fbpx
تقديرات

الغلابة.. بين الحركة الاجتماعية ورأس المال السياسي

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

 

تمهيد

لم يكد يمر يوم 11 نوفمبر 2016، من دون أن تكون هناك فعاليات استثنائية، حتى خرج رئيس الوزراء، ومن بعده السيسي ليعلنا أن الشعب المصري اختار الاستقرار والتنمية على ما اعتبروه “دعوات تخريب”، أو “دعوات هدامة”، وأعلنت الأذرع الإعلامية لإدارة 3 يوليو عن ضعف قدرة الإخوان على الحشد أو افتقارهم لهذه القدرة حالياً، بصرف النظر عن أية ترتيبات اتخذتها إدارة 3 يوليو لتبدو الجماعة، في المحصلة، غير قادرة على الوصول لحالة التعبئة في الشارع.

 

وفي خضم هذا الدفق الدعائي، يشهد الشارع المصري خلطا بين طبائع رأس المال السياسي المطلوب حيازته لإدارة هذه اللحظة. فرأس المال السياسي المطلوب لم يكن رأس المال التعبوي/ الانتخابي القائم على قدرة مدير الموقف السياسي على التواصل مع الاحتياجات الحقيقية لرجل الشارع، ومغازلتها، وبلورتها في صورة بديل سياسي، بل رأس مال سياسي من نوع آخر. فالجميع في هذا اليوم كانوا يعون ما يريده رجل الشارع، لكن أحداً لم يمتلك رأس المال السياسي الذي يحتاجه الظرف التاريخي. ولعل هذا ما دفع قيادات رأي عام وطنية لتُقدم طرحا مفاده أن عدم خروج “الناس” في هذا اليوم ليست سوى رسالة في حد ذاتها، تعكس قدرا من النضج الشعبي الذي رفض، بوعي واضح، الخروج في هذا اليوم، والانحياز إلى فئة دون أخرى، نتيجة عدم اطمئنانه للخطوة التالية في المواجهة.

في هذه الورقة نبحث عن رأس المال السياسي الغائب عن لحظة 11 نوفمبر، ونقرأ اشتباكاته مع عناصر تقييم رجل الشارع لمآلات 11/11، بينما تحضر في خلفية الورقة متطلبات الحركة الاجتماعية المطالبة بالتغيير.

 

أولا: الثقة السياسية.. بين 25 يناير وما بعدها

في اجتهادي أن موروث 25 يناير قد فتح الباب على مصراعيه أمام الشرائح الاجتماعية المصرية البسيطة لتخرج من دائرة الكمون والتحفز باتجاه الفاعلية والمشاركة الإيجابية في مطالب التغيير، وبخاصة بعدما اطمأن المصري، بعيون جمال حمدان، إلى أن الدولة “العتيقة” التي كانت تحكم النهر وتعنى بتوزيع عوائده لم تعد هي نفسها تلك الدولة بعد آلاف السنين، وأن الالاقتصاد قد تغير بصورة كبيرة، وأن الأوضاع الاجتماعية بالتبعية قد تغيرت تغيرا دون المتوسط (في عصره)، حيث تغيرت طرق الحياة وأنماطها بعيدا، بينما لم يتغير الوضع السياسي ونظام الحكم والأوضاع الدستورية إلا في المظهر فقط1.

 

الذهاب في هذا الاتجاه يبتعد عن الطرح المطلق المغلق الذي تجاوزه التاريخ، والقائل بأن الغلابة لا يثورون. فنموذج يناير ماثل أمام المراقبين ما زال. وإن كان الفقراء غير قادرين على صوغ برنامج تغيير، فإنهم قادرون على الاختيار، وهذا ما عبرت عنه لحظة يناير الكاشفة. وهي تركيبة مثلت تحديا نسبيا طرح أحد أبرز مفكري الحركات الاجتماعية جيمس ديفيز الذي أكد أن أسرى الفقر المدقع لا يثورون، وإنما يثورون عندما تترقى أوضاعهم وصولا إلى حالة من “الحرمان النسبي”2.

 

ما سبق يدفع – بتقديري – لرفض الحكم على 11/11 بالفشل أو النجاح بالاستناد لحدوث حشد في ذلك اليوم من عدمه، فتقييم بناء وعي جماهيري أهم من قياس حيوية ذلك الوعي بانقياده إلى حالة حراك؛ لن أقول مجهولة المصدر، ولكن مجهولة الرؤية، في توقيت لا يمكن لمصر فيه أن تخطو خطوة من دون أن تحسب لها حساباتها. وهو أحد العوامل التي تفرق لحظة 2016 عن لحظة 2011، حيث تمثل الأولى مؤشرا لبداية الانهيار، ما لم تكن ثمة رؤية بإمكانها أن تقنع المصري أن الطريق البديل آمن وواعد في آن.

وفي فقه الحركات الاجتماعية، فإن بناء الرؤية المشتركة كان طرحا لأكثر من فيلسوف من فلاسفة الاجتماع السياسي، حيث أكد “تشارلز تيلي” على أهمية “إيجاد مصالح مشتركة بين تكوينات الحركة الاجتماعية” بالإضافة إلى “الفرصة المناسبة لتفعيل الحراك”3. وبهذا المعنى، فإن دعوة 11 نوفمبر لم تجد صدى نسبياً في الشارع لافتقاد العلاقة بين طرفي الحركة: الداعين والمدعويين لأهم أصول رأس المال السياسي في هذه اللحظة، وهو الثقة.

 

ويعرف علماء السياسة رأس المال السياسي – بشكل عام – بأنه تمتع السياسيين بقدر من الـ “ثقة” والـ“خبرة” والـ“نفوذ”، التي تمكنهم من استمالة الرأي العام باتجاه تبني أحد الخيارات المتاحة في المجال العام ويمكنهم من حسم التفاعلات السياسية لصالحهم4. وبشكل عام، يرى أساتذة العلوم السياسية أن السياسة بعامة، والديمقراطية بخاصة، لا تؤتي ثمارها من دون توفر “ثقة سياسية”Political Trust من المواطن في الساسة، بينما ترفض بعض المدارس السياسية قصر “رأس المال السياسي” على “الثقة” في النخبة السياسية، ويرون أن “الشك”Skepticism وليس الثقة هو علامة الثقافة السياسية للديمقراطيات الناجحة5. وبالتدقيق، فإن أصحاب الرؤية الأخيرة يميلون لنزع الثقة عن النخبة السياسية في الوقت الذي يولون فيه الثقة للنظامSYSTEM (رؤية تنويرية كلاسيكية).

 

وفي اتجاه آخر مكمل لهذه الرؤية، ميز الأكاديمي الأمريكي “إدوارد لوبيز” بين نمطين من رأس المال السياسي، أولهما رأس مال الثقة السياسية، ويتعلق بنظرة المجتمع للسياسي وماضيه ونواياه وقدرته على تحقيق وإدارة الموارد لتحقيق هدفه، والثاني بين رأس المال التعبوي، ويتعلق بخبرة السياسي في المجال العام وقدرته على قراءة مزاج رجل الشارع والنفاذ للبديل الذي يرتضيه، ومن ثم استمالته، وتعبئته خلفه للوصول للدائرة المركزية لصنع القرار6، في خطوة لا علاقة لها بتنفيذ الرؤى والبرامج، بل مجرد النجاح في التجند للدائرة المركزية لعملية القرار.

التقسيم السابق يجعلنا نميز بين نموذج لسياسي مصري مثل المحامي والمرشح الرئاسي السابق، خالد علي، والذي يحظى برأس مال صيت/ ثقة سياسية، يستند لتميزه في الممارسة القانونية والحقوقية لصالح والمواطن، لكنه برغم تميزه لم يتمكن من إدارة ملفه الانتخابي في الانتخابات الرئاسية في 2012 بحنكة تجعله ضمن القائمة القصيرة للمرشحين الذي حازوا نسبة معتبرة من أصوات الناخبين. في مقابل نماذج عدة، منها مكونات “ائتلاف دعم مصر” بمجلس النواب المصري 2011، والذي اتسم بتميز رأس ماله التعبوي، والذي مكنه من الفوز بأغلبية مقاعد المجلس من دون أن يكون له برنامج.

 

والتمييز بين هذين النوعين من رأس المال مهم لفهم تداعيات لحظة 11/11 وما آلت إليه. خاصة عندما نعلم أن الظرف التاريخي يهيئ القاعدة الشعبية للتحرك، كما أن قدرة جماعة الإخوان على الحشد في بيئة مواتية معروفة، في حال توفرت لديها إرادة المشاركة والحشد. وعلى أي حال، فإن التحليل يقتصر على تفهم استعداد الجماهير للمشاركة. ويمكن القول بشكل عام بأن ثمة نوعين من افتقاد الثقة تسببا في عزوف الجماهير عن المشاركة في 11/11، بالرغم من تهيؤ الظرف التاريخي ربما بصورة أكبر مما كان مهيئا في 25 يناير.

النوع الأول: غياب الثقة في المنظومتين القائمة والبديلة، ويجدر ذكر أن حركة 11/11 لم تطرح منظومة بديلة، فقط مجموعة مطالب متناثرة لم تكن تكفي، بأي حال، لاعتبارها رؤية يمكن التعويل عليها.

 

النوع الثاني: غياب الثقة في كفاءة الاختيارات السياسية للنخبتين القائمة والبديلة.

 

ثانيا: معايير رجل الشارع في بناء الموقف

يمكن اختبار غياب الثقة السياسية عن وعي رجل الشارع حيال مشهد 11/11 من خلال فحص 3 محاور أساسية، أولها أثر الدعاية المتطرفة ضد إدارة 3 يوليو وأثرها، وثانيها تقييم الجمهور لأجندة ما بعد الاحتجاج واحتمالات نجاحه، وثالثها محور التكلفة بدون عائد. وهذه المحاور تتسم بالبساطة، وأمكن تلمسها من خلال محاورات بسيطة مع ممثلين لرجل الشارع المصري.

 

1. أثر الإفراط في النقد

ننطلق في هذا المحور من مقولة مفادها أن إلحاح وسائل الإعلام المؤيدة للنظام والمعارضة له قد أدت إلى توفر قدر من الحرص لدى رجل الشارع المصري في التعاطي مع قضية المستقبل. فخلال العامين الماضيين، أكدت صحف ومواقع إعلامية، غلب على خطابها الاتجاه المعارض، والحفاظ على المعارضة في مواجهة خيارات إدارة 3 يوليو في سحق الصوت والرأي الآخر، غلب عليها أن تكشف عن تخبط الأداء الاقتصادي والسياسي والاجتماعي لإدارة 3 يوليو.

وبرغم استقامة النقد وتوازنه في هذه المواقع، وما لف خطاب هذه المواقع من توازن بين استعراض سلبيات الإدارة الاقتصادية وإيجابياته، فضلا عن نقد المسار السياسي المنطوي على قمع التعددية، وتغييب الحقوق السياسية والحريات العامة، وتدجين مؤسسات الدولة المعنية بأداء وظيفة الرقابة على الأداءات المختلفة كالمجلس النيابي والاجهزة الرقابية المختلفة، والتي أحيل رئيس أبرزها للمحاكمة بعد تقارير عن فساد طال أجهزة امنية وسيادية، هذا الأداء هز ثقة المواطن في أداء إدارة 3 يوليو حيال الأزمات التي ساهم بنفسه في تعميقها فضلا عن إنتاجها.

 

ومن جهة أخرى، كانت خطابات القوى السياسية المضارة من انقلاب 3 يوليو، والتي تحمل خصومة مادية مع هذه الإدارة متمثلة في ضحاياها على الأرض من جهة، وضحاياها المغيبين في السجون من جهة أخرى، فضلا عن استهداف رأسمالهم السياسي عبر سيل الدعاية السلبية التي تقوم بها أذرع إدارة 3 يوليو، وشيطنتهم، على اختلاف توجهاتهم السياسية ومشاربهم الثقافية، كل هذه الاعتبارات دفعت هذا الفريق للإفراط في نقد أداء إدارة 3 يوليو، بما تجاوز في تأثيره حالة هز ثقة المواطن المصري في أداء إدارة 3 يوليو، وانتقل بردة فعل المواطن المصري للقلق حيال المستقبل.

 

وفي محاولة للاستفادة من حالة الإفراط في النقد، يلاحظ المراقبون للأداء الإعلامي المصري، والمحسوب أغلبه على أذرع إدارة 3 يوليو الإعلامية، أنها بدأت هي أيضا تتجه لنقد أداء النظام، وتجاوزت الإفراط في النقد إلى مرحلة جديدة هي مرحلة التخويف من أثر عدم الاستقرار السياسي على الواقع الاقتصادي. في هذا السياق، لم تلجأ إدارة 3 يوليو للدفاع عن نفسها وادائها أمام تيار النقد المحق في تخوفاته وانتقاداته، بل دفعت النقد لحده الأقصى، واستحلت وجود “كبش فداء” جاهز لتحمل المسؤولية بعيدا عن رأس الإدارة، وهي حكومة المهندس “شريف إسماعيل”، والتي لا يمكن اعتبارها غير محسوبة على أداء رأس الإدارة المصرية الحاكمة، فاعتبرت الأذرع الإعلامية هذه الإدارة مسؤولة عن هذا “الفشل الذريع”. وتوج السيسي موجة دفع النقد للتطرف بالإعلان عن أن الدولة “لن تنفع لينا ولا لغيرنا”7، وهو ما كان إشارة للمواطن بدخول مصر مرحلة الخطر الحقيقي.

 

كان د. عبد الوهاب المسيري، رحمه الله، قد ميز في إدارة الصراعات بين “لحظة إضاءة” نماذج التغيير وبين “لحظة الاشتعال”، وذلك في معالجته للتدافع بين إدارة الاحتلال الصهيوني وبين انتفاضة الحجارة في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينينات من القرن الماضي، وفي هذا النموذج يطرح د. المسيري التطرف كسبيل لحرق القضايا وخسارتها. نفس الآلية حكمت تعامل إدارة 3 يوليو مع نقد أدائها.

 

فالموجة الأولى من النقد كان بإمكان تعميقها الضغط بصورة أكبر على إدارة 3 يوليو، وسبق أن حدث هذا بإقالة حكومة المهندس إبراهيم محلب، ولم يكن ثمة ما يمنع من أن يتسع نطاق التغيير هذه المرة بالنظر لكون الدولة كلها موضع تهديد بسبب أداء إدارة 3 يوليو، ونموذج التفاوض مع د. محمود محيي الدين ما زالت طازجة8. غير أن عملية تجاوز موجة النقد الموضوعي المتوازن إلى موجة النقد المتطرف، ثم موجة التخويف من عدم الاستقرار في ضوء فشل الإدارة، هذه الاعتبارات مجتمعة كان تأثيرها على المواطن المصري مما يدفعه لتجاوز موقف المعارضة والاحتجاج باتجاه الكمون والترقب الحذر. وهذا ما يربط ردود أفعال الرأي العام برأس المال السياسي.

وإطلالة سريعة على أدبيات مناقشة المجال العام المصري الراهن، وبخاصة قبل دعوة 11/11 تشي بأن الشباب المصري يؤمن بأن اللحظة التاريخية الراهنة لا تسمح بإعادة إنتاج تجربة يناير بحذافيرها9، ويرون أن آفاق السياسة المصرية حبلى بإمكانيات التغيير، وأن هذا التغيير المحتمل مرشح للانفجار في أية لحظة، وربما لأسباب لا ترقى تاريخيا لأن تكون أسبابا مباشرة لحدوث انفجار سياسي اجتماعي. لكنهم اتفقوا على أن تجربة التغيير القادمة لن تكن على غرار خبرة 25 يناير العفوية، والتي كانت مجهولة المصدر بدورها، والتي خلت عمليا من حركة جامعة، وقيادات مسؤولة، واكتفت بإنتاج حالة رومانسية من التمركز حول الوطن، ومن الاتفاق على ضرورة التغيير، واعتباره بديلا للانهيار. أطروحات اليوم ترى أن دقة الظرف التاريخي تسمح بتغيير محسوب، ولا تسمح بمخاطر سيولة سياسية قد تعني انهيارا اقتصاديا.

 

وتجدر الإشارة إلى أن تخمينات احتمال انفجار الوضع من دون إطار موضوعي من حركة اجتماعية هو أحد السيناريوهات التي تنبأ بها فيلسوف الحركات الاجتماعية “آلين تورين” Alain Touraine، الذي أكد في دراسة مهمة له أن الحركة الاجتماعية تطورت من قبل بصورة عفوية لتحقيق التغييرات الاجتماعية المرغوبة ولم تقتصر على كونها استجابة لموقف. وتضمنت رؤيته التأكيد على تاريخية الحركات الاجتماعية، معتبراً في إطارها أن تنامي الحركات الاجتماعية بسبب قدرة الحراك الاجتماعي على تحقيق تغيير اجتماعي حقيقي، وتنفيذ أهداف واستراتيجيات رشيدة بصرف النظر عن سبيل التغلب على أوجه انعدام العدالة، فضلا عن التفاعل البيني للحركات الاجتماعية المتجاورة؛ بالنظر لقدرة الحركات الاجتماعية على تطوير علاقة صراعية مع منظمات مؤسسة وحركات اجتماعية منافسة. أكد “تورين” على أن طريق الحركات الاجتماعية يتبلور خلال المواجهات التي تخوضها10.

 

2. أجندة ما بعد الاحتجاج

من أهم التساؤلات التي كانت تدور في أروقة السوشيال ميديا خلال الستة أشهر الماضية ذلك السؤال عن “البديل”. وما لفت انتباه مراقبي بيئة الرأي العام الافتراضي في مصر أن طرح هذا السؤال لم يقتصر على الشباب القابع خارج الأطر السياسية الرسمية، بل شاركه في طرحه ما يعرفه نشطاء الواقع الافتراضي باسم “اللجان الإلكترونية” المنافحة عن إدارة 3 يوليو11، والتي ركزت على طرح هذا السؤال لفترة محدودة. وتحليل نمط الدعاية الدائرة حول توفر هذا “البديل” يكشف عن رسالة اتصالية مباشرة وغير مركبة فحواها “عدم وجود بديل”، لا على صعيد القيادة، ولا على صعيد الحركة السياسية العامة الهادفة للتغيير.

حيث ما زال مجتمع السوشيال ميديا يشهد استقطابا، غير واع في حين، ومفتعلا في أحيان كثيرة، يحمل نقدا من الجانبين، الإسلامي والعلماني، تجاه بعضهما، حيث يوحي قطاع من خطاب النقد أن القوى السياسية والاجتماعية لم تبارح بعد خطاب الافتراق والاستقطاب، وتهمل في نفس السياق عملية بناء تصور متوازن لمستقبل مصر، والآليات التي ينبغي الاعتماد عليها لتحويل هذا التصور لرؤية ميدانية عملية بإمكانها قيادة الجماهير نحو هدف محدد مكون من مشروع للتغيير السياسي ودعم الاقتصاد.

أشرنا من قبل إلى أن تقديرات المراقبين أن الأفق السياسي المصري يترقب “جديداً سياسياً”. وهو جديد تتعدد سيناريوهاته، وسبق أن أشرنا من قبل لهذه السيناريوهات12، والتي تبدأ من التغيير المنضبط (في إطار النظام أو من خارجه)، وحتى سيناريوهات تكريس الوضع القائم (سواء بمنهج ساكن أو بتعزيز خيار الفوضى المفضية لعودة الوضع الراهن). لكن تتبقى الإشارة إلى أن التحول باتجاه أي من هذه السيناريوهات له مدخلان لا ثالث لهما، باتفاق مراقبي المشهد المصري:

 

المدخل الأول: يتمثل في استشعار المؤسسة العسكرية المرية أن الإدارة الحاكمة الراهنة عبء عليه، وعلى صورته، وعلى استمرار حيازتها لشرعيتها الراهنة.

المدخل الثاني: يتمثل في توفر مدخل شعبي للتحريك/ التغيير السياسي، وهو مدخل مشروط بتوفر رأس مال سياسي، ثقة، أو ربما حالة أقرب إلى الطمأنة، تضمن ألا يسقط المواطن في براثن انهيار اقتصادي، وسط ما هو مشهود من حالة غياب المؤسسية.

إن افتقاد رأس المال السياسي في هذه المساحة يُفسر غياب المواطن عن الشارع. ويرجع غياب رأس المال السياسي لسابق معاناة المواطن المصري مع القوى الثورية خلال الفترة من 25 يناير 2011 وحتى 30 يونيو 2013، في متتالية من التظاهر والحشد والتعبئة قطعت الأنفاس، وتجاوزت بالناس حد التشبع إلى حد الإنهاك13، يمكن قراءتها كذلك في ضوء نموذج الاشتعال الذي رسم ملامحه “د. عبد الوهاب المسيري” كذلك، وكثيرة هي نماذج تجاوز الحراك السياسي في مصر نموذج إضاءة يناير وصولا للحظة الاشتعال التي يمكن خلالها استعارة تعبير رجل الشارع الذي “كره نفسه” فضلا عن كراهية الحشد والتعبئات المليونية التي تغذت على طاقة المواطن واقتصاديات حياته.

 

هذا الإنهاك الذي عاناه المصري اقترنت به حالة نماذجية من الفشل الغائي. حيث لم يتمكن المجتمع السياسي المصري من وجهة نظر رجل الشارع من الحفاظ على ما جاءت به الانتخابات، عبر خيارات التقويم المختلفة، ولم يصبروا على هذه الإدارة، أعني إدارة مرسي، لا ضمانا للاستقرار بقدر ما كان تريثا لضمان التقاط الاقتصاد انفاسه. كما كان رجل الشارع ينظر إلى أداء جماعة الإخوان خلال هذه الفترة بأنه أداء عصبي، لخصه أحد أصحاب المحال التجارية آنذاك واصفا العلاقة بين إدارة الرئيس الأسبق مرسي وبين المعارضة الشبابية بقوله: “مش عارف ياخدهم تحت جناحه”.

 

ومن جهة أخرى، فإن تواصل الحراك لنفس النخب التي حركت يناير 2011 أسفر عن عودة منظومة تطابق في مؤشراتها تلك المنظومة التي أطاح بها خروج المواطنين في 2011؛ إن لم تكن إدارة أسوأ. وهي مفارقة لنا أن نضعها في مقابل جهد ربات البيوت في شراء “المياه الغازية” وتفريقها على المتظاهرين، لندرك مقدرا انعدام الثقة التي يوليها رجل الشارع للحالة السياسية الغاضبة.

 

3. تكلفة بلا عائد

خلال يوم 11/11، نشرت صحيفة “المصريون” ما يمكن اعتباره موقفاً كاشفا لرؤية رجل الشارع، حيث نشرت خبرا مفاده أن مشيعي إحدى الجنازات، ناحية قرية سلامون دائرة مركز طما شمال محافظة سوهاج، قد فروا خلال مراسم تشييع الجنازة، وذلك عقب أن هاجمت قوات الشرطة مسيرة الجنازة، حيث اشتبهت في أن تكون الجنازة عبارة عن مسيرة احتجاجية، بعد ورود أنباء عن انطلاق تظاهرة في ذات الناحية، وهو ما اضطر المواطنين إلى الهرب، وترك “الميت” على الأرض14.

حساب التكلفة الخاصة بالتغيير من أهم القضايا التي يعني بها رجل الشارع. بدءاً من نصائح الأمهات أيام زمان لأبنائهم “اللي بيقيم راسه بيقطعوها له”، وحتى ما يقرأه مواطنو اليوم من أخبار قصد نشرها والسماح بتداولها للحفاظ على حالة الرعب التي تجعل من رغبة المواطن في التواجد ضمن حدود المجال العام “بدون استدعائه” عبئاً يحاول جاهدا التخلص منه. ومن بين ما يتعلق بتكلفة التغيير كذلك ما يرصده المراقبون يوميا من تدهو وضع البنية التحتية، والعملة، ومردود انهيار الأخيرة في أسعار السلع والخدمات التي يستهلكها المواطن. وفي نفس السياق، كانت الرسالة المباشرة لعبد الفتاح السيسي في كلمته خلال الاحتفال بافتتاح مشروع 1600 وحدة إسكان اجتماعي في منطقة غيط العنب بمحافظة الإسكندرية، حيث قال: ” لو مصر اتهزت مش هتنفع لينا ولا لغيرنا”15.

 

كانت مشكلة المواطن المصري خلال فترة ما قبل يناير 2011 صعوبة تقبل أو تحمل “التكلفة الاجتماعية للتغيير”، وهي مفهوم مستعار من علوم الإدارة لتوصيف تكلفة أي رؤية لتطوير الأداء داخل المنظمات، لم يلبث أن تطور باتجاه توظيفه في العلوم السياسية ليعني التكلفة التي تترتب على اتخاذ قرار سياسي بما في ذلك عملية تخصيص الموارد، وسائر عمليات متابعة أثر القرار واحتواء السلبي منها16. وبالرغم من أن مصر شهدت استهانة بالتكلفة الخاصة بثورة يناير، سواء أثناء تدافع الأحداث وحتى الآن، إلا أن ضعف المقابل أو النتيجة مقارنة بارتفاع التكلفة مما يكبح جماح المشاركة الشعبية في دعوة مثل 11/11، فيما كانت التكلفة المقبولة ستدفعهم باتجاه النزول، حتى وإن كانت الدعوة مجهولة المصدر بتسمية شركاء المشهد السياسي المصري، وحتى مع احتمال عقد صفقات وراء مثل هذه الدعوة لتخفيف أعباء سياسية أو كبح ثمن المعارضة وخفض سقفه (17).

——————————

الهامش

(1) جمال حمدان، شخصية مصر؛ دراسة في عبقرية المكان، القاهرة، دار الهلال، ج: 4، ص ص: 611 – 615.

(2) Davies, James Chowning (editor), When Men Revolt and Why, USA, Transaction Publisher, 1997, p: 135.  link

(3)Telly , Charles. From Mobilization to Revolution, USA, McGraw-Hill, 1978.

(4)French, Richard D. POLITICAL CAPITAL, Representation Vol. 47 , Iss. 2,2011: link

(5)Matthew R. Cleary Susan Stokes, Democracy and the Culture of Skepticism: Political Trust in Argentina and Mexico, USA, Russell Sage Foundation, 2006. link

(6) Lopez, Edward, The Legislator as Political Entrepreneur: Investment in Political Capital, USA, University of North Texas. link

(7) محمد عاطف، السيسي: لو مصر اتهزت مش هتنفع لينا ولا لغيرنا، موقع البداية، 26 سبتمبر 2016.

(8) دينا العوفي، شروط «محيي الدين» لرئاسة الوزراء، صحيفة المصريون، 13 نوفمبر 2016.

(9) أحمد باهي، ثورة مصر «11/11» .. حقائق وأوهام، ساسة بوست، 3 نوفمبر 2016.

(10)MICHEL WIEVIORKA, Alain Touraine and the concept of social movement, hypotheses, 11 May 2016. link

(11) حسام الهندي، ماذا تعرف عن «سبوبة» اللجان الإلكترونية في مصر؟، موقع ساسة بوست، 7 نوفمبر 2016. الرابط

(12) راجع: وسام فؤاد، 11 نوفمبر: خطاب “الغلابة” وسيناريوهات الميدان، المعهد المصري للدراسات السياسية والإستراتيجية، 10 نوفمبر 2016. الرابط

(13) عماد الدين أديب، مصر: إنهاك سياسي، صحيفة الشرق الأوسط، 12 مايو 2012.

(14) حسين السوهاجي، خلال جنازة بسوهاج.. مشيعون تركوا «الميت» وهربوا خوفا من «الداخلية»، موقع المصريون، 11 نوفمبر 2016. الرابط

(15) محمد عاطف، السيسي: لو مصر اتهزت مش هتنفع لينا ولا لغيرنا، موقع البداية، 26 سبتمبر 2016.

(16) Jeff Carter, The Political Cost of War Mobilization in Democracies and Dictatorships, Sage Journal, 30 December 2015. link

(17) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close