fbpx
تقديرات

المصالحة بين القوى السياسية

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

المصالحة بين القوى السياسية: نقاط الاختلاف ورؤية للحل

مقدمة

شهدت ثورة 25 يناير، تلاحم القوى الوطنية، بمختلف انتماءاتها، في تعبير عن الهوية الحقيقية للمجتمع المصري، الذي ارتقي فوق الاختلافات في مشهد الـ 18 يومًا، بهدف التخلص من الاستبداد والتبعية. وقد كان هذا المشهد من أهم أسباب النجاح الجزئي المتمثل في الإطاحة برأس النظام، وفشل محاولات الالتفاف السريع علي الثورة، ومن ثم التفاف شرائح كبيرة من المجتمع حول الثوار، مشكلين حاضنة شعبية هي إحدى ضمانات نجاح الثورات.

غير أن المتضررين من هذا المشهد سرعان ما نجحوا في بث الاختلافات بين القوى السياسية، واستغلال هذه الانقسامات في الانقضاض على مكتسبات الثورة، والإعلان عن الانقلاب العسكري يوم 3 يوليو 2013، مما عمق الهوة بين القوى السياسية الإسلامية الرافضة لهذا الإجراء من جهة والقوى السياسية الأخري من جهة ثانية، خاصة بعد مشاركة بعض رموز الكتلة الثانية في ترتيبات الانقلاب العسكري، والتحريض على فض الميادين .

لكن تحقيق هدف الثورة المنشود في إسقاط الانقلاب العسكري ومحاكمة المتورطين في دماء المصريين، وإقامة دولة العدالة والحرية، يتطلب العودة سريعًا لمشهد 25 يناير، لكن على أسس ومبادئ واضحة في إطار رؤية للمصالحة، تسعى هذه الورقة لتقديم مسودة مبدئية لها، قابلة للمناقشة والتعديل.

ولضمان صياغة جيدة لبنود هذه المصالحة، وتقديم اقتراحات تتناسب مع تحديات المرحلة، لا بد أولًا من وضع أهداف للمصالحة، ومن ثم تحديد القضايا الخلافية بين القوى الإسلامية الثورية والقوى الثورية الأخرى، ثم صياغة برنامج عمل تنفيذي للتوافق بين الجانبين على أسس ومبادئ واضحة.

ويجب التنبيه أنه لا يمكن بناء رؤية جديدة للمصالحة من فراغ، لأنه لا بد من أخذ المبادرات السابقة في الاعتبار وتحفظات القوى المختلفة عليها، ومن ثم البناء عليها.

أولًا: الأهداف المنشودة

إن أي مبادرة للمصالحة يجب ألا تتجاهل تحقيق أهداف ثورة 25 يناير، وتلبي مطالب الثوار في الشارع، ومنها :

• إنهاء حالة الانقلاب العسكري، وآثاره وإعادة الجيش إلى ثكناته.

• ضمان الحقوق والحريات، التي تصون كرامة المواطنين، فلا كرامة لوطن، تنتهك فيه كرامة أبنائه.

• الاحتكام للإرادة الشعبية، في تقرير مستقبل هذا الوطن.

• احترام هوية الوطن، التي تستوعب الجميع، وتحترم الأديان والانتماءات، دون أن تحتقر الأقليات.

• إعادة هيكلة مؤسسة الدولة، خاصة الجيش والشرطة والقضاء.

• تحقيق العدالة الانتقالية والقصاص من المتورطين في الدماء وقضايا الفساد.

• تحقيق العدالة الاجتماعية، بعد أن أدت سياسات العقود الست الماضية، لتعميق الفوارق الطبقية.

• تمكين الشباب من المشاركة الفاعلة، فاستبعادهم كان من أهم أسباب عدم تحقيق أهداف ثورة يناير.

• القضاء على الفساد، في كافة المؤسسات، ومحاسبة المتورطين.

• تحقيق الاستقلال الوطنى ورفض التبعية.

ثانيًا: معوقات التوافق “نقاط الاختلاف”

تكمن أهمية التعرف على نقاط الاختلاف بين حركات التيار الإسلامي وغيرها من القوى السياسية في اعتبار تلك الخطوة مرحلة تمهيدية لطرح توصيات على طريق تجاوز تلك الاختلافات من أجل العمل المشترك، في إطار برنامج تنفيذي لتحقيق أهداف ثورة 25 يناير.

وبغض النظر عن الاختلافات الأيديولوجية والتفاصيل، فإن نقاط الاختلاف الرئيسية بين القوى السياسية ذات المرجعية الإسلامية والقوى السياسية الأخرى تتمثل في الأخطاء المرتكبة في إدارة مشهد ما بعد ثورة 25 يناير، والموقف من المؤسسات المنتخبة، والموقف من سلطة ما بعد 3 يوليو وسبل مواجهتها.

1ـ الموقف من ثورة 25 يناير

تتهم العديد من القوى السياسية غير المنتمية للتيار الإسلامي الحركات والقوى الإسلامية بعدم المشاركة في فعاليات ثورة 25 يناير منذ يومها الأول، وركوب الموجة، وتحقيق مصالح من الثورة وجني أرباحها، المتمثلة بشكل أساسي في الوصول للسلطة عبر البرلمان أو الرئاسة، فضلًا عن اتهام جماعة الإخوان المسلمين بمخالفة وعدها بعدم المنافسة على منصب رئاسة الجمهورية، وعقد صفقات مع المجلس العسكري، من بينها الدعوة للموافقة على استفتاء 19 مارس 2011 .

لكن هذه الاتهامات لا تجد ما يدعمها، إذا تمت مراجعة دقيقة لتاريخ الثورة، فصحيح أن حركات شبابية هي التي بدأت الدعوة لفعالية احتجاجية يوم 25 يناير 2011، بهدف التنديد بانتهاكات الشرطة، لكن العديد من الحركات الإسلامية لم تتأخر عن المشاركة منذ اليوم الأول في فعاليات 25 يناير، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، فضلًا عن أن المنافسة على السلطة كانت مفتوحة للجميع، ولم يستبعد منها أي طرف، ومن ثم فإن من امتلك التأييد في الشارع هو الذي وصل للسلطة، كما إن تراجع جماعة الإخوان المسلمين عن عدم الترشح للرئاسة كان مقترنًا بتطورات عدة، أهمها أنه تأكد عبر مؤامرات الثورة المضادة أن حل مجلس الشعب المنبثق عن الثورة، كان فقط مسألة وقت، وكذلك المؤامرات التي كانت تحاك بالجمعية التأسيسية للدستور.

أما بالنسبة للصفقات مع المجلس العسكري، فالحديث إما يدور عن مجرد مفاوضات ومناقشات، وقد دخلت كافة القوى في هذه المرحلة، أما من حيث النتائج أو الصفقات النهائية، فلم يتم التأكد حتى الآن من وجودها بين جماعة الإخوان المسلمين والمجلس العسكري، بل إن تطورات الأحداث تثبت العكس، كما إن الموافقة على التعديلات الدستورية كان البديل الأفضل للمطالب التي كانت تنادي بها ما تسمي بالقوى “المدنية”، لأنه كان ينص على أن الفترة الانتقالية لا تتجاوز 6 أشهر، كما يتم التوجه للشعب لحسم خياراته بشأن مؤسسات الدولة، في حين كانت تحاول القوى الأخرى التنصل من الاحتكام للإرادة الشعبية، عبر حملة “الدستور أولًا” والمطالبة بمد الفترة الانتقالية، والمبادئ فوق الدستورية .

وبناءً على ذلك، فالمشكلة لم تكن في مجرد الموافقة على التعديلات الدستورية في استفتاء مارس، وإنما في تنصل المجلس العسكري من الالتزام بمضمونها، فضلًا عن المطالب التي قدمتها العديد من القوى السياسية التي تطالب بمد الفترة الانتقالية التي يحكم فيها المجلس العسكري.

في مقابل ذلك، فقد ثبت بالفعل وباعترافات شخصية، تورط قوى سياسية غير إسلامية في التنسيق لانقلاب 3 يوليو، أو علمها المسبق به على الأقل ، بل والتحريض على فض الميادين، ومن ثم فإذا افتُرض صحة الاتهامات الموجهة للتيار الإسلامي المناهض للانقلاب وفي القلب منه جماعة الإخوان المسلمين، فحينها يمكن القول إن الجميع أخطأ في حق الثورة، لكن هناك أخطاء مقصودة وأخرى غير مقصودة، وأخطاء يمكن غفرانها وأخرى ستظل تلاحق أصحابها، ومن ثم فإن التشدد غير مطلوب، والشروط التعجيزية المسبقة تمثل عراقيل أمام المصالحة، فضلًا عن أنه لا يمكن استبعاد الفصيل الإسلامي من أي حراك مناهض للانقلاب.

2ـ الموقف من المؤسسات المنتخبة بعد ثورة يناير

تعتبر القوى الإسلامية أن ما حدث يوم 3 يوليو 2013، انقلاب مكتمل الأركان على مؤسسات الدولة الشرعية، في إطار إحدى موجات الثورة المضادة لثورة 25 يناير، ومن ثم فإن شرعية هذه المؤسسات لا تزول بإعلان الانقلاب، لأنها معبرة عن الإرادة الشعبية التي عبر عنها المصريون في مختلف الانتخابات والاستحقاقات بعد الثورة. ولا تزول تلك الإرادة بإرادة أحد أجهزة أو إحدى مؤسسات الدولة الأخرى، التي ينبغي أن تكون خاضعة للمؤسسات المنتخبة، وإنما تزول بتحول إرادة الشعب نفسه، التي يعبر عنها عبر صناديق الانتخابات أو عبر ثورة حقيقية، ومن ثم فإن شرعية المؤسسات المنتخبة لا تزول بمظاهرات 30 يونيو، التي استمرت ساعات، وكانت دافعًا للمتآمرين على الثورة للإعلان عن انقلابهم.

فضلًا عن ذلك، إذا تم اعتبار مظاهرات 30 يونيو، إحدى موجات 25 يناير، وإذا تم التغاضي عن حجم المؤامرة، والتحريض عليها من قبل مؤسسات الدولة العميقة وذوي المصالح المتضررين من الثورة، فإن مطلب متظاهري 30 يونيو الرئيسي هو إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، ومن ثم فإن القائمين بالانقلاب العسكري، قد استغلوا تلك الحشود للإعلان عن الانقلاب العسكري على مؤسسات الدولة الشرعية، ومن ثم فإن ذلك لا يفقدها صفتها، ومن ثم ترى بعض تلك القوى أن عودة تلك المؤسسات ضروري لاستكمال مسار الثورة واحترام إرادة الشعب .

أما القوى السياسية غير الإسلامية فتجادل بأن مؤسسات الدولة المنتخبة عقب الثورة، قد فقدت شرعيتها بحجة أنها خرجت عن أهداف الثورة، ومن ثم فلا مجال لعودتها ضمن أي تسوية بعد سقوط النظام الحاكم حاليًا.

ومن الواضح أن القوى الإسلامية مرنة في هذه النقطة، بدليل أن بعض المبادرات التي طرحت وكانت محل قبول مبدئي من جانب تلك القوى، لم تكن متضمنة عودة مرسي لاستكمال دورته، لذا فيمكن التغاضي عن تلك النقطة من خلال الاحتكام لصندوق الانتخابات مرة أخرى ضمن رؤية اشمل لفترة ما بعد الانقلاب.

3ـ الموقف من سلطة ما بعد 3 يوليو 2013، وسبل مواجهتها

يعتبر موقف القوى السياسية ذات المرجعية الإسلامية واضحًا من انقلاب الثالث من يوليو، إذ ترفضه جملة وتفصيلًا، وترفض أي مصالحة مطروحة من الداخل أو الخارج مع نظام ما بعد 3 يوليو، إذ تعتبر أنه نظام مفتقد للشرعية الشعبية، رغم الإجراءات التي حاول من خلالها اكتساب شرعية أو إضفائها على رموزه ومؤسساته، عبر وضع دستور، وتنظيم انتخابات حملت السيسي إلى قصر الاتحادية.

وبناءً على ذلك تري القوى الإسلامية أنه لا مكان لرموز الانقلاب في أي مصالحة، رغم وجود تيارات داخل الحركة الإسلامية تقبل بالحوار مع هذا النظام، وترى أنه يمكن الإصلاح عبر المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية، كما كان الوضع في زمن مبارك، لكن هذا التيار ضعيف داخل الحركة الإسلامية الرافضة للانقلاب، كما إنه لا يجد الظرف مواتيًا لتحقيق هدفه، نظراً للخناق المفروض على الساحة السياسية، وتقييد الحريات، وسلب الحقوق، لتثبيت أركان الانقلاب.

في المقابل فإن معظم القوى السياسية غير الإسلامية، المناهضة لنظام ما بعد 3 يوليو، إما انها شاركت في ترتيبات الانقلاب، أو أنها كانت على علم به، أو أنها ساندته، باستثناء بعض القوى لكنها محدودة للغاية مثل “الاشتركيين الثوريين”، لكن حركات وشخصيات أخرى شاركت في إجراءات الانقلاب العسكري، وفي ترتيبات الفترة التالية له.

لكن بعض هذه الحركات والقوى والرموز، قد تنصل من مساندة الانقلاب بعد فترة زمنية من حكمه، إما لأن إجراءات قمعه قد نالت بعض رموز رموزها، أو لجسامة الانتهاكات التي ترتكبها اجهزة الانقلاب ضد معارضيه.

وتكمن نقطة الاختلاف بين الإسلاميين وغيرهم، بشأن التعامل مع نظام 3 يوليو، فالفريق الأول يري أن إسقاطه هو الحل عبر ثورة شاملة، قد تمتد زمنيًا لكنه يري أن جموع الشعب ستلتف حول الحراك الثوري مع ضعف أداء سلطة الانقلاب، في حين تعتمد غالبية القوى الثورية الأخرى منطق الإصلاح من داخل النظام، وقد كانت نقطة الفصل في مواجهة النظام، متمثلة في قانون التظاهر الذي يقود لحظر التظاهر نهائيًا باستثناء تلك الفعاليات المؤيدة لرموز النظام الحالي، لذا انصبت مظاهرات ومطالبات الفريق الثاني في إسقاط هذا

القانون ، والمشاركة من داخل النظام، لكن القمع والتضييق والخناق المفروض على العمل السياسي في مصر، يجعل تحقيق ذلك أمرًا شبه مستحيل .

ثالثًا: رؤية مبدئية للمصالحة

تقترح هذه الورقة تحقيق المصالحة بين القوى السياسية ذات المرجعية الإسلامية والقوى السياسية ذات المرجعيات الأخرى، عبر مرحلتين، وتنطلق من افتراض أن نقاط الاختلاف الآن تكمن في كيفية التعامل مع سلطة ما بعد 3 يوليو، وكيفية إدارة المشهد بعد سقوطها. وتفترض الورقة أن كل الاتهامات المتعلقة بفترة ما بعد الثورة ليست إلا محاولة للتنصل من استحقاقات المصالحة والمشاركة في الحراك الرافض للسلطة الحالية.

المرحلة الأولى: التوافق على إجراءات مواجهة سلطة ما بعد 3 يوليو

إن كيفية التعامل مع السلطة الحالية، تمثل إحدى نقاط الاختلاف بين الكثير من القوى الإسلامية والعديد من القوى الأخرى، الأمر الذي يفرض ضرورة التوافق على وسائل ومبادئ محددة لمواجهته، ومنها:

1ـ الاعتراف بالأخطاء:

أخطأ الكثير من الطرفين في حق الثورة، عن قصد أو عن غير قصد، فخضعوا لمؤامرات الثورة المضادة من البداية. ولعل الخطأ الأكبر والذي وقع فيه الجميع بلا استثناء هو الانسحاب من ميدان التحرير يوم 11 فبراير، رغم وجود أصوات لم تكن مسموعة بسبب فرحة تنحي رأس النظام السابق، تنادي بعدم إخلاء الميادين، لكن هذا الخطأ لم يكن مقصودًا.

2ـ التخلي عن المواقف والاتهامات المسبقة

إن نجاح أي مبادرة يتطلب من الجميع النقاش والتفاهم من أرضية مشتركة، بعيدًا عن نثر الاتهامات هنا وهناك، سواءً اتهام قوى غير إسلامية بالعداء للفكرة الإسلامية من حيث المبدأ أو اتهام الإسلاميين بركوب الثورة والاستفادة منها ومحاربتها، وعقد الصفقات المشبوهة مع الداخل والخارج.

3ـ اعتماد مبدأ الحوار

لا بد من الحوار حول القضايا الخلافية بين الطرفين، لأن تبادل الاتهامات لن يحل الأزمة، إذا كانت هناك إرادة حقيقية لحلها، سواء تم الحوار من خلال تشكيل مؤسسات أو أمانات تكون مسئولة عن ذلك، أو عبر رموز من كافة القوى، وسواء تم الحوار في الداخل أو الخارج، لا بد أن يتم فيه تمثيل الحراك الثوري بالشارع.

4ـ عدم الرهان على الخارج إن الثورة في الداخل هي كلمة السر، ومن ثم فإن عدم ربط مسارها بالتحولات الإقليمية والدولية أمر مهم، وإن كانت العوامل الإقليمية والدولية تؤثر على الحراك الداخلي، فلا بد من الاستفادة منها إلى أقصى درجة، مع عدم ربط مصير الثورة بإرادة الخارج، لأن مصالحه تتغير من وقت لآخر.

5ـ تحرير صفات “الثورية والمدنية والإسلامية”

منذ انتهاء الثورة، وحتى الآن، عمدت قوى الثورة المضادة وآليتها الإعلامية إلى تصنيف القوى السياسية المشاركة في الثورة إلى إسلامية، ومدنية، أو إسلامية وثورية، ليقع الجميع في الفخ، ويعتمدون هذا التصنيف المخل، وكأن هذه الصفات متضادة، وكأن الإسلاميين غير مدنيين، أو غير ثوريين، وكأن المدنيين بالضرورة غير إسلاميين، وكأن الثوريين غير إسلاميين.

لقد تم تزييف الوعي العام، عبر تصوير “المدنية” على أنها ضد “الإسلامية”، ومن ثم لم تعد المشكلة بعد الثورة “عدم عسكرة الدولة”، وإنما أصبحت “عدم أسلمة الدولة”، بحجة أن الأسلمة هي المرادف لإقامة الدولة الدينية التي عرفتها الخبرة الأوروبية، والتي لم تقم ضدها “المدنية” وإنما “العلمانية”، والفكرة الإسلامية لا تستدعي أبدًا النموذج الأوروبي، لأن خبرة الدولة الإسلامية مختلفة تمامًا، ومن ثم تماهت القوى السياسية غير الإسلامية مع عسكرة الدولة بعد الانقلاب العسكري في 3 يوليو، لكن كان لدى بعضها تحفظات على بعض الإجراءات.

وتم أيضًا تصوير “الإسلامية” على أنها ضد “الثورية”، وكأنه كان من المستهدف والمخطط له تصوير الحركات الإسلامية على أنها ليست ثورية، تماهيًا مع الاتهامات المرسلة بأن تلك القوى لم تشارك في ثورة 25 يناير.

إن أهمية هذا التوضيح تكمن في إزالة الاعتقاد المسبق لدى مختلف الأطراف بأنها متضادة من حيث الفكر والواقع، ومن ثم قد توجد قوى إسلامية ثورية وقوى إسلامية مدنية غير عسكرية، وقد تجمع بين الصفات الثلاث فتكون إسلامية مدنية ثورية، فلا تضاد بين هذه الصفات، والعكس تمامًا صحيح، فقد توجد قوى مدنية إسلامية وأخرى ليبرالية، وثالثة يسارية، وقد تكون ثورية أو غير ثورية، وقد توجد قوى غير إسلامية ترتمي في أحضان العسكر فتصبح غير مدنية من حيث الفكر والحركة. وهذا يثبت أن التصنيفات التي تم ترويجها بعد الثورة للتفريق بين القوى السياسية، إنما استهدف بث الخلافات وعدم التوحد على أهداف الثورة.

إن ذلك لا ينفي الاختلافات الأيديولوجية بين مختلف القوى المناهضة لحكم العسكر، وإنما يمهد للبحث عن آليات للتعامل معها، لأن كل طرف من الصعب أن يتنازل عنها.

6ـ التعامل مع الاختلافات الأيديولوجية

إن الاختلافات الأيديولوجية، بين القوى الإسلامية وغيرها من القوى الليبرالية واليسارية، أمر قائم، لا يمكن التنصل منه، بل الاعتراف به أولى، بهدف التعامل مع التحديات التي يفرضها، في إطار من التنوع والاختلاف الذي يبني ولا يهدم.

إن الجميع متفق على ضرورة إسقاط المستبد، لكن يختلفون فيما بعد ذلك، وهو أمر يمكن تجاوزه بكل بساطة عبر الاحتكام للإرادة الشعبية، لأنه لا يمكن فرض هوية على جموع الشعب وهو لا يقبلها، فلو كانت هذه الحركات كافة –سواء إسلامية أو ليبرالية أو يسارية أو… إلخ- تحترم الإرادة الشعبية، فلا بد أن تستجيب لصوت الجماهير وإرادتها.

7ـ ضرورة الحل الثوري

إن التخلص من الانقلاب العسكري ونتائجه واحتقاره للإرادة الشعبية، تجعل الاتفاق على استراتيجية مناهضته ومواجهته أمرًا ضروريًا، بين الإسلاميين وغيرهم، كما إن استحالة الإصلاح من داخل نظام ما بعد 3 يوليو، وفق المنهج الذي تتبناه غالبية القوى غير الإسلامية بالإضافة إلى بعض القوى داخل التيار الإسلامي المناهض للانقلاب، تؤكد أنه لا خلاص من النظام الحالي سوى من خلال ثورة شاملة، يقودها الأحرار في هذا الوطن، وتنضم إليها كافة قطاعات الشعب، التي سيثبت لها يومًا بعد يوم، أن الانقلاب لم يكن يستهدف حماية المواطنين أو تأمين معايشهم، أو تخليصهم من قوى استبداد ديني أو غير ديني، وإنما استهدف حماية مصالح مجموعة من المستفيدين من رموز نظام مبارك وقادة بعض المؤسسات، والقضاء على فرص التطهير، ليشكل ذلك نقطة مهمة للوعي بمخاطر هذا الانقلاب.

إن ذلك كفيل بتشكيل الحاضنة الشعبية للثوار، التي تمثل حماية لهم من قوى الاستبداد، أو بمعني أدق، توسيع نطاق هذه الحاضنة، التي ساهمت مع عوامل أخرى في استمرار الحراك الشعبي المناهض للانقلاب العسكري لنحو عامين، ولا زال النضال مستمرًا جلبًا لنصر الله الذي وعد به الفئة المستضعفة.

8ـ الإيمان بأن للثورات تضحيات

إن كثيرًا من القوى السياسية غير الإسلامية، لا تريد أن تقع في مواجهة مع نظام ما بعد 3 يوليو، رغم اقتناعها بفشله، أو تضررها منه، سواءً أكان ذلك نابعًا من موقف مبدئي من حكم العسكر أو من وقوع ضرر

مباشر على هذه القوى بسبب سياسات هذا النظام، كاعتقال قيادات أو التعرض لفعاليات احتاجية تشارك فيها.

ويدفع هذا الموقف المبدئي الكثير من القوى السياسية الراغبة في المشاركة في فعاليات مناهضة النظام الحالي إلى الإحجام عن هذه الخطوة، أو الدخول في مفاوضات مع القوى المندمجة في إجراءات مناهضة السلطة الحالية، للاتفاق على رؤية لإدارة المشهد الحالي أو المشهد المستقبلي، لذا ترفض العديد من القوى السياسية المشاركة في أي فعاليات يكون العنصر الإسلامي غالبًا عليها أو حتي مجرد مشاركا فيها.

من هذا المنطلق، تكمن أهمية الاعتقاد بأن الحرية لها ثمن وتكلفة، وكذلك الوصول للعدل وإقامة الدولة التي تصون كرامة المواطنين، ومن ثم وجب إيمان كافة الأطراف بأن للثورات تضحيات، لا بد أن يتحملها الجميع. وعلى قدر هذا الإيمان، ومكانة كل فصيل تكون التضحيات.

لكن “هل يغلق هذا الطريق فرص الحل السياسي للأزمة؟”

إن الحل الثوري لا يقوض فرص الحل السياسي، بل ربما يساعد في زيادة مكاسب الثوار في أي مفاوضات أو مصالحة محتملة، بغض النظر عن مدى قبولها لدى مختلف القوى، مع ملاحظة أن أي مبادرة للإصلاح تحاول أن تقدمها جهة يكون لها قبول لدى الطرفين، سواء كانت منظمة أو دولة أو شخصية عامة، قد لا تستبعد رموز انقلاب 3 يوليو من المعادلة، مما يقلل فرص قبول هذا الحل السياسي، خاصة من جانب الثوار في الشارع، في ظل الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان، وأهمها حق الحياة.

المرحلة الثانية: التوافق على رؤية مبدئية لما بعد سقوط الانقلاب

إن من أهم أسباب اشتداد الاختلاف بين القوى السياسية الإسلامية والقوى السياسية الأخرى بعد ثورة 25 يناير، هو عدم التوافق على رؤية لإدارة المشهد بعد رحيل مبارك، كما تثور مخاوف متبادلة لدى الطرفين بشأن الموقف بعد سقوط الانقلاب، ومن ثم تقترح هذه الورقة التوافق على رؤية انتقالية لهذه الفترة، تتضمن التوافق على ترتيبات ما بعد سقوط نظام 3 يوليو، وتتضمن التوافق على فترة انتقالية تمتد عامين، يتم خلالها الآتي:

1ـ تعيين مجلس رئاسي توافقي

تمتد فترة هذا المجلس بين 6 أشهر وعام. ويتولى تنفيذ المطالب الثورية، وإصدار التشريعات اللازمة لذلك، أو بمعني أوسع إدارة شئون الدولة، خلال هذه الفترة، فهو مجرد وكيل عن الشعب لتحقيق مطالب الثورة، وتسيير الأمور الحياتية، لأنه ليس المستهدف من الثورة الانقتل من حالة المؤسسية الفاسدة لحالة الفوضى، وإنما لحالة المؤسسية الصالحة التي تصون حقوق المواطنين. ويختص المجلس بتنفيذ كافة الاستحقاقات الثورية المتمثلة في التطهير أو المحاكمات وإعادة البناء، وتنظيم الاستحقاقات الانتخابية التي يعبر من خلالها الشعب عن إرادته.

2ـ تطهير كافة المؤسسات:

إن مؤسسات الدولة العميقة كانت أهم أسباب تراجع موجات ثورة 25 يناير وعدم نجاحها الكلي في تحقيق كرامة المواطنين والحفاظ على حقوقهم، فقد تآمرت تلك المؤسسات مجتمعة على إحباط الثورة في إطار سلسلة من موجات الثورة المضادة، للحفاظ على مصالح ومكتسبات تلك المؤسسات منذ نحو 6 عقود، لذا تورطت تلك المؤسسات في دماء المصريين، واعتقالهم وجرح شبابهم، لذا فإن من أهم خطوات الإصلاح الثوري بعد سقوط الانقلاب، تطهير هذه المؤسسات من كافة العناصر المتورطة في قضايا الفساد والقتل أو الاعتقال أو مجرد الاعتداء على المواطنين.

ويشمل ذلك كافة المؤسسات سواء العسكرية أو الشرطية أو القضائية أو الجهاز الإداري للدولة، أو المجالس المحلية، دون استثناء، ليتم بعد ذلك تبني عدة إجراءات يتم من خلالها إعادة الهيكلة على أسس احترافية تضمن خضوع تلك المؤسسات للإرادة الشعبية المتمثلة في المؤسسات المنتخبة.

3ـ المحاكمات الثورية العادلة

إن أهم المطالب التي يرفعها الثوار في الشارع كل يوم هي القصاص من المجرمين في عهد مبارك، الذين تورطوا في جرائم التعذيب والإهانة في مؤسسات الشرطة، أو المتورطين في القتل البطئ للمواطنين عبر إجراءات ساهمت في تفشي الفساد، وانتشار الأمراض والأوبئة، وقضايا الفساد، والقصاص من المتورطين في جرائم قتل الثوار، على أن تشمل المحاكمات جرائم القتل والاعتقال والاعتداء، دون استثناء.

4ـ الاحتكام للإرادة الشعبية

إن الفترة الانتقالية، هي بطبيعتها مؤقتة ولا يمكن أن تدوم، أو تطول لأن تنفيذ الاستحقاقات الثورية لا يحتاج إلى وقت طويل، حتى لا تتاح الفرصة لإحدى الجهات للتنصل من تلك الاستحقاقات أو الدخول في مساومات عليها، ومن ثم يثور تساؤل “ماذا بعد المرحلة الانتقالية؟”

إن الاحتكام للإرادة الشعبية أمر لا مفر منه، بحيث يتم اختيار السلطتين التشريعية والتنفيذية “الرئيس”، إما عن طريق التنافس أو التوافق، إذا وجدت مخاوف لدى بعض القوى من عدم المشاركة في السلطة عبر المنافسة على قدم المساواة، نظرًا لاختلاف حجم ومكانة القوى السياسية المختلفة. ويقصد بالتوافق هنا أي تقسيم المقاعد البرلمانية بين مختلف القوى على أي أساس يتم الاتفاق عليه، وكذلك اختيار رئيس ثوري توافقي.

ورغم ذلك، فإن إجراء هذه الاستحقاقات عبر التوافق لا بد أن يسبقه التوافق على أجندة تشريعية وإجراءات محددة، تسمح بتحقيق استحقاقات الثورة، وعدم الخضوع لرغبة فصيل واحد، بل ربما يتم التوافق على وثيقة دستورية قبل هذه الاحتكام لصناديق الاقتراع تتضمن نصوصًا تلزم كافة مؤسسات الدولة المنتخبة بتنفيذ تلك الاستحقاقات، سواء تم إجراء انتخابات عبر التوافق أو عبر التنافس.

وقد يتم في هذا الإطار إعادة نظام المجلسين التشريعيين، أحدهما معين باختصاصات محددة، بحيث يتم فيه تمثيل القوى غير الممثلة بشكل كافي في المجلس المنتخب، شريطة أن يكون ملتزمًا بالأجندة التشريعية التي يتم الاتفاق عليها، ويسمح للفائزين في المجلس الثاني بالتنافس في تسيير حياة ومعايش المصريين.

5ـ الاتفاق على الأطراف المشاركة في إدارة مشهد ما بعد الانقلاب

إن التوافق بين كافة القوى لا يعني بالضرورة أن العملية السياسية، ستشمل الجميع أو أن التوافق سيشمل الجميع، ليفرض كل صاحب رأي رأيه، لكنها لن تستبعد أيضًا كل أحد، فمقترح المصالحة المقدم، إنما يقوم على لم الشمل والتجميع لا التفريق، لكن كيف تتحقق هذه المعادلة؟

إن هذا المقترح أو هذه المبادرة للمصالحة تستبعد من مشهد ما بعد الانقلاب، كل رموز نظام مبارك والمشاركين في العملية السياسية التي حاول الانقلاب إدارتها بعد 3 يوليو، وكل من شارك أو حرض على فض الميادين، وقتل المتظاهرين منذ 25 يناير 2011، وكل المجازر بعدها حتى الآن، وكل من ثبت تورطه في تأييد هذه الإجراءات.

ولا بد من الاتفاق صراحة على ذلك، حتى لا تثور مستقبلًا أي مشكلات أو اتهامات بالاستبعاد. ويشمل ذلك كل المتورطين في ذلك من جانب القوى الإسلامية أو غيرها من القوى، فالمبدأ عام، ولا يستهدف أشخاصًا أو قوى بعينها، على أن يصاحب ذلك اتفاق على إدارة المرحلة من خلال القيادات الشبابية، من كافة التيارات التي توافق على الأجندة الثورية التي يتم الاتفاق عليها.

خاتمة

إن المصالحة الحقيقية تتطلب ابتداءً تحديد الأطراف التي سيتم التحاور معها، ومن ثم يطرح كل طرف رؤيته وشروطه لتحقيق المصالحة، شريطة الالتزام بالتعددية والمشاركة، بهدف إنهاء حكم السلطة الحالية، وبناء مؤسسات الدولة التي تضمن للمواطنين العيش الكريم والمشاركة في صنع القرارات دون وصاية.

وعلى الأطراف المشاركة في الحراك الحالي، أن تتبني مبادرة مصالحة بشكل حقيقي، ويتم الإعلان عنها أمام الشعب، والدخول في مفاوضات معلنة بشأنها، حتى تكون هناك شفافية كاملة، ويتحمل الجميع مسئوليته، ومن ثم يتم الاتفاق بين الأطراف غير المتورطة في الدماء والفساد والاعتداء، على استحقاقات ثورية يتم إعلانها للجميع، ووفتح الباب مستقبلًا للانضمام إليها، من جانب من يقبل بهذه الاستحقاقات.

 

————————————–

(1) الأراء الواردة في هذه الدراسة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري،  ولكن تعبر عن وجهة نظر كاتبها.

https://www.youtube.com/watch?v=V-WEL_5Ox-Q .

نص ميثاق بروكسل على أهداف قريبة من تلك المشار إليها في الورقة، انظر: هل تنجح مبادرات المصالحة بين جماعة الإخوان والقوى الثورية؟ الرابط

المرجع السابق.

https://www.youtube.com/watch?v=JromYPbMGho1

أحمد ماهر، للأسف كنت أعلم، مصر العربية، الرابط.

(2) الصفحة الرسمية لتحالف دعم الشرعية، الرابط .

الجزيرة نت، أسبوع “ثوري” لإسقاط قانون التظاهر، الرابط.

قوى ثورية مصرية نحو “جبهة موحّدة” ضدّ النظام، الرابط .

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close