سياسةقلم وميدان

الغرق في شلالات الوطنية الزائفة

في اللغة، لو طلبت من أحد أن يسقي”الشجرة المثمرة” فهذا يعني من ضمن ما يعني أن هناك أيضا أشجارا غير مثمرة، وبالمثل لو كنت تعيش في القاهرة ووجدت سيارة مكتوبا عليها “الشرطة المصرية” فهذا يعني ضمنا أن هناك شرطة غير مصرية في هذه المدينة، وهو بالطبع أمر ليس حقيقيا، ما يبعث على الدهشة من هذه التسمية، خاصة أن هذا التمييز العجيب صار منذ 2013 مشاع الاستخدام في كافة أجهزة الدولة وأدواتها، حيث تشيع شعارات من عينة الجيش “المصري”،  والقضاء “المصري”، والسكك الحديدية “المصرية”، والمترو “المصري” وهكذا.

ولو كان هذا التعريف التمييزي يقتصر فقط على المنشآت الكبرى للوزارات والمصالح لكان الأمر مقبولا، ولكن الغريب أن تجد الجندي والقاضي والكمساري وحتى عمال النظافة وغيرهم يحملون تلك الشارات.

قد يقول قائل إن الهدف من تعميم هذا السلوك هو غرس قيم الوطنية والانتماء للوطن والاعتزاز به في نفوس الناس، وهو قول مردود عليه بأن قيم الوطنية لا تغرس في النفوس بالشعارات ولكن بالممارسات والأفعال.

فإذا وجدت رجل الأمن مثلا يقوم بدوره الذي يتقاضى عليه راتبه فعلا ويحافظ على أمني وسلامتي، فإنني بلا ريب سأكن له الحب والاعتزاز، أما إذا كان هذا الرجل لا يكترث لا بأمني ولا بسلامتي، بل إنه هو نفسه الذي يشكل أحيانا تهديدا لهما، فإن حمله لهذا الشعار سيفهم منه حينئذ الخداع والتمويه، كما أنه لا يفترض بي إعلان حبي له إن شئت كتمه، ولا لوم علي أن شعرت تجاهه بنقيض ذلك، طالما لم اخرق حريته وحقوقه الإنسانية.

استنزاف الوطنية

وعلى طريقة بطولات “دون كي شوت”، عاش المصريون في السنوات الماضية ما يشبه أجواء انتصارات عبد الحليم حافظ الغنائية، وفتوحات أحمد سعيد الإذاعية، ومغامرات رأفت الهجان التجسسية، والخطب الحماسية  الملقاة في غير محلها.

فهذه البطولات مع كل ما بذل فيها من جهد لم ينقصها أن تكون مهيبة سوى نجاحهم في تسويق العدو الجديد، تركيا بديلا عن إسرائيل، وطرابلس بدلا من القدس، انتهاء إلى الانتصار على الكورونا بـ “الشلولو” و “الفول المدمس”.

وفي نفس السياق، وفي إطار إلباس الوطنية لغير موضعها، تم ربط لفظ وطني بكل شيء يمت للسلطة بصلة وبكل مسلك أو تصرف تتصرفه، بدءا من أنها السلطة الوطنية – وكأن هناك سلطة أخرى في مصر لكنها غير وطنية  – مرورا بجهاز أمن الدولة الذي بعد أن أدى دوره في إخماد جذوة ثورة يناير أسبغت عليه الصفة فصار أمنا وطنيا، بجوار الجيش الوطني والشرطة الوطنية، والمؤسسات واللجان أو الأمن السيبراني والتدريب والطرق وغيرها، وحتى شركات الخدمات المعاونة الوطنية، انتهاء بمحطات الوقود “وطنية”.

ولكي لا تصاب بالتشبع من طوفان “الوطنية” التي انتسبت إليها كل هيئة أو جهاز مستحدث في هذا العصر “الوطني” الذي يجري فيه التنازل عن أرض مصر بكل وطنية، يمكنك كمواطن “وطني” التنويع والعودة لمصطلحات الأقدمين “القومية” التي تركت دون تغيير بعد.

وطنية زائفة

الوطنية التي يروج لها المروجون الآن والتي حاولوا تقديمها تارة كظاهرة صوتية للنشء في شكل أنشودة مدرسية صارت أمثولة للسخرية، وتارة أخري كظاهرة تاريخية كما حدث في مسلسل “ممالك النار” دخلت كسابقتها في سباق للسخرية لأن بطل الواقعة كان عبدا مملوكيا، وعبورا أيضا بمسلسل الاختيار الذي من ينتقده يصبح خائنا، ومن لم يشاهده وطنيته ناقصة ويجب توجيهه وإرشاده.

وحتى فشلوا في تقديمها كظاهرة غنائية في “بشرة خير” و “إحنا شعب وانتوا شعب” وحتى اختزالها في شعار “تحيا مصر 3 مرات” الركيك الذي يستخدمونه كتوقيع بعد أي وصلة نفاق.

كلها ظواهر تذكرنا بطقوس إيمان الأقدمين من عبدة الأوثان، حينما كان الوثنيون يذهبون للوثن الإله قبل أن يغيروا على قوافل التجارة المارة بالقرب منهم وذلك لتقديم القرابين والنذور والتذلل له بالأدعية من أجل أن يوفقهم “الوثن” في سلب ونهب تلك القوافل الآمنة المسالمة وسبي نسائها وبيع رجالها كعبيد، فكان إيمانهم شكلي وغايتهم غير نبيلة.

العكس تماما

الغريب أنه وسط هذا الهطول للوطنية، لا تجد في مصر إلا ما هو يفتقد لأي قدر من الوطنية، جزر البلاد الإستراتيجية تُباع، والمياه البحرية وحقول الغاز توهب للأعداء ونعود لنشتري منه الإنتاج، وشركات تنتمي لدول بعينها تسيطر على اقتصاد البلاد وجنسية البلاد تباع كبضاعة رخيصة وتسحب كخلاص من قيود السجن للمعتقلين، وشعب يُهَجّر، واقتصاد يتهاوى، ونيل يجف، وبلاد تتربع دون منازع على المناصب الأولى عالميا أو عربيا في الفساد والبؤس والانتحار والبطالة والأمراض والاستدانة والفقر والقمع والسجن والقتل خارج إطار القانون وإهدار حرية التعبير وحقوق الإنسان، وحلم أحلام جل شبابها الهجرة للخارج فارين بأحلامهم وأمانيهم ومستقبلهم.

السلطة ومعارضتها الشكلية أغرقا المجتمع في شلالات من الوطنية الزائفة، فأدرك الناس زيفها فردوها على المجتمع بمزيد من الإحباط واليأس والانتحار والانحراف والإجرام.

الدين الخارجي المصرى يتخطى 124 مليار دولار

سيد أمين

كاتب صحفي مصري، محلل سياسي صدرت له دراسات “أمريكا المكيافيللية” و”رؤى في الوطن والوطنية”، قاص صدرت له روايات “السحت” و”المراهن” و”زمن السقوط، وشاعر صدر له ديوان “أشعار مارقة” و”أشعار جديدة”.

اعمال اخرى للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button