fbpx
مختارات

المشروع الإسلامي حضاري إنساني

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

 

قبل البدء ..

هذه الدراسة أعدها الأستاذ الدكتور سيف الدين عبد الفتاح، وتم نشرها على أجزاء عبر “موقع مصر العربية”، بين 11 أكتوبر و20 ديسمبر 2015، وقام “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية” بجمعها وتنسيقها في ملف واحد وإعادة نشرها على الموقع الالكتروني للمعهد لتعميم الفائدة، مع حفظ كامل الحقوق الفكرية والأدبية للأستاذ الدكتور سيف عبد الفتاح، ولموقع “مصر العربية” الذي قام بنشر هذه السلسلة. (ملاحظة: الملف الحالي يتضمن 11 حلقة فقط، وسيتم استكمال باقي الحلقات وتجميعها بعد اكتمال نشرها).

فهرس المحتويات

أولاً: المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال

ثانياً: إشكال الاختزال

ثالثاً: النقد الذاتي فضيلة وفريضة وضرورة

رابعاً: الشريعة والمشروع

خامساً: الأمة وعواقب الدولة القومية

سادساً: الجماعة الوطنية اجتهاد في حق الوطن والمواطنة

سابعاً: أمتنا.. من المسألة الشرقية إلى الشرق الأوسط الكبير

ثامناً: مشروعان يتدافعان في المنطقة.. الأمة الوسط والشرق الأوسط الجديد

تاسعاً: مشروع التغيير الإسلامي والذاكرة الحضارية.. الخبرة والعبرة

عاشراً: خريطة التحديات الحضارية في العالم الإسلامي: التحديات الداخلية

مقدمة

ترددت كثيرًا أن أفتح هذا الملف المهم الذى يتعلق بالمشروع الإسلامي خاصة أنّ هناك تقييمات كثيرة وخطيرة تتضمن تعميمات لا تستند إلى حجة أو برهان سوى ما تشهده الساحة بعد انحسار حكم الإسلاميين بعد ثورات الربيع العربى وبعد أن برزت الثورة المضادة تحاصر هذه الثورات وتلتف عليها.

حينما نقول إن هذا المشروع الإسلامي غير قابل للاستئصال، فإنّ هذه المقولة لا تعد تمنيًا ولا تفكيرًا بالتمني، إنما حقيقة تؤكدها النظرة العلمية الموضوعية لحقائق الواقع العربي والإسلامي.

وبداية هناك شيء اسمه “المشروع الإسلامي”، يمكن أن يُنظر إليه من أكثر من زاوية، وأن يُعبر عنه بأكثر من تعبير، ويمكن أن يُقصد به أشياء مختلفة، لكنني أقصد به تلك الحالة العامة التي تعبر عن أفكار وخطابات وكيانات وممارسات وتفاعلات تجتمع على أن الإسلام مرجعية حضارية وشاملة لتجديد مجالات الحياة في هذه الأمة وفي علاقاتها مع العالم.

هذه الحالة التي تتسع وتتمدد في العالم العربي والإسلامي وفي نطاقات خارج هذه الجغرافيا هي المشروع الحضاري الكبير الذي لا يفصل الدين عن الحياة ولا يفصل القيم عن السياسة ولا يفصل العلوم الشرعية عن علوم الأمة والعمران أو العلوم الاجتماعية والإنسانية، إنما يجتهد ليقدم للعالم تصورًا يجمع بين المشترك الإنساني والتميز الإسلامي.

أولاً: المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال

المشروع الإسلاميبحكم اسمه وطبيعته مشروع حضاري، له فقهه الحضاري،محركه: عقيدة دافعة بأوسع معاني الدافعية،ووقوده: شرعة رافعة بأقوى دلالات الرفعة والرافعية،قوامه: قيم قائمة على كل معنى بالتقويم والإقامة والاستقامة (دينا قيمًا.. دين القيمة)،وجهته: مقاصد كلية عامة حافظة،وعاؤه: أمة وسط، وإطاره: العالم والإنسانية برمتها،ومجاله: الأرض الواسعة الطهور،وضابطه: سنن شرطية قاضية،ذاكرته وشجرتهلها امتداد تاريخي كبير،وأفقه: مستقبل الإنسانية الذي يجب أن يشارك كل إنسان في صياغته وضمان تجدده لا تبدده،وواقعه: إحياء وبعث، وصحوة ويقظة، وتجدد وتجديد، وإصلاح وثورة، ودعوة وتعليم وتربية، وخدمة وتكافل وإغاثة وتضامن، وسياسة ورعاية ومسئولية وأمرهم شورى بينهم وحكم بالعدل وأداء للأمانات، وحفظ مال ومقدرات جعلها الله للناس قوامًا، وبناء مجتمع البنيان المرصوص والجسد الواحد، وتشييد سفينة الأرض القائمة على أمر البشرية بما يصلحه.

هذا المشروع يتجذر مع وجود الإنسان وحضوره في هذا العالم، حضوره بفرادته وتميزه، بتكريمه وتسخير الأكوان له بأمر خالقه، بحمله الأمانة الكبرى والرسالة العظمى (إني جاعل في الأرض خليفة) (إنا عرضنا الأمانة – إلى قوله – وحملها الإنسان)، (وعلم آدم الأسماء كلها) (اسجدوا لآدم فسجدوا) (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر).. إنّه مشروع متكامل تتداعى لإقامته أمة بأسرها، وتستفيد من أصوله وفروعه البشرية جمعاء؛لأنه مشروع للإنسان وبالإنسان بأقوم معاني الإنسان والإنسانية التي تتصل بهدي الخالق الذي يعلم من خلق، ويريد به اليسر ولا يريد به العسر، ولا يفعل شيئا بعذاب الناس إن عدلوا ولم يظلموا وأحقوا الحق وأبطلوا الباطل.

المشروع الحضاري الإسلامي غير قابل للاستئصال لأنه ليس مشروعًا سياسيًا وحسب فيتعثر بتعثر المسار السياسي لبعض مساحاته، ولا مشروعًا فكريًا أو نظريًا وحسب فيتشوش بحملات التشويش والتشويه هنا أو هناك، ولا هو مشروع خدمي أو إغاثي أو تضامني فقط بحيث أن محاولات ضربه بما يسمى تجفيف المنابع أو ترهيبه باسم الإرهاب يمكن أن تقطع شرايينه أو أوردته.. المشروع الحضاري الإسلامي في قلبه المسجد لكنّه لا ينحبس في المساجد، إنما يجعل “الأرض” كل الأرض مسجدًا وطهورًا، فالعبادة فيه حياة كما أن الحياة كلها يجب أن تكون عبادة، والتوحيد فيه حرية لا تتقيد باستبداد أو استعباد من مخلوق كائنا من كان؛ ومن ثم فلا يمكن اعتقال مشروع كهذا بما يجري من تأميم للدين واحتكار للحديث باسمه أو هيمنة على المساجد والخطب والدروس والأئمة.

المشروع الحضاري ثورة وإصلاح؛ ثورة على الخرافة وتغييب العقول بالمخدرات مختلفة الألوان والأنواع، لاسيما مخدرات الأفكار والتصورات الفاسدة، ثورة على خرافة العبيد والأسياد التي يتحدث عنها الانقلابيون، ثورة على خرافة الشعب القطيع الذي لا يعقل ولا يفهم ولا يسمع ولا يرى ومن ثم يجب ألا يتكلم أو يتصرف أو يتحرك إلا كما يقرر له المستبد وأعوانه، ثورة على خرافة أن الإرهاب هو الحل وأن الإنسان كائن جبان لا يحرِّكه إلا الخوف وخرافة التعذيب والتنكيل لتغيير الأفكار والآراء والقناعات، وثورة على خرافة أن السياسة قذارة وفساد وخراب وإصرار على أن هذه ليست السياسة التي هي تدبير وإصلاح ورعاية ومسئولية (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، وقيام الأمة على أمرها بما يصلحه.

المشروع الحضاري الإسلامي مشروع أمة أوسع من مفاهيم الدولة والقطرية والقوميات الحابسة، إلا أن تتحاضن فيحتضنها ويرقى بها للمصاف الحضاري والتنافس العالمي والموضع الذي يليق بها؛ وبالأولى: فهو ليس مشروع حركة أو تيار أو جماعة أو مؤسسة أو مفكر أو فقيه، وإن كان ذلك كله من لبناته وأدوات بنائه؛ حيث تتضافر الدولة والمجتمع، والفرد والجمع، والمرأة والرجل، والريف والمدينة، والمؤسسات العلمية الدينية والدنيوية ووحدات الإنتاج الزراعي والصناعي والشركات التجارية والهيئات الخدمية الرسمية وغير الرسمية، والجاليات المسلمة عبر العالم، والكفاءات والقوى العاملة في كل مكان.. تتضافر قدر الوسع وقدر ما يسعنا التنظيم والتخطيط والتنسيق والتواصل والتبادل والتكامل.. لكي تتجلى الأمة من جديد في بللوريتها الجامعة.

المشروع الحضاري مشروع شباب الأمة الذي لم تتلبسهم العُقد الذهنية والنفسية لأجيال سابقة، بهرها بريق الغرب ولو كان يقتلها ويقمعها، أو أذعنت لوضعية الضحية والفريسة أمام جلاديها المستبدين ورضيت بخدمتهم ولو أذاقوا الأمة مرّ الهوان، إنما فتحو عيونهم على فورة الوعي وثورة التحرير والنموذج الحضاري للانتفاضة الشعبية في عالم العرب والمسلمين، ولم يتكلسوا وراء أوهام العلمنة والتغريب والاستلاب، أو دعوات الجمود والتكلس والانغلاق.

إن العقلية الشابة التي تصرّ اليوم على استكمال مشوار التغيير والتجديد السياسي والاجتماعي والتقني والاتصالي وإعادة بناء مجال عام حر منفتح مشارك هي أولى المكونات الراهنة لحمل شعلة المشروع الحضاري وتنشيط محركاته.

ثانياً: إشكال الاختزال

قد يختلف المهتمون بتشخيص أزمة الأمة من أنها أزمة علم ومعرفة أو عقلٍ وفكرٍ وإدراك، كما يشخصها بعض من الباحثين والمفكرين بأنها أزمة تخطيط سليم وتنظيم حكيم لأهدافنا وطموحاتنا، كما قد يؤكد البعض أنها أزمة برامج ومشاريع تربوية وحضارية معاصرة.

تحتاج الأمة، في ظل الظروف القاسية التي تمر بها والتحديات التي تحيطها، إلى مشاريع حضارية راقية تحفظ لها كيانها السياسي ووجودها الاقتصادي والعسكري وقرارها الأساسي في نموذجها التنموي والسياسي، وثروتها التراثية والفكرية والثقافية، وتضمن لها جيلًا واعيًا راشدًا، جامعًا بين الوعى والسعي.

قد يكون كل ذلك محل اختلاف، إلا أن الأمر الذي لا يجوز الاختلاف عليه أن المشروع الحضاري للأمة الواحدة المؤكد على معنى جامعيتها يقوم في الحقيقة على تراثها وأصولها، ومن قيمها ومبادئها، ونجاح هذه الأمة يعتمد بصورة أساسية على مدى أصالة هذا التراث، وهذه القيم والمبادئ، واستثمار كل إمكانات هذه الأمة ومكنوناتها، فتحولها إلى مكانة وتمكين.

تعريف الظاهرة الإسلامية في هذا المقام أمر حيوي؛ والرؤية الكلية في هذا السياق من دون اختزال هي التي تجعلنا نتعرف على حقيقة هذه الظاهرة في عمقها ومحاولة كشف مكنوناتها والمستور فيها والمسكوت عنه فى رؤيتها ودراستها وتحليلاتها.

هذه الرؤية المنظومية إنما تحاول أن تخضع مثل هذه الظاهرة للتعامل الرصين القادر على التحليل المعمق والمنظم والتفسير الأكثر بيانًا وتبيينًا.

وضمن هذه الرؤية الكلية يبدو لنا ضرورة النظر في مثل هذه الظاهرة إلى حقائق العموم والخصوص فيها وارتباط الداخل والخارج في تحديد حركتها ودراسة الظاهرة فى سطوحها وأعماقها، ودراسة عناصر المشترك والمختلف فى مثل هذه النماذج التى نحاول أن نطرقها للتأشير على هذه الظاهرة.

من الأهمية بمكان أن نؤكد على أن إدراك الشيء فرع على تصوره، هذا الإدراك لا يمكن أن تتحقق كامل فاعلياته إلا من خلال التعريفات والتعرف على الحالة المفاهيمية التي ترتبط بما أسميناه بالظاهرة الإسلامية.

هذه التعريفات تتجه إلى ثلاثة أنواع من المفاهيم تطلق على الظاهرة؛ بعضها يتعلق بوصف المادة الأساسية لهذه الظاهرة فيسميها أحيانًا اتجاهات أو تيارات أو حركات، ويحاول من خلال كل ذلك أن يقدم رؤية تفرق بين هذه الاستخدامات المختلفة. وإذا كان الاختلاف ضمن هذا الاتجاه الذي يحاول تسكين هذه الظاهرة الإسلامية في اسم بعينه أو في نشاط مخصوص إنما يشكل أمثل هذه المناطق اختلافًا، فإن الاتجاه الثاني يتعلق بالوصف بما يسمى بـ “الإسلامية ” .

وعلى الرغم من اتفاق البعض على ذلك الوصف الذي يستخدم مرتبطًا بالتيارات أو بالتوجهات أو بالنشاطات أو بالحركات أو بالتنظيمات، فإن هذا الوصف مُختلَف عليه في تضميناته ومضمونه يؤكد على ذلك المعنى الذي يتعلق بأن مجمل هذه التوجهات المختلفة داخل خريطة هذه الظاهرة لا يخلو من تنازعات حول هذه الصفة والاستئثار بها في الفهم والتأويل.

أضف إلى ذلك أن هذه الصفة لا تزال تجد غبشًا أضفته استخدامات الكتابات الأجنبية في هذا المقام Islamic Muslim – Moslem Islamist ، على الرغم مما تبدو في ظاهرها أنها تمييزات بين صفات متعددة إلا أنها في حقيقة الأمر لعبت دورًا سلبيًا لا يمكن إنكاره، خاصة أن تضمينات هذه التمييزات قد وجدت لدى بعض عناصر هذه الظاهرة الإسلامية هوى في الاستئثار بصفة “الإسلامية” والتفرقة بين “الإسلامي” و”المسلم”، وبدا للكثيرين يتحدثون عن تلك التيارات المختلفة التي تتبنى مرجعية إسلامية في هذا المقام ومدى تمثيل هذه التيارات للظاهرة الإسلامية بكاملها أو لبعض عناصرها.

وهناك اتجاه يحاول التعامل مع هذه الظاهرة من خلال مفاهيم متعددة تتضارب في بعض الأحوال ليس فقط في مرادها ولكن في أهدافها فتحاول بعض هذه المفاهيم أن تضم الظاهرة الإسلامية في محاولة لمد أوصاف جزئية على كامل الظاهرة الإسلامية، فضلًا عن استخدام كلمات ومفاهيم محملة سلبيًا في سياقاتها الحضارية وإطلاقها على ظواهر فى سياقات وأنماط مجتمعية مختلفة.

يبدو هذا فى كلمة مثل “الأصولية” وكلمه مثل “الراديكالية الإسلامية” وكلمات مثل “التيارات العنيفة” أو”التيارات المتطرفة” و”الفاشية الإسلامية” بينما في مقابل ذلك سنجد ضمن هذه الخريطة اختيار من الجانب الآخر لجملة من الكلمات التقريظية لوصف هذه الظاهرة من مثل “الصحوة الإسلامية”، “اليقظة الإسلامية”، “التجديد الإسلامي”، “البعث الإسلامي”.. وغير ذلك من الكلمات وما هو في حكمها.

ضمن هذه الخريطة التي يمكن أن نراها لهذه التوجهات فى عمليه التعريف سنلحظ بعض أمور تتعلق بمسألة التنازع حول هذه الظاهرة ومدى سلبيتها وإيجابيتها واللغة التحذيرية التي قد تترافق أو تستحق التوقف العلمي والفحص البحثي، والأمر كذلك قد تختلط فيه الأمور عند الحديث عن علاقة هذه التيارات بمفاهيم أخرى تهتم بتشكيل المواقف حيال مساراتها المختلفة، ومن أهم تلك المفاهيم ونحن بصدد هذا التحليل لهذا الصعود هما مفهوم “الديمقراطية” والعلاقة بين الديني والسياسي.

الظاهرة الإسلامية، ضمن السياقات السابقة وأهم السمات التي تتسم بها، تعبر بدورها عن ضرورة تتبع عالم المفاهيم المرتبط بها، ذلك أن هذه الظاهرة تعاني بحق من أزمة تتعلق بالمفاهيم التي ترتبط بها وتسهم في عملية اختزالها والإخلال بقواعد وأصول فهمها.

كذا فإنه من أهم الإشكالات التي تتعلق بالبحث في المشروع الحضاري الإسلامي وأهم تصنيفات مشاريعه الفرعية إمكانية التصنيف الجامع لهذه الظاهرة وعدم اختزال خريطة التصنيف بالاقتصار على توجه دون الآخر، وقد اعتمدنا تصنيف الدكتور عبد المجيد النجار في كتابه “مشاريع الإشهاد الحضاري” ، والتي حددها في ثلاث مشروعات كبرى يمكن تطويرها إلى مشروعات أخرى قد تتقاطع معها أو تتولد عنها، أو هي محاولات جادة ومستأنفة للإجابة على أسئلة تتطلب إجابات جديدة مع تحديات ومعطيات جديدة :

– المشروع السلفي الذي يضم كلًا من الحركة الوهابية والسنوسية والمهدية.

– المشروع التحرري الذى جمع أعلامًا من المصلحين والحركات، والذي يمثله على وجه بارز الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وخير الدين التونسي، وابن باديس.

-مشروع الإحياء الإيماني والتربوي الشامل، والذي اتخذ طابعًا حركيًا تربويًا بارزًا، والذي يمثله بالأخص الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية في شبه الجزيرة الهندية.

– ويمكن إضافة اتجاه فكرى إسلامي معاصر تمثل في اجتهادات معاصرة وارتبط بعضهم بمشاريع فكرية من أمثال (مالك بن نبي والحكيم البشري والدكتور محمد عمارة).

– كذلك يمكن الإشارة إلى توجهات ومشاريع فكرية مؤسسية من مثل مشروع إسلامية المعرفة، ومشروع مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، والتي دشنت مشروعًا مقاصديًا تأصيلًا وتفعيلًا وتشغيلًا.

– كما لا يفوتنا التنويه إلى مشروعات حركية معاصرة ارتبطت بما سُمى بـ “الصحوة الإسلامية”، وهي من الكثرة حتى يحسن الرجوع إليها في مظانها في موسوعات صدرت أخيرًا حول الحركات الإسلامية.

إشكالات أولية لهذا المشروع لا بد أن نتعرف على وجودها وعلى تقديم إجابات لائقة بها، الإشكال في الاختزال، وأخطر هذه الإشكالات أن نختزل دراسة الظاهرة الإسلامية في مشروعاتها الحركية أو تعريفات قاصرة أو خرائط تصنيف متحيزة مبتورة تؤثر على التعاطي معها وتعتل مناهج التفكير بها ونهمل زوايا نظر أخرى هي التي تبلغنا النظر الكامل والمتكامل،

ثالثاً: النقد الذاتي فضيلة وفريضة وضرورة

إذا تأكد لدينا أن مشروعنا الإسلامي الكبير غير قابل للإغفال فضلًا عن الاستئصال، وإذا نبهنا في النظر إليه على إشكالية الاختزال؛ سواء اختزاله في أحد مجالات فاعليته (السياسة، الدعوة، المقاومة، الخدمة الاجتماعية والعمل الأهلي، الإغاثة، الفكر والعلم والتعليم، التربية والتنشئة، بناء وتجديد المجتمع المتماسك..)، أو اختزاله في بعض الصور والمقولات، فإن ذلك لا يعني بحال أنه مشروع معصوم أو فوق النقد سواء النقد الذاتي من داخله أو النقد من مساحات وزوايا نختلف معه جذريًا.

ومن ثم نؤكد أن النقد الذاتي فضيلة إسلامية يجب أن يتمتع بها هذا المشروع بروافده وفصائله ومساراته وسياساته وسلوكياته ونظرياته وعالم أفكاره وأشخاصه وتفاعلاته. كما أن النقد فريضة نابعة من خاصية هذه الأمة (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)، وليس أولى بالأمر بالمعروف إذا ترك ولا بالنهي عن المنكر إذا ظهر (الاحتساب) من النفس /الذات / الأنا / النحن.

نحن أولى بكلمة الحق والمراجعة، ولا خير فينا إن لم نقلها ولا خير فينا إن لم نسمعها.. وإسلامنا ما هو إلا النصيحة (الدين النصيحة)، ومرادنا ليس إلا الإصلاح.. هكذا يجب أن نكون (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت)، وأولى شيء بالإصلاح هو النفس الفردية والجمعية، ففاقد الشيء لا يعطيه، ولن يقوم إصلاح إلا على يد صالحين مصلحين: (إن الله لا يصلح عمل المفسدين).

ثم أن النقد الذاتي ضرورة حياتية إنسانية عمرانية أشبه بعمليات حيوية في الجسم تتعلق بالمسح الوقائي ثم رصد السموم والأخطار ثم مواجهتها وإزالتها والاحتفاظ بالمناعة منها.. إن افتقاد النقد الذاتي يصيب الجسد بمرض الإيدز الاجتماعي، وثمة أصوات كثيرة تطالب الحركة الإسلامية بهذا اللون من النقد ويلحون في ذلك ما بين ناصح أمين ومغرض غير أمين.

وهذا لا يمنعنا من التنبيه لبعض الأمور في هذا المقام :

المشروع الإسلامي مليء بنماذج النقد الذاتي والبيني (أي بين التكوينات الإسلامية المتنوعة) المتعاقبة زمنيًّا المتنوعة مجاليًّا ومنهجيًّا، وكثير منها شهدت حوارات وسجالات ساخنة مشهودة ومشهورة، وليست الحالة الراهنة التي يجري فيها عمليات نقد متبادل ومتجادل ومتسع بدعًا من أمر الحركة أو المشروع. نعم، كثير من هذه العمليات غير علمي أو موضوعي أو ممنهج، لكن هذا لا ينفي أن ثمة أعمال منهجية وموضوعية ممتازة (راجع: النقد الذاتي للحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية: الجزء الأول إعداد د.عبدالله النفيسي ود.حامد قويسي، والجزء الثاني بإشرافهما، وأقلام أكابر: الحكيم البشري، ود.توفيق الشاوي ود.فتحي عثمان ود.فريد عبد الخالق، ود.حسان حتحوت ود.محمود أبو السعود، مطبوع بالقاهرة).

إن المشروع الإسلامي لا يقبل دعوات النقد الاتهامية أو التشكيكية أو التي تحاول أن تجعل من مثل هذه الدعوات سوقًا لترويج فرية “الفشل” و”ارتكاب الأخطاء” و”التسبب في تراجع الثورات” أو “الإساءة إلى الآخرين”.. الخ، خاصة إذا جاءت ممن باعوا كل مبدأ وخانوا كل عهد وارتكبوا الموبقات وتسببوا في خراب الثورة والديمقراطية وتحالفوا مع كل فاسد ومستبد ومعتد وقاتل، وبرروا القتل والقمع والاستئصال، وقلبوا الحقائق وروّجوا الأكاذيب وطبلوا وزمروا للانقلاب والحكم العسكري والتدخل والعدوان الأجنبي، وهاجوا مفاهيم الأمة والرابطة الإسلامية والانتماء الإسلامي لحساب تصهين علني قبيح.. عفوًا، لن نقبل الحق من أعداء الحق؛ لأن في ذلك غفلة واستغفالًا، والحق والنصح له أبواب أخرى لا تحصى.

المشروع الإسلامي مستمرٌّ وممتدٌّ وعصيٌّ على الهدم لأنه فعلًا يمارس النقد الذاتي، وإن كان بدرجات ونوعيات تحتاج إلى مزيد عناية وفاعلية وجدية.. لكن ماذا عن المشروعات المنكوسة والمعكوسة تلك التي فرقت العرب وقتلت الشعوب باسم القومية والتحدي والصمود والممانعة، وتلك التي برَّرت الاستئصال والقتل والتنكيل باسم الليبرالية وخانت إرادة الشعوب وهي لا تستحي أن تتحدث عن الديمقراطية (وتنكر الإسلاميين لها!!)، وتلك التي رفعت شعارات العدالة ومقاومة الظلم والتهميش والاستبعاد والإفقار وما إليه ثم أعماها حقدها الأيديولوجي، فركعت للرأسمالية المتوحشة والمتجحشة، وهاجمت الخيارات الشعبية بلا أي معنى ولا منطق لا لشيء إلا لأنهم يحصدون كل مكسب، فضلًا عن أدعياء الوطنية الذين ضيعوا الوطن لحساب مطامعهم الأنانية وأكاذيبهم المكشوفة.

المشروع الإسلامي يحتاج إلى نقد على مستواه من السعة والعمق، وأن يكون الناقد واعيًا بتحدياته الذاتية والخارجية وبتنوع استجابات الإسلاميين؛ ومن ثم فلا يعمم الأحكام ويغفل أن بعض المشروع يوازن بعضه. مثال على ذلك الذين أثاروا الضجة حول العنف أين موقفهم من السلميين؟ ومن الجدل القوي والعلني بين تيار السلمية وتيار القوة؟ وأين موقفهم من المقاومة المشروعة؟ ولماذا يميلون للتعميم الأعمى واضح العمدية؟ ثم الموقف من الديمقراطية: لماذا ينزل النقد غير البناء على السلفيين دون نظر في تطورات الموقف التأصيلي والشرعي لدى تيار المفكرين الإسلاميين والإخوان ومن شابههم.. وكذلك الموقف من الثورة: نعم الإخوان ومن شابههم إصلاحيون لا ثوريون (راجع كتاب النقد الذاتي المشار إليه ج1، ص ص 218-220)، وقد كان لذلك دور في تعثرهم وتعثر الثورة، لكن ماذا عن غيرهم من أدعياء الثورية الذين لا يريدون فيها شعبًا ولا ديمقراطية أو شرطهم الوحيد: ثورة أو ديمقراطية بلا إسلاميين؟

ما أريد قوله إن النقد الذاتي للمشروع الإسلامي لن يتوقف سواء حال نجاحه وتقدمه أو حال تعثره في بعض المسارات، لكن يجب أن يكون نقدًا بناءً ومضيفًا وموضوعيًا وجادًا، سواء من قبل أهله ورواده (فإن الرائد لا يكذب أهله)، أو من قبل المنصفين من غيرهم ومن خارجه مهما كانت شدتهم أو حدتهم، أما النقض والنقمة على المشروع والشتم والرمي بالأباطيل فلا نلتفت إليه ويجب ألا يؤثر في سير القافلة. وليس هناك نقد للنقد وإن لم نحجر على أحد وحتى لا يتحول إلى دوامات لا مخرج منها، والأفضل أن يشفع النقد بأطروحات وبدائل تسد الثغرة وتكمل النقص وتعالج الأمراض حتى تكون نصيحة متكاملة وتصحيحات متواصلة.

رابعاً: الشريعة والمشروع

بين الشريعة والمشروع صلة مكينة عنوانها ضرورات الاجتهاد، فالاجتهاد خصيصة بنيانية في كيان الشريعة.

إن التأصيل إذا لم يلحق بتفعيل وتشغيل ظللنا على أهميته تلك نراوح في المكان لا نمارس عملية الاجتهاد الحقيقي، فإن معرفة المتحصل من عمل الشاطبي في موافقاته (المقاصد الكلية العامة) والوعي بأصوله وعمله وهدفه، هذا الوعي التأصيلي يحتاج مع الأصل وصل ابتنائي قادر على استنباط الأصول وتفريعاتها، والأصول ومولداتها، والجذر وفروعه وثمره وأوراقه، وعناصر شبكيته ونسج خيوطه في إطار جامع يشد بعضه بعضًا.

كل ذلك في سياق منظومي فتكتمل حلقة أخرى من عناصر الاجتهاد المقاصدي ألا وهو (الاجتهاد المنظومي) بكل مقتضياته وتكويناته وغاياته، الذي يقوم على قاعدة ممكنة تحرك معاني العلاقات والتشبيكات، ضمن منظومة تتساند في عناصرها، تتماسك في بنائها، تتكامل في معانيها، تتكافل في مغازيها، تتواصل فيما بين أسسها وقوائمها.

التفكير المنظومي في الشريعة تراتب وأولويات، حقائق وموازين، قدرات وإمكانيات، أشكال وعلاقات، وهو بهذا المعنى يقدم قواعد التصاعد والتنازل في سلم تراتبي يضمن فاعلية عناصره، وتمكين أسسه وقوائمه، والتفكير المنظومي نسق وتنسيق وسياق، يقوم بعملية تنظيم للمفردات فيضعها كل في موضعه، ضمن عدل النظام وتراتبه، فكل موضوع بقدر، في موضعه متسقًا ببصيرة وعمق نظر، والتفكير المنظومي معمار وهندسة، حينما يتكامل البناء فإنه يكون عصيًا على الهدم أو النقض، كما أنه في تماسكه لا يقبل التفسيخ المتعسف أو المصطنع، فإذا فرغنا من كافة التفكير المنظومي واتفقنا على ما يولده من رؤية وتصور وإدراك، استقر ذلك في الفهم والفعل وصار فقهًا عميقًا لا بد أن يُكتب ويُدرس ويُعلم ويُدرب عليه ألا وهو أصول الفقه المنظومي الجامع والضام والكاشف والفارق المميز، والواصل في سياق متوالية من المنظومات تصون ولا تبدد، تجتهد وتجدد، تؤصل ولا تقلد، تيسر ولا تشدد، توسع الأفق والمجال رحبا يتمدد، تقارب وتسدد، وتمارس كل ذلك في تنوع وتعدد، وهي بذلك موصولة بالتراث تقف على مناهجه أكثر مما تذكر المسائل المتعلقة به وتردد.

هذا الفقه المنظومي هو القراءة الواعية البصيرة المتراكمة، الرافعة الدافعة، الحاضنة الحافظة، تقرأ الشريعة كالجملة الواحدة، فتفيض الشريعة بما تحوي، وتستكنه مكامنها فتعطي، وتجمع وتنضم وتتفاعل عناصرها فتقوى وتشد من بعضها بعضًا، العنصر في الشريعة كالبنيان يشد بعضه بعضًا، العلاقة بين الكلي والجزئي وبين الأصل والفرع عمليات منهجية تتضمن حقيقة تسكين الجزئي في كلييه وعقد الصلة والنسب بين الأصل والفرع ضمن عملية تسكين وتنسيب، يُرد فيه الفرع إلى الأصل ردًا جميلًا رحيمًا، مستقرًا ومكينًا من دون افتعال أو انفعال أو اصطناع أو تعسف وعسف،ومن ثم فهي منظومة بيان ومنظومية أفعال تصل النظرية بالتطبيق، والعلم بالعمل، والفكر بالحركة، ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا.

وهي لا تنظر إلى منظومة الآخرة كمنظومة منفصلة عن منظومة الحياة، وإنما هي منظومة الحياة الآخرة (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنسى نصيبك من الدنيا)، وكما في كثير من كتب التراث فإن (الدنيا مزرعة الآخرة) الآخرة المحرك الدائم للإنسان وعيًا وسعيًا في حياته ودنياه ومعاشه.

ويكون هذا الوصل في سياقات ما أمر الله به أن يوصل ضمن كدح إنساني حضاري متواصل يحركه الاختبار الدائم والابتلاء المستمر حتى الفتنة العظيمة معمل ابتلاء تتدرب فيه النفوس على أن تكون سامية راقية عزيزة “أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ” .

هذا “الفقه العمراني” والاجتهاد المرتبط به موصول بـ “علوم الأمة” أو “علوم العمران” تتكافل حيث يجب، وتتكامل وتتداعى وتتساند حيث وجب هذا الفقه في هندسة الفروع والتخصصات عمل متراكم، هذا الاجتهاد العمراني يتواءم مع حركة هذه العلوم وتكاملها، ذلك أن شجرة المعارف والتخصصات تعبر عن شجرة واحدة ذات فروع متنوعة ومتعددة، تعطي من ثمرها ولكل من تكويناتها وظائفها المخصوصة التي تجعل الشجرة مكينة الجذور طيبة الثمار، علوم اجتماع وإنسان ينتظم بها العمران في عمارة هذا الاجتماع الانساني بكل ما يحفز تكوينه وتماسكه وبنائه والوصول به إلى غاياته ومقاصده، علوم اجتماع وإنسان وشريعة تنظم بينها الأمة فتجعلها قبلتها وبوصلتها ووجهتها لا تنقطع عنها ولا تمتنع عن معاني الفاعلية فيها والارتقاء بها والنهوض بكيانها وتجديد عمارتها وعمرانها.

علوم بعضها من بعض من مشكاة واحدة تنشد إلى أصول واحدة ومقاصد حافظة وحاضنة ومرجعية كلية لا تقبل التجزيء أو التشطير أو التفسيخ، هذا هو معنى العمران المنتج للحضارة بكل عناصرها وأعمدتها وتنوعها فتحفظه وترعاه متجنبه أي عوامل تتسرب إليه فتفسده أو تقضي عليه بالخراب، وتظل أصول مجالات المقاصد تشكل إمكانية لأعمدة العمران البشري الحضاري وأصول يقام عليها العمران، وهي في ذات الوقت تشكل معايير لتصنيف العلوم وتربطها بها ( علوم الدين / النفس / النسل / العقل / المال /..).

هذا التصنيف للعلوم المختلفة إنما يتطلب نوعًا من الاجتهاد العمراني يقدم أعمدة وهندسة وأساسات البنيان باقتدار، ثم يعلو العمران ما أراد على أساس مكين وتفكير وتدبير رصين، يُبنى عليه فلا يتهدم، ويبتنى عليه فيشتد، ويراكم فوقه فيعلو سامقًا لا تطاولًا في البنيان، وإنما تمكنًا في هندسة وعمارة وعمران. حافظًا لأصل الكيان، ممكنًا في المكان، مؤسسًا في العمران، جامعًا في كل ذلك أصول البناء والبنيان، هادفًا إلى حياة طيبة في مواجهة المعيشة الضنك في معاش الإنسان، فإن تنزيل أصول المقاصد الكلية العامة من أول درجات هذا الفقه العمراني الهندسي في الفروع بل هو بمثابة الأعمدة والعمران المؤسسة لكل هندسة بنيان مراعية أصول الأمن والأمان.

هذا التنزيل في تفعيله وتفاعله يحرك النموذج المقاصدي في “أفق” متجدد، ومساحة “متمايزة” يتحرك الإنسان فيه مؤصلًا وموصلًا في آن لا ينسى أصل “الأصل” في “الوصل” الذي يتحرك على قاعدة أنه لا وصل إلا بأصل وأساس وتأصيل.

ومن هنا يكون البناء وفق أصول مرعية ووصل واتصال وتواصل ووصول إلى غاية ومقصد، فإنه من معاني الشريعة بل وأصلها مورد الماء الذي لا ينضب، ومن الواجب ألا يهدر أو ينحرف عن مصبه، وأن يتحرك كل من ارتبط به مصلحة ومنفعة لصيانته وحمايته واستثماره وتعظيم منفعته، وتقديم عطاءاته وتكثير وتعظيم فائدته، فكيف نشرع بالتعامل مع شريعة الماء ومواردها: صيانة وحفظًا، رعاية وتفقدًا، حماية وأمنًا، اجتهادًا وتجددًا، تفاعلًا وتفعيلًا وتشغيلًا، فإن لم تعط هذه الشرعة “ظاهرًا” في ناسها والمتبعين لها والمرتبطين بمواردها، فإن هذا ليس من تقصيرها أو تصورها، بل تصور هؤلاء الذين كانوا، وربما ما زالوا “قوما بورًا”، ففقدوا الأصل حينما افتقدوا فن الوصل والاتصال بالشريعة والوصول بطريقها المستقيم، اجتهاد مستمر يقوم بوظائفه في حماية الناس وتحقيق أمنهم وسكنهم وسكينتهم.

ومن هنا فإن هذا العمل الموزون في طبيعته وآلياته ومقاصده من حركة اجتهادية عمرانية هندسية تعلم فن إلحاق الفرع بالأصل والجزئي بالكلي في إطار فقه منظومي، يعرف للأصل معناه ومغزاه، ويعرف للفرع مبناه ومعناه فتأتي الفروع على شاكلة الأصل من مورده ولكنها تختلف وتتمايز رغم أنها تُسقي بماء واحد ومن شرعة ماء واحدة ممتدة لا مقطوعة ولا ممنوعة في أدائها أو عطائها أو مسيرتها ومسارها.. إنه “الفقه المنظومي” الذي يحرك طاقات الوصل مع الأصل في عمل مستمر ومستقر.

وبين الأصل والوصل والاتصال والتوصيل والتشبيك والوسائط الواصلة يأتي الاجتهاد العملياتي، فيرى الأمور في ثوبها العملياتي ناهضًا بتفكير يصل بين المسائل والوسائل، والمقال والمثال، والحال والمحال، وإدراك معاني الاضطراد والاستقرار والاستمرار والتجدد والتعدد ومراعاة التمدد والتعقد. فتأتي العمليات خطوات ومراحل، وخطة ووسائل، وقدرة وبدائل يصل الأداة بالأداء، والآلية بالتسيير، والإجراء بالتطبيق، والحركة بالتدبر والتدبير، والوسط بالوسائط، فتقدم العملية موصولة بـ “متصل” يبدأ بالتأسيس وينتهي بالغاية وصلًا للمرجعية بالرجعي، مرجعية الأساس ورجعي الاستقبال.

وتتحرك العملية بمنظومة من المسائل، ونسق من الوسائل، يتحرك صوب تعديل المائل، وإزالة الحائل، وتمهيد الطرق للسير والمسيرة والمسير الهائل، والوعي بالقابليات والقابل، وموافقة المقال للمقول والقائل ووصل بين الحشد والوعي، واتصال بين الوعي والسعي، فترشد الحركة والممارسة وتستثمر التأصيل والمدارسة، وتحرك عناصر المؤسسية والمداومة (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) فالنوع القليل المتراكم خير من المنقطع الكثير المتناثر، والعمليات صنوف وأنواع بين التهيئة والإعداد والاستعداد وبين الإرادة والفعل والعزم، ومن أراد الاستعداد طلب الاستمداد رغبة في الوصول والقبول والعمليات والممارسات، وأبنية ومؤسسات وقواعد وإجراءات ووسائل وآليات، وإمكانات وقدرات ومسهلات وعقبات (فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة)، وأحوال وضغوطات وتغيير وتجديد وفقه مآلات.. فكل ذلك عملية من المهد إلى اللحد، ومن الميلاد إلى المنية مسيرة الحياة الموصولة بين الزرع في دنيا الناس وصولًا لرضا الآخرة، فيصير اليوم الآخر المحرك الدائم للإنسان والإنسانية.

وهي عمل موصول بين قيام القيامة، وقيام بالعمل والسعي، إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها.. بين الغرس الدائم وتفريع العمليات واتصالها بالمقاصد والغايات اجتهاد الوقت من فروض الوقت ومن الحكمة الذهبية التراثية أنه “لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة وفقه البيان من أنواع الفقه المغيبة أو الغائبة”، ولا فقه بيان إلا بأصول و”بينات” وبين البيان والبينات وصل واتصال وأصل بجذر اللغة وكأن بوظيفة البيان من الوعي بالبينات الواضحات، وهذه سورة “البينة” تحرك كل عناصر البينة في الإيمان والاعتقاد والفكر والنظر والتدبر والعمل، والحركة والسلوك في أنساق تتحرك صوب معاني الشريعة التي هي :

حكمة كلها في باب المعرفة، وعدل كله في باب القيم، ورحمة كلها في كل أبواب السلوك، ومصلحة كلها في باب الغايات والمقاصد، على ما يؤكد ابن القيم بين معاني هذه الشريعة الموضحة لأنساقها يأتي الاجتهاد الواصل بين الواجب والواقع، فلابد من أن يعطي الواجب حقه من الواقع، ولا بد من أن يعطي الواقع حقه من الواجب فيتبادلان العطاء والصلة بحبل من الله وحبل من الناس، إنها علاقة أكيدة بين الشريعة والمشروع التي تحرك كل مساحات وساحات الاجتهاد.

خامساً: الأمة وعواقب الدولة القومية

على الرغم من أن الواقع قد اتجه إلى التعدد في الكيانات الإسلامية منذ أن كانت هناك خلافة عباسية في بغداد وأخرى أموية في الأندلس، وبدت بعد ذلك كيانات التغلب التي تعددت مستندة إلى قوتها وشوكتها وغلبتها وقدرتها على الاستيلاء على السلطة والسلطان، وقد ارتبطت كيانات التغلب تلك بالخلافة العباسية ارتباطًا اسميًّا ورمزيًّا، وتعددت هذه الإمارات تبعًا لجنس وعرق فضلًا عن اتباعها مذاهب دينية شتى، وأفرز التعدد آنذاك إشكالات مهمة على أرض الواقع في السياسات والعلاقات.

جاءت الدولة العثمانية لتشكل نموذجًا في تحقيق جامعية الأمة حتى لو أتاحت التعدد داخلها، ولكن لم يكن ذلك على نمط إقرار التعدد المتغلب وإمارات الاستيلاء والارتباط الاسمي والرمزي بالكيان المركزي للخلافة العباسية، ولكن ذلك كان يعني محاولة نظم هذه الكيانات من خلال حروب جمعت تلك الكيانات في منظومة الخلافة العثمانية، فاتجهت بالأساس لتكوين “جامعة إسلامية” انطلقت بعد ذلك فاتحة لأجزاء عديدة من أوروبا، والتي حملت هذا الهاجس العثماني في طيات سياساتها وعلاقاتها منذ نشأة كيان الخلافة العثمانية وحتى بعد تفكيكه، خاصة ما تركه من آثار مهمة على الأمن الأوربي، والبلقان والقوقاز ليسا إلا دالتين مهمتين في هذا المقام.

وبغض النظر عن الفشل الذي طال هذا النموذج في النهاية، وسواء جاء تفسير هذا الفشل لأسباب داخلية تتعلق بالكيان العثماني ذاته، أم في علاقاته المتعددة مع كيانات أخرى انتظمت في المنظومة العثمانية، أو لأسباب خارجية تَعين من خلالها تكوين جبهة من الدول الأوربية لمواجهة التحدي العثماني آنذاك، أو لأسباب خارجية داخلية تشكلت فيما سُمي بالثورة العربية، واتفاقات وعلاقات مع الدول الأوربية حملت قدرًا من الخداع الذي كان مقدمة مع اتفاقية سايكس بيكو ومؤتمر سان ريمو لتقسيم مناطق نفوذ استعمارية.

بغض النظر عن كل ذلك، فإن الحقبة العثمانية قد انتهت، وبرزت الحقبة الاستعمارية التي استولت على ميراث الدولة العثمانية، وألغيت الخلافة التي صارت رمزية في تركيا، وبدا هذا الوضع الجديد يفرز سياسات وعلاقات جديدة ومتمايزة عما سبقها من حقبة مثلت سيطرة الخلافة العثمانية، خلّفت تلك الحقبة الاستعمارية وضمن علاقات المستعمِر والمستعمَر، والسيد والتابع، وتقسيم علاقات النفوذ إلى أن تكون المنطقة التي يُشار إليها بالعالم الإسلامي (حتى في امتداداته الآسيوية والإفريقية) موضوعًا لا طرفًا، مفعولاً به لا فاعلاً، وأفرزت نمطًا من العلاقات التابعة للدولة المستعمرة. إلا أن الشعوب لم تكن في حالة من الإقرار لهذا الوضع أو تلك الحالة الاستعمارية من غير مقاومة، وبرز العامل الإسلامي – العقدي ضمن عوامل أخرى في عناصر المقاومة للاستعمار الاستيطاني، والمطالبات بالاستقلال والتحرر.

وأنتجت هذه الحقبة – ضمن ولادات قسرية وقيصرية – كيانات شديدة التنوع والتعدد والتجزؤ، وغلب على الفكر الاستعماري في هذا المقام سياسات عدة :

الأولى: “ارحل لتبقى” في إطار صياغة سياسات جديدة تناسب مرحلة التحرر والاستقلال السياسي، بعد أن كان شعارها “ابق لتنهب”، وهو ما يعني الحرص على عناصر تؤكد العلاقات التابعة واستمراريتها، على تفاوت بين المناطق والكيانات المختلفة في درجة تابعيتها وارتباطها.

الثانية: تقسيم هذه الكيانات إلى دول تتحرك ضمن علاقات تسند تحقيق هدفها في سياسات البقاء الجديد في شكل الرحيل، وكان الشعار “فرق تسد”، والذي أبرز هذه الكيانات بما يضمن حال فرقتها إما تكوينًا، أو اصطناعًا، أو إثارة، كل ذلك في سياق ما أسمي بالاستعمار الجديد، أو ما تحركه عوامل الاستعمار واستثمار عناصر القابلية للاستعمار، والتي شكلت قواعد مهمة لصياغة السياسات والعلاقات، سواء ما فرضته من علاقات بينية بين بعضها، أو من علاقات بين هذه الدول والدول المستعمرة السابقة، فضلًا عن تلك العلاقات بين هذه الدول فيما بينها، وهي أنماط السلوك والسياسات والتفاعلات والعلاقات والأنظمة التي سُميت فيما بعد بـ “النظام الدولي ” .

في هذه المرحلة تكونت أنماط من العلاقات والسياسات غلب عليها :

* استمرارية علاقات الدول المستقلة بالدول المستعمرة لها سابقًا.

* تفجر العلاقات البينية بين هذه الدول فيما بينها.

* محاولات إنشاء كيانات وتنظيمات هدفها تنسيق وتنظيم العلاقات فيما بينها.

وبينما كانت السياسات والعلاقات الدالة على النمطين الأول والثاني، كان المستوى الثالث – سواء في حجم هذه المؤسسات أم أهدافها وفاعليتها – أقل تأثيرًا؛ مما غلب الاتجاه “التابعي” في علاقات تلك الدول بالمستعمر السابق لها أو بعلاقات تبعية جديدة، والاتجاه التصارعي أو الاقتتالي بين هذه الكيانات فيما بينها (نزاعات الأعراق – نزاعات الحدود – نزاعات المذاهب)، أما الاتجاه التعاوني فظل في أدنى مستوياته من التفعيل والفاعلية.

المهم أن هذه المرحلة تميزت بالولادة القسرية الشائهة لما أسمي بالدولة القومية في دول العالم الإسلامي ودول العالم الثالث، وإن نظرة مقارنة على تاريخ العلاقات الأوربية وكيف كانت القومية والدولة القومية مداخل للجامعية (الوحدة الإيطالية، الوحدة الألمانية – الأمة الفرنسية، الأمة البريطانية)، وتاريخ العلاقات لدول العالم الإسلامي، وكيف كانت الدولة القومية نتاجًا لتفكيك كيانات أكبر (الدولة العثمانية) وحملت في طياتها عناصر تفكيك – أو هذا ما أريد لها – أكثر مما حملت عناصر جامعية.

هذه الملاحظة تعني ما أحدثته هذه النشأة المشوهة والقسرية للدولة القومية من ميراث المشاكل الممتد في داخلها، وفي علاقاتها البينية أو الإقليمية، والارتباط القافز على مقتضيات الجغرافيا (التجاور المكاني) ومقتضيات الزمان (التحديات التاريخية الممتدة عبر الزمن) ومقتضيات العقدية الجامعة (الإسلام) أو الثقافة الداعية إلى الوحدة، في علاقات خارج الكيان معظمها يتسم بالتابعية.

كما تعني هذه الملاحظة أيضًا أن ميراث الدولة القومية حافظ بشكل حاد ومتواتر على علاقات تسير صوب التفكك لا التكامل (السيادة – الحدود)، خاصة حينما يتحول التمسك بها وبما يترتب عليها من سياسات وعلاقات إلى حالة مرضية تضعف الكيان، كما تضعف علاقاته بكيانات أقرب ما تكون إليه.

وإن نظرة مقارنة بين المسيرة نحو المؤسسات الجامعة في الخبرة الأوروبية والخبرة في عالم المسلمين لتشكل دالة واضحة في هذا المقام. وما تحمله هذه المؤسسات من قدرات تفعيل في الخبرة الأوربية وتصورات عن السيادة والحدود والتكامل، وما تشير إليه تلك المؤسسات في خبرة عالم المسلمين من استمساك مرضي بالسيادة والحدود تصل إلى حد التأثير الناسف لتفعيل وفاعلية هذه المؤسسات في العلاقات والسياسات أو الوجود الرمزي لمؤسسات التكامل دون إجراءات تصب في فاعلية علاقات التعاون والتكامل.

الدولة القومية كانت في الغرب “جامعة” بينما هي في عالم المسلمين نتاج لتفكيك كيانات أكبر فخلفت ميراثًا من المشاكل.

إن المعادلة التي تهم كثيرًا من هذه الدول هي الاستمساك الضار بمعنى “الدولة القومية” لا العمل النافع الذي يصب في “الدولة القوية”، وما يعنيه ذلك من قوة هذه الدول وتعظيمها في سياق تكاملها ضمن معادلة الدولة القوية تظل هي الأقدر على حل مشكلات هذه الدول لا التعلق الأبدي بالدولة القومية الواهنة والمستباحة،بل إنه من المهم التذكير بأن مفهوم الدول القومية يصب، في النهاية، في تعظيم سيادة هذه الدول جوهريًّا لا شكليًّا، وأن مفهوم الدولة القومية كما تتعاطاه تلك الدول في مواجهة بعضها، والتهاون بصددها حيال علاقاتها مع العالم الخارجي – خاصة الغربي – لا يصب إلا في ضعف ووهن هذه الدول فرادى، وتهميش علاقاتها الجماعية، وتعاظم سياساتها وعلاقاتها التابعة.

وأيًّا كان مفهوم الدولة القومية والأزمة التي يشير إليها في النشأة والتأثير في دول العالم الإسلامي ودول العالم الثالث، إلا أنه كمفهوم وواقع قد فرض نفسه على خريطة التعامل الدولي، سواء كمفهوم جامع في الخبرة الأوربية، أم كمفهوم مفكك في عالم المسلمين. واعتباره مرحلة في الخبرة الأوربية ضمن كيانات أكثر اتساعًا وامتدادًا وتكاملاً وعمل مؤسسي مكين وإجرائي متين، وفي المقابل تعامل معه عالم المسلمين بانتقائية شديدة تصب في المانعية من تفعيل التكامل، والتابعية قفزًا على علاقات التكامل الحقيقية، عبر علاقات غير متكافئة تصب في قوة الآخر أكثر مما تصب في عافية الذات وكيانها، وكلاهما يؤدي إلى إضعاف الفاعلية بل وتلاشيها في الوعي والسعي.

هذا المفهوم الذي يتعلق بالدولة القومية أحدث تأثيرات مهمة على مفهوم الأمة الإسلامية، وعلى المفهوم التقليدي الذي أسمي “بدار الإسلام”، إنه أفرز تعددًا من نوع متميز، ليس هو بتعدد الانفصال (بين دولة عباسية عاصمتها بغداد) و(دولة أموية في الأندلس)، وليس هو بتعدد التغلب والاستيلاء الذي أفرز كيانات جزئية ارتبطت بعلاقة اسمية ورمزية بالخلافة العباسية، وليس هو بالتعدد الذي حركه اقتسام وتنازع مناطق النفوذ في الحقبة الاستعمارية وموازين القوى في ذلك الوقت.

ولكنه كان التعدد الذي أشار إلى النشأة الخاصة للدول القومية في عالم المسلمين والعالم الثالث، والذي حكمته موازين حقبة ما بعد الاستعمار الاستيطاني والدخول في مرحلة جديدة من علاقات الدول القومية التابعة ، هذا التعدد الذي صاحب الدولة القومية في عالم المسلمين والعالم الثالث، صاحبه تعدد في الرؤى ونماذج التنمية، كما غُلف بسياقات أيديولوجية، خاصة العالمية منها (الرأسمالية والاشتراكية)، ومكن لها حالة سائدة حكمت السياسات والعلاقات سُميت بالحرب الباردة ، وأفرز هذا التعدد عددًا من القضايا التي أصبحت موضع مساجلات فكرية أضافت إلى التجزؤ الموجود تجزيئا من الناحية الفكرية شكل محاضن لتلك التجزئة واستمرارها.

فبين التجزئة والوحدة أو المستلزمات لها من تكامل وتعاون وتضامن، وبين التبعية والاستقلال ومتطلباته من قوة وفاعلية، وبين التخلف والنهضة ومفاصلها من تنمية وعمران وإنماء. هذا الحال من التعدد واكبه عالم أحداث ونظم، غالبًا ما سادت فيه علاقات وسياسات (التجزئة – التبعية – التخلف) أكثر مما أثرت فيها سياسات وعلاقات (التكامل والوحدة والاستقلال والنهضة) :

* تفاقم مشاكل الأقليات في عالم المسلمين.

* الاتجاه نحو الانفصال والتفكيك.

* ضعف التوجهات التكاملية والوحدوية والتعاونية: رؤية وسياسات وعلاقات ومؤسسات.

* الصراعات البينية، وصراعات الحدود، وصراعات الأعراق.

* تدويل المشاكل والقضايا التي تخص عالم المسلمين.

* ضعف التنسيق في السياسات والعلاقات، خاصة القضايا البينية والمشتركة والمتبادلة (القدس).

* بروز مشاكل الأقليات الإسلامية والكيانات المسلمة داخل الحضارة الغربية.

* ضعف الصياغات النظمية والمؤسسية التي تناسب التحديات التي تواجه عالم المسلمين.

هذه الخريطة أشارت إلى أن مفهوم الدولة القومية -إدراكًا وعملا- تحول إلى معنى علمي في الإدراكات والسياسات والعلاقات والمؤسسات والغايات، مثل مجموعة من التأثيرات يحسن رصدها :

(1) أن المفهوم ولد قسمة جديدة في المنظومة الدولية ومكان المسلمين فيها، إذ ولّد خريطة تعدد اختلفت عن أنماط التعدد المختلفة في الخبرة التاريخية. وهو من المفاهيم التي أثرت على كثير من المفاهيم التقليدية الفقهية من مثل “دار الإسلام ودار الحرب”، وهو أمر يعني -ضمن ما يعني- اختلاف منظومة المعايير الحاكمة، وبروز مفهوم المصالح القومية، وصعوبة توصيف الواقع من خلال المفاهيم الفقهية، ومن هنا صادف عالم المسلمين أزمات غاية في الأهمية شكلت إشارة إلى متغيرات في الواقع لا بد من أخذها في الحسبان :

– حرب الخليج الأولى (الحرب العراقية – الإيرانية) ، حرب الخليج الثانية (غزو العراق للكويت) ،حرب الخليج الثالثة.

– حروب صارت تدور على أرض بلاد العرب على أرضنا بأيدينا وبأيدي غيرنا

وصاحب هذه الأزمات حال من الفوضى الفكرية والتوجهات التي تسربلت بغطاء ديني، حتى استحقت اسم “الفتنة الفكرية والدينية”، اختلطت فيها الرؤى واستخدمت أسلحة الفتاوى، وشنت بصددها أقصى حروب الكلمات. وفي كل الأحوال اتضح لكثير من هؤلاء أنهم يغفلون عناصر ومتغيرات جديدة أهمها “الدولة القومية” كما هي كائنة في عالم المسلمين والعالم الثالث، وعناصر القسمة الجديدة التي تفرضها، وسياقات الدول العلمانية… إلخ.

(2) إن المفهوم كما تم إدراكه في عالم المسلمين شكّل مسارًا تهميشيًّا لمفهوم “الوحدة”، بل أكثر من ذلك فرض دوافع على عمليات التكامل والتعاون والمؤسسات الجامعة، وكانت معظم تأثيراته سلبية على مفهوم الأمة عامة ومفهوم الأمة الإسلامية على وجه الخصوص كالآتي :

(أ) أن المفهوم في إطار معاني الدولة القومية كما تم إدراكها برز كمفهوم أحق بأن يوصف “الدولة القومية التابعة” المحافظة على واقع التجزئة من جنب، والمقلّدة لنماذج تنمية من خارجها. وفي إطار يمثل قدرات تابعة لا نابعة، ومن هنا كان من الضرورة البحث في التأثيرات العميقة والواقعية الذي تركها مفهوم الدولة القومية بحيث لا يمكن القفز على واقعها بأي حال من الأحوال في الإدراك وفي الاعتبار، والمفهوم وتأثيراته السلبية التي تكرست في إدراكات الوعي ومجالات الممارسة. كان من المهم فهم الدولة القومية ضمن مسارين :

الأول: مسار الجماعة الوطنية كمفهوم جامع لقوى وفاعليات الداخل، وبناء كيان المصالح على قاعدة من اعتبارات الجماعة الوطنية، وما يصب في عافيتها وقدرتها وفاعليتها.

الثاني: مسار الدولة القومية كمفهوم يؤكد على تعظيم قدرات هذه الدول واتخاذ السياسات والعلاقات والمسارات والمؤسسات المؤكدة لممارسة بينية أو داخلية أو إقليمية أو دولية تقوم على استثمار الإمكانات وتحويلها إلى قدرات وفاعليات على كافة المستويات.

(ب) أن المفهوم أبرز مع عوامل ومتغيرات أخرى تنظيمات بديلة أو موازية، لعبت دورها في طرد تكوينات أصيلة باعتبارات التوحد القومي أو الجامعة الإسلامية، ومن هنا برزت وحدات تحليل مثل الشرق أوسطية، مثل المتوسطية، أو الشراكة العربية الأوربية… إلخ. وهو أمر يتطلب منا ضرورة فرز هذه التكوينات والوحدات الصاعدة وتأثيراتها على وحدات أصيلة ليس فقط في التحليل، ولكن في كونها مجالاً حيويًّا للحركة.

(ج) أن المفهوم أقام مؤسسات جامعة من الناحية الشكلية، ولكنها نُقضت في العمل من جراء إدراكات لهذا المفهوم من مثل السيادة وغيرها. إن البحث في فاعلية مثل هذه المنظمات الجامعة سواء كانت منظمات سياسية أو كلية أو نوعية، إنما يشير إلى ما يمكن أن يتركه هذا المفهوم وإدراكاته على تلك التكوينات وسياساتها وغايتها، وفي النهاية فاعلياتها.

ومن هنا كان على هذه الدول ألا تقف كثيرًا عند النشأة القسرية والمشوهة للدولة القومية، بل عليها أن تتعرف على التأثيرات السلبية التي يمكن أن تتركها في الوعي والسعي. وألا تقف عند عناصر سيادة قومية مهملة عناصر دولة قوية ذات سيادة حقيقية لا متوهمة، تصدع بها حينما يجب ألا تصدع بها، وتفرط فيها حينما يجب التمسك بها. والبحث في فاعليات التأسيس من الأمور المهمة التي يجب ألا تتصور إدراكات عالم المسلمين أن مجرد إنشاء هذه المؤسسات هو غاية التمني ونهاية المطاف، بل هي ضمن عملية موصولة تتحرك من التأسيس إلى الفاعلية. ومن هنا كان من الضروري إقصاء كل الموانع واستثمار كل الإمكانات التي قد تقلل من الفاعلية أو تقضي عليها، سواء كان ذلك في الوعي والإدراك أم السعي والممارسة.

(د) أن هذا المفهوم والذي تخطته الخبرة الأوربية حينما استنفد أغراضه ضمن مسيرة تطور البناء الحضاري، ظل مكينًا لدى هذه الدول في مواجهة بعضها، بينما توارى في علاقاتها الغيرية خاصة عبر الغرب ودوله. وربما هذا يمكن أن يكون دالاًّ في عملية التفسير لما أُسمي بـ”القرية العالمية” من جراء الثورة الاتصالية، وهو أمر أحدث صناعة شبكة علاقات صارت وثيقة؛ قفزًا على اعتبارات الجغرافيا والتاريخ والعقيدة والمصير، وأخرى خُذلت أو هُمشت رغم أن تلك الثوابت السابقة تؤكد عليها وتؤكد أحداث التاريخ على إمكاناتها في تعظيم الإمكانية والفاعلية.

ومن ثم ظل مفهوم القرية العالمية يعني تعظيم الاتصال بالغرب أكثر مما يعني تعظيم الاتصال بين العالم الإسلامي أو العالم العربي مثلاً. بل على العكس من ذلك فقد أبقى على كل عوامل الانفصال والتجزؤ والتبعية وربما التخلف الذي تكسوه قشرة الحضارة لا عمقها وجوهرها. وظلت الأمور والسياسات والعلاقات تسير ضمن مسار مزيد من توهين العلاقات الداخلية والبينية، ومزيد من تكريس العلاقات الغيرية والخارجية. إنها المفارقة التي يؤكدها إدراك أبدية الدولة القومية في عالم المسلمين، وإدراك الطابع المرحلي لهذا المفهوم في إطار علاقات وتكوينات عبر قومية.

بل إن الأمر قد لا يتعلق بمزيد من العلاقات عبر القومية وكأنها تجري لذاتها لا آثارها وتأثيراتها، الأمر يرتبط بالأساس بعلاقات فاعلة عبر قومية تحقق أصول الفاعلية وضمان استمرارها واستثمارها في سياق المجال الحيوي لا خارجه أو قفزًا على مقتضياته ومتطلباته وروابطه الحقيقية والجوهرية.

(3) إن مفهوم الدولة القومية وتوابعه (السيادة – الحدود… إلخ) لا بد أن يؤثر عليه مفهوم وعملية العولمة والظواهر المصاحبة لها. إذ أبرزت العولمة نوعية من التأثيرات جديدة، كما أضفت على تأثيرات سبقت كثافة وسرعة وعمقًا.

مفهوم الدولة القومية ونشأتها المشوهة والواهنة وسيطرتها الاستبدادية وحالتها الفاسدة وبلوغها عتبات الدول الفاشلة ، تجعلنا نبحث عن معادلة الدولة القوية الفاعلة والراشدة والعادلة ،هذا البحث عن هذا النموذج لا بد أن يكون ضمن الاهتمامات للمشروع الإسلامي الكبير..فهل يمكن أن يسهم الاجتهاد من قبل من يؤمنون بهذا المشروع ضمن هذه الساحات التي لا تقبل الانتظار أو الإرجاء.

سادساً: الجماعة الوطنية اجتهاد في حق الوطن والمواطنة

“الجماعة الوطنية” اجتهاد غاية في الأهمية يعالج كل سلبيات مفهوم الدولة القومية، ويؤسس لمعاني الجماعة الوطنية كمفهوم يستوعب المواطنة.

اجتهاد حمله المشروع الفكري للحكيم طارق البشري الذي يشير لقواعد التأسيس للجماعة الوطنية: إنشاءً واستقرارًا واستمرارًا، هذا المفهوم يحمل في طياته خماسية تسعى للتماسك والتعايش، فالاختلاف كسنة إلهية كونية، وما يتبعه ذلك من أن التعدد حقيقة لا مراء فيها وما يترتب على ذلك من أن التعايش ضرورة لا محيد عنها، وهو أمر يشير ومن كل طريق إلى التعارف كعملية بل عمليات متراكمة يجب أن يقوم بها الأطراف المتنوعون والمختلفون والمتمايزون، وأن أهم آليات إدارة هذا الاختلاف والتعدد وبلوغ التعايش المنشود والتعارف المطلوب هو الحوار كآلية كبرى يجب أن تغطي مساحات الاختلاف وتقوم بالعمل المطلوب حيالها، بحيث تحرص على أن يكون ذلك الاختلاف اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، اختلاف تكامل وتقسيم وظيفي للعمل لا اختلاف تنازع، إدارة الاختلاف والتعدد لمصلحة التعايش والتعارف والحوار يؤصل معاني الخروج من الاختلاف للائتلاف.

مفهوم الجماعة الوطنية يعني تماسك عناصر النسيج الاجتماعي للأمة وذلك ضمن مدخلين للمرجعية، مرجعية الجماعة الوطنية وقواعد النظام العام التي لا تستنكف من أن تجعل الثقافة الإسلامية أصلًا مرجعيًا مكينًا، بالاعتراف بالثقافة العامة والثقافات الفرعية المتنوعة، وكذا مرجعية المواطنة في العمل السياسي والشأن العام وقضايا الحقوق والواجبات، بما يؤسس لجامعية المواطنة عبر الوطن ودون أدنى شبهة للاستقواء بالخارج أو العمل خارج قواعد تأسيس الجماعة الوطنية.

إن الجماعة الوطنية تتضام عناصرها وتتماسك قواها بقدر نهوضها الجمعي للدفاع مخاطر الخارج عليها، والزود عن أرضها، وعن ثوابتها الفكرية وعن مصالحها السياسية والاقتصادية بعيدة المدى. وأن مخاطر الخارج عليها تعمل، فيما تعمل، على تفكيك هذا التماسك فنحن شعوب قامت جماعتها الوطنية وتماسكت في معارك الدفاع عن النفس وعن التراث الجماعي في مواجهة مخاطر الخارج. وأن تيار العزلة ينمو مع زيادة النفوذ الخارجي، وتيار الاندماج ينمو مع قوة المواجهة الوطنية لهذا النفوذ الخارجي، الجماعة الوطنية متشكلة ومتبلورة إذ تقوم على أسس فكرية ونظرية وعلى سلوك عملي، وتعتمد على المساواة والمشاركة في الحقوق والواجبات.. على مبدأي الاستقلال السياسي والديمقراطية وعلى منهج المساواة.

لقد عرفت مجتمعاتنا أنواعًا شديدة التعقيد من التنوع مع التداخل والتشابك؛ لأنه تنوع يقوم على تعدد معايير التصنيف الاجتماعي، فالوحدات السياسية كبيرة ممتدة، وتنشأ بداخلها الوحدات الاجتماعية بمعايير شتى، منها ما يقوم على التصنيف القرابي أو الأسري كالقبائل والعشائر، ومنها ما يقوم على التنصيف الإقليمي كالقرية والناحية والحي؛ مما يفيد قدرًا من التميز دون إمكانية الانفصال، ومنها ما يقوم على التصنيف الحرفي والمهني وعلى التصنيف المذهبي أو الملي أو الطُرقي.. إلخ.

ومن هنا فإن الإسلام استوعب خبرات القبيلة، فالقوى التي تمثل أصولًا قبلية وعرقية معينة كالقبائل العربية وحَّدها الإسلام، وصارت من الوحدات العاملة في المجتمع، صبت في صحته وعافيته وإفناء كل ما يؤدي إلى مرض المجتمع والفت في عضده وفي كيانه أو في قدراته وفعالياته. واستوعب كل أسلوب تنظيمي في البلاد المفتوحة طالما صب في عمران الكيان وترسيخ عناصر فعاليته، وبما يتناسب مع الأطوار الحضارية لكيان الجماعة الإسلامية. وكل هذه الوحدات أو التنظيمات وما تمثله من خبرة تعتمد على تصنيفات متعددة.

وليس في هذه الوحدات ما يقوم به أساس للمواجهات بين بعضها البعض، ولا ما يقوم به كل منها مستقلاً بنفسه.. وإن تزاوج هذه الوحدات الاجتماعية مع التكوينات الفكرية الدينية سواء الوحدات الملّية أو الطائفية أو الطريقة الصوفية كان يمنحها يسرًا في شعور ذويها بالانتماء لها.

ولكل مجتمع في الظروف التاريخية التي تجد عليه وتستدعى تغييرًا أو تطويرًا لأنظمته، أن يعيد بناء نماذجه التنظيمية ويعيد تشكيل العلاقات بين بعضها البعض، ويمكن أن يضيف إليها وأن يطور نماذجها وأن يستفيد من النماذج التنظيمية الموجودة لدى الآخرين في المجتمعات الأخرى، وأن يجري تطعيمًا وتهجينًا لهذه النماذج مع غيرها من خرج تجربته التاريخية، ولكن كل ذلك لا يعني الهدم والإزالة لكل ما هو موجود، ولا النقل والإحلال لأصل النظم السياسية التي تفتقت عنها البيئة الخارجية ونماذجها وأجهزتها، فإن ذلك فيه من التدمير والتشويه ما لا يعوضه قيام الأبنية الجديدة، على صورة ما حدث في الخارج التجربة الاجتماعية.

لا بد أن نستفيد من خبرات الآخرين والعاقل من اتعظ بغيره، والموعظة تأتي بالأخذ والترك لا بأحدهما فقط.. ووجه الدلالة أن النظم الغربية صممت فكرًا ومؤسسات وأجهزة في عصور أمنٍ تامًّ من أي خطر خارجي، وقد صار إعمالها في المجتمعات العربية الإسلامية في عهد المخاطر، وفي عصر السيطرة الأجنبية على هذه المجتمعات.

وهذا الازدواج الذي حدث بين المؤسسات القديمة والحديثة لم يكن من شأنه وحده أن يقلل من عافية الجماعة أو البيئة الاجتماعية أو الهياكل الفكرية، فلو أن الأمور جرت على سجيتها؛ كان الأرجح أن يتفاعل الطرفان ويتبادلان التغذية على المدى الزماني الأطول. ولكن الذي حدث أنه ما إن ظهر هذا الازدواج حتى بدأ يتسرب إلينا النفوذ الأوروبي في الكثير من المجالات والأنشطة، ووجد هذا النفوذ فيما وفد علينا – من مؤسسات غربية، ومن فكر وعقائد – بيئة خصبة، فسرعان ما اُحتلت هذه الأبنية المؤسسية الحديثة وصُرفت عن هدفها الأصلي الخادم لحركة المقاومة الحديثة ضد مخاطر الغزو الغربي، ووُجهت وجهة التلقي والتابعية والتثبيت للنفوذ الغربي بعامة.

وقد كان الخطر الخارجي الحال ذو الوقائع الممتدة عبر سنى القرن التاسع عشر، هو ما به توقفت حركة الإصلاح الفكري والفقهي، لأن مجال التجديد في الفكر والفقه كان يجري مكافحة بالمؤسسات الحافظة، ولأن قيام الخطر الخارجي المهدد لأمن الجماعة كلها من شأنه أن ينحي المشاكل الداخلية ويبعدها عن بؤرة الاهتمام، ومن شأنه أن يلقي على سلطات الحكم والمؤسسات الحاكمة مهام الدفاع عن الجماعة وحماية الحوزة؛ مما يستدعي من الكافة المساندة والالتفاف، وإرجاء خلافات الداخل، وهذا ما حدث منذ أن اشتعلت المخاطر الخارجية في بدايات القرن التاسع عشر؛ إذ ذوت معها حركة الإصلاح الفكري على مدى النصف أو الثلثين من بداية ذلك القرن.

لذلك كان من نتائج هذه الفترة حدوث نوع من الانفصام بين حركة الإصلاح المؤسسي وحركة الإصلاح الفكري، ونوع من الازدواج بين الأبنية التقليدية نظمًا وفكرًا، وبين الأبنية الحديثة نظمًا وفكرًا، فصار القديم أبتر مقطوعًا؛ لم يفض إلى جديد من نوعه أو من مادته ومائه، وصار الجديد أجنبيّا لقيطًا، وفد من نسق عقيدي آخر ومن أوضاع اجتماعية وتاريخية مختلفة، وما إن حل القرن العشرين حتى كانت البيئة الاجتماعية والفكرية قد انصدعت بين قرن أبتر وقرن لقيط أعقبه. وهذا ما ورثناه حتى اليوم وما تواجهه مجتمعاتنا في نظمها السياسية والاجتماعية بمجتمع مصدوع عليها أن تلأم صدعه، وأن تجدد قديمة وتؤصل حديثه.

فهو إن جعل من الأمة وحدة تحليله التأسيسية، ومن الجماعة الوطنية وحدة تحليله الواقعية، فإنما أراد أن يبحث عن معنى الأمة في الجماعة الوطنية، وهو عمل لا يفقد الأمة كوحدة تحليل مرجعيته ولكنه في ذات الوقت لا يفقد الواقع، ولا يتركه نهبًا لوحدات تحليل تضر بالظاهرة وإمكانات فهمها والتعامل معها وتقويمها.

وكما يشير البشري فإنه يحاول توضيح الأهمية الاجتماعية والحضارية القصوى لوجود هذه الوحدات جميعًا، لأن وجود الوحدات الفرعية يغذي الوحدات العامة ويتغذى منها.

ونحن نخطئ إن تصورنا أن وجودها يشكل انتقاصًا من الوحدات الأعم، إن الإنسان مدني بطبعه، ولا يوجد فرد بغير جماعة. وإن وجوده بغير جماعة هو أقرب إلى التصورات الصورية الافتراضية.. إن الفرد دائمًا هو داخل في وحدة أو أكثر من هذه الوحدات الجمعية، والنظام يكتسب حيويته من قيام هذه الوحدات ونشاطها وتفاعلها.

إن حيوية المجتمع وقدرته على تنويع حركته وعلى تغيير أوضاعه مع الظروف المتغيرة وقدرته على تكوين استجاباته وفقًا لوجوه المواجهة وألوانها التي تفرض عليه، كل ذلك يتوقف على مدى فاعلية وحدات الانتماء التي تربط أفراده في كل هذه الأنواع والأجناس من الجماعات المتداخلة التي تبني للمجتمع عروته الوثقي، تتوقف على مدى حيوية هذه الوحدات وفاعليتها، وكل ما هو مطلوب ألا نضعف أيًّا من هذه الوحدات لحساب الوحدات الأخرى ولكن أن نضعها كلها ونعيد ترتبيها؛ بما يجعلها يقوي بعضها البعض، ويغذي بعضها البعض، ويدعم بعضها البعض.

الجماعات الفرعية هي مولدات الحركة للجماعة كلها في صورها الشاملة، ونحن نخطئ أيما خطأ – ولقد أخطأنا – عندما نظرنا إلى وحدات الانتماء العامة بوصفها نوعًا من أنواع أجولة الحبوب تحمل حبات منفصل كل منها عن الأخرى، وتضم وحدات متماثلة على غير تنوع ولا تدرج ولا تفاعل بين بعضها البعض.

إن القومية لا تضم أفرادًا، والوحدة الإسلامية لا تضم أفرادًا، المصرية والعراقية أو المغربية لا تضم أيضًا أفرادًا، إنما تضم جماعات تمثل وحدات انتماء تقدر كل منها على الانبعاث الذاتي وتدفق الحركة من داخلها وبالمولدات الذاتية الخاصة بها. ونحن نخطئ عندما ننظر إلى مجتمعاتنا بذات الرؤية والتصور الذي ساد لدينا عن مجتمعات الغرب عمومًا.

وفي إطار هذا الفقه من أستاذنا البشري لدوائر الانتماء أكد على نقطتين :

الأولى: أن الكثير من مؤسسات وحدات الانتماء الفرعي قد دُمرت، إما لأن الهيمنة الغربية اقتضت تدميرنا، أو لأننا نحن ضربنا فيها معاول الهدم، لأننا نظرنا إليها من منظور التقلد للغرب. ومن منظور ما فهمناه عن المجتمع الغربي. فرأينا في مؤسساتنا وحدات انتمائنا الفرعية لا كوتها موضوعًا للإصلاح والتجديد ولكنها عقبات في وجه الإصلاح والتجديد، فهدمنا “تجديدًا” ودمرنا “إصلاحًا “.ثم لما شيدنا على أنساق الغرب ما شيدنا لم نجد من هذه التكوينات الفرعية ما يمكن من الأعمال النافعة للمؤسسات الجديدة.

والثانية: أننا نظرنا في النظام الغربي المأخوذ عنه في صياغاته الفلسفية التي تبدأ بالفرد ثم تقفز إلى التصور الكلي العام، ولقد جرى في الغرب إعلاء القيمة الفردية لتحرير الفرد من بعض المؤسسات الضاغطة والمانعة من انتقاله إلى مؤسسات جمعية أخرى تولدت في المجتمع نفسه، تحريره من ربقة القنانة وإطلاق حريته في الاقتراب من وحدات الانتماء التي ولدت من رحم المجتمع نفسه في المدن والمصانع والجمعيات والنقابات. فكان التركيز على الفردية لا لكي يتناثر الناس أفرادًا ولكن لكي تنفتح أمامهم مسالك الانجذاب والانضمام إلى ما يرون من وحدات أخرى.

أما نحن فقد تصورنا المجتمع من خلال علاقة الفرد المنفرد بالجماعة القومية وبالدولة فـ “متى صار الشعب أفرادًا فقد صار الحاكم فردا لزوال التكوينات الضاغطة”، التربية على المواطنة – لدى البشري – لا تتم إلا عبر الوطن، وهي صد العوادي والاستبداد، ومقاومة لكل صنوف العدوان من الخارج.

هكذا يحل مفهوم الجماعة الوطنية قضية المرجعية وإشكالية المواطنة ومشاكل وحدات الانتماء ومنهج النظر ضمن سياقات تحاضنها لا تناقضها، هذا الاجتهاد لا بد أن يقف عليه المشروع الإسلامي تنظيرًا وتطبيقًا، فيتعرف على مقتضياته والبحث في مآلاته، القضية في المجتمعات المعاصرة لم تعد في الدولة القومية ولكن في معادلة الدولة القوية الفاعلة الهادفة لترسيخ واستلهام معنى الأمة في اتساع أفقها وجماعة وطنية في توثيق عراها وتمكينها.

سابعًا: أمتنا.. من المسألة الشرقية إلى الشرق الأوسط الكبير

في واقع الأمر.. لا يمكن دراسة المشروع المتعلق بالتغيير الحضاري العربي الإسلامي إلا في ضوء الذاكرة التاريخية والحضارية للمشاريع المتعلقة بالأمة العربية والإسلامية، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن التعرف على هذا المشروع التغييري العربي الإسلامي لا يمكن أن يتم إلا من خلال رؤية هذا المشروع ضمن اجتهادات المشروعات الأخرى وضمن سياقات البيئة الكلية المحيطة بها جميعًا.

وفي إطار ذلك نستند إلى فكرة محورية ترقى لأن تكون في مرتبة المسلمات مفادها: أن “الأمة” حينما تحمل معنى الجامعية والقوة فهي “الأمة – الوسط” التي تقوم بدورها في عملية الشهود الحضاري، وحينما تحمل معاني الضعف والاستضعاف فهي “الشرق- الأوسط” أو “المسألة الشرقية” أو “الشرق- الأوسط – الكبير” أمة مشهودة تعد موضوعًا لا طرفًا على مستوى المكانة الحضارية.

إن حضور مفهوم “الأمة” يعني “الأَمّ” وهو القصد والوجهة، فالأمة محل القصد والقبلة والاتجاه. وحينما يبرز مفهوم جديد لا يُعنَى “بالأمة الوسط” وإنما “بالشرق الأوسط” مضافًا إليه صفة “الكبير”، فإنما يشير ذلك إلى معانٍ جغرافية، ويشير إلى أن مَن أطلق صفة “الكبير” (الولايات المتحدة) إنما يحدد عناصر اهتمامه هو ومجاله الحيوي فيما يعتبره يحقق مصالحه هو، ويحقق عناصر استراتيجيته الكونية في منطقة تعتبر عقدة استراتيجية، ولكن هذا يحوّل الأمة من قَصْدٍ، ومن بشرٍ قاصد، ومن مقصود وفكرة ورسالة، إلى “مكان” مُصمَتٍ يراه الخارجُ كيفما شاء وكيفما تصور، وكأنه مساحة خالية من البشر الفاعل أو الفكرة الجامعة، إنه – بهذا – مجال للفك والتركيب وإعادة التشكيل وهندسة المنطقة في إطار تتحكم فيه “هندسة الإذعان ” .

يبدو أن هذه الملاحظة المسكونة بمفهوم “الشرق” ظلت تلازم نوعين من الكتابات :

نوع أول تمثله كتابات “الاستشراق / الغربي والأمريكي” التي برزت بشكل مبكر، ثم ما زالت تتماثل وتتكشف للعيان بأبعادها “الما بعد معرفية” وغاياتها “الما بعد علمية ” .

إن هذه الكتابات لعبت دور الممهِّد المعرفي والعلمي لمشاريع الاستعمار قديمها وجديدها، وفي هذا يشكك إدوارد سعيد: “في قدرة إنجلترا على احتلال مصر بمثل هذه الطريقة المؤسّسة جيدًا وتلك المدة الطويلة التي احتلتها لولا ذلك الاستثمار المكين في الدراسات الشرقية”، إن المشروع الذي طُرح مؤخرًا من خلال إدارة بوش الابن بشأن “الشرق الأوسط الكبير”؛ لم ينشأ من فراغ، وأنه إذا كان قد اكتسب ملامحه التي تم طرحه من خلالها على أساس من التطورات التي يحياها عالمنا المعاصر -سواء على مستوى المنطقة أو على مستوى تفاعلات النظام الدولي – إلا أنه يجد جذوره في عدد من الأصول الاستشراقية عبر عنها بعض المستشرقين؛ وعلى رأسهم برنارد لويس. بالطبع ليس لويس وحده، وليس هو المحرك الوحيد لكل المسألة، إلا أنه يقدم نموذجًا مثاليًا على هذا الحلف غير المقدس.

أما النوع الثانى فيتمثل في كتابات تتواصل مع عناصر الذاكرة الحضارية والتعرف على حقيقة الواقع الدولى المعاصر ويشيرالدكتور جورج قرم؛ وهو يحتل موقعًا مميزًا بين الباحثين الذين تناولوا موضع العلاقة التاريخية بين أوروبا والشرق، وأصدر عددًا من الكتب التي تلامس هذا الموضوع بشكل أو بآخر مثل كتابه الشهير “انفجار المشرق العربي” الذي صدر قبل عشرين عامًا وطُبع بالعربية والفرنسية أكثر من مرة، وكتابة الجديد “شرق وغرب: الشرخ الأسطوري” الذي صدر مترجمًا بالعربية في العام 2003.

إن هذا الاهتمام النظري والبحث في الخبرات التي تشكلها العلاقة بين شرق وغرب، والاقتراب من الوضع القائم الآن الذي يأخذ فيه “الشرق” دلالة جديدة إثر تأكد “الهيمنة الأمريكية” على المستوى العالمي، وتفرد القطب الأوحد في المنظومة الدولية، والإمبراطورية الكونية الأمريكية، والتي تعيد تعريف قضايا كثيرة بما في ذلك ما يُدعى “الشرق ” .

ورغم أن “قرم” أصدر كتابه الأخير والحرب على العراق قد دقت طبولها، وقبل سقوط بغداد؛ إلا أن هذا الاهتمام النظري امتلك منطق البرهنة الواقعية على الأرض، ولم يجد أي صعوبة كي يبرهن على أن “الشرق في المخيلة الأمريكية مرتبط بالإدارة السياسية ورجال الإعلام والمتنفذين من الأكاديميين، أكثر مما هو مرتبط بواقع الشرق الفعلي…”، فالولايات المتحدة “تخترع الشرق الذي تريد”، آخذة في الاعتبار “مصالحها والفضاء المحتمل لمناوراتها السياسية المستقبلية “:

لقد أدى خطاب الغرب المتعصب عن نفسه والمتمركز حول ذاته إلى تعيين ذاته رسولًا لهداية الشرقيين الضالين، إلى درجة يحتفل فيها الغربيون اليوم والولايات المتحدة بشكل خاص “بعودة الله”، ذلك أن القومية الأمريكية تمتد بجذورها إلى البروتستانتية والعهد القديم. وسواء كشف الغرب عن تمسكه بالدين أو عن التحرر منه، فإنه أنتج في الحالتين معًا دينًا خاصًا به هو “دين القوة” الذي يجعل من الغرب عالمـًا “مقدَّسًا”، ومن الشرق عالمًا غريبًا عن القداسة ومفعمًا بالآثام.

وظهر دين القوة هذا – الذي أوكل إلى الولايات المتحدة الدفاع عن المقدسات الغربية – بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر من أيلول؛ حيث قبلت الأيدلوجيات العلمانية الغربية بالمزاعم والسياسات الأمريكية: الهدف مقدَّس، والوسائل علمانية.

عزز من هذه الرؤية “النصرُ الأمريكي في الحرب الباردة”: “فوكاياما ونهاية التاريخ”، الذي جعل من غرب النهضة الأوروبية غربًا يهوديًا / مسيحيًا، صورته المركبة هي دولة إسرائيل، التي لا تسمح لها “غربيتها” بأن توصم بأنها دولة عنصرية أو عدوانية؛ فهي من الغرب ولها دور الغرب في هداية العالم الضالّ. في هذا الانقلاب تصالَحَ التاريخُ العلماني والتاريخ الديني للغرب، وأصبح “الآخر” هو المسلم المكروه، وأصبح الغرب يتعامل مع الإسلام بصفته عقيدة كلية متصلبة، تنضح عنفًا، وتتنفس لا عقلانية كاملة.

إنها الذاكرة التي تحمل معاني الشرق الأوسط الذى لم يكن مكانًا جغرافيًا يضيق ويتسع بل عبر عن رؤية سياسية من خارج المنطقة، تستهدف الجغرافيا تقسيمًا وإضعافًا وتجزئة، إن المشروع الإسلامي بما يحمله من علاقة مع قلبه العربي إذا ما فطن لخطورة هذه المشاريع يمكنه أن يشكل حائط الصد في مواجهة التحديات والمخاطر.

ثامناً: مشروعان يتدافعان في المنطقة.. الأمة الوسط والشرق الأوسط الجديد

أما “الشرق” فلأنه هو الغرب المتحدث المحدِّث وحده، وهو لا يدرك الآخر إلا من منطلق “مركزية الذات” وأوليّة الأنا، فكنا شرقًا، رغم أننا في الوسط (وسط الكوكب / وسط الخريطة التي يتفق على رسمها الجميع وأهل الاختصاص)؛ لأنه رأى نفسه أُسًّا وأساسًا، وما عداه كان شرقًا وآخر وثانيًا وثالثًا، وفضلوا إعادة تسميته كما تراءى لهم… فـ “الشرق” تعبير عن وجهة نظر المتكلِّم، حين لا يرى معيارًا للتسمية إلا هوى ذاته، من منطلق “الغرب والباقي “: The West The Rest .

أما “الأوسط” فهو استدراك على مطلق “الشرق”، إنه شرق مخصوص بخاصية، ومقيّد بقيد يميزه عما سواه، إنه “أوسط”؛ ذلك أن أمته هي الأمة الوَسَط ، إن “الأوسط” اعتراف بالتميز اضطر الغرب إليه من جهة، وسعي للاستبدال والتحويل والتحريف من جهة أخرى، تحريف “للأمة الوسط ” .

أما “الأمة الوسط” فهي الحقيقة المفترضة لهذه الأمة بالجَعْلِ الإلهي، وبشروطها التي على رأسها “الشهود والشهادة” على الناس، واتّباع الرسول الشاهد المبشر النذير السراج المنير الداعي إلى الله) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (سورة البقرة: آية 143).

أما “الكبير”، فإن كل مشروعات الغرب حين يحتك بعالم المسلمين، وكل المشروعات المواجِهة له تنحو إلى “تكبير المسألة”، ومدّ المجال الحيوي للغرب لإنجاز مصالحه أو بالأدق مطامعه الممتدة التي لا نهاية لها. فما السر في هذا الميل التوسيعي؟ إنه مفاعل “الأمة” الذي يستقطب الآخر إلى نمط من التعامل الشمولي الساعي إلى تفريق “الجمع” وشرذمة “الجماعة”، وتفكيك أوصال “الأمة الجامعة”، والذي يستقطب كذلك مشروعات الإصلاح لكي تنهض على أساس استجماع المُكنات في صورة “الأمة ” .

إن مفهوم “الأمة” كان يرتبط عادة بمشروع إصلاحي: فعبد الرحمن الناصر حين طبَّق مبدأ “النصرة والموالاة” وسار عكس تيار الشرذمة الطوائفي أفرز مشروعًا إصلاحيًا قوامه “الأمة الجماعة” فدانت له الأندلس.. وكذا بقايا السلاجقة (زنكي وابنه نور الدين..) والأكراد ( الأيوبيين..) الذين ارتقوا على واقع “الشعوبية” وأيقنوا أن لا سبيل إلى استرداد بيت المقدس إلا من بعيد؛ من “الجبهة الموحدة”: شمال العراق مع الشام مع مصر، مع الاعتراف بالمظلة، ورفض كل الرموز المناوئة الهادمة للمظلة، هؤلاء عرفوا سر المسألة (الأمة الجامعة) فأفلحت مساعيهم. إن ابن تومرت كان مثالاً على الربط بين شرق الأمة وقلبها الذي ارتبط به عقيدة وعلمًا وحَجًّا، وغربها حيث الأندلس والمغرب “الأقصى”، كذلك استكمل المرابطون النموذج حين ضموا الجنوب إلى الشمال، وكسروا الجغرافية الفاصلة، والتاريخية المفرّقة؛ ليربطوا – بأربطتهم ودولتهم – الأواصر الأصيلة.

لقد كان كلٌ من هؤلاء يرجع – إبان الأزمة – إلى الأمة، “يفيء إلى أمر الله”، “يتحيز إلى فئته”، في عمليات كرّ وفرّ تشيد الإطار ولا تهدمه.

إن “يوم الأحزاب” عاد أدراجَه، ولكنه عود غير أحمد، فالخندق الحائل الحامي قد ردمته “العولمة”، والاختراق صار – في ظل قابلياته – خرقًا وانخراقًا، والأحزاب صار فيهم مَن هم “من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا”،.. وبرزت الأمة / القصعة “تتداعى” عليها الأمم من فوقها ومن أسفل منها، لا من قلة، ولا من إقلال، بل من وهنٍ وقابليات استخفاف.

فأين سفينة الأمة من هذا الخضم؟ هل يعي هؤلاء ممن خرقوا “سفينة الأمة” ولسان حالهم يقول: “نخرق خرقًا في موضعنا هذا،.. ولم نؤذِ من فوقنا،.. نحصّل منه ماءنا… هذا موضعنا نفعل فيه ما نشاء”؟!! ما بال هؤلاء لا يفكرون إلا تفكيرًا “أخرق” يخرق السفينة حتى تشرف على الغرق والهلاك.. إن بعضًا من الأمة لا يَعُون الدرس، ولا يتخذون العبرة من الخبرة والفكرة، لم يتعرفوا على درس مصطفى صادق الرافعي حينما بحث في متتابعات منظومة السُّنن فوجد أن “أصغر خَـرْق يَعنِي أوسعَ قَـبْر”؟

إن المشروعات التي تحمل شعار “الشرق الأوسط” برزت تاريخيًا لتعبر عن هدف السيطرة على المنطقة بأشكال وأساليب تختلف حسب الزمان والمقام، وهي وسيلة تشكّل حلقة متصلة – سواءً أكان هذا “الشرق الأوسط” “جديدًا” أم “كبيرًا” – لتحويل أنظار الشعوب (إسلامية أو عربية) عن هدفها الاستراتيجي الذي أجمعت عليه “الأمة” منذ سقوط الخلافة العثمانية؛ والذي يهدف إلى إعادة بناء المنطقة العربية والإسلامية وإعادة توحيدها في صورة عصرية من خلال بناء تكتل إقليمي يضم دول العالم الإسلامي العربية وغير العربية، وهو أمر يحيلنا إلى قواعد النظر السليم لمشروعات الشرق الأوسط؛ هذا النظر الذي لا يكفي فيه مجرد رفض تلك المشروعات التي تحمل شعار الشرق الأوسط بل لابد من أن تضع القوى الفاعلة سياقات عملية لبناء تكتل عربي إسلامي إقليمي عصري مستقل عن نفوذ الإمبراطوريات الأجنبية التي تريد استغلاها والسيطرة عليها.

ومشروعات شعار الشرق الأوسط ليست إلا تحايلاً أجنبيًا يراد به تجاهل وحدة الأمة العربية الإسلامية صاحبة هذا الإقليم، بل وتجاهل وجودها وحقوقها، وإعطاء منطقتنا اسمًا جديدًا يفتح الباب لسيطرة قوى أجنبية، تهدف من وراء مشروعاتها ومبادراتها إلى تحقيق مصالحها التي ترى في الهيمنة والسيطرة عليها الطريق المؤكَّد لتحقيق ذلك في النظر إلى هذه المنطقة كعُقدة استراتيجية، فهل يمكننا أن نتدبر تلك المعاني حينما يرِد علينا شعار تارة يوصف بشرق أوسط جديد، وتارة بالكبير؟

إن “الشرق الأوسط” إقليم واسع في هذه الأيام، وله قضية تُذكرنا “بالقضية الشرقية” أو ما عرف بالمسألة الشرقية في القرن التاسع عشر. والذين عاصروا لغة السياسة والصحافة قبل الحرب العالمية الثانية يذكرون أن هذه التسمية لم تكن شائعة كما هي الآن، ولم تكن تعني ما تعنيه الآن، ويلاحظون أنها بدأت تروج في الخمسينيات والستينيات في فترة الحرب الباردة، حتى إنها أخذت معنى أوسع مما كان لها من قبل، ومن حقهم أن يسألوا أنفسهم عن العوامل التي فرضت هذا المصطلح على لغة الصحافة والإعلام والسياسة، ومن حقهم كذلك أن يبحثوا عن الأسباب التي دفعت بعض القوى لترويجه، والأهداف التي ترمى لها من وراء ذلك.

كان “الشرق الأوسط” قبل الحرب العالمية الأولى منطقة تفصل بين “الشرق الأدنى” و”الشرق الأقصى”، ولكنه اليوم في لغة الصحافة والسياسة الغربية قد اتسع نطاقه ليشمل في نظرهم ما كان يُسمى من قبل بالشرق الأدنى إلى جانب ما كان يُسمى بالشرق الأوسط قبل ذلك: “Great Middle East”. ولا يمكن فهم هذا التوسع في مفهوم “الشرق الأوسط” إلا بدراسة العوامل الفكرية والسياسية التي تؤثر في رسم خريطة العالم وتحديد مناطقه، وهذه العوامل لا تقتصر على الاعتبارات الإقليمية والجغرافية.

إذا كان “الشرق الأوسط” تعبيرًا جغرافيًا، فإن أحد أهم غاياته الزائدة على مجرد الوصف تمثّل في “زرع إسرائيل في الكيان العربي”، بل وإيجاد قاعدة شرعية وحجية ليس فقط لاستزراعها بل وقبولها ضمن مشروع أُسميَ “السوق الشرق الأوسطية”، وضمن حركة تطبيع وتطويع كبرى، وصار “الشرق الأوسط مزروعًا به إسرائيل” شعارًا دالاً ومؤشرًا على استراتيجية بعيدة المدى..

ولا يكتفي دعاة “مشروعات الشرق الأوسط” بفرض التعاون مع إسرائيل اقتصاديًا، بل يريدون أن تكون لها الأولوية على علاقات التعاون بين الدول العربية والإسلامية بل وسيلة لمنع هذا التعاون، شاهدُنا في ذلك اتفاقاتٌ مفروضة ومشروطة، يتوارى فيها استخدام مفاهيم “العالم العربي” و”العالم الإسلامي” فضلًا عن المفاهيم التي تتمحور حول “الأمة”؛ لمصلحة كل تعبير يحمل مدلول “الشرق الأوسط ” .

إن شعار “الشرق الأوسط” في المدى الطويل سوف يتناقض مع وجود الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي أو أي تكوين جماعي يشير إلى معنى التوحد والجامعية، لقد بدا هذا المفهوم ضمن عمليات إحلال، في الوجهة والهدف والمقصد.

وحينما يبرز مفهوم “الشرق الأوسط الكبير”، وما يحمله من تضمينات، فإننا أمام منطقة أكثر اتساعًا؛ على مقاس المصالح الأمريكية والتي اتسع مجالها الحيوي بكل حدوده للتعامل مع عالم المسلمين والعالم الإسلامي، فصار “الشرق الأوسط الكبير” ليس إلا العالم الإسلامي أو يكاد؛ هكذا سيكون هذا المفهوم الجديد هو البديل “للأمة الوسط”، وكأن هذه المنطقة بين مشروعين يتدافعان: “الشرق الأوسط” و”الأمة الوسط “.

تاسعاً: مشروع التغيير الإسلامي والذاكرة الحضارية.. الخبرة والعبرة

“ربما كان في التاريخ خبرات وعِبَر، وتجارب وآيات، وشواهد وبراهين، تثبت مثل هذه الحقائق أو تعمق من دلالاتها “.

هذا تعبير عن فكرة كان يرددها أستاذنا الدكتور المرحوم حامد عبد الله ربيع؛ فكرة ورؤية للتاريخ كمختبر للأفكار والنظريات، وكأرضية صالحة لبناء “نماذج” تعمل عمل النظريات في إحسان الوصف والتفسير والتأويل والتحليل والاستشراف: مقارنة ومقاربة وتسديدًا.

وضمن هذه الرؤية الواجب تفعيلها يمكن قراءة المشروع الأكبر الراهن: “الشرق الأوسط الكبير” وما يرتبط به من مفاهيم متصادمة أو ما يمكن العنونة له بـ “صِدام المفاهيم”، وذلك على النحو الذي قدم مثله الرافعي في المفاهيم العدوة، والكلمات المقاوِمة.

إن الفكرة الرئيسة التي يمكن أن نستلهمها من عبرة التاريخ ونماذجه الواضحة وضوح الشمس في ضحاها تتمثل في أن الاحتكاك الإسلامي مع الغرب كانت له سمات ودلالات مهمة تنبع من الطابع اللازم والملازم لأصول هذين الطرفين الحضاريين؛ تنبع من المركَّب الأصيل المحفّز لبناء كل منهما ابتداءً، والموجِّه لتطور كل منهما ولمساره انتهاءً، والمؤثر في تفاعلات هذين الكيانين عبر تاريخ العلاقة بينهما وعلى امتداده زمانًا ومكانًا. هذه السمات والدلالات يمكن استخلاصها من المرور على مراحل أو حالات ثلاث سابقة، مثلت لحظات فارقة معبّرة، بالإضافة إلى المرحلة الراهنة الرابعة :

الحالة الأولى.. يمكن تسميتها “الحالة الأندلسية

وهي حالة عجيبة؛ إذ برزت فيها إرهاصات ظهور “الدولة – القومية” في عالم المسلمين، وإن كان باسمٍ مختلف هو “ملوك الطوائف” أو “طوائف الملوك”.. تلك الدويلات التي كرست حالة التشرذم، كاشفةً عن القابلية الأساسية لتحقق الاستئصال الذي تم بعد ذلك للوجود الإسلامي في الأندلس وما تبعه من وحشيات تنصير إجباري ومحاكم تفتيش.

لقد قَدِم المسلمون إلى هذه البقاع ومعهم مشروع فكري (فكرة) فاستطال وجودهم، إلى أن ذبلت الفكرة وانقشع شذاها، ثم جاءهم الغرب بفكرته “قوية” وإن لم تكن ذات قيمة، فكان لابد أن يَستأصل الشأفة؛ هكذا كان دخول المسلمين لشبه جزيرة أيبيريا وهكذا كان دخول الغرب بعدهم أو حلوله، كل كان يصدر أمامه مشروعًا حضاريًا حملته “الفكرة” أكثر مما حملته القوة العسكرية.

الحالة الثانية.. ويمكن تسميتها “الحالة الصليبية

وهي اللحظة الثانية الكبرى للاحتكاك مع الغرب، كان التنازع فيها في جوهره – على خلاف ظاهره – فكريًا رمزيًا؛ تنازعًا على رمز “بيت المقدس ” .

في هذه الحالة أيضًا كانت دويلات “شرقنا” الإسلامي تمثل تكرارًا لنموذج طوائف “غربنا” الأندلسي، وكانت طبائع هذه “الدول – القومية” تفرز ذات ميولها وقابلياتها للتشرذم والانفصال.. لكن مع تميز قد يبدو ضئيل القيمة؛ هو الاعتراف الأسمى والرمزي بمظلة الأمة والخلافة. لكن يلاحظ أن هذا الاعتراف وهذا الاستظلال – رغم رمزيته وشكليته – فربما هو الذي ولّد – سراعًا – خمائر مقاومة وتجميع؛ فكان أن انبلج النورويون وصلاح الدين والأيوبيون؛ مما أحدث حالة من المد والجزر لم تزل تتدافع فيها قابليات الوهن المفرّقة مع خمائر عزة مجمِّعة، فيسترد المسلمون بيت المقدس (صلاح الدين وأخوه العادل)، ثم تؤخذ منهم بصورة عجيبة زمن الكامل أبي بكر ابن العادل.. إلى أن يجتمع العدوّان: من الشرق (المغول) ومن الغرب (الصليبيون).. وتستمر القابليات تعالجهما وتدافعهما. هذه التجربة والتي قبلها أفرزتا مقولات مهمة منها :

– أن الغزو حين يكون عسكريًا بحتًا يسهل التغلب عليه، وحين يصحبه فكر ومشروع فكري – ولو كان رمزيًا – فإنه يعمّر زمنًا ويستطيل (حتى يصل إلى قرنين في الحالة الصليبية، بينما كان ما بين سقوط بغداد باجتياح مغولي عسكري بجحافل مادية وبين المواجهة المنتصرة في عين جالوت عامان فقط أو يكاد: 1258م/ 656هـ – 1260م/ 658هـ). إن المشروع الفكري يطيل أَمَدَ الفعل الاستعماري وإن كان باطلًا.

_ أن أمراء التغلب (ساعتها) الذين تغلبوا بقوتهم على بعض مكامن السلطة، رغم أنه بتغلبهم واستيلائهم برزت الدويلات والإمارات الممزقة؛ إلا أنهم أيضًا استطاعوا أن يؤسِّسوا معادلات صعودهم واستيلائهم على السلطة (بشكل غير شرعي طبعًا على حساب المركز: الخلافة) في توازن مع استخدام تلك القوة – من جانب آخر – للقيام بوظيفة “حماية الأمة ” .

لقد كانت قوتهم هذه نفسها سلاحًا ذا حدّين؛ فهي التي مكنتهم – من ناحيةٍ – من حماية الثغور وحراسة حدود الأمة، وخاضوا بها الحروب ضد أعداء الأمة وخصومها، لكن – من ناحية أخرى – فإن تشرذم هذه القوة وتسرب عناصر الضعف لها تباعًا كان يصبُّ في ضعف الكيان العام؛ الأمر الذي استثمره العدوان الصليبي.

وهذا الأمر – للأسف – لا تقوم به اليوم دول – قومية صناعتها التجزئة واحتراف التبعية؛ تَصْدَع بالسيادة حيث يجب ألا تصدع بها، وتتخلى عنها حيث تجب تقويتها والاحتماء بها قولًا وفعلًا.

إن “السيادة” في معادلاتها الواجبة ليست إلا “الإرادة” و”العُدّة” في واصلةٍ بينهما هي “الإدارة”: إدارة الكيان، وإدارة العلاقات، وإدارة التماسك، وإدارة الاستراتيجيات والسياسات، وإدارة المواجهة للتحديات والممانعة على الخضوع والاستسلام والمقاومة للخصوم والأعداء. ليس هذا إلا صياغة لمفهوم “السيادة” ضمن معادلة الإرادة والمكانة والتمكين، وهذه ليست صياغات بلاغية لفظية؛ بل هي عمل تأسيسي وتراكمي مستمر يشكل البنُية التحتية والقومية معًا لمضمون “السيادة ” .

إن عالم المسلمين لم يعتبر درس التاريخ؛ فظل هؤلاء المتغلِّبون يمثلون نموذج “ملوك وحكام الطوائف”، ويحملون كل سيئات النموذج، ولم يقدموا حتى ما قدمه أمراء التغلب في تاريخنا حينما اضطلعوا ونهضوا بحماية الأمة أربطةً وثغورًا.

الحالة الثالثة.. “الحالة العثمانية

وشهدت مع إرهاصات ضعفها بروز دولتنا – القومية الحديثة، وذلك أثناء الحرب العالمية الأولى، والتي انتهت بأقصى ما كان يمكن أن يصل إليه الاحتكاك بالغرب، في صورة “الاستعمار” والاحتلال والحلول بعقر دار الإسلام، وتنفيذ المشروع الاستلابي بين يدي الآخر وعلى عينه.

لقد طرح الغرب مشروعه واضحًا إبان هذه المرحلة متمثلًا في “المسألة الشرقية” و”عبء الرجل الأبيض”، و”مسألة الرجل المريض”، فكيف واجهنا هذا المشروع؟ إنها المواجهة المرتدة على أعقابها، المسترشدة من التاريخ فقط بعروبة الجاهلية أو المكتفية منه فقط بجاهلية العرب: قومية الكلية البروتستانتية السورية، التي انتهت بالبعث “ربًّا لا شريك له وبالعروبة دينًا ما له ثانِ”، مرورًا بثورة الشريف الكبرى.

إن الثورة العربية الكبرى لم تكن تمثل إلا الغفلة العربية الكبرى، التي أفرزت قواعد “الشرق الأوسط” الفسيفسائي وأسسه؛ وقائع الغفلة العربية الكبرى بعد نشوب الحرب العالمية الأولى، تلك الحرب التي بدا للمنتصرين فيها “توظيف المنطقة ضمن عناصر صراعاتها”، والتي كانت تعني ضمن ما تعني عملية الاستفراد بالكيان العربي، ونقل الصراعات الأوربية / الأوروبية إلى تقسيم “مناطق نفوذ” على أرض العالم العربي والإسلامي، قَضَمَ منها الاستعمار ما قَضَمَ، وتنافس المتنافسون في الحصول على أكبر نصيب.

عاشراً: خريطة التحديات الحضارية في العالم الإسلامي: التحديات الداخلية

برز العالم الإسلامي، ومنذ ظهور هذا المفهوم على ساحة البحث والدراسة كقوة مميزة على الساحة الدولية، وذلك بسبب الموضع الاستراتيجي الذي تحتله الوحدات السياسية والدول المكونة له، وبتأثير الأحداث المتشابكة والكبرى التي جرت وتُجرى في مختلف البلدان الواقعة في نطاقه.

ورغم تواتر استخدام هذا المفهوم “العالم الإسلامي” إلا أنه لا يزال واحدًا من أهم المفاهيم المختلف فيها وعليها لدى الكثيرين لأسباب ومقاصد متعددة ومتنوعة، وهو ما يجعل من إلقاء الضوء على مفهوم العالم الإسلامي المعاصر والمعايير المختلفة والمتبعة لتحديده وتوضيح أبعاده ومعامله، وبيان الدول والوحدات التي تشكل أجزاءه، والذاكرة التاريخية المرتبطة بهذا المفهوم (دار الإسلام)، وبروز الظاهرة القومية وإفرازاتها في شكل “الدول القومية” وما أحدثه ذلك من تطورات وتغييرات على المفاهيم المختلفة التي تسهم بدورها في تحديد مفهوم العالم الإسلامي وما تركه ذلك من آثار على العلاقات بين الدول الإسلامية من جانب، وبين الدول الإسلامية والعالم الغربي على تنوعه من جانب آخر من الأمور المهمة في هذا المقام.

العالم الإسلامي “كمفهوم حضاري” يزكيه وصف هذه التحديات بوصف “الحضارية” والتي تشير إلى جملة التحديات الرئيسية والاستراتيجية وما تمثله من تحديات مفصلية أو تكوينية أو هيكلية، موضوع التحديات التي تجابه العالم الإسلامي، ليس من الموضوعات الحديثة أو الطارئة، بل غالبًا ما تم إثارته بشكل متكرر ومتواتر إما في حالات التغيرات العالمية والدولية أو في إطار وضوح ضعف العالم الإسلامي والفجوة التي تتسع بين حجم إمكاناته ودائرة فاعلياته، وأنماط أدواره. وغالبًا ما يُثار هذا الموضوع ما اجتمعت المتغيرات الدولية التي تبرز هامشية دور العالم الإسلامي.

ومن ثم يصير التفكير فيما يُسمى بالتحديات والتي تجابه عالم المسلمين أو العالم الإسلامي ضمن منظومة عالمية ممتدة ومتشابكة، ومتغيرة الأشكال، وبما أن هذه التحديات الحضارية قد اختلفت كمًا ونوعًا وكثافة، فيبدو أن مدخل “توينبي” حول فكرته الأساسية “التحدي و”الاستجابة” قد تشكل مدخلًا مهمًا ومناسبًا في دراسة عناصر التحدي وأشكال الاستجابة، وبما تحدده من عناصر محفزة للحركة والسلوك للاختيار والقدرة على المواجهة، فضلًا عن “الإرادة” للخروج و”العدة” الملاءمة له خروجًا من أزمات استحكمت تدور في معظمها حول الضعف والانقسام والتخلف والتي ارتبطت على نحو أو آخر بالعالم الإسلامي.

وحقيقة الأمر أننا أمام أهم إشكالية حقيقية بعد المرحلة الاستعمارية، والتي خرجت من رحمها “الدول القومية” المستقلة المشوهة، والتي تفرض بدورها عنصر معادلة جديدة، ومن هنا كانت هناك جملة من الإشكاليات والتحديات والأزمات التي تطول الدول القومية جميعًا، وأخرى تتعلق بالدول الإسلامية خاصة، وكثير منها تشكل تشكلًا متميزًا في إطار التكوينات القومية الإسلامية، وربما تعود في جانب منها إلى الخبرة الإسلامية فيما قبل هذه التشكيلات التي اصطلح على تسميتها بالدول القومية. وغاية الأمر أن هذه التحديات فيما بعد الاستقلال (قديمها وحديثها) صارت تتشكل وتملك تأثيراتها ضمن منظومة يصعب فيها من ناحية الفصل في التأثير والتفاعل بين عناصر الداخل والخارج فيها من ناحية، فضلًا عن صعوبة تحديد ما هو الداخلي أو الخارجي وفق عناصر تقويم وتقييم لأوضاع التحديات وأشكال الاستجابات.

إننا أمام عناصر قسمة جديدة لابد من ملاحظتها وأخذها في الاعتبار إذ ما أردنا رؤية خريطة التحديات على حقيقتها، ذلك أن كثيرًا من الدراسات في هذا المقام قد تنجح بدرجة أو بأخرى في رسم خريطة التحديات أو وصفها وصفًا دقيقًا، إلا أنها قد لا تفلح في رصد هذه التحديات ضمن الوسط والبيئة المحيطة بها، فقد نتصور ذلك ضمن افتراض أن هناك “أمة إسلامية” باعتبارها كيان يملك الإرادة السياسية المتحدة والقرار السياسي الواحد ودراسات أخرى قد تنظر إلى هذه الدول باعتبارها دولًا قومية لا تأثير لوصف الإسلامية على وصف إشكالاتها أو تحدياتها.

ومن ثم فهي تحيد ذلك الوصف وما يمكن أن يتركه من آثار تتمثل في بعض منها ما تحمله من ذاكرة تاريخية ممتدة لابد أن تجد تأثيراتها الفعلية على أرض الواقع وفى إنتاج الظواهر السياسية المرتبطة به في بعض تكويناتها. فضلاً عما تحمله هذه التحديات من مخزون تاريخي لا يمكن إهماله بأي حال في الوصف والرصد، كما لا يمكن تغافله ضمن تصورات المواجهة واتخاذ مواقف التحدي أو بدائل أخرى، وذلك ضمن صياغة مشروعاتها الحضارية في تشكيل عناصر الاستجابة الفاعلة لهذه التحديات الوصف ضمن الوسط لا يزال يملك تأثيرًا على أرض الواقع في إطار الامتداد التاريخي من جهة والامتداد المستقبلي من جهة أخرى.

وضمن هذه السياقات في الفهم والرؤية يمكن تحديد التحديات في شكل أقرب ما يكون للمفاصل الكبرى والأزمات المتواترة والضغوط الحضارية المكونة لها والمولَّدة لتشكلاتها وتجلياتها، ومن هنا يبدو لنا أن هذه التحديات السياسية المنوه عنها لابد أن ترى ضمن امتداداتها (الخارجية) وضمن تفاعلاتها مع المجالات الأخرى السياسية والاجتماعية والثقافية والاعلامية والاقتصادية وجملة الحضارية.

هذه النظرة الشاملة تزكي المنظور الحضاري ضمن مسارين مهمين :

الأول: يتعلق بإطار مدخل السنن، الباحث في أصول العلل والأسباب والعلاقات الارتباطية والشرطية ضمن مكونات الفعل الحضاري، السنن الحاكمة لصعود الحضارات وضعفها.

الثاني: يتعلق بالاستفادة من مدخل المستقبليات، والذي يمكن من النظر إلى مستقبل هذه التحديات، ومؤشرات حول طرائق مواجهتها، وذلك في سياق الارتباط بين هذا وذاك في إطار السنن الفاعلة.

وضمن تلك المقدمات السابق التنويه إليها يمكن تصنيف التحديات السياسية الداخلية إلى قسمين يعالج كل قسم في باب :

القسم الأول: المتعلق ببناء الأمة والتحديات المتعلقة بذلك، وهو يتضمن إثارة جملة التحديات المختلفة في كل ما يتعلق بقضايا الهوية والاختلاف والتعددية، وما يحيط بذلك وما يتولد عنه من قضايا مثل العلاقة بين الإسلام والعروبة، والإسلام والتعددية ضمن مفهومها الواسع (التعدديات العرقية والإثنية والدينية والاجتماعية … إلخ) ويمكن التطرق في هذا الصدد إلى الحركات الإسلامية والدينية.

أما القسم الثاني: فهو المتعلق ببناء الدولة أي ما يرتبط بالكيان السياسي والعلاقة السياسية وأنماطها ومتطلباتها، وتشكيل النظام السياسي، وهذا يشتمل بدوره على مناقشة جملة من الإشكاليات والتحديات من مثل إشكالية العلمانية وتأسيس النظم السياسية، إشكالية العلاقة بين الشورى والديمقراطية. وكذلك إشكالية العلاقة بين أطراف العلاقة السياسية وما يرتبط بذلك من تأسيس هذه العلاقة السياسية (أي ترجمتها إلى أشكال مؤسسية مستقرة وفاعلة) وهو ما يجعلنا نتطرق إلى المؤسسات السياسية والأحزاب السياسية، ومؤسسات المشاركة السياسية والمجتمعات الأهلية والعناصر المتعلقة بمؤسسات الثقافة السياسية فضلًا عن سياسات التنمية. وهذا يثير بدوره جملة الأزمات التي تواجه النظم السياسية في بلدان العالم الإسلامي (أزمة الهوية، أزمة الشرعية، أزمة المشاركة، أزمة التغلغل، أزمة التوزيع … إلخ)، وإمكانات مواجهتها وتقديم أنماط استجابة فاعلة لها.

في تفاصيل المشروع الإسلامي الكبير لا بد أن تلقى كل هذه الأمور تفصيلًا في التصور ووضوحًا في الرؤية واجتهادًا يستوعب معطيات الواقع ولكنه لا يخضع لإملاءاته، يعتبر الواقع ولكن لا يحكمه، يدرك الواقع ويعي مكوناته ليتعرف على مداخل تفسيره ومسالك تغييره

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close