fbpx
مختارات

الليبرالية الجديدة: وأصل كل الأزمات

 

كان للليبرالية الجديدة نصيبٌ في كثير من الأزمات التي نعانيها، ومنها على سبيل المثال: الانهيار المالي، والكوارث البيئية، وحتى صعود دونالد ترامب. وهو الأمر الذي يطرح تساؤلاً ملحاً: لماذا أخفق اليسار في تقديم بديل لها؟

تخيل لو أن شعب الاتحاد السوفيتي لم يسمع عن الشيوعية قط، فإن الأيديولوجية التي أصبحت تهيمن على حياتنا، ستكون بالنسبة لمعظمنا، لا اسم لها. أذكر هذه الأيدلوجية في أي محادثة، وسوف يكون هز المستمع لكتفيه هو الرد الذي تتلقاه. حتى لو اكتشفت أن الذين يستمعون إليك قد سمعوا عنها في السابق، فسوف تجد صعوبة في تحديد ماهيتها. الليبرالية الجديدة: هل تعرف ما هي؟

في الوقت الذي يُعد فيه عدم الكشف عن هوية الليبرالية الجديدة أحد الأعراض الملازمة لها، فهو أحد أسباب قوتها في آن واحد. لقد لعبت الليبرالية الجديدة دوراً رئيسياً في تشكيلة رائعة من الأزمات: الأزمة المالية من 2007-2008، نقل الثروة والقوة إلى خارج الحدود الوطنية، والتي تقدم لنا “أوراق بنما” مجرد إطلالة سريعة عليه، والانهيار البطيء في الصحة العامة والتعليم، وفقر الأطفال المتصاعد، ووباء الشعور بالوحدة، وانهيار النظم الإيكولوجية، وصعود دونالد ترامب. ولكن ردود فعلنا تجاه هذه الأزمات تبدو وكأنها تعمل بمعزل عن بعضها البعض، غير مدركين أنها جميعاً تم تحفيزها، أو تفاقمت، عن طريق الفلسفة المتماسكة ذاتها. تلك الفلسفة التي لها – أو كان لها – اسمٌ. أي قوة إذن أكثر تأثيراً ونفوذاً من أن تعمل دون أن يكون لك اسم؟

يوتوبيا الليبرالية الجديدة

لقد انتشرت الليبرالية الجديدة بصورة كبيرة إلى درجة أننا نادراً ما نعترف بها كأيديولوجية. يبدو أننا سلمنا بصحة الافتراض القائل بأن هذا الفكر ذي الطابع “اليوتوبياوي” الألفي يصف قوة محايدة؛ أو أنها نوع من القانون البيولوجي، مثل نظرية التطور لداروين. لكن حقيقة الأمر أن هذه الفلسفة نشأت كمحاولة واعية لإعادة تشكيل حياة الإنسان، وتحويل مركز القوة.

ترى الليبرالية الجديدة أن المنافسة هي السمة المميزة للعلاقات الإنسانية. ومن ثمّ، فهي تعيد تعريف المواطنين كمستهلكين يمارسون أفضل خياراتهم الديمقراطية من خلال عملية البيع والشراء، تلك العملية التي تسمح بمكافأة المُحسِن، ومعاقبة المُسئ. وهي تصر كذلك على أن “السوق” يوفر فوائد لا يمكن لها أن تتحقق عن طريق التخطيط.

أي محاولة للحد من المنافسة تُعد، من وجهة نظر الليبرالية الجديدة، منافية للحرية. يجب أن تكون الضرائب وتدخل الدولة لتنظيم السوق في حدهما الأدنى، كما تتعين خصخصة الخدمات العامة. يتم تصوير تنظيم العمل والمفاوضة الجماعية من قِبَل النقابات العمالية باعتبارها تمثل تشوهات للسوق تعوق تشكيل التسلسل الهرمي الطبيعي للفائزين والخاسرين فيه. كما أن الليبرالية الجديدة تعيد تقييم “عدم المساواة” باعتباره “فضيلة”، وذلك وفق التصور التالي: أنه يضمن مكافأة الذين يعودون على المجتمع بالنفع، كما يسهم في توليد الثروة، والذي يؤدي في نهاية المطاف إلى إثراء الجميع. أي جهود تُبذل لخلق مجتمع أكثر مساواة، تأتي من وجهة نظر الليبرالية الجديدة بنتائج عكسية، كما أنها في الوقت ذاته تتآكل أخلاقياً؛ فالسوق وحده كفيلٌ بأن يضمن حصول كل فرد فيه على ما يستحق.

ونحن، من جانبنا، نقوم بإعادة إنتاج الأفكار الخاصة بالليبرالية الجديدة، واستيعابها. فالأغنياء يقنعون أنفسهم أنهم اكتسبوا ثرواتهم بمهاراتهم الشخصية، متجاهلين مزايا، مثل التعليم والميراث والطبقة، التي ربما تكون قد ساعدت في تحقيق مثل هذه الثروة. بينما ينحى الفقراء على أنفسهم باللوم على إخفاقاتهم، حتى عندما لا يكون متاح لهم لتغيير ظروفهم، إلا أقل القليل.

بغض النظر عن البطالة الهيكلية، فإذا لم تكن لديك وظيفة، فالسبب في ذلك أنك غير مبدع. وبغض النظر عن تكاليف السكن العالية، فالسبب في عدم حصولك على مسكن أنك تجاوزت الحد الأقصى المسموح به لبطاقة الائتمان الخاصة بك، فأنت إذن مسرفٌ وغير كُفء. وإذا لم يعد لدى أطفالك ملعبٌ في المدرسة، فإذا أصبحوا بدناء، فأنت المسئول عن ذلك. ففي عالم تحكمه المنافسة، فإن القابعين في مؤخرة السباق يتم تعريفهم من قبل الآخرين، بل ومن قبل أنفسهم أيضاً، باعتبارهم الخاسرين.

ومن بين النتائج الأخرى ذات الصلة، ما وثقه بول فيرهوج في كتابه المعنون”وماذا عني؟” مثل: الانتشار الوبائي لأعراض مثل إيذاء النفس، واضطرابات الأكل، والاكتئاب، والشعور بالوحدة، والقلق بشأن الأداء، والرهاب الاجتماعي. لهذا ليس من المستغرب أن بريطانيا، التي طبقت أيديولوجية الليبرالية الجديدة بأقصى قدر من الدقة، هي عاصمة الوحدة في أوروبا. الآن، نحن جميعاً ليبراليون جدد.

مفهوم الليبرالية الجديدة:

بالنسبة لمفهوم الليبرالية الجديدة فقد تم صكه في اجتماع عُقِدَ في باريس في عام 1938. وكان من بين المندوبين الذين حضروا ذلك الاجتماع رجلان كان لهما إسهامٌ بارز في تحديد ماهية المفهوم، لودفيغ فون ميزس وفريدريك هايك. كان الرجلان يعانيان مأساة النفي من النمسا، واعتبرا أن الديمقراطية الاجتماعية، كما جسدتها”الصفقة الجديدة” لفرانكلين روزفلت، والتطور التدريجي لدولة الرفاه في بريطانيا، ليسا إلا مظاهر “للجماعية” التي شغلت الطيف نفسه الذي شغلته النازية والشيوعية.

في كتابه “الطريق إلى العبودية” الذي نُشر في عام 1944، قال هايك إن التخطيط الحكومي، بما يقوم به من سحق الفردية، من شأنه أن يؤدي حتماً إلى سيطرةٍ شمولية. وقد حظي هذا الكتاب، بالإضافة إلى كتاب “البيروقراطية” لميزس، بانتشار واسع. ولقد لفت انتباه بعض الأشخاص بالغي الثراء ما تقدمه لهم هذه الفلسفة من فرصة لتحرير أنفسهم من التنظيم والضرائب. وعندما قام هايك في عام 1947 بتأسيس أول منظمة تعنى بنشر مذهب الليبرالية الجديدة (جمعية مونت بيليرين) فقد حصل على دعم مالي من مليونيرات ومن مؤسسات تابعة لهم.

بمساعدة هؤلاء الأثرياء، بدأ هايك إنشاء ما وصفه دانيال ستيدمان جونز في كتابه “سادة الكون” بأنه “نمطٌ من الليبرالية الجديدة الدولية”، وذلك عن طريق تأسيس شبكة من الأكاديميين ورجال الأعمال والصحفيين والناشطين عبر الأطلسي. بينما قام داعمو الحركة من الأثرياء بتمويل تأسيس سلسلة من مراكز التفكير تتولي نشر فكرة الليبرالية الجديدة وتعزيزها. وكان من بين هذه المراكز: معهد المشروع الأمريكي، ومؤسسة التراث، ومعهد كاتو، ومعهد الشئون الاقتصادية، ومركز دراسات السياسة، ومعهد آدم سميث. كما قاموا أيضاً بتمويل مناصب وأقسام أكاديمية، وخاصة في جامعات شيكاغو وفيرجينيا.

الليبرالية الجديدة: مراحل التطور

مع تطورها، صارت الليبرالية الجديدة أكثر حدة. فرؤية هايك أن الحكومات يتعين عليها أن تنظم المنافسة للحيلولة دون تشكل الاحتكارات أفسحت المجال لتصور أكثر تطرفاً ساد بين مبشرين أمريكيين بالليبرالية الجديدة مثل ميلتون فريدمان، يرى هذا التصور إمكانية النظر إلى الاحتكار باعتباره مكافأة على الكفاءة.

حدثٌ آخر حدث خلال هذه المرحلة الانتقالية: الحركة نفسها فقدت اسمها. في عام 1951، كان فريدمان سعيداً لوصفه نفسه بأنه من الليبراليين الجدد. ولكن بعد فترة وجيزة، بدأ هذا المصطلح يختفي. والأكثر غرابة من ذلك، أنه على الرغم من أن الأيديولوجية صارت أكثر وضوحاً والحركة المعبرة عنها أكثر تماسكاً، إلا أن الاسم المفقود لم يحل محله أي بديل شائع آخر.

في البداية، وعلى الرغم من تمويلها السخي، ظلت الليبرالية الجديدة على الهامش. بعد الحرب كان الإجماع يكاد يكون عالمياً: وصفات جون ماينارد كينز الاقتصادية يتم تطبيقها على نطاق واسع، وكان الوصول إلى العمالة الكاملة والإغاثة من الفقر أهدافاً مشتركة في كل من الولايات المتحدة وأغلب دول أوروبا الغربية، وكانت معدلات الضرائب العالية في أوجها، وسعت الحكومات نحو تحقيق أهداف اجتماعية دون حرج، فسعت نحو التوسع في الخدمات العامة ومد شبكات الأمان الاجتماعي.

ولكن في عقد السبعينيات، عندما بدأت السياسات الكينزية في الانهيار، فيما زلزلت الأزمات الاقتصادية جانبي المحيط الأطلسي، بدأت أفكار الليبرالية الجديدة تتسلل إلى المجال العام. وكما أشار فريدمان، “عندما حان وقت الحاجة إلى تغيير… كان هناك بديل جاهز ويمكن الحصول عليه”. وبمساعدة صحفيين متعاطفين ومستشارين سياسيين، تبنت إدارة جيمي كارتر في الولايات المتحدة وحكومة جيم كالاهان في بريطانيا بعض أفكار الليبرالية الجديدة، وخاصة وصفاتها بشأن السياسة النقدية.

وبعد تولي مارغريت تاتشر ورونالد ريغان السلطة، تم تطبيق باقي حزمة السياسات التي توصي بها الليبرالية الجديدة: منح تخفيضات ضريبية هائلة للأغنياء، وسحق نقابات العمال، وإلغاء القيود التنظيمية للأسواق، والخصخصة، والاستعانة بموردين خارجيين، وفتح المنافسة في تقديم الخدمات العامة. وعن طريق صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومعاهدة ماستريخت، ومنظمة التجارة العالمية، تم فرض سياسات الليبرالية الجديدة، وكان ذلك يتم في كثير من الأحيان في أجزاء مختلفة من العالم دون موافقة ديمقراطية. وكان مما يثير الدهشة أن اعتماد هذه السياسات تم في بعض الحالات من جانب أطراف كانت تنتمي إلى اليسار: العمال والديمقراطيين، على سبيل المثال. وكما يلاحظ ستيدمان جونز “فمن الصعب التفكير في يوتوبيا أخرى (غير الليبرالية الجديدة) تحققت على أكمل وجه.”

الليبرالية الجديدة والأزمات الاقتصادية:

قد يبدو غريباً أن عقيدة كهذه تعد بالاختيار والحرية تم الترويج لها تحت شعار”لا يوجد بديل”. ولكن، كما لاحظ هايك في زيارته إلى شيلي في ظل حكم بينوشيه – وكانت آنذاك من أوائل الدول التي طبقت برنامج الليبرالية الجديدة بشكل شامل- “إن تفضيلي الشخصي يميل نحو ديكتاتورية ليبرالية بدلاً من حكومة ديمقراطية خالية من الليبرالية”. فالحرية التي تقدمها الليبرالية الجديدة، والذي تبدو مخادعة يتم التعبير عنها بعبارات عامة، متاحة فقط لحيتان السوق، لا سبيل لاستفادة الأسماك الصغيرة بها.

حرية النقابات العمالية والمفاوضة الجماعية تعني حرية قمع الأجور. التحرر من تنظيم السوق يعني حرية تسميم الأنهار، وتعريض العمال للخطر، وفرض معدلات فائدة جائرة، وتصميم أدوات مالية غريبة. أما التحرر من الضرائب فيعني التحرر من توزيع الثروة الذي يرفع الناس من هوة الفقر.

وكما وثقت نعومي كلاين في كتابها “عقيدة الصدمة”، فقد دافع منظرو الليبرالية الجديدة عن استخدام الأزمات لفرض سياسات لا تحظى بشعبية، بينما يكون الناس مشتتين: منها على سبيل المثال، في أعقاب انقلاب بينوشيه، وحرب العراق، وإعصار كاترينا. والأخير اعتبره فريدمان قدم “فرصة لإدخال إصلاح جذري في النظام التعليمي في نيو أورليانز”.

حين لا يكون فرض سياسات الليبرالية الجديدة متاحٌ محليا، يتم فرضها على المستوى الدولي، وذلك من خلال معاهدات التجارة التي تتضمن “تسوية للمنازعات بين المستثمرين والدولة” هنا تستطيع الشركات العالمية أن تضغط على المحاكم في الخارج لإزالة مختلف أشكال الحماية الاجتماعية والبيئية. وعندما تصوت البرلمانات لصالح تقييد مبيعات السجائر، وحماية مصادر المياه من شركات التعدين، وتجميد فواتير الطاقة، أو منع شركات الأدوية من تمزيق أوصال الدولة، تلجأ الشركات العالمية إلى مقاضاة الحكومات، وفي أغلب الأحيان تكسب القضايا التي ترفعها. وتتحول الديمقراطية إلى مجرد عرض مسرحي.

مفارقة أخرى من مفارقات الليبرالية الجديدة أن المنافسة العالمية تعتمد على تحديد عالمي، والمقارنة استناداً إليه. والنتيجة هي أن العمال، والباحثين عن عمل، والخدمات العامة من كل نوع سوف تخضع لنظام خانق للرصد والتقييم يهتم بأدق التفاصيل الصغيرة، وذلك بهدف تحديد الفائزين ومعاقبة الخاسرين. والمبدأ الذي رأى فون ميزس أنه يحررنا من كابوس البيروقراطية المرتبط بالتخطيط المركزي، قد تمخض عنه بدلاً من ذلك كابوسٌ آخر.

لم يتم النظر إلى الليبرالية الجديدة باعتبارها تستهدف تحقيق مصالح ذاتية، ولكنها سرعان ما أصبحت كذلك. وكان التباطؤ الملحوظ في النمو الاقتصادي في عصر الليبرالية الجديدة (منذ عام 1980 في بريطانيا والولايات المتحدة) أكثر مما كان عليه في العقود السابقة؛ ولكن ليس بالنسبة لشديدي الثراء. فبعد 60 عاماً من التراجع، ارتفع عدم المساواة في توزيع الدخل والثروة بسرعة في هذا العصر، ويرجع ذلك إلى تدمير النقابات، وتخفيض الضرائب، وارتفاع الإيجارات، وإجراءات الخصخصة.

وقد مكنت خصخصة الخدمات العامة وتحويلها إلى سلع سوقية، مثل: الطاقة والمياه والقطارات والصحة والتعليم والطرق والسجون، الشركات من إقامة منصات تحصيل رسوم في مواجهة الأصول الأساسية لاستخدامها من جانب المواطنين أو الحكومة على حد سواء، بهدف تحصيل قيمة الإيجارات. أصبح مفهوم الإيجار في حد ذاته مصطلحاً يدل على إيراد غير مكتسب. فأنت حين تقوم بسداد مبالغ للحصول على تذكرة القطار، فإن قسماً من المبلغ الذي دفعته يعوض المشغلين للحصول على المال الذي ينفقونه على الوقود والأجور وعربات القطارات والنفقات الأخرى. أما الباقي فيعكس حقيقة أنهم وضعوك في موقف حرج (حيث لا يوجد بديل للخدمة التي يقدمونها).

يجني أولئك الذين يمتلكون الخدمات التي تمت خصخصتها بشكل كلي أو جزئي أو يقومون بتشغيلها في المملكة المتحدة ثروات هائلة نتيجة أنهم ينفقون القليل من الأموال في مقابل ما يتحصلون عليه من مقابل مبالغ فيه نظير الخدمة التي يقدمونها. في روسيا والهند، استحوذت نخبة من أصحاب رؤوس الأموال على الأصول المملوكة للدولة بأسعار بخسة. وفي المكسيك، تم منح كارلوس سليم سيطرة شبه تامة على خدمات الهاتف الثابت والهاتف المحمول، وسرعان ما أصبح أغنى رجل في العالم.

وكما يلاحظ أندرو ساير في كتابه “لماذا لا نستطيع تحمل الأثرياء؟”، فإن هيمنة القطاع المالي لها تأثير مماثل. وأضاف، “شأنها شأن الإيجار، فإن الفائدة أيضاً تمثل دخلاً غير مكتسب يتراكم من دون أي جهد”. وكما يزداد الفقراء فقراً، والأثرياء ثراءً، يكتسب الأثرياء سيطرة متزايدة على أصل آخر بالغ الأهمية: المال. فإن مدفوعات الفوائد تمثل عملية نقل هائل للأموال من الفقراء إلى الأغنياء. ومع ارتفاع أسعار العقارات وانسحاب الدولة يتحمل المواطنون أعباء الديون (انظر على سبيل المثال تحول تمويل الطلاب من المنح إلى القروض)، بينما تحصل المصارف ومديروها التنفيذيون على أرباح هائلة.

يقول ساير إن العقود الأربعة الماضية اتسمت بنقل الثروة لا من الفقراء إلى الأغنياء فحسب، ولكن ضمن صفوف الأثرياء أيضاً: من أولئك الذين يكسبون ثرواتهم عن طريق إنتاج سلع أو خدمات جديدة إلى أولئك الذين يتحصلون عليها من خلال التحكم في أصول قائمة، وتحصيل الإيجارات أو الفوائد أو الأرباح الرأسمالية. وعليه، فقد حل الدخل غير المكتسب بديلاً عن الدخل المكتسب.

في كل مكان، تعاني سياسات الليبرالية الجديدة من إخفاقات السوق. فإن كانت البنوك أكبر من أن تفشل، فإن الأمر نفسه ينطبق على الشركات التي تتولى تقديم الخدمات العامة. وكما أشار توني جدت في كتابه Ill Fares the Land، فقد نسي هايك أن ثمة خدمات وطنية حيوية لا يمكن السماح لها بالانهيار، إذ أن انهيارها يعني أن المنافسة لن تأخذ مجراها الطبيعي. فأصحاب الأعمال يجنون الأرباح، في حين تتحمل الدولة المخاطر.

وكلما ازداد الفشل، كلما أصبحت الأيديولوجية أكثر تطرفاً. وترى الحكومات في أزمات الليبرالية الجديدة عذر وفرصة على حد سواء، إذ توظف هذه الأزمات لخفض الضرائب وخصخصة ما تبقى من الخدمات العامة، وتحدث المزيد من الفجوات في شبكة الأمان الاجتماعي، وتعيد تقنين ضوابط عمل الشركات، وتعيد تنظيم المواطنين. فالدولة الكارهة لذاتها تغرس أنيابها الآن في كل جهاز من أجهزة القطاع العام.

الليبرالية الجديدة والأزمات السياسية:

لعل الأثر الأكثر خطورة لليبرالية الجديدة ليس الأزمات الاقتصادية التي سببتها فحسب، ولكن ما خلفته من أزمة سياسية. فكلما تم تقليل نطاق سلطة الدولة، انكمشت القدرة على تغيير مسار حياتنا من خلال التصويت. بدلاً من ذلك، تؤكد نظرية الليبرالية الجديدة، أن بمقدور الناس ممارسة الاختيار عن طريق الإنفاق. لكن البعض بمقدورهم الإنفاق أكثر من غيرهم: في ديمقراطية المستهلك أو المساهم الكبير، فإن الأصوات ليست موزعة بالتساوي. والنتيجة هي تهميش الفقراء والطبقة الوسطى. ومع اعتماد أحزاب اليمين واليسار السابق سياسات ليبرالية جديدة مماثلة، يتحول هذا التهميش إلى حرمان. وبالتالي يتم إقصاء أعداد ضخمة من المواطنين بعيداً عن السياسة.

يسجل كريس هيدجز أن “الحركات الفاشية عادة ما تبني قاعدة مؤيديها، لا من الناشطين سياسياً، ولكن من غير الناشطين”، من أولئك “الخاسرين الذين يشعرون، وشعورهم صحيح في كثير من الأحيان، أنهم ليس لديهم صوت أو دور يمارسونه في إطار النظام السياسي”. عندما ينصرف الجدل السياسي بعيداً عن المواطنين، تصبح استجابتهم عالية للشعارات والرموز والمشاعر. فبالنسبة للمعجبين بترامب، على سبيل المثال، فإن أي حقائق أ وحجج تبدو غير ذات صلة.

وأوضح جدت أنه عندما تتدهور تلك الشبكة الكثيفة من التفاعل بين الشعب والدولة إلى لا شيء سوى السلطة والطاعة، فإن القوة الوحيدة المتبقية التي تربطنا هي سلطة الدولة. ويخشى هايك أن ظهور الشمولية يصبح مرجحاً عندما تفقد الحكومات السلطة الأخلاقية المرتبطة بتقديم الخدمات العامة، فتضطر حينئذ إلى “تملق المواطنين، ثم تهديدهم، وصولاً في نهاية المطاف إلى إكراههم، بهدف حملهم على الانصياع لها”.

مثل الشيوعية، فإن الليبرالية الجديدة هي المعبود الذي فشل. لكنه مثل “الزومبي” (الموتى الأحياء) يكافح كي يظل على قيد الحياة، ويبقي عدم الكشف عن هويته أحد الأسباب التي تبقيه حياً، بل إنه يتمثل في هويات عديدة تبقيه بعيداً عن الأنظار، لكنه ما زال ينبض بالحياة.

يتم الترويج لمذهب اليد الخفية غير المرئي عن طريق داعمين غير مرئيين أيضاً. ببطء…ببطء شديد، بدأنا نكتشف أسماء أعداد قليلة منهم. فقد اكتشفنا على سبيل المثال أن معهد الشئون الاقتصادية، الذي وقف بقوة في وسائل الإعلام ضد فرض مزيد من التنظيم على صناعة التبغ، كان يتم تمويله سراً من قبل شركة التبغ البريطانية-الأمريكية منذ عام 1963. كما اكتشفنا أيضاً أن تشارلز وديفيد كوخ، وهما من أثري أثرياء العالم، أسسا المعهد الذي أنشأ حركة حزب الشاي. وعرفنا كذلك أن تشارلز كوتش، عند تأسيس أحد مراكز الفكر التابعة له، ذكر أنه “لتفادي انتقادات غير مرغوب فيها، فإن طريقة تنظيم هذا المركز وإدارته ينبغي ألا يتم الإعلان عنها على نطاق واسع”.

والكلمات التي عادة ما تستخدمها الليبرالية الجديدة غالباً ما تخفي بأكثر مما توضح. “فالسوق” يبدو وكأنه نظام طبيعي يحمل علينا جميعاً بالتساوي، مثل الجاذبية أو الضغط الجوي. ولكنه محفوف بعلاقات القوة. ما “يريده السوق” يعني ما تريده الشركات ويسعى إليه رؤساؤها. أما “الاستثمار”، فكما يلاحظ ساير، فيعني شيئين مختلفين تماماً. فهو من جانب يشير إلى تمويل أنشطة إنتاجية مفيدة اجتماعياً، وهو من جانب آخر يشير إلى شراء أصول قائمة يتم استنزافها لسداد إيجارات وفوائد وأرباح ومكاسب رأسمالية. إن استخدام نفس الكلمة للإشارة إلى أنشطة مختلفة “يموه مصادر الثروة”، مما يؤدي بنا إلى الخلط بين استخراج الثروة وخلقها.

منذ قرن من الزمان، كان محدثو النعمة محل استهجان من قبل أولئك الذين ورثوا ثرواتهم. وسعى رواد الأعمال إلى الحصول على القبول الاجتماعي عن طريق عرض أنفسهم باعتبارهم من أصحاب الدخل. اليوم، تم عكس العلاقة: حيث يعرض أصحاب الدخول وورثة الأموال أنفسهم باعتبارهم رواد أعمال، زاعمين أنهم قد اكتسبوا دخلهم غير المكتسب.

حالة عدم الكشف عن الهوية والالتباسات التي تتسم بها الليبرالية الجديدة تتشابك مع وضع الإبهام واللامكان اللذين يميزان الرأسمالية الحديثة: فنموذج الامتياز يضمن أن العمال لا يعرفون الجهة التي يبذلون العرق من أجلها، والشركات يتم تسجيلها من خلال شبكة من أنظمة الأوف شور (في الخارج) السرية المعقدة لدرجة أن الشرطة نفسها لا تستطيع كشف المستفيدين الحقيقيين، والترتيبات الضريبية التي تخدع الحكومات، والمنتجات المالية التي لا يقدر أحد على فهمها.

وعدم الكشف عن هوية الليبرالية الجديدة تتم حراسته بشدة. أولئك الذين تأثروا بشدة بآراء هايك، وميزس وفريدمان يميلون إلى رفض هذا المصطلح، مصرين، ومعهم بعض الحق، أن المصطلح يتم استخدامه اليوم بشكل مغرض. لكنهم، على الرغم من ذلك، لا يقدمون لنا أي بديل. البعض منهم يصفون أنفسهم بأنهم الليبراليون الكلاسيكيون أو التحرريون، ولكن هذه الأوصاف مضللة وتزيد من حالة الغموض المرتبطة بالمفهوم، كما أنهم يشيرون أيضاً إلى أنه لا جديد يمكن إضافته إلى ما قدمته أعمال مثل: “الطريق إلى العبودية”، و”البيروقراطية”، أو عمل فريدمان الكلاسيكي”الرأسمالية والحرية”.

الليبرالية الجديدة وفشل اليسار:

لهذا كله، هناك شيء مثير للإعجاب حول مشروع الليبرالية الجديدة، على الأقل في مراحله المبكرة. فقد كانت آنذاك فلسفة مميزة ومبتكرة عن طريق شبكة متماسكة من المفكرين والناشطين تم الترويج لها عن طريق خطة عمل واضحة اتسمت بالصبر والمثابرة. وأصبح “الطريق إلى العبودية” يرسم خارطة الطريق نحو القوة.

من ناحية أخرى، فإن انتصار الليبرالية الجديدة يعكس أيضاً فشل اليسار. فعندما أدى اقتصاد “دعه يعمل” إلى كارثة عام 1929، وضع كينز نظرية اقتصادية شاملة لتحل محله. وعندما ضُرِبت النظرية الكينزية في السبعينيات، كان هناك بديل جاهز. ولكن عندما سقطت الليبرالية الجديدة بعد ذلك في عام 2008، لم يكن ثمة بديل جاهز. هذا هو السبب الذي يبقي “الزومبي” حياً. لقد أخفق اليسار والوسط في إنتاج أي إطار فكري عام جديد من الفكر الاقتصادي على مدار 80 عاماً.

إن أية محاولة الآن لإحياء أفكار كينز لن تعدو أن تكون إلا اعترافًا بالفشل. فمحاولة تبني الحلول الكينزية لمعالجة أزمات القرن الحادي والعشرين تعني ببساطة تجاهل ثلاث مشاكل واضحة: فمن الصعب أولاً حشد الناس حول أفكار قديمة، والإخفاقات التي تعرضت لها النظرية الكينزية في عقد السبعينيات ليست منا ببعيد ثانياً؛ والأهم من ذلك، أن النظرية الكينزية لا تملك شيئاً لمواجهة أخطر أزماتنا: الأزمة البيئية ثالثاً. فالنظرية الكينزية تعمل على تعزيز النمو الاقتصادي عن طريق تحفيز الطلب على السلع الاستهلاكية. لكن واقع الأمر، أن الطلب الاستهلاكي والنمو الاقتصادي كانا محركين رئيسيين وراء الدمار البيئي.

خلاصة

إن عبرة التاريخ المستفادة من تجارب كل من الكينزية والليبرالية: إن معارضة نظام متهالك لا تطرح بديلاً في حد ذاتها، بل يتعين عليك أن تطرح بدلاً من ذلك بديلاً متماسكاً. يتعين على حزب العمال، والديمقراطيين واليسار الأكثر اتساعاً أن تكون مهمتهم الرئيسية تطوير برنامج “أبولو” الاقتصادي، بحيث يكون محاولة واعية لتصميم نظام جديد، مصمم خصيصاً لمواجهة متطلبات القرن الحادي والعشرين(1).

———————————-

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”، ترجمة، روضة الحق، 31 يوليو 2016.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close