادة على مساحات اقتصادية خالصة أمام الجزر المتنازع عليها مع تركيا. أي أنه بشكل مباشر سوف يعد خسارة اقتصادية وحيوية لليونان في مواجهة مصر، في حين سيعد بشكل غير مباشر هزيمة قانونية ودبلوماسية لليونان في مواجهة تركيا.

وبالتالي فإن ملف شرق المتوسط في المرحلة الحالية، مرحلة التجاذب حول ترسيم الحدود البحرية والمناطق الاقتصادية الخالصة، يعد أحد أهم محفزات عودة التعاون والتفاهمات للعلاقات المصرية التركية. ففي حين يضمن تفاهمهما بالنسبة لتركيا كسر لحالة العزلة والطوق المفروض عليها في منطقة شرق المتوسط، فضلا عن جذب طرف إقليمي كبير كمصر في معركتها القانونية في مياه المتوسط في مواجهة اليونان وقبرص. فإنه يضمن مساحات اقتصادية لمصر كما لتركيا، تفوق تلك التي تؤمنها مصر في حال رسمت حدودها وفق التصور اليوناني.

(3) ملف ليبيا

يمثل الملف الليبي أحد أكبر محفزات التوتر والصراع بين مصر وتركيا، بل أحد معوقات عودة التحسن في العلاقات بين البلدين، إذ تقف الدولتان على طرفي نقيض في هذه الأزمة. ففي حين تدعم تركيا قوات حكومة الوفاق الليبية المعترف بها دوليا بقيادة فايز السراج، فإن مصر تدعم قوات الشرق الليبي بقيادة الجنرال خليفة حفتر. وبعد أن استطاعت قوات الوفاق بسط السيطرة على مناطق واسعة من الغرب الليبي بعد توقيعها اتفاق تعاون أمني واقتصادي مع تركيا، تصاعد التوتر في علاقتها مع مصر، وتصاعدت حدة الخطاب الاعلامي المتبادل بين الطرفين.

دوافع التحرك المصري تجاه الملف الليبي

  • دوافع اقتصادية، ضمان إمدادات النفط الليبي مرتفع الجودة وبأسعار رمزية، في ظل عجز مصر عن تحقيق الاكتفاء الذاتي في قطاع النفط مقارنة بالغاز. فالشرق الليبي يحتوي على منطقة الهلال النفطي، والذي يمثل 60% من مخزون ليبيا من البترول، ويضم أهم أربعة موانئ وحقول نفطية (السدرة وراس لا نوف والزويتينة والبريقة). كما تقدر المنظمة الدولية للهجرة في نهاية عام 2013، عدد المصريين الذين يعملون في ليبيا ما بين 700 ألف و1.5 مليون، وتبلغ تحويلاتهم المالية حوالي 33 مليون دولار[38]. ووصل حجم التبادل التجاري بين مصر وليبيا خلال عام 2019 نحو 404.8 مليون دولار[39]. هذا بجانب عقود إعادة الإعمار المرتقبة لليبيا، والتي قُدرت تكلفتها بـ 100 مليار دولار[40]. في حين تستعد العديد من الشركات المصرية للمساهمة في المرحلة الأولى من إعادة الإعمار، والتي تتطلب نحو 20 مليار دولار[41]. وبالتالي فإن ملفات الطاقة والعمالة وحجم التبادل التجاري وعقود الإعمار متغيرات أساسية، تدفع مصر للتحرك تجاه الملف الليبي.
  • دوافع حماية الأمن القومي، حيث تأمين الحدود الغربية مع ليبيا، ضد تسلل أي ميليشيات عسكرية نحو الداخل المصري. ويرى النظام المصري أن الوسيلة لذلك هو تركيز الاستثمار في دعم قوات الشرق بقيادة حفتر في مواجهة قوات حكومة الوفاق.
  • المواجهة مع حركات الإسلام السياسي، كجزء من مواجهة النظام المصري مع جماعة الإخوان المسلمين من ناحية، وفي إطار تحالفه مع الإمارات من ناحية أخرى.

دوافع التحرك التركي تجاه الملف الليبي

  • دوافع اقتصادية، حيث تُعتبر ليبيا صاحبة أكبر احتياطي نفطي في إفريقيا بحوالي 48 مليار برميل من النفط، بالإضافة إلى احتياطيات الغاز التي تُقدَّر بحوالي 1.5 تريليون متر مكعب، انظر الخريطة (2). الأمر الذي يقدّم لتركيا فرصة كبيرة في تأمين الطلب الداخلي من النفط والغاز، وبالتالي التخلص من التبعيّة لإمدادات روسيا وإيران، بل والأكثر من ذلك يقدّم لها فرصة كبيرة للانخراط في قضية تزويد الاتحاد الأوروبي بهذه الطاقة الاستراتيجية، وتعزيز مكانتها كمركز عالمي لنقل الطاقة[42]. هذا بجانب ملف الاستثمارات والمصالح التجارية التركية في ليبيا. ففي الوقت الراهن، تتجاوز قيمة العقود التجارية التركية العالقة في ليبيا 18 مليار دولار، ما يعني أن ثمة العديد من مشاريع البناء والبنى التحتية والخدمات التي لن تطبَّق وتُغطّى كلفتها في حال غياب حكومة الوفاق[43]. ومتوقع أن يصل حجم صادرات تركيا إلى ليبيا خلال فترة قريبة إلى 10 مليارات دولار[44].
  • كسب حليف في منطقة شرق المتوسط، والذي تختل فيها موازين القوى لصالح خصوم تركيا.
  • استخدام الملف الليبي كورقة ضغط في مواجهة دول أوروبا، رداً على استخدام الأخيرة لورقة أكراد سوريا في مواجهة تركيا، وبالأخص فرنسا. وهو ما يمَكن تركيا من التحكم في تدفقات اللاجئين نحو أوروبا من البوابة الشرقية حيث حدودها مع اليونان، والبوابة الجنوبية لأوروبا حيث تمركزها عسكريا في ليبيا. هذا بجانب الترويج لصناعتها الدفاعية والعسكرية.
  • ما ذهب إليه البعض من أن أحد دوافع التدخل التركي في الأزمة الليبية عسكرياً، هو التقارب والتعاون مع مصر وليس الصراع كغاية نهائية، وتستند وجهة النظر هذه على أن أنقرة أرادت أن تمتلك أوراق ضغط بتمركزها عسكرياً في أحد مناطق العمق الاستراتيجي لمصر، لتدفعها نحو التوافق معها والتفاهم في ملف شرق المتوسط.

مؤشرات ذلك، أن المحطتين الزمنيتين اللتان دعت فيهما تركيا مصر للتعاون من بوابة التفاهم في ملف شرق المتوسط، تحمل دلالات سياسية من حيث التوقيت جديرة بالانتباه إليها:

الأولى في يناير 2020: تزامنت مع تفعيل تركيا لاتفاقية التعاون العسكري، والتي كانت قد وقعتها مع حكومة الوفاق في نوفمبر2019، وبدء إرسال قوات ومعدات عسكرية لطرابلس.

الثانية في يونيو 2020: جاءت بعد أن سيطرت قوات الوفاق على الغرب الليبي، وحدوث توازن شبه استاتيكي للقوة عند مشارف سرت. أيضا في شهر يونيو 2020، بعد انتصارات حكومة الوفاق، أعلنت تركيا تفهمها لمخاوف القاهرة الأمنية تجاه الملف الليبي، مفرقةً في هذا السياق بين مصر والإمارات[45].

وبالتالي تزامن دعوة تركيا لمصر للتعاون في ملف شرق المتوسط مع محطتين زمنيتين، صعّدت فيهما تركيا في ليبيا، يرجح فكرة أن يكون أحد دوافع التواجد التركي هناك، هو التعامل معه كورقة ضغط لدفع القاهرة نحو ترسيم الحدود المشتركة بينهما في شرق المتوسط.

خريطة (2) حقول وموانئ النفط الليبية

العلاقات المصرية التركية القضايا والإشكاليات-2

المصدر: العربي الجديد

لقد كان من أهم تداعيات سيطرة حكومة الوفاق بدعم تركي على الغرب الليبي، هو إعلان القاهرة، وهي مبادرة أعلنت عنها مصر لحل الأزمة الليبية سياسياً[46]. وتُعد خارطة الطريق التي أعلن عنها عقيلة صالح في وقت سابق، هي بمثابة الأساس لمبادرة القاهرة. وهو مؤشر لبدء تغير الموقف المصري الداعم لحفتر لصالح عقيلة صالح، حيث يجمع الشخصين (عقيلة وحفتر) صراع على كيفية إدارة المشهد السياسي في الشرق الليبي. وهو ما يمكن أن يجعل من عقيلة المناظر المحتمل للسراج في أي مفاوضات سياسية مقبلة.

هذا بجانب التقديرات التي أشارت إلى أن مصر لم تكن متحمسة ومؤيدة لمعركة طرابلس، التي قادها حفتر في إبريل 2019[47]. ففي ظل ضمان مصر من خلال حلفائها السيطرة على الشرق الليبي، بما يتضمنه من هلال نفطي وموانئ، فإنه لا حاجة لعمل عسكري، يمكن أن يخلط الأوراق من جديد، بما يهدد الاستقرار وكذلك المكاسب والمصالح التي تم تأمينها، ولكن لأن الإمارات تخوض معركة صفرية مع حركات الإسلام السياسي، بالأخص مع جماعة الإخوان المسلمين، وكذلك تركيا، فقد كانت الداعم الرئيسي لمعركة طرابلس.

وبحكم عامل الجغرافيا، فإن الاستقرار في ليبيا هو مصلحة مصرية خالصة، وبالتالي قد تستغل تركيا حقيقة أنها أصبحت الداعم الرئيسي لحكومة الوفاق، وكذلك حقيقة أهمية الاستقرار على الحدود الغربية لمصر، في الدفع نحو تعاون مصري تركي في ليبيا، لضمان هذا الاستقرار.

حيث يُمكن للطرفين من خلال نفوذهما في الأزمة الليبية، أن يدفعا طرفي الصراع نحو الحوار والتفاوض للتوصل لحل سياسي، يضمن مصالح الطرفين، والذي لن ينفك عن ملفات إقليمية أخرى كشرق المتوسط، وبمشاركة أطراف فاعلة أخرى، أهمها روسيا، التي تحاول تكرار لعبة إدارة التوازن بين الأطراف المختلفة في ليبيا، كما طبقتها في سوريا. هذا فضلا عن أنه في مرحلة إعادة الإعمار فإن حاجة الطرفين لبعضهما البعض ستكون ملحة من أجل التواصل، سواء في الشرق الليبي وحاجتهم للغرب الذي يتواجد فيه البنك المركزي، والذي يحول إليه كل العوائد المالية للدولة الليبية، والغرب الذي سيحتاج لحقول النفط التي يتواجد الجزء الأكبر منها في الشرق.

وتعد الأزمة الليبية أحد أهم الملفات التي ترتبط بالأمن القومي المصري، لكن الطريقة التي أدار بها النظام المصري هذا الملف لم تحقق متطلبات هذا الأمن. حيث انخرط في الصراع بدعمه أحد الأطراف على حساب الطرف الآخر، وهو موقف لا يتناسب ومكانة مصر وموقعها الجغرافي ووزنها الإقليمي. وكان يمكن لتبني سياسة الحياد الإيجابي، من خلال بناء روابط قوية مع طرفي الصراع، أن يحقق العديد من المصالح المصرية، فضلاً عن تحقيق متطلبات الأمن القومي المصري بمفهومة الأوسع، وليس الأمني أو العسكري فقط:

  • ضمان المصالح الاقتصادية لمصر متمثلة في الاستثمارات والعمالة والنفط وإعادة الإعمار والتبادل التجاري في الغرب كما الشرق، وليس في الشرق فقط كما هو الحاصل الآن.
  • القدرة على القيام بدور إقليمي،متمثلاً في دور الوساطة بين طرفي الأزمة، يعلي من مكانة مصر الإقليمية، ويمكنها من امتلاك ورقة ضغط في مواجهة العديد من الأطراف الدولية.
  • حتى الأمن القومي بمفهومه الأمني والعسكري يمكن تحقيق متطلباته. فالحياد الإيجابي وليس السلبي، من ناحية يمكن مصر من امتلاك نفوذ وروابط قوية في الغرب وكذلك في الشرق، التي تمثل خاصرة الأمن القومي المصري. ومن ناحية أخرى كان كفيل بالحيلولة دون تدخل المزيد من الأطراف الإقليمية والدولية في منطقة عمق استراتيجي لمصر.

ومن ثم، إذا رغبت مصر الآن في الاستدارة عن موقفها الحالي نحو سياسة الحياد الإيجابي، فإن بوابتها لذلك تركيا، بعد أن باتت الداعم الرئيسي لحكومة الوفاق، وهو متغير آخر يفسر كيف يمكن أن يقود التدخل التركي في ليبيا للتعاون مع مصر.

ومع إعلان السيسي منطقة “سرت_الجفرة” خطاً أحمر[48]، ما دفع لطرح سيناريو المواجهة العسكرية بين مصر وتركيا. لكن هناك العديد من المؤشرات التي تستبعد حدوث ذلك:

(أ) أن الخطوط الحمراء الحقيقية لمصر هي الشرق الليبي في القلب منها بنغازي ومنطقة الهلال النفطي. ولذلك فإن سيطرة قوات الوفاق على سرت والجفرة، قد يدفع الجيش المصري للتدخل في ليبيا ليس للمواجهة وإنما للردع، لمنع قوات الوفاق من التقدم نحو الشرق والهلال النفطي. أما في حال سيطرت الوفاق على سرت، وانتقلت منها نحو الهلال النفطي، فإن الجيش المصري سوف يتدخل ليس لمجرد الردع وإنما للمواجهة. وهو السيناريو الوحيد الذي يمكن فيه لمصر أن تدخل بشكل مباشر في المعركة. وهو أقل السيناريوهات ترجيحاً.

(ب) تأكيد مسؤول رفيع المستوى في حكومة طرابلس أنه “لا يوجد ضوء أخضر من تركيا لبدء العمليات العسكرية في سرت”. في حين صرح مسؤولان مصريان أن مصر تلقت تأكيدات من عدة فاعلين دوليين بأن تركيا لن تدفع حكومة الوفاق للتحرك نحو الشرق أكثر بكثير. كما أشارت تقارير بأن مصر لا تعارض بالضرورة تسليم سرت من خلال المفاوضات مع وجود رمزي لحكومة الوفاق في المدينة بعد ذلك، لكنها لا تريد سيطرة الوفاق عليها بهجوم عسكري مدعوم من تركيا[49].

(ج) تعتبر سرت التي تقع على البحر المتوسط، مهمة لفرنسا كنقطة تجميع لموارد الذهب واليورانيوم التي تحصل عليها من مالي وتشاد والنيجر، فضلًا عن النفط الليبي. أما بالنسبة لروسيا، فهي تصلح لإنشاء قاعدة بحرية على غرار قاعدة حميميم الجوية، كما تقع شمال قاعدة الجفرة الجوية، التي توجد فيها حاليًّا ميليشيات فاغنر الروسية، بالإضافة إلى 14 طائرة حربية روسية أرسلتها موسكو مؤخرًا، ومن المرجح أن ترغب فيها روسيا كقاعدة دائمة لوجودها في شمال إفريقيا، أو على الأقل للحفاظ على موطئ قدم في ليبيا، وعلى الجبهة الجنوبية لأوروبا (الناتو)، الذي نشر درعًا صاروخية على حدود روسيا الغربية[50]. وبالتالي هذه المتغيرات تصعب وتعقد من إمكانية تقدم الوفاق نحو سرت، ومن ثم استبعاد التدخل المصري عسكرياً.

(د) يمكن قراءة تهديد السيسي بالتدخل، وإعلان الخطوط الحمراء، بأنها لا تتعدى كونها رسالة سياسية، ليست لتركيا فقط بل لروسيا أيضا. مفادها أن أي اتفاق أو تفاهمات منفردة بينهما بشأن ليبيا، بدون مشاركة مصرية، لن تسمح به مصر. واستعراضه للقوة العسكرية في هذا الإعلان وورقة تسليح القبائل، مفادها أن مصر لديها من الأوراق ما يمكنها خلط الأوضاع في ليبيا، إذا لم تكن جزءاً أصيلاً من أي اتفاق مستقبلي لليبيا. ما دفع السيسي لذلك هو قلقه من أن تمتد التفاهمات الثنائية بين أنقرة وموسكو من الملف السوري للملف الليبي، بشكل يهمش من الدور المصري ومصالحها، ويجعله ثانوي في منطقة تعد عمقا استراتيجياً لها.

(هـ) استناداً لافتراض الورقة أن الرغبة في التقارب والتفاهم مع مصر في شرق المتوسط كأحد دوافع تركيا للتدخل في ليبيا، فإنها ستكون حريصة على عدم تجاوز خط سرت والجفرة، إلا إذا تيقنت من استحالة تأمينها لأي تفاهم مع مصر في ملف شرق المتوسط.

خريطة (3) توضح خط سرت_الجفرة

العلاقات المصرية التركية القضايا والإشكاليات-3

المصدر: موقع خرائط العالم.

ومن هنا يمكن القول إن الملف الليبي يشكل أحد أهم دوافع التوتر والتباعد في العلاقات المصرية التركية، لكنه من منظور مغاير يُمكن أن يُمثل مجال للتقارب والتعاون مستقبلاً. سواء لافتراض أن أحد دوافع التدخل التركي في ليبيا، رغبتها في التفاهم مع مصر حول ترسيم حدودهما البحرية المشتركة في المتوسط، بشكل يضمن مصالح الطرفين، عبر استخدام تموضعها العسكري في ليبيا كورقة ضغط. فضلاً عن إمكانية أن تدفع موازين القوى الجديدة في الملف الليبي الطرفين نحو التعاون، عبر دفع كل طرف لحليفه المحلي نحو حل سياسي يضمن مصالح الطرفين. وحاجة طرفي الأزمة وحلفائهما لبعضهما البعض في مرحلة إعادة الإعمار، مع استبعاد سيناريو الاشتباك العسكري بين الطرفين.

(4) ملف السودان

في مرحلة ما بعد البشير، والتخلص من المكون الإسلامي في السلطة، فإن السعودية والإمارات برزتا كداعمين أساسين للسلطة الجديدة، بالأخص عبر المنح والمساعدات المالية والاقتصادية[51]. ومن ثم بات السودان أقرب لتحالفات الإمارات والسعودية في المنطقة. لكن في الوقت نفسه، تسعى السلطة الجديدة للمحافظة على علاقات جيدة مع الجانب التركي والقطري.

فلم يتم إلغاء اتفاقية جزيرة سواكن كما تردد بعد سقوط البشير[52]. وظلت الاستثمارات والمشاريع التركية على حالها دون تأثر. واستمر التواصل الدبلوماسي بين تركيا والسودان[53]. بل وصف رئيس مجلس السيادة الانتقالي بالسودان عبد الفتاح البرهان، علاقات بلاده مع تركيا بأنها متطورة في كافة المجالات[54]. كما قدمت قطر دعماً اقتصادياً للخرطوم في ظل السلطة الجديدة[55]. وكان قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان حميدتي، قد أعلن في مايو 2020، بأنه لا خلافات مع قطر[56].

كل هذه المتغيرات تشير إلى أن السلطة الجديدة بمحافظتها على علاقات جيدة مع الطرفين، لا ترغب من خلالها في تكرار تجربة البشير في سياسته الخارجية، حيث المراوحة بين المحاور والجمع بينهما، بقدر ما هي راغبة في استخدام روابطها مع الجانب التركي والقطري كتكتيك في مواجهة حلفائها (مصر والسعودية والإمارات)، في كل مرة يمكن أن تخل فيها بوعودها، أو تتباطأ في تقديم الدعم المطلوب.

أما مصر فيختلف تعاطيها عن الإمارات مع السلطة الجديدة في السودان في قضيتين: الأولى تركز الإمارات في دعمها على قوات الدعم السريع بقيادة “حميدتي”، لرغبتها في استخدام هذه الميليشيات كورقة ضغط في الداخل في مواجهة أي مكون سياسي أو عسكري آخر، وبما يضمن لها نفوذا مترسخاً في السودان من ناحية، وكأداة عسكرية في أدوارها الإقليمية من ناحية أخرى، وهو الدور الذي لا يمكن أن يقبل به الجيش السوداني، سواء لطبيعته النظامية، أو سيطرة المكون الإسلامي على بنيته الداخلية. فيما تدعم مصر المؤسسة العسكرية النظامية، في ظل رغبتها في حفظ الاستقرار على حدودها الجنوبية، خاصة وأن انتشار الظاهرة الميليشاوية في الشرق حيث ليبيا والجنوب حيث السودان خيار لا تفضله الجيوش النظامية.

القضية الثانية الموقف من المكون الإسلامي السوداني، ففي حين ترفض الإمارات بشكل مطلق التعامل معه، أو عودته للحكم أو المشاركة فيه، لكونها في معركة إقليمية صفرية مع هذا التيار. فإن النظام المصري لا يمانع من التعامل معهم، أو مشاركتهم مع المكونات السياسية الأخرى في الحكم. لإدراك النظام حجم هذا التيار في الداخل السوداني، وبالتالي ضرورة احتوائهم لضمان الاستقرار في الجارة الجنوبية. فضلاً عن قلق النظام المصري من المكون الشيوعي المسيطر على الحكم في السودان حالياً. كما أن النظام المصري لديه تجربة إيجابية مع الإسلاميين إبان حكم الرئيس السابق عمر البشير، فضلا عن استضافته عدد من رموز هذه الحركة حاليا كصلاح قوش.

وبالتالي، على الرغم من أن الملف السوداني كان أحد مسببات التوتر بين مصر وتركيا، حينما وقعت الأخيرة اتفاقية تتعلق بترميم جزيرة سواكن، وما تردد حينها عن إمكانية تأسيس تركيا قاعدة عسكرية هناك. إلا أن النقاط المشتركة بين الجانب المصري والتركي في الملف السوداني تظل حاضرة. فيمكن للطرفين التعاون في هذا الملف من بوابة دعم عودة الإسلاميين للحكم ولو جزئياً لموازنة المكون الشيوعي، وترجيح كفة المؤسسة العسكرية، التي يتضاءل دورها تدريجياً لصالح قوات الدعم السريع بدعم إماراتي.

خلاصة

خلصت الدراسة لعدد من النتائج على النحو التالي:

أولاً: هناك عدد من العوامل التي تعوق عودة العلاقات المصرية التركية، أو حتى نسج تفاهمات سياسية في ملفات معينة، على الأقل على المدى القصير. وتشمل:

1ـ التوازنات الإقليمية، سواء لطبيعة وحجم الدولتين كقوتين إقليميتين، وما تفرضه الموازين الإقليمية عليهما، وعلى أدوارهما التنافسية، بجانب بروز وتصاعد سياسة المحاور الإقليمية، والتي جعلت مصر وتركيا في مواجهة بعضهما البعض، وتعد الأزمة الخليجية والليبية، أهم ملفين إقليميين يدفعان نحو استمرار التوتر في العلاقات المصرية التركية. كما يبرز التحالف القوي الذي يجمع مصر والإمارات في هذا السياق.

2ـ التوازنات الدولية، وتشمل بعدا استراتيجيا يتمثل في دور الولايات المتحدة في ضبط ديناميكيات هذا التوازن، وما يتفرع منه من توازنات إقليمية فرعية، خاصة ما يتعلق بإدارتها للتفاعل بين القوى الإقليمية الثلاث، مصر وتركيا وإيران، ودور الظرف الإقليمي الحالي في دفع الولايات المتحدة نحو الحيلولة دون إصلاح العلاقات المصرية التركية. وبعد تكتيكي يتعلق بموقف الولايات المتحدة الداعم للتحالف اليوناني ورؤيته في شرق المتوسط في مواجهة تركيا، ومن ثم عدم سماحه لتفاهم مصري تركي في هذا الملف. وكذلك الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، واحتمالية تزايد فرص إصلاح العلاقات المصرية التركية في حال استمر ترامب في قيادة البيت الأبيض، بخلاف نجاح المرشح الديموقراطي، الذي تتضاءل معه فرص إصلاح هذه العلاقات.

ثانياً: إذا ما قرر الطرفان إصلاح علاقاتهما البينية مستقبلاً، فإن هناك عدد من الملفات التي يمكن البناء عليها في هذا السياق، وتنقسم هذه الملفات لنوعين، الأول ملفات تمثل حافزاً لعودة العلاقات، حيث تمثل مصلحة مشتركة للطرفين، كملف شرق المتوسط، وملف الاقتصاد. والثاني ملفات برغم أنها من مسببات التوتر بين البلدين حاليا، لكنها من منظور مغاير يمكن أن تمثل جامعا مشتركا للبلدين في إطار تعاوني، والبناء عليه، إذا ما قرر الطرفان تبني مسار إيجابي مغاير في علاقاتهما البينية مستقبلاً، كالملف الليبي والسوداني. وفي ظل وجود مشتركات عديدة ومصالح مشتركة تجمع الدولتين، فإن عودة العلاقات المصرية التركية على المدى المتوسط والبعيد ممكنة. إلا إذا حدث متغير مفاجئ، يمكنه أن يزيد من حدة صراع المحاور في المنطقة. وحتى إذا ما قرر البلدان عودة التفاهم والتعاون في علاقاتهما، فإن ذلك لا يعني استبعاد التنافس والصراع الإقليمي بين الطرفين، لكنه تنافس لا يلغي التعاون والتفاهم السياسي في بعض الملفات.

ثالثاً: برغم منطقية التنافس بين مصر وتركيا في بعض الملفات، خاصةً بالنظر لوزنهما وحجمهما الإقليميين، إلا أن استراتيجية الصراع تلك، التي تستند على معارك صفرية ممتدة لكل الإقليم، وتتوافق ورؤية الإمارات، لا تتلاءم مع مصالح مصر ومكانتها الإقليمية. لذلك يجب على مصر أن تتعامل مع هذا الملف بقدر أكبر من المرونة، بحيث تتنافس مع تركيا حينما يفرض الواقع ذلك، وتتعاون معها حينما تملي المصالح ذلك. إن ملفات العلاقات الدولية لا تدار بهذا القدر من الحدية، فلابد من حد أدنى من المرونة والقدرة على التكيف مع ظروف وسياقات مختلفة، في التعامل مع هكذا ملفات.


الهامش

[1] “أمر لا مفر منه”… مستشار أردوغان يوجه دعوة إلى مصر، سبوتنك عربي، 14/1/2020، (تاريخ الدخول:2/7/2020)، الرابط

[2] تركيا تتودد إلى مصر وتدعو إلى عودة العلاقات معها، اندبندنت عربية، 12/6/2020، (تاريخ الدخول:2/7/2020)، الرابط

[3] Erdoğan rejects Saudi demand to pull Turkish troops out of Qatar, The Guardian, 25/6/2017, (Accessed on:8/7/2020), Link

[4] قطر: وساطة الكويت لحل أزمة الخليج تصطدم برفض دول الحصار، الأناضول، 26/6/2020، (تاريخ الدخول: 8/7/2020)، الرابط

[5] زاهر البيك، هذه أسباب تأخر الحسم في سرت والتفاهم مع روسيا وارد والإمارات تعزز خلافنا مع مصر، الجزيرة نت، 12/6/2020، (تاريخ الدخول:8/7/2020)، الرابط

[6] المساعدات الإماراتية لمصر .. من المستفيد؟، الجزيرة نت، 24/4/2016، (تاريخ الدخول:8/7/2020)، الرابط

[7] UAE and Egypt launch $20bn joint investment platform, the national, 14/11/2019, (Accessed on:10/7/2020), Link

[8] شراكة استثمارية بقيمة 20 مليار دولار بين الإمارات ومصر، صحيفة العرب، 15/11/2019، (تاريخ الدخول:8/7/2020)، الرابط

[9] Davide Barbuscia, UPDATE 1-Egypt seeks loan of over $1 billion, taps UAE banks – sources, 16/6/2020, (Accessed on:10/7/2020), Link

[10] أحمد داوود أوغلو، العمق الاستراتيجي لتركيا موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية، الدرار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الثانية 2011، ص ص 389_390.

[11] Vivian Salama, U.S. Threatens Egypt With Sanctions Over Russian Arms Deal,

The Wall Street Journal, 14/11/2019, (Accessed on:10/7/2020), Link

[12]جهاز الإحصاء: تركيا من أكبر الدول المستوردة والمصدرة لمصر، شبكة رصد، 7/7/2020، (تاريخ الدخول:8/7/2020)، الرابط

[13] I.M.F. Predicts Worst Downturn Since the Great Depression, The New York Times, 14/4/2020, (Accessed on:8/7/2020), Link

[14] حوار أجراه الباحث مع ياسر أبو معيلق، مستشار في الاستراتيجيات الإعلامية من ألمانيا.

[15] باحثان: اتفاق أنقرة وطرابلس يسعى لبناء مؤسسات الدولة الليبية، الأناضول، 16/1/2020، (تاريخ الدخول: 2/7/2020)، الرابط

[16] غير معترف بها دوليا، ولم تعترف بها حتى الآن غير تركيا.

[17] المصدر السابق.

[18]Ofir Winter, Beyond Energy: The Significance of the Eastern Mediterranean Gas Forum, Institute for National Security Studies, 3/2/2019, (Accessed on:2/7/2020), Link

[19] Eastern Mediterranean countries to form regional gas market, Reuters, 14/1/2019, (Accessed on:2/7/2020), Link

[20] Previous source, Link

[21] Libya hükümeti, Türkiye ile imzalanan anlaşmaların yürürlüğe girdiğini açıkladı, Euronews, 8/12/2019, (Giriş tarihi:2/7/2020), bağlantı

[22] اقترح أدميرال بحري تركي، منذ 2008، أن ترسم تركيا حدودها الاقتصادية البحرية على أساس من خطوط الطول وليس خطوط العرض، وقد اقتربت أنقرة بالفعل من مصر وليبيا منذ 2008 لترسيم الحدود البحرية الاقتصادية، ولكن لم يكتب لهذه الخطوات النجاح المرجو.

[23] Ben Fishman, Turkey Pivots to Tripoli: Implications for Libya’s Civil War and U.S. Policy, The Washington Institute for Near East Policy, 19/12/2019, (Accessed on:2/7/2020), Link

[24] The Day After EastMed Agreemen, semed energy defense, 6/1/2020, (Accessed on:2/7/2020), Link

[25] تركيا تستأنف التنقيب عن الغاز في البحر المتوسط قبالة الساحل الجنوبي لقبرص، defense arabic، 20/1/2020، (تاريخ الدخول: 2/7/2020)، الرابط

[26] خالد فؤاد، تيران وصنافير جديدة.. ماذا يعني ترسيم مصر لحدودها البحرية مع اليونان؟، عربي بوست، 23/6/2020، (تاريخ الدخول: 2/7/2020)، الرابط

[27] Greece and Italy Agree on Maritime Border for Two Countries, Bloomberg, 9/6/2020, (Accessed on:2/7/2020), Link

[28]Greece and Egypt discuss Exclusive Economic Zone, greek city times, 19/6/2020, (Accessed on:2/7/2020), Link

[29] ترسيم الحدود بين ليبيا واليونان.. أهم مخرجات لقاء عقيلة صالح بوزير الخارجية اليوناني، 24 ساعة، 1/7/2020، (تاريخ الدخول: 2/7/2020)، الرابط

[30] غاز شرق المتوسط: الأبعاد الاقتصادية والعسكرية، مركز الجزيرة للدراسات، 5/2/2020، (تاريخ الدخول: 2/7/2020)، الرابط

[31] مصدر سابق، الرابط

[32]مصدر سابق، الرابط

[33] سامح شكري: اتفاق أردوغان والسراج لا يمس مصالح مصر لكنه يعقّد الوضع، آر تي عربي، 16/12/2019، (تاريخ الدخول: 2/7/2020)، الرابط

[34] الرئاسة التركية: مصر “سعيدة جدًا” بالاتفاقية البحرية مع حكومة الوفاق.. ولن نحتل ليبيا، سي إن إن عربي، 29/12/2019، (تاريخ الدخول: 2/7/2020)، الرابط

[35] What comes after the collapse of Haftar’s western campaign?, Mada Masr, 8/6/2020, (Accessed on:2/7/2020), Link

[36] الاستناد لتوقيع مصر على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وبالتالي إلزام مصر بالترسيم مع اليونان وفقا لتلك الاتفاقية، مردود عليه من قبل الخبراء، والذين يذهبون إلى أن ترسيم الحدود البحرية لا يستند فقط على الاحتكام لهذا القانون، بل إن الأولوية في هذا الصدد للتفاهمات السياسية بين الدول.

[37] علي باكير، داخل الاجتماع المصري – اليوناني لترسيم الحدود البحرية، صحيفة العرب، 30/6/2020، (تاريخ الدخول: 2/7/2020)، الرابط

[38] بشا ماجد، المصريون في ليبيا: تسلسل زمني، مدى مصر، 15/2/2015، (تاريخ الدخول: 6/7/2020)، الرابط

[39] 162مليون دولار تراجع في حجم الميزان التجاري بين مصر وليبيا خلال عام 2019، اليوم السابع، 13/1/2020، (تاريخ الدخول: 6/7/2020)، الرابط

[40] لوبان الفرنسية تقدر تكلفة إعادة إعمار ليبيا، صحيفة المسار، 25/11/2019، (تاريخ الدخول: 6/7/2020)، الرابط

[41] محمد عمر، بقيمة 20 مليار دولار هكذا تقتنص الشركات المصرية «إعادة إعمار ليبيا»، مصر العربية، 17/3/2020، (تاريخ الدخول: 6/7/2020)، الرابط

[42] بشار نرش، مكانة ليبيا في المدرك الاستراتيجي التركي، ميدان الجزيرة، 15/1/2020، (تاريخ الدخول:6/7\2020)، الرابط

[43] MICHAEL YOUNG, Into the Libya Vortex, Carnegie Middle East Center, 14/1/2020, (Accessed on:6/7/2020), Link

[44]) 10 مليارات دولار.. صادرات تركيا المتوقعة إلى ليبيا، الأناضول، 2/7/2020، (تاريخ الدخول:6/7\2020)، الرابط

[45] Cumhurbaşkanlığı Sözcüsü Kalın: Libya hükümeti orada olmamızı istediği sürece, orada olacağız, Sputnik, 20/6/2020, (Giriş tarihi:6/7/2020), bağlantı

[46] مسار الحل الليبي: ما الفرق بين «إعلان القاهرة» و«مخرجات برلين»؟، الشرق الأوسط، 13/6/2020، (تاريخ الدخول:7/7\2020)، الرابط

[47] Previous source, Link

[48] السيسي: تجاوز سرت والجفرة “خط أحمر” لمصر.. وأي تدخل لنا في ليبيا تتوفر له شرعية دولية، سي إن إن عربي، 20/6/2020، (تاريخ الدخول:7/7\2020)، الرابط

[49] Why Egypt may not be going to war in Libya, Mada Masr, 4/7/2020, (Accessed on:7/7/2020), Link

[50] محمود الرنتيسي، مأزق سرت: الدور التركي في ليبيا ومواقف المعارضين، مركز الجزيرة للدراسات، 2/7/2020، (تاريخ الدخول:7/7\2020)، الرابط

[51] Saudi Arabia, UAE to send $3 billion in aid to Sudan, reuters, 21/4/2019, (Accessed on:7/7/2020), Link

[52] Son dakika… Dışişleri’nden Sevakin Adası açıklaması, hürriyet, 26/4/2019, (Giriş tarihi:5/6/2020), bağlantı

[53] السودان.. البرهان وسفير أنقرة يبحثان تطوير العلاقات الثنائية، الأناضول، 26/11/2019، (تاريخ الدخول:7/7/2020)، الرابط

[54] عبد الفتاح البرهان: علاقات السودان وتركيا متطورة في كافة المجالات، الجزيرة نت، 28/6/2020، (تاريخ الدخول:7/7/2020)، الرابط

[55] دخول شركة قطرية إلى السودان للاستثمار في قطاعي الطاقة والمعادن، الأناضول، 15/10/2019، (تاريخ الدخول:7/7/2020)، الرابط

[56] We have no dispute with Qatar, insists senior Sudan official, Middle East Monitor, 26/5/2020, (Accessed on:7/7/2020), Link

الوسوم

طارق دياب

باحث سياسي مصري، متخصص في العلاقات الدولية وشؤون الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى