fbpx
دراسات

المواطنة في دولة مسلمة: الإشكالات والتحديات ج3

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

ثاني عشر: منهج النظر:

كيف تشكل المواطنة مدخلا لحل إشكالات تتعلق بتحديات جامعية المواطنة؟

من الجدير بالذكر أنه قد يحتج البعض بحقوق الانسان على الشريعة فيؤكد أن حقوق الإنسان تمثل مرجعية في هذا المقام من غير حاجة للتأكيد على مرجعية الشريعة، ومن نافلة القول أن نؤكد على أن هذا الأمر قد يكون صادقا في حالة أن الشريعة لا تقدر حقوق الإنسان أو تقف في مواجهتها أو تتناقض معها، ذلك أن الشريعة تجعل من حقوق الإنسان من مرجعياتها الكلية الفرعية (المنظومة الإنسانية) (المنظومة الحقوقية) فيجعل من هذا قسيم للشريعة لا ينافيها ولا تنفيها.

ومن هنا تكون الحجة التي تتعلق بمرجعية الحقوق الإنسانية كحجة نافية للشريعة أمر لا يجد له أي سند ولا يستند إلى حجة فإن الحقوق سواء تلك التي تتعلق بالتأسيس أو بالحقوق السياسية والمدنية أو بالحقوق الفردية والاجتماعية او بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية او بالحقوق الجماعية أو الحقوق التي تتعلق بعمليات كلية التنمية /المعرفة / البيئة /.. إنما تجد مكانها اللائق ضمن مرجعية الشريعة وهي من أمور السياسة التي أشار إليها ابن القيم حينما نقل ذلك الحوار بين شافعي (من الشافعية) وأستاذه بن عقيل حينما دار ذلك الحوار حول السياسة وهو أمر يوضحه أكثر فأكثر قول الشاطبي باعتماد السياسة الشرعية ما حققت المصلحة وما أكدت عليها وقول العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام في مصالح الأنام ليؤكد هذه القواعد الكلية التي أرادها لم تكن لعالم المسلمين فحسب وإنما كانت لمجمل الخلق.

وأن المواطنة وكذا الديمقراطية هي مفاهيم علمانية بالأساس والتأسيس وتناسى هؤلاء أن الدين بما يمثله من حفز لقيم التماسك والجامعية إنما يشكل رؤية للمواطنة تحقق أصول هذه الرابطة السياسية وفق قواعد وسنن تحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتحكم هذه العلاقة بما يؤكد معاني الجامعية فيها، وإذا لم تتأكد العلمانية شرطا في هذا المقام فإن الدين لا يعد مناقضا للمواطنة عند الحديث عن تأسيس المجتمعات وتشكيل شبكة العلاقات الاجتماعية والسياسية.

نحن أمام علاقة شديدة التركيب لا نستطيع إلا ان نؤكد ان مفهوم المواطنة ظل اختراعا معرفيا مهما في شأن العلاقة في هذا السياق ونوع هذه المجالات بل وارتبط بها ارتباطا عضويا لا نستطيع الا ان نعتبره في هذا المقام مفهوما منظوميا وشبكيا في هذا السياق. هذا المفهوم اثار لغة تجميعية وجامعية من المهم ان نتوقف عنده وعليه. وهو أمر أثار ومن كل طريق مجموعة من التساؤلات يجب ان تقودنا الى حزمة ومنظومة من المعادلات.

في إطار التصنيف بين المجالات (الشخصي والخاص والعام والسياسي) من الضروري ضبط نسب العلاقات والتداخلات والتمايزات في إطار يسمح بإعمال ” علم الفروق ” وليس فقط ” علوم الاشباه والنظائر ” في إطار مقارن، فأي تلك المعايير التي يمكن ان نفيد منها في هذا المقام؟

هل الشكل الوحيد بين ” المدني ” و” الديني ” هي الحالة التناقضية ام من الممكن ان يضطلع المدني بما هو ديني وما هو ديني ان يضطلع بما هو مدني؟ تساؤل صارت تطرحه تطورات طرأت على الانشطة المؤسسية لحركات وتكوينات وأبنية؟

ماذا يمكن ان يتركه التطور الذي يطرأ على التفكير في ” السياسي ” من تأثيرات ليس فقط على كافة المجالات الاخرى والعلاقات فيما بينها، السياسي بدلالاته التي تتسع وتتمدد ربما صار أقرب الى دائرة الممارسات التي تتعلق بالعمران السياسي وحقائق المعاش اليومي وبنية السياسة التحتية ؟، تساؤلات صارت تفرض علينا ان نتعرض الى جملة من المعادلات تستبطنه في داخلها جملة من العلاقات؟ يجب ان تأخذ في اعتبارها تطورات لا يمكن إنكارها؟؟!! خاصة إذا ما تجمعت الخيوط بفعل جامعية المواطنة.

معادلات المجالات وحراك المواطنة:

معادلات المجالات وحراك المواطنة

وضمن رؤية هذه المعادلات المختلفة، نستطيع أن نقول أن المدني مثل مجالا ضمن تلك المجالات التي تتعلق بالمواطنة إلا أنه من بعد تعاظم مفهوم المدني زاحفا على دوائر مختلفة بمساعدة العولمي ونهج الحياة العلماني على حد سواء بحيث يروج لنموذج بعينه وجب التوقف على خبرته وتفحص مدلولاته والتعرف على مآلاته وتلك المعاني التي تتعلق بقدرات الملاءمة وكفاءة المفهوم أو الصفة في الفعل والتفعيل والفاعلية.

في هذا المقام نرى مفهوم المواطنة كمجموعة من البنيات المتكاملة والمتحاضنة، انظر الشكل التالي:

مفهوم المواطنة كمجموعة من البنيات المتكاملة والمتحاضنة

المواطنة: منظومة من البينات وعلاقات بين المجالات وتفاعلات بين البنيان والمجالات ((بنيات المواطنة وبيناتها))

أصول استطراق المواطنة في المجالات والعلاقات والبنيات ((بينات المواطنة))

1-انسداد الموصلات بين قنوات الاستطراق

2- اختلاف السوائل في الكثافة والضغط وعدم قابليتها للإمتزاج.

3- وعي القائم بالتجارب وإدراك العناصر المانعة من توفير الوسط المناسب لإجراء تجربة الاستطراق المواطنية في قنوات الوطن.

4- حالة السيولة المتناغمة كشرط تأسيسي لتحقيق الإمتزاج ومانعية الانفصال والتكلس الذي يصيب حالة المرونة في السوائل بحالة من التجمد والجمود.

المواطنة حال من التعاقدية تؤصل معاني التبادلية، وأصول ارتباط الحق بالواجب، وميزان التعاقد،

المواطنة قاعدة من قواعد منظومة الحكم الراشد التي تشكل إعمالا لقيمه ومقتضياته 1 ،وهى تدور مع العدل والظلم وليس الكفر والإيمان، وماأنفس ماأكده الإمام ابن تيمية في كلام دقيق في هذا الموضوع ( المثل الأعلى والتطبيق) ذكره في كتاب الحسبة في الا سلام قال فيه :

“وأهل الكتاب متفقون على الجزاء بعد الموت ولكن جزاء الدنيا متفق عليه من أهل الأرض، لا يتنازعون أن عاقبة الظلم وخيمة وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يروى (أن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة ) “2

وكلام ابن تيمية هذا في مستوى رفيع جداً في علم الاجتماع وفقهه وفهم الحضارة والثقافة والنهضة كما توضح أسس النجاح في الدنيا والآخرة معاً ولكل من المثل الأعلى والتطبيق شروط فمن حققها نجح، ومن لم يحققها أخفق (وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) (النحل) ومن هنا يتبين لنا أن كل لحظة يبذل فيها الفرد-المواطن واجبه فإنه يسهم في بناء الحياة.

ثالث عشر: دوائر الانتماء ووحدات التحليل:

المواطنة ودوائر الانتماء المتحاضنة والمتفاعلة:

يحسن في هذا المقام أن نشير إلى أن البشري- الحكيم، جعل من المنهج معنى متسعًا يستغرق كل المعاني التي يؤديها الجذر اللغوي “نهج”، ومن أهم تعلقات ذلك أن يكون المنهج هو الطريق الموصل، ومن ثَمّ كان ارتباطه بالواقع والقصد معًا.

المنهج بهذا المعنى ليس مجرد عمل نظري أو تنظيري، ولكن المنهج تعبير عن رؤية كلية ووسائط بحثية وأدوات وأساليب، وهي في كل الأحوال توضح الطريق وكيفية سلوكه وبلوغ الغاية والهدف. ومن هنا كان من أهم معاني المنهج لدى المستشار البشري أن المنهج للواقع، ومن هنا كان حديثه عن وحدات الانتماء مدخلاً للحديث عن وحدات التحليل المنهجي في معظم دراساته وفي جل بحوثه.

فهو إن جعل من الأمة وحدة تحليله التأسيسية، ومن الجماعة الوطنية وحدة تحليله الواقعية، فإنما أراد أن يبحث عن معنى الأمة في الجماعة الوطنية، وهو عمل لا يفقد الأمة كوحدة تحليل مرجعية ولكنه في ذات الوقت لا يفقد الواق، ولا يتركه نهبًا لوحدات تحليل تضر بالظاهرة وإمكانات فهمها والتعامل معها وتقويمها.

وهو من أجل هذا يذكر أن علم السياسة وعلم الاجتماع لا يكتفي أحدهما بالنظر الذي يركز على وحدة الانتماء العامة أو وحدة الانتماء الاساسية التي تقوم عليها الدولة، ويتعلق بها نظام الحكم أو السلطات الثلاث، لا يكتفي بذلك لفهم أوضاع نظم الحكم وطبيعتها، وهو ينفتح على العديد من الهيئات والجماعات والتكوينات، ولا يرى المواطنين محض أفراد تجمعهم الأحزاب ومؤسسات الدولة فقط.

ذلك أن علوم السياسة والمجتمع لا تكتفي برسم الأطر وتحديد القنوات، إنما يتسع نظرها وبحثها ويصل إلى الجماعات الفرعية التي يتجمع فيها الأفراد، وكذلك إلى المؤسسات والأبنية التي تقوم على هذه الجماعات. إن أول الخطوات في طريق الخطأ تتمثل في نظرنا إلى المواطنين كأفراد، وفي عدم إدراكنا ما يجمعهم من الجماعات الفرعية ووحدات الانتماء الفرعية المتداخلة في المجتمع، وما تشخص به هذه الجماعات والوحدات من هيئات ومؤسسات.

إن المجتمع يتكون من وحدات انتماء لا حصر لها، وهي تتنوع من حيث معيار التصنيف: فيكون أساسها الدين أو المذهب أو الطريقة الصوفية أو الملة أو المشرب الثقافي أو الطائفية، أو يكون أساسها اللغة أو اللهجة، أو يكون أساسا نوع التعليم أو المهنة أو الحرفة، أو يكون أساسها وحدة العمل الوظيفي لجيش أو جامعة أو شركة كبرى أو وسط عمل معين، أو يكون أساسها الإقليم أو الحي أو القرية أو الحارة، أو يكون أساسها القبيلة أو العشيرة أو الأسرة، أو غير ذلك مما لا يقع تحت حصر من حيث العدد أو من حيث النوع أو من حيث معيار التصنيف. وبسبب تنوع معيار التصنيف فهي تعتبر وحدات انتماء جامعة ولمنها ليست بالضرورة وحدات مانعة، والفرد الذي ينتمي لإحداها قد يمتنع عليه الانتماء لغيرها من جنسها وبذات معيار التصنيف، ولكن لا يمتنع عليه الانتماء لغيرها وفقًا لمعيار آخر للتصنيف، فالمنتمي لأهل السُّنة يمتنع عليه الانتماء للشيعة لوحدة معيار التصنيف الفارق بين الوحدتين، ولكن لا يمتنع عليه الانتماء لأهل الطريق أو لقبيلة أو لإقليم أو غير ذلك لاختلاف معيار التصنيف، ومن هنا فالوحدات متداخلة ومتشابكة ودوائرها تشكل حلقات ليست منفصلبة، وبسبب تعدد هذه الوحدات، وتنوع معايير التصنيف لها فهي لا تقف على قدم المساواة في علاقاتها بعضها البعض، ولا تختلف اختلاف تعدد وتنوع فقط، إما أيضًا اختلاف عموم وخصوص، أو اختلاف أجناس وأنواع من كل جنس منها أو اختلاف أصل وفروع، وهكذا نرى بين وحدة الدين وحدة المذاهب الدينية، ووحدة السُّنة ووحدة مذاهبها، ووحدة الصوفية وأنواع الطرق، وهكذا نرى بين الوحدات الصلات الإقليمية أو الصلات المهنية أو روابط الدم وغير ذلك.

من هذه الوحدات تظهر في كل مرحلة تاريخية وحدة الانتماء العامة التي تعتبر الحلقة الكبرى والأساسية التي يتشكل المجتمع وفقًا لما تفيده، والتي تعتبر الحلقة الحاكمة لغيرها أو الوحدة الحاكمة لغيرها، وما بعدها يمكن الإشارة إليه بحسبانه وحدات الانتماء الفرعية. وتتبلور وحدة الانتماء العامة وفقًا لعاملين أساسيين:

الأوضاع التاريخية والاجتماعية ترشحها لأن تقوم بالوظيفة الأساسية، وأن تستجيب للتحديات الأساسية التي تواجه الجماعة بوحداتها كافة في مرحلة تاريخية معينة.

ومن الجلي أن وحدة الانتماء العامة يكون لها قدر من الثبات النسبي، ولكنها تقبل التأثر والتأثير من داخلها بواسطة الوحدات النوعية، ومن خارجها بواسطة الأوضاع العامة المحيطة. ومن الجلى أن كل مجتمع حي يتضمن صيغة ما من صيغ الوحدة مع التعدد، أي وحدة الانتماء العامة التي يكون لها الغلبة في المجتمع وفي وعي الناس في هذا المجتمع، وتستجيب لما يلاقي من تحديات، وتحقق الحد الأقصى من الصوالح، وترعى القاسم المشترك الأعظم منها بالنسبة للجماعات المختلفة في المجتمع، التي تتعدد بتعدد الجماعات وبتعدد معايير التصنيف القائمة في المجتمع؛ وهي بالضرورة متداخلة ومتشابكة، وهي تلتف حول الوحدة العامة بقدر إدراكها أن هذه الوحدة العامة تكفل لها الحد الأدنى من تحقيق الوجود ومن البقاء ومن المصالح المرجوة. وبكفالة هذا الحد الأدنى تقوم وعلاقات الدعم المتبادلة والتغذية المتبادلة بين العام والفرعي، فإذا لم ينكفل هذا الحد الأدنى قام نوع من الصراع ينحسم بالغلبة لصالح الوحدة العامة من أي من الوحدات الفرعية أو لصالح الوحدات الفرعية إذا تكاثرت واتحدت ضد ما يعتبر وحدة عامة في مرحلة معينة..

وأتصور أن حجم التحدي الذي يواجهه المجتمع ونوع هذا التحدي، إنما يؤثر في وجود الانتماء وفي غلبة وحدات بعضها على بعض في فترات تاريخية معينة، يحدث ذلك بالسلب أو بالإيجاب. وقد حدث في مثل بلادنا أن تناثرت أشلاء بسبب اقتسام القوى الغربية لها واحتلالها إياها وسقوط الخلافة كمشخص لواحدة الانتماء العامة بينها جميعًا.

وفي مثل هذه الأوضاع فإن القطر المجتزأ ينشئ من داخله ويهيئ من أشلائه التشكيلات التي يستطيع بها أن يسيطر على وضعه، إنه عضو حي، وحياته تكسبه هذه القدرة على التهيؤ والتشكيل، ومن ثم تنشأ له ذاتية خاصة على التعامل بمحيطه المضروب عليه كوحدة سياسية اجتماعية وكوحدة انتماء عام.

وهذه الوحدة المتخلقة تنشئ لذاتها الأهداف والرؤى والتصورات التي تستطيع أن تواجه أوضاع الحياة السياسية والاجتماعية.

وهي فيما تصنع تعيد ترتيب وحدات الانتماء الأخرى على أساس أن تلحق هذه الوحدات بها كوحدة حاكمة، وهذا ما جرى في مصر مثلاً منذ 1919 عندما علت الجامعة المصرية على غيرها وألحقت بها غيرها.

ومن جهة أخرى فإن الخطر الخارجي تحشد له قوى المواجهة وتنشيط معه وحدات الانتماء القادرة على مواجهته بحجم الشمول والعموم المطلوب، وفي الأزمات الداخلية مثلاً تحشد القوى القادرة على التصدي لهذه الأزمات بما هو خليق بمعالجة المخاطر الحادثة، وفي هذا الحشد تبدو بعض الوحدات بوصفها الخليقة بقيادة غيرها في ظروف الأزمات الراهنة لما تتصف به من عموم وشمول يتناسب حجمه مع خطورة المواجهة القائمة، كما اتحد المسلمون ضد الصليبين..

وكما يشير البشري فإنه يحاول توضيح الأهمية الاجتماعية والحضارية القصوى لوجود هذه الوحدات جميعًا، لأن وجود الوحدات الفرعية يغذي الوحدات العامة ويتغذى منها.

ونحن نخطئ إن تصورنا أن وجودها يشكل انتقاصًا من الوحدات الأعم، إن الإنسان مدني بطبعه، ولا يوجد فرد بغير جماعة. وإن وجوده بغير جماعة هو أقرب إلى التصورات الصورية الافتراضية.. إن الفرد دائمًا هو داخل في وحدة أو أكثر من هذه الوحدات الجمعية، والنظام يكتسب حيويته من قيام هذه الوحدات ونشاطها وتفاعلها.

إن حيوية المجتمع وقدرته على تنويع حركته وعلى تغيير أوضاعه مع الظروف المتغيرة وقدرته على تكوين استجاباته وفقًا لوجوه المواجهة وألوانها التي تفرض عليه، كل ذلك يتوقف على مدى فاعلية وحدات الانتماء التي تربط أفراده في كل هذه الأنواع والأجناس من الجماعات المتداخلة التي تبني للمجتمع عروته الوثقي، لو كانت المصرية ضعيفة لما استطاعت أن تقاوم الإنجليزية عندما انكسر الوعاء الإسلامي الأشمل، أي لما استطاعت أن تشكل وعاءً أخص يكون قادرًا على الحياة والمواجهة. ولو كانت الإسلامية والعروبة غائبتين لما استطعنا أن نستمد فيما نستهدفه الآن من مواجهات عالمية كبرى تثبت تجربتنا أننا نقدم مثالاً باقيًا من أمثلة الصمود والمقاومة على مدى عشرات السنين من التاريخ المعاصر، وأن ليونة التحول من وضع مواجهة إلى وضع آخر تتوقف على مدى حيوية هذه الوحدات وفاعليتها، وكل ما هو مطلوب ألا نضعف أيًّا من هذه الوحدات لحساب الوحدات الأخرى ولكن أن نضعها كلها ونعيد ترتبيها؛ بما يجعلها يقوي بعضها البعض، ويغذي بعضها البعض، ويدعم بعضها البعض.

الجماعات الفرعية هي مولدات الحركة للجماعة كلها في صورها الشاملة، ونحن نخطئ أيما خطأ –ولقد أخطأنا- عندما نظرنا إلى وحدات الانتماء العامة بوصفها نوعًا من أنواع أجولة الحبوب تحمل حبات منفصلا كل منها عن الأخرى، وتضم وحدات متماثلة على غير تنوع ولا تدرج ولا تفاعل بين بعضها البعض.

إن القومية لا تضم أفرادًا، وإن الوحدة الإسلامية لا تضم أفرادًا، وأن المصرية والعراقية أو المغربية لا تضم أيضًا أفرادًا، إنما تضم جماعات تمثل وحدات انتماء تقدر كل منها على الانبعاث الذاتي وتدفق الحركة من داخلها وبالمولدات الذاتية الخاصة بها.

ونحن نخطئ.. عندما ننظر إلى مجتمعاتنا بذات الرؤية والتصور الذي ساد لدينا عن مجتمعات الغرب عمومًا.

وفي إطار هذا الفقه من أستاذنا البشري لدوائر الانتماء كوحدات تحليل دراسية ضمن سياق ظواهرنا المختلفة التي نعيشها أكد على نقطتين:

الأولى: أن الكثير من مؤسسات وحدات الانتماء الفرعي قد دمرت، إما لأن الهيمنة الغربية اقتضت تدميرنا، أو لأننا نحن ضربنا فيها معاول الهدم لأننا نظرنا إليها من منظور التقلد للغرب. ومن منظور ما فهمناه عن المجتمع الغربي. فرأينا في مؤسساتنا وحدات انتمائنا الفرعية لا كوتها موضوعًا للإصلاح والتجديد ولكنها عقبات في وجه الإصلاح والتجديد، فهدمنا “تجديدًا” ودمرنا “إصلاحًا”. ثم لما شيدنا على أنساق الغرب ما شيدنا لم نجد من هذه التكوينات الفرعية ما يمكن من الأعمال النافعة للمؤسسات الجديدة.

الثانية: أننا نظرنا في النظام الغربي المأخوذ عنه في صياغاته الفلسفية التي تبدأ بالفرد ثم تقفز إلى التصور الكلي العام، ولقد جرى في الغرب إعلاء القيمة الفردية لتحرير الفرد من بعض المؤسسات الضاغطة والمانعة من انتقاله إلى مؤسسات جمعية أخرى تولدت في المجتمع نفسه، تحريره من ربقة القنانة وإطلاق حريته في الاقتراب من وحدات الانتماء التي ولدت من رحم المجتمع نفسه في المدن والمصانع والجمعيات والنقابات. فكان التركيز على الفردية لا لكي يتناثر الناس أفرادًا ولكن لكي تنفتح أمامهم مسالك الانجذاب والانضمام إلى ما يرون من وحدات أخرى.

أما نحن فقد تصورنا المجتمع من خلال علاقة الفرد المنفرد بالجماعة القومية وبالدولة وبالحزب، هكذا مباشرة، وهكذا ضربة لازب، دون اهتمام بالحلقات الوسيطة والوحدات المتداخلة المتشابكة في شتى المجالات.

ومتى صار الشعب أفرادًا فقد صار الحاكم فردا لزوال التكوينات الضاغطة، ولأنه لا توجد وقتها إلا وحدة الانتماء الأعم التي تشخص فيه بذاته منفردًا عما عداه.

التربية على المواطنة عبر تحديد هذا المفهوم كان هم الحكيم البشري واهتمامه، وهو مشروع يمكن أن تنبني قواعده وسننه فيما لو أرادنا أن نفعل حركة أنساقنا التربوية. التربية على المواطنة لدى البشري ليست مواطنة التربية المدنية التي تسعى تشكيل ما أسمي بـ”المواطن العالمى”، في محاولة فك ارتباطه بوطنه، المواطنة –لدى البشري- لا تتم إلا عبر الوطن، وهي صد العوادي والاستبداد، ومقاومة لكل صنوف العدوان من الخارج(3 ).

رابع عشر: المدخل الفقهي الجامع للجماعة السياسية:

من الأهمية بمكان القول بأن الفقه الإسلامي ظهر ونما في البيئة العربية، وظهرت مدارس في العراق والحجاز والشام ومصر وهو على هذا الأساس، الفقه المرشح لأن ينمو منه التشريع الحاكم للعرب. ومن المهم القول بأن السنهوري سبق القول بذلك الامر في مقالة له بعنوان ” القانون المدني العربي “. وهو الفقه التي درجت عليه الأقطار العربية وألفته مجتمعاتها قرونا، فصار من العناصر التي توفر التجميع العربي والاتصال التاريخي. ويذكر أستاذ القانون المدني د. شفيق شحاتة في سنة 1960 أن ” البلاد العربية في إبان حضارتها حكمها قانون ينبعث من صميم عقيدتها، يتمثل في الشريعة الإسلامية. والشريعة الإسلامية ظلت مطبقة تطبيقا شاملا لمختلف نواحي الحياة العربية، وذلك على مدى قرون طويلة. فإذا أردنا الآن الرجوع بالبلاد العربية إلى مقوماتها الأصيلة، تعين علينا الرجوع إلى هذا الينبوع لنغترف منه أنظمة تتسق وحاجات العصر”.

ثم إن المصادر القانونية لتشريعات البلاد العربية اليوم على قدر من التنوع يصعب معه إجراء التوحيد أو التفضيل، منها التشريعات الآخذة عن الفقه اللاتيني كمصر وسوريا ولبنان والتشريعات الآخذة عن الفقه الساكسوني كالسودان وبعض قوانين العراق، ومنها الآخذة عن الشريعة كالسعودية واليمن. ومنها ما مزج التشريع الإسلامي بالتشريعات الغربية كالقانون المدني العراقي.

ومن جهة أخرى، فالتشريع الإسلامي يصلح عنصرا جامعا بين العرب والأقليات غير العربية في الوطن العربي بجامع الإسلام لدى الأكراد والبربر مثلا4 .

“.. ورحم الله الشيخ عبد الوهاب خلاف الذي لاحظ ما معناه أن فقه المسلمين يدور في هذه المسألة مع المودة والصفاء فينفتح ويتسع، أو مع التعارض والبراء فينقبض ويضيق، لأنه فرع يرعى مصالح الجماعة ويدور معها في هذه الأمور..”. مع القابلية للتجدد والتنوع فإنه فإنه عند التفكير في إقرار تطبيق الشريعة يكون من حق الجميع ـ بموجب حقهم في المواطنة ـ أن تبسط أمامهم وجهات النظر الإسلامية، وأن يبين الفارق بين الأحكام القطعية الثابتة وبين الأراء والاجتهادات الفقهية التي يمكن أن يؤخذ منها ويترك، والتي يمكن أن تتعدل بمراعاة الزمان والمكان5 .

خامس عشر: المدخل المقاصدي وإعادة تعريف المواطنة:

الدين شبكة من المقاصد الكلية لحفظ أصوله وحفظ النفس والنسل والعقل والمال.

“يكون الدين إيمانًا بالله يعمر دنيا الناس، وعقيدة تخلق حضارة، وعبادة تربِّي مجتمعًا”. الدين: انطلاق للحياة والسلوك والتشريع، دون أن ينحصر في مجموعة من الكلمات والتقاليد والمظاهر الجامدة المتنافية التي تضمها الأوراق وتتناولها الشفاه..”.. دين الحياة، دين للواقع.

إن الصالح في ذاته، لا يمكن أن يحقق خلاصًا فرديًا، من دون الشروع في تحقيق الإصلاح الجماعي. إن صلاحه في إصلاحه، فيكون صالحًا في ذاته، مصلحًا لغيره ولجماعته ومجتمعه.

إن تحجيم الفاعليات الدينية أو تهميشها، تلوينها أو اختصارها، حرقها أو الاستيلاء عليها، هو قمة تحريك الدوائر من سلطان الدين إلى دين السلطان6 .

إذا كانت المقاصد الكلية العامة إنما تشكل كيانًا معرفيًا وبحثيًا ومنهجيًا، ومساحات للتعامل والتناول، فإن المقصد الديني (حفظ الدين) هو رأس المقاصد، والمقاصد الآخرى هي مقاصد مكونة لبنية “عمران الإنسان” أو بناء البشر من مقصد “حفظ النفس” و”النسل” و”العقل” و”المال”، وما تشير إليه تلك القواعد من “عمارة البيت الإنساني”، من أعمدة أربع تشكِّل ما يشد بنيانه، وما يقيم أسسه، ضمن عناصر ما يطلق عليه “التنمية البشرية” أو “التنمية الإنسانية” أو “العمران البشري” – علي حد تعبير ابن خلدون، أو “نوعية الحياة” علي حد تعبيرات تقارير التنمية الدولية.

مفهوم المواطنة وعشرية المقاصد العامة والكلية

هذه الرؤية المقاصدية الكلية للدين تجعل من هذه المساحات كلها، واقعة في فعل وتفعيل وفاعلية الدين: (دين متَّبَع، ونفس مكرَّمة، ونسل قوي فاعل ومؤثر، وعقل واعٍ ومدبِّر، ومال يشير إلى خصب الزمان وحركة العمران). هذه منظومة الرؤية المقاصدية الكلية العامة الشاملة للدين7 .

المواطنة من المنظور المقاصدي: فاعليات المواطنة من دون استبعاد الدين

المواطنة من المنظور المقاصدي

سادس عشر: المدخل السفني مواطنة السفينة وتأسيس شبكة العلاقات الاجتماعية: ميلاد مجتمع

في سياق العلاقة بين الفرد والمجتمع8 يمكن صياغة أشكال هذه العلاقة ضمن ذلك النموذج السفنى الذى يؤسس لعلاقات تحفظ على الفرد كيانه كما تحفظ للجماعة والجماعية مقامها وهى إذ تحدث التوازن المطلوب بين الفرد والجماعة في علاقات سوية إنما تشكل الجماعة الوطنية (القوم، السفينة، الوطن) عناصر غاية في الاهمية لتأسيس ذلك النموذج.

يعتبر مَثَلِ “السفينة” الذي تضمنه حديث السفينة للنبي (عليه الصلاة والسلام) منظومة معرفية وسلوكية متكاملة، ونص الحديث كالتالى:

“مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُواْ عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصاَبَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فيِ أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المْاَءِ مَرُّواْ عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا خَرْقًا فيِ نَصِيبِنَا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ تًركُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْديِهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا” رواه البخاري.

الحديث إذن -بنصه ومشابهاته ومقايساته التي تشير إلى جملة من المعطيات والمفاهيم- يكون بحق منظومة رؤية متكاملة وشبكة من المواقف والأحكام والتقييمات لا يمكن التغاضى عنها أو التوقف عن استكناه إمكانات (التأصيل والتفعيل والتشغيل)؛ بلوغًا للمقصود البحثي، فضلاً عن بلوغ الغايات الاجتماعية والتربوية والحضارية.

سابع عشر: المدخل التربوي: العيش الواحد المشترك:

العيش الواحد في إطار يؤسس للاندراج في الجماعة الوطنية عبر المواطنة لتأصيل العيش الواحد والنسيج الاجتماعي الواحد عبر آلية الحوار لبلوغ هذا المقصد التأسيسي. في إطار يؤصل العيش المشترك والتعارف.

العيش المشترك ليس بعيدا عن أفكار مثل الفردية والجماعة، والفئة والطائفة، والاندماج والعزلة، وهو كذلك ليس بعيدا عن إمكانات تعظيم المشترك، وتنظيم المختلف، وتكامل التنوع، إذ يعد ذلك جميعه خروجا من الاختلاف الى جوهر الائتلاف9 .

ثامن عشر: أصول تأسيس الجماعة الوطنية

(بين المدخل الأقلوي وجامعية التعددية والمواطنة والوطن)

من الضروري التأكيد على جامعية المواطنة عبر الوطن، والتي تستدعي منا التعلم لأصول تأسيس الجماعة الوطنية، وقواعد الاندماج فيها، وتكثيف الفاعليات لهذه الجماعة ضمن قواعد وحدود ترتضيها هذه الجماعة تتعلمها من تاريخها وتتأكد من أعرافها وقواعد نظامها العام، وتحوط كل ذلك بعناصر بيئة ثقافية وتربوية تشكل بنى تأسيسية لعملية التسامح، ومثلما يؤكد الحكيم البشري (المستشار طارق البشري): إن كانت ثمة قاعدة يمكن استخلاصها من وقائع تاريخ مصر المعاصرـ من زاوية تشكل الجماعة الوطنية واندراج مكوناتها المتعددة والمتنوعة في هذا الشكل فإن الجماعة الوطنية تتضام عناصرها وتتماسك قواها بقدر نهوضها الجمعي للدفاع عن مخاطر الخارج عليها، والزود عن أراضها وثوابتها الفكرية وعن مصالحها السياسية والاقتصادية بعيدة المدى.

إن مخاطر الخارج عليها تعمل فيما تعمل على تفكيك هذا التماسك فنحن شعوب قامت جماعتها الوطنية وتماسكت في معارك الدفاع عن النفس وعن التراث الجماعي في مواجهة مخاطر الخارج، وأن تيار العزلة ينمو مع زيادة النفوذ الخارجي وتيار الاندماج ينمو مع قوة المواجهة الوطنية لهذا النفوذ الخارجي(10 ).

وفي هذا المقام يمكن التوقف عند عناصر أساسية يشير إليها ذلك القانون:

  1. تشكل الجماعة الوطنية واندراج مكوناتها المتعددة والمتنوعة.
  2. تماسك الجماعة الوطنية في نهوضها للدفاع عن ذاتها في مواجهة مخاطر الخارج.
  3. أن هناك من القواعد العامة الحاكمة للجماعة الوطنية وقدرتها واستمرارها.
  4. أن الخارج قد يلعب دورا في تفكيك التماسك.
  5. أن تيار العزلة ينمو مع زيادة النفوذ الخارجي وتيار الاندماج ينمو مع قوة المواجهة والتماسك الوطني في مواجهة المخاطر والتحديات التي تحيق بالوطن.

في هذا المقام يمكن رؤية خيوط التماسك بين الأقباط والمسلمين. فمن المهم ألا يدفع المسلمون الأقباط لزاوية العزلة، ومن المهم ألا يمارس الأقباط مسار العزلة وعدم الاندماج، إنها المسئولية المشتركة للجماعة الوطنية بكليتها لأن عينها في ذلك على الوطن والمواطنة وهما جامع وجامعة مهمان يعصمان من كافة العناصر التي تهيئ لما يسمى بالفتنة الطائفية.

ومن الجدير بالذكر أنه لا يقاس غنى أي (مجتمع ـ تجمع ـ جماعة) بمقدار ما يملك من أشياء، بل بمقدار ما فيه من افكار فاعلة وإيجابية ومنتجة، وفاعلية الأفكار تخضع لشبكة العلاقات فلا يمكن تصور عمل متجانس من الأشخاص والأفكار والأشياء دون هذه العلاقات الضرورية، وكلما كانت شبكة العلاقات أوثق كان العمل فعالا مؤثرا، والعلاقات الاجتماعية تكون فاسدة عندما تصاب الذوات أو التكوينات بالتضخم، فيصبح العمل الجماعي المشترك والتعايش صعبا أو مستحيلا، إذ يدور النقاش حينئذ لا لايجاد حلول للمشكلات بل لسجالات اقتتالية. في حالة الصحة يكون تناول المشكلات من أجل علاجها هي أما في الحالة المرضية فإن تناولها يصبح لتورم الذات وانتفاشها وحينئذ يكون حلها مستحيلا، لا لفقر في الأفكار أو في الأشياء ولكن لأن شبكة العلاقات لم تعد أمورها تجرى على طبيعتها.

أصول تأسيس الجماعة الوطنية

تاسع عشر: مدخل الولايات العامة والاجتهاد المؤسسي:

وضع غير المسلمين بالنسبة لأوضاع الولاية العامة:

يمكننا الحديث في هذا السياق بما آلت إليه أوضاع الولاية العامة في زماننا هذا 11. فكتب الفقه المتخصصة بالأحكام السلطانية عندما تكلمت عن الإمارة وعن الوزير إنما تكلمت عن فرد. ولذلك كانت تضع شروطا لتولي الولاية على اعتبار أن من يمارس هذه الولاية هو فرد. من الواضح أن في زماننا استبدلنا بولاية الفرد ولاية الهيئة وصارت الهيئات هي التي تقوم مقام الأفراد في إنفاذ الولاية.. وطالما أن الهيئة هي التي تملك الولاية فإن من الممكن أن يشارك فيها آخرون من غير المسلمين مع توافر ضوابط ثلاثة هي:

أولا: أن تكون الهيئة مسلمة وهذا يعني أن تكون مرجعيتها هي الشريعة الإسلامية.

ثانيا: أن تكون غالبية أعضاء الهيئة مسلمين.

ثالثا: أن تحقق الصالح الإسلامي العام ـ أي صالح الجماعة الوطنية ـ وفقا للضوابط المحددة لكلمة المصلحة عند الأصوليين.

عشرون: المدخل الشعائرى: علم اجتماع وسياسة الفتوى: مسألة بناء الكنائس:

يعتبر هذا المدخل مختبرا مهما لمفهوم المواطنة الذي أردنا أن نؤكد عليه في سياق التعامل في بناء الكنائس، ذلك أن هذه من القضايا المحورية التي اختلف فيها وعليها، وتحتاج منا تحديد المداخل التي تتعلق بضرورات الجماعة الوطنية والتي تجعل من أصول وضرورات العيش المشترك الواحد وكذلك الحاجات العبادية لكل صاحب دين والأصول التعاقدية للمواطنة وتضمين كافة العقود روحا وحكما، القديم منها والمستحدث في إطار عقد المواطنة المكين الأمين، ورؤية هذا الموقف بتفريعاته ضمن ضبط العلاقة بمؤسسات الكنيسة والمؤسسات الدينية بوجه عام بالدولة في هذا المقام، وتعد الحالة المصرية في هذا المقام معملا تجريبيا غاية في الأهمية 12 وهو ما يحدوا بنا أن نؤشر على تلك المداخل من خلال الفتوى التي أصدرتها دار الفتوى في شأن بناء الكنائس وهي فتوى مهمة وكذلك الذاكرة الفقهية المتعلقة بذلك خاصة تلك المنسوبة للإمام الليث بن سعد الفقيه الإسلامي في مصر يمكن تضمينها والبحث فيها وتحليل نصوصها (13 ).

خاتمة: عود على بدء: المواطنة في دولة مسلمة

في إطار يتعلق بمستقبل فكرة المواطنة في دولة مسلمة، وفي سياق عملية التفعيل والتشغيل فإنه من الواجب أن نؤكد ان بعض المداخل التي تعرضنا إليها إنما تشكل مفاصل مهمة في بناء رؤية المواطنة والإمكانات التي تتعلق بعالم تفعيلها وفاعليتها، إلا أن استكمال هذه الرؤية يتطلب التعرض لأكثر من مدخل يمكن مع تكافله مع تلك المداخل أن يؤسس لرؤية تتعامل مع الواقع المعاصر ومعطياته بما يحقق الوعي والسعي اللازمين للتعامل مع إشكالات المواطنة والتحديات التي تفرضها في المجتمعات المسلمة المعاصرة.

وفي هذا المقام فإن مداخل مثل اللغة، وكذلك الفطرة الإنسانية في الحنين إلى الأوطان، والقضايا التي تتعلق بالمرجعية، والشريعة، والشرعية، في ارتباطها بالمواطنة، إنما تشكل مقدمات مهمة يجب أن نؤكد على تكاملها مع بعضها في إطار من الجامعية والفاعلية، يمكن أن تؤصل لهذه الرؤية الاستراتيجية للمواطنة ونظن أن ذلك يستأهل مشروعا بحثيا متكاملا تتكامل فيه التخصصات المختلفة من القانون والسياسة والإدارة والاجتماع وعلوم النفس والتربية وكذلك الفلسفة، وعلوم التنظيم والتنمية المستدامة بمفهومها الشامل، إنما تشكل رؤية واضحة للإجابة على الإشكالات والتحديات التي تتعلق بموضوع المواطنة فضلا عن اقتراح آليات للتفعيل والتشغيل في هذا المقام، هذه الرؤية الاستراتيجية الشاملة إنما تمثل واحد من أهم واجبات الوقت في هذه الآونة بما تستدعيه وينضاف إلى مسار المواطنة من إشكالات أضافتها الثورات العربية والتي فجرت تحديات جديدة بصدد المواطنة، بل ومفهوم السياسة ذاته وكافة العمليات السياسية14 .

———-

الهامش

1 سيف عبد الفتاح، الحكم الراشد

2 ابن تيمية، الحسبة فى الإسلام

3 سيف عبد الفتاح، في إبراهيم البيومى غانم (محرر)، طارق البشرى: القاضى المفكر، الكلمات والبحوث التي ألقيت في الندوة العلمية الأهلية للاحتفاء بالمستشار طارق البشرى بمناسبة انتهاء ولايته القضائية بمجلس الدولة المصرى، القاهرة: دار الشروق، 1999

4 ـ طارق البشري، في المسألة الإسلامية المعاصرة ..الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، القاهرة : دار الشروق، الطبعة الأولى، 1996، ص 38 .

5 ـ ـ طارق البشري، الوضع القانوني بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، القاهرة : دار الشروق، الطبعة الاولى، 1996، 112.

6 ـ سيف عبد الفتاح، الزحف غير المقدس: تأميم الدولة للدين، مرجع سابق، ص 102.

7 ـ سيف الدين عبد الفتاح، نحو واقع سديد،

8 ـ مالك بن نبي،  ميلاد مجتمع ( شبكة العلاقات الاجتماعية)، ترجمة: عبد الصبور شاهين، القاهرة: مطبعة دار الجهاد، 1962م.

9 ـ سيف عبد الفتاح، التربية المدنية،

10 ـ طارق البشري، في المسألة الإسلامية المعاصرة ..الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، القاهرة : دار الشروق، الطبعة الأولى، 1996، ص 38 .

11 ـ طارق البشري، الجماعة الوطنية :العزلة والاندماج، القاهرة : دار الهلال، 2005 652، ص ص 284 ـ 285 .

12 ـ  سيف الدبن عبد الفتاح، فتاوى الأمة وأصول الفقه الحضاري،  الأزمة ومقدمات الحل،

13 ـ يمكن أن نعكف على هذا الموضوع وتتبع ذاكرته الفقهية والتراثية والحضارية.

14 الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close