ترجمات

بعد الديمقراطية ماذا يحدث عندما تتآكل الحرية؟

هذا النص ترجمة لمقال “دان سلاتر”، المنشور في مجلة السياسة الخارجية الأميركية، عدد 6 نوفمبر 2018، والرابط الأصلي للمقال بعنوان:
Dan Slater, « After Democracy: What Happens When Freedom Erodes? » Forgien Affairas, Novembre 6, 2018.
ينتقد الخبراء الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، خصوصا في الولايات المتحدة مع اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي كون هذه الديمقراطية تتآكل أو تتراجع أو ربما ستنتهي، وهذا لا يخبرنا إلا بالقليل عما يمكن أن ينشأ على وجه التحديد، فعندما تضعف الديمقراطية ما الذي يبقى؟ وعندما تنحسر الديمقراطية إلى أين تنتهي؟ وعندما تموت الديمقراطية ما الذي يولد؟
الجواب البسيط هو الاستبداد، لكن الأنظمة الاستبدادية متنوعة مثلها مثل الديمقراطيات، والاستبداد ليس ببساطة غياب الديمقراطية، بل هو في الحقيقة وحش سياسي – نوع مختلف من الوحوش– يعمل بأسلوب متعدد الأوجه، أي: أن الديمقراطية تتعرض لتهديد خطير، ليس تهديدا واحدا فقط بل متعدد.
فمن الولايات المتحدة إلى الفلبين إلى بولندا إلى البرازيل، يمكن التعرف على نموذجين غير ديمقراطيين للحكم:
الأول/ نظام الاستبداد الانتخابي: يفوز فيه الحكام بالسلطة من خلال الانتخابات، لكن هذه الأخيرة يتم التلاعب بها (ساحة اللعب بين المنافسين والمعارضين في الانتخابات بعيدة من أن تكون عادلة).
الثاني/ الديمقراطية غير الليبرالية: يفوز فيها الحكام بحرية في الانتخابات ثم يسيئون إلى السلطة و الأقليات بالسلطة التي يفوزون بها، أي بعبارة أكثر وضوحا: يفعل الاستبداديون ما يشاءون ليفوزوا بالانتخابات، أما الديمقراطيون غير الليبراليون يفعلون ما يشاؤون بعد الفوز بالانتخابات. فبينما يمكن أن يدمج القادة والحكومات المنتخبين كلا السمات عند تآكل الديمقراطية، فمن الممكن أن يكون هناك نوع فقط دون الآخر.
الاختلاف بين هذين الوحشين غير الديمقراطيين هو الحشد الجماعي، فنظام الاستبداد الانتخابي هو في العادة مشروع جماعي للحزب الحاكم، أما الديمقراطية غير الليبراليةIlliberal democracy – المصطلح الذي صاغه فريد زكرياء وتبناه رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان Viktor Orban -هو في الغالب مشروع فردي لقائد منتخب متعطش للسلطة، ففي حين يستخدم الدكتاتوريون المنتخبون ذريعة لتقويض المعارضين الحزبيين، يهاجم الديمقراطيون غير الليبراليون علانية الأقليات والمؤسسات الديمقراطية الأساسية التي من شأنها أن تقيد الرئيس التنفيذي المنتخب، الدكتاتوريون المنتخبون لن يقبلوا الهزيمة والديمقراطيون غير الليبراليون لن يقبلوا القيود، يخادع الدكتاتوريون المنتخبون لكي لا يفقدوا سلطتهم، أما الديمقراطيون غير الليبراليون فيخرقون القواعد ويقوضونها حتى لا تكون سلطتهم محدودة.
أما اليوم فيمكن رؤية الديمقراطية غير الليبرالية والاستبداد الانتخابي في الواقع العملي في جميع أنحاء العالم، كما يهدد كلا هذين النوعين غير الديمقراطيين بالسيطرة إذا ما تآكلت الديمقراطية أو تراجعت أو حتى ماتت في الولايات المتحدة، على الرغم من أن شبح الديمقراطية غير الليبرالية بات وشيكا فإنه يمكن أن يتبدد قريبا، فضعف الولايات المتحدة أمام السلطوية الانتخابية أمر قديم، ومن المرجح أن يستمر، بغض النظر عما سيحدث في الانتخابات النصفية وفي الانتخابات القادمة.

تآكل ديمقراطي في الواقع العملي

من الناحية العملية تقدم جنوب شرق آسيا العديد من الأمثلة على كل من الديمقراطية غير الليبرالية والسلطوية الانتخابية، إذ تقدم الفلبين مثالا صارخا على ديمقراطية قديمة وراسخة تتآكل تدريجيا لتصبح ديمقراطية غير ليبرالية، فالرئيس رودريغو دوترت Rodrigo Duterte لا يقبل إلا قيودا محدودة جدا على سلطته الشخصية، حتى أن القانون الفليبيني غير مقيد، كما يظهر من خلال حملة القتل خارج نطاق القانون التي يقوم بها الرئيس دوترت ضد متعاطي المخدرات المشتبه بهم، رغم ذلك فقد حظي بشعبية كبيرة طوال فترة ولايته، لكن هذا لا يجعل من تجاوزاته للسلطة ديمقراطية. فإنكار الحقوق الأساسية هو جوهر غياب الليبرالية، حتى لو قام زعيم منتخب بإنكار ذلك، فالرئيس الفليبيني دوتريت ليس استبدادي منتخب أو على الأقل ليس بعد فهو لا يقود حزبا سياسيا لديه القدرة على الفوز بانتخابات منحرفة بعد انتخابات منحرفة، ولا يركز على لعب دور المُعاقب ضد المعارضين السياسيين الذين يهددون باستبداله، على الأقل جزئيا لأن الفلبين تعمل بولاية زمنية محددة، أو ربما كان دوترت أكبر من أن ينظر في تغيير الأمر لصالحه، إنه ديمقراطي غير ليبرالي بسبب ما يفعله بسلطته الانتخابية، وليس بالكيفية التي حصل بها على سلطته أو حاول الحفاظ عليها.
من ناحية أخرى تقدم سنغافورة مثالا مؤثرا بشكل خاص على نموذج الاستبداد الانتخابي، وعلى عكس دوتريت تهيمن السلطات السنغافورية على القانون وتجعل الجميع يلتزمون به فتشكل حكما جماعيا وليس فرديا. بحيث يتم ضبط النظام الانتخابي بدقة ويتم التلاعب به بشكل جيد حتى لا يكون لدى معارضي حزب العمل الشعبي الحاكم People’s Action Party’s (PAP’s) أي فرصة مشروعة لهزمه، فلا توجد لجنة انتخابات مستقلة، كما يشكك الناخبون على نطاق واسع بأن أصواتهم يتم رصدها بالأساس وتتم معاقبة المجتمع بسحب الخدمات الحكومية منه إذا ما قام باختيار المعارضة، وربما من المفارقات أن حزب العمل الشعبي يستحق بكل تأكيد لقب “الاستبدادي” أكثر مما يستحقه دوترت الذي لا تتناسب الانتهاكات الصارخة لسلطته بعد مع أي نوع محدد من الحكم الاستبدادي.
سنغافورة والفلبين ليستا وحدهما، حتى في جنوب شرق آسيا، في ميانمار أين أدخلت انتخابات حرة ونزيهة في عام 2015 “الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية” المعارضة أونغ سان سو كيي Aung San Suu Kyi للسلطة، وحتى مع احتفاظ الجيش بالعديد من المواقف الحيوية لنفسه، لكن الديمقراطية الانتخابية سرعان ما تراجعت إلى ديمقراطية غير ليبرالية، ما أدى إلى ذعر الأقلية المسلمة في ظل الديمقراطية التي يسيطر عليها البوذيون، والمثال الأكثر شهرة حالة الروهينجا في ولاية راخين، إذ لا يزال الإعلام يتعرض للقمع عند الإبلاغ عن انتهاكات الجيش لحقوق الإنسان أو الكشف عما يسمى بأسرار الدولة، بينما في إندونيسيا يُظهر السجن الذي صدر مؤخرا ضد حاكم الصين العرقي في جاكرتا بتهمة إهانة الإسلام ، أن أكبر ديمقراطية في جنوب شرق آسيا تتخذ منعطفا غير اعتيادي.
في حين أن الديمقراطية غير الليبرالية لا تقتصر على الفلبين، والاستبداد الانتخابي لا يقتصر على سنغافورة، إذ شدد حزب هون سين Hun Sen الحاكم في كمبوديا منذ فترة طويلة الخناق على خصومه الحزبيين ووسائل الإعلام الإخبارية، حيث تراجعت ثقته في الفوز حتى في ظل انتخابات غير عادلة وغير حرة، عند هذه النقطة تراجعت كمبوديا تقريبا عن الجانب الانتخابي من سلطتها، وتبدو أقل شبها بسنغافورة من ديكتاتوريات الحزب الواحد مثل فيتنام والصين.
ربما المثال الأكثر إفادة من جنوب شرق آسيا بالنسبة للولايات المتحدة هو ماليزيا، إذ كانت البلاد لمدة خمسين عاما تحت نظام استبدادي انتخابي بارع، يهيمن عليه حزب واحد: المنظمة الوطنية الماليزية المتحدة United Malays National Organization (UMNO ). وإلى حين تعرض الحزب لهزيمة انتخابية مروعة في وقت سابق من هذا العام، حكمت المنظمة الوطنية الماليزية المتحدة نيابة عن الأغلبية “المحلية الأصلية” التي تخشى فقدان صلاحياتها للأقليات “المهاجرة”، واستخدمت الخداع والتزوير لتحريف الانتخابات لصالحها، وقد شمل ذلك عملية الغش والإساءة والاستبعاد المستهدف وحتى حبس المعارضين الانتخابيين الذين يهددونها بشكل خاص.
لقد أنتجت مثل هذه التلاعبات وضعا يمكن أن تفقد فيه المنظمة الوطنية الماليزية المتحدة وشركائها في الائتلاف التصويت الشعبي مباشرة، كما فعلت للمرة الأولى في عام 2013، ومع ذلك ما زال الحزب يؤمن أغلبية برلمانية قوية، فضلا عن موقف رئيس الوزراء القوي جدا. إلا أنه فقط عندما كانت سياسة المنظمة الوطنية الماليزية المتحدة منحازة أدت في النهاية إلى نفور الأقليات العرقية في ماليزيا، إضافة إلى مشاركة زعيم المنظمة الوطنية الماليزية المتحدة نجيب رزاق في هذا الفساد الهائل الذي صدم الملاحظ الماليزي وبالتالي هذه التجاوزات الاستبدادية لم تعد قادرة على تأمين الفوز الانتخابي للمنظمة الوطنية الماليزية المتحدة.

التهديد القريب

ما الذي قد يعنيه كل هذا بالنسبة للولايات المتحدة التي تذهب اليوم إلى صناديق الاقتراع؟
رغم كل الاختلافات الواضحة مع دول جنوب شرق آسيا التي نوقشت، تواجه الولايات المتحدة نفس الوحوش غير الديمقراطية التي تواجهها جنوب شرق آسيا: الاستبداد الانتخابي والديمقراطية غير الليبرالية. ويختلف المراقبون على نطاق واسع حول مدى خطورة التهديد إذا ما قام الرئيس دونالد ترامب والحزب الجمهوري بانتهاك القانون بشكل متزايد وانتهاك القواعد الديمقراطية، أحد أسباب ذلك أنها تشكل تهديدات ملموسة.
مثل دوترت، ترامب ديمقراطي غير ليبرالي بارع، يهاجم كل من يجرؤ على انتقاده، كما أن احترامه لوسائل الإعلام والمحاكم والمؤسسات الديمقراطية الأخرى مرهون كليا بعدم تقييدهم له، في حين استخدم الزعماء الجمهوريون السابقون صفارات لإثارة المشاعر المعادية للمهاجرين وغيرها من المشاعر العنصرية يستخدم ترامب جهاز استنشاق، إنه حاكم متفرد مدفوع بالشهوات، تظهر في الطريقة التي من خلالها يتعامل مع المصالح الأجنبية ليحصل على ثروة هائلة – ربما يستمر في القيام بذلك كرئيس – الأمر الذي لا يعتبر من شأن الأفراد، ومع ذلك ليس لديه استراتيجية واضحة لتوطيد سلطته على مدى فترة زمنية طويلة بأسلوب استبدادي انتخابي، إذا ما تمكنت المؤسسات السياسية الأميركية من المراوغة حتى الآن.
وبالنسبة للحزب الجمهوري الأمر مختلف تماما، من خلال قوانين تحديد هوية الناخبين والأشكال الأخرى من القوانين ذات الصلة بقمع الناخبين – الأكثر تشددا في ويسكونسن مثلما حدث في عام 2016 وفي جورجيا اليوم – يبدو أن الحزب الجمهوري يركز على الفوز في الانتخابات أكثر من التركيز على حشد الأغلبية، وهذا التركيز الاستراتيجي الذي لا يركز على الأغلبية الانتخابية يتناسب مع نظام الهيئة الانتخابية، الذي أدى إلى وصول اثنين من الرؤساء الجمهوريين سابقا إلى البيت البيض من دون الفوز في التصويت الشعبي: في النمط الماليزي الخاسر يأخذ كل ذلك ولا يمكن أن يسمح له بالاستمرار في أي ديمقراطية انتخابية جديرة بالاسم.
في الوقت الذي يشبه فيه ترامب دويترت بطرق عديدة، يشبه الحزب الجمهوري على نحو متزايد المنظمة الوطنية الماليزية المتحدة، وهو ليس بالأمر الغريب بالنسبة لسياسات الحزب في الولايات المتحدة، فعند النظر في التاريخ الأمريكي ليس من الصعب رؤية أنه بعد إعادة إعمار الجنوب الأمريكي في عهد جيم كرو كمثال نموذجي عن الاستبداد الانتخابي، فإن الحزب الديمقراطي العنصري لعب دورا مشابها للمنظمة الوطنية الماليزية المتحدة باعتبارها المدافع عن شرف الأغلبية، من خلال الروابط أو الاحتيال.
وحتى لو تمكنت إدارة الديمقراطيين من قمع الناخبين والفوز بالأغلبية في انتخابات الكونغرس وسباق الرئاسيات، فإنها لا يمكن أن توقف بسهولة أو حتى تبطئ تخلي ترامب عن الديمقراطية لصالح الديمقراطية غير الليبرالية، على النقيض من ذلك حتى لو هزم ترامب في عام 2020 أو تمت إزالته قبل ذلك، قد يستمر الحزب الجمهوري في التحول إلى أبعد من ذلك في الاتجاه الاستبدادي الانتخابي، خاصة في الولايات الأمريكية التي تتكئ على الحزب.

حتى لو هُزم ترامب أو أُزيل:

ترامب ليس في واجهة الاقتراع اليوم، رغم أنه موجود في الخلفية، غير أن الانزلاق نحو الديمقراطية غير الليبرالية التي يمثلها ترامب حاليا من غير المحتمل أن يتم تطويقها أو توقيفها بغض النظر عما يقرره الناخبون، لكن المفارقة هي: أنه في حين أن آفة الديمقراطية غير الليبرالية يصعب هزيمتها من خلال صناديق الاقتراع ، فقد لا تدوم رئاسة ترامب على الإطلاق.
السؤال الرئيسي عن مسألة الديمقراطية في الاقتراع اليوم هو ما إذا كانت الولايات المتحدة ستواصل التحول نحو النظام الاستبدادي الانتخابي بشكل صريح؟
يمكن أن يعاني النظام الاستبدادي الانتخابي من نكسة كبيرة اليوم، إذا تفوق الديموقراطيون الملتزمون بتقويض قيود الناخبين على الجمهوريين المكرسين لدعم هؤلاء الناخبين، لكن الانتخابات النصفية الأمريكية لا يمكن إلا أن تكون نصرا واحدا في حملة أميركا الطويلة والمستمرة لضمان أن بقايا الاستبداد في ماضيها القريب لا يجب أن تعود إلى الظهور وتتدخل في تحديد مستقبلها الانتخابي (*).


(*) الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى