بعد 9 سنوات من ثورتها: تونس ما المطلوب؟
بعد 9 سنوات من ثورتها: تونس ما المطلوب؟
حققت التجربة التونسية خلال 9 سنوات بعد ثورة يناير 2011، الكثير من النجاحات رغم العديد من العراقيل الخارجية والكثير من أدوات ومعاول الهدم الداخلية، فهي كتجربة ديمقراطية فتية وراقية تعتبر أنموذجا للتعايش والحركية الدائمة بين مختلف المكونات الحزبية والمجتمعية رغم الأوضاع الاجتماعية الصعبة والإرث الثقيل الذي تركته المنظومة التي كانت تحكم منذ 60 سنة والتي لازالت إلى اليوم تتربص وتتحين الفرص للعودة للصفوف الأمامية من جديد تحت مسميات ولافتات عدة سواء حزبية أو جمعياتية وبدعم كبير من المجموعات المتنفذة اقتصاديا.
وترى العديد من المراكز البحثية والعلمية والمختصة أن ما يحدث من سجال ونقاش وحتى تراشق بالتهم بين المكونات السياسية والفكرية والمجتمعية هو تقدُّم مهم على صعيد التحوُّل السياسي إلى نظام حكم منفتح وديمقراطي وعصري وهو أمر فريد من نوعه في المنطقة لدرجة أن العديد من الجامعات والأكاديميات المرموقة تدرّس النموذج التونسي الفريد بالرغم من التشرذم وتفتت الأحزاب السياسية وفشل الجبهات والائتلافات في التواصل وتثبيت هوية محددة لها.
هذا التطور السياسي الكبير لم تواكبه إجراءات تحوُّل اقتصادي مماثل لعدة اعتبارات لعل أهمها: صعوبات في التوصل إلى توافقات في الآراء بشأن الإصلاحات الاقتصادية الرئيسية، مصالح بعض النقابات والمنظمات التي تسعى للتمسك بمكاسبها وامتيازاتها، وتواصل سيطرة بل احتكار عائلات معروفة لقطاعات اقتصادية كبيرة متنوعة، والتباطؤ والتلكؤ في استرجاع أموال الدولة المنهوبة سواء في الداخل أو الخارج. كما أثّر الفساد والتهريب بشكل كبير على اقتصاد تونس رغم المحاولات المتعددة للتصدي لهما وللضالعين في الفساد على كل المستويات.
وبالإضافة إلى كل ما سبق، فإن الأوضاع الدولية والإقليمية المتأثرة بجائحة كورونا، زادت من معاناة المواطن ومن البطالة ونقص فرص العمل بسبب الأوضاع في ليبيا ونقص الاستثمار الخارجي وغلاء المعيشة.
وقد جعل هذا المناخ تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر ضعيفة. ولازالت الدولة غير قادرة بشكل كاف على جمع إيرادات ضريبة القيمة المضافة والرسوم الجمركية بشكل شفاف وعادل ولا استرجاع الأموال المهربة للخارج التي قدرها البنك الدولي في احدى تقاريره بما يفوق الـ 10 مليار دولار.
وبالإضافة للوضع الاقتصادي المتعثر، فان الطبقة السياسية لازالت تبحث عن أرضية عمل ومشاريع واضحة تميزها فضلا على أن عددا من المكونات الحزبية لازالت غارقة في صراع الهوية الذي حُسم بالدستور. كما أن أجندة بعض الأحزاب تتماهى مع أنظمة ديكتاتورية ودموية لا تؤمن بالتعايش والاحترام المتبادل. وجاءت نتائج انتخابات سنة 2019 لتبين حجم التباعد خاصة في ظل وجود نظام انتخابي لا يساعد على تأسيس منظومات واضحة وأفرزت تركيبة برلمانية مشتتة وغير قادرة على التوافق على الإصلاحات الكبرى التي يطالب بها الشعب فضلا على أن رئيس الجمهورية المنتخب من أغلبية الشعب أصبح يرى بأن الصلاحيات الممنوحة له بحكم الدستور لا تسمح له بالقيادة والحكم بالشكل الذي يراه هو مناسبا.
فالدستور حدد صلاحيات معينة لرئيس الجمهورية أهمها العلاقات الخارجية والأمن القومي وحماية الحريات والقانون وعلى أساسها تم انتخابه بأغلبية مريحة تسمح له أن يتعامل مع الجميع من موقف قوة وأن يقدم مبادرات تشريعية لتحسين الأوضاع.
فما حصل أنه وبعد مرور أشهر قليلة من الحكم، أصبح الكثير من الفاعلين على الساحتين السياسية والجمعياتية ينظرون لرئيس الدولة على أنه جزء من المشكلة ولم يعد جزءا من الحل. وتغيرت بشكل لافت قاعدة داعمي الرئيس التي تحولت من شباب الثورة والثوابت التي صوتت له بكثافة إلى جزء من المنظومة القديمة وخليط يصعب تحديد هويته خاصة أنه متحرك وغير ثابت.
ولقد أصبح رئيس الجمهورية لدى الكثيرين عنوانا لعدم الوضوح والخطب المتشنجة والتي تبث الريبة والتوجس عوضا عن الطمأنينة والسكينة لدى عموم المواطنين.
وكان من الملفت غياب رئيس الجمهورية عن عدد من المناسبات الوطنية الكبرى، منها عيد الجمهورية وعيد الأضحى. وكان من الممكن أن يجمع فيها كل الفاعلين ويذكرهم بالتزاماتهم وربما يحدد فيها التوجهات الكبرى للسياسة الخارجية والأولويات.
وكان أيضا مفاجئا للكثيرين وصفه للاستعمار الفرنسي بالحماية فضلا عن الأخطاء البروتوكولية خلال زيارته لباريس.
وكان من الملفت عدم أخذه لأي إجراء ديبلوماسي بحق البلدان التي تسعى جهارا نهارا لتخريب المسار الديمقراطي في تونس لا بل يرى البعض تقربه من المحور المعادي لحرية الشعوب العربية مضرة بالغة لمصالح البلاد وخاصة في علاقة بالجوار المباشر في كل من ليبيا والجزائر.
واللافت أيضا هو غياب الدعم للقضية الفلسطينية – وهو الذي حصد جزءا مهما من الأصوات بسبب حديثه الإيجابي عن حقوق الشعب الفلسطيني والثوابت الوطنية – وهذا الدعم كان من المنتظر أن يكون بالمواقف المبدئية والتمشي الديبلوماسي في حشد الدعم سواء على المستوى العربي أو الدولي بالرغم من المتغيرات الكبيرة وعلى رأسها الاستيطان وسياسات اليمين المتطرف في إسرائيل بدعم من إدارة الرئيس ترامب.
إلا أن الأمر الخطير اليوم أن الكثير من المفكرين والساسة أصبحوا يعتقدون بأن الرئيس لا يؤمن بالشرعية الانتخابية وما أفرزه الصندوق بل يريد الحكم وحده وجاء اختياره لوزير الداخلية الذي كان في الأصل مستشارا له في القصر دلالة على أنه يريد منسقا بين وزراء يختارهم وليس رئيس حكومة كما يخوله الدستور.
ومن هذا المنطلق، وبالنظر للآلية التي استعملها الرئيس ليحافظ على أحقية تسمية رئيس حكومة، كان واضحا سعيه لتوسيع صلاحياته وضم رئاسة الحكومة إلى رئاسة الجمهورية بل أصبح يروج أن البعض من مستشاري الرئيس هم من يختارون الوزراء وهذا أمر غير مسبوق وغير صحي للمسار الديمقراطي خاصة وان الدستور الحالي يقر بان السلطة التنفيذية ذات رأسين:
– رئيس الجمهورية، وله مهام محددة، وقد قبل بها وعلى أساسها ترشح، ولأجل ذلك تم انتخابه.
– رئيس الحكومة الذي تتم تسميته حسب الأوزان التمثيلية للأحزاب والائتلافات وتحت رقابة البرلمان والمجتمع المدني.
ولذلك فإنه من مصلحة الجميع أن يتمتع رئيس الحكومة بكل الصلاحيات التي حددها الدستور وأولها تكوين حكومة قادرة على مواجهة التحديات الاقتصادية وتثبيت حكم القانون على الجميع وبناء علاقات متوازنة تحفظ سيادة وكرامة الشعب ولا تفرط في تاريخ وثروات الأجيال. ولا أعتقد أن رئيس الدولة يبحث عن مستشار برتبة وزير لإدارة الحكومة في الظروف التي تمر بها البلاد فهذه ليست من صلاحياته ولا أعتقد أنها من أخلاقه.
وفي حالة حصول السيد المشيشي على الثقة في البرلمان، فإنه يصبح من واجب الجميع التعامل معه كرئيس حكومة كامل الصلاحيات وليس كأحد رجال الديوان الرئاسي كما يروج الآن.
وليس من مصلحة أيٍ كان الاستنقاص من دور الرجل إذا ما أخذ التزكية من البرلمان خاصة وأنه ستكون أمامه محطات مهمة وتحديات كبيرة وسيجد صعوبات بالغة في مواجهتها، وعليه، لابد أن يكون مسنودا بقوة من الأحزاب والمنظمات والمجتمع المدني.
وأعتقد أنه إذا ما تم تجاوز عقبة منح الثقة لرئيس الحكومة بعدما يحدد أولويات حكومته وأعضاء فريقه، فإنه يصبح من أوكد الواجبات العمل على الآتي:
أولاً: على مستوى رئاسة الجمهورية
1- تغيير الخطاب باتجاه طمأنة الشعب والبعد عن كل ما من شأنه أن يوتر الأجواء ويزيد من التباعد بين الفرقاء
2- العمل مع الخارجية للمسارعة بالتسميات في العواصم المهمة وإلزام الكل بأهداف محددة سلفا وعلى رأسها ملف الأموال المنهوبة ومراجعة التسميات المشبوهة التي حدثت في البعثات والتمثيليات الديبلوماسية وحسن التصرف في أموال الشعب
3- تحديد نهج حكم يلزم جميع الحكومات باحترام خيارات الشعب التونسي وعدم التدخل في شؤونه الداخلية
4- النأي بالمؤسستين العسكرية والأمنية عن كل الصراعات الحزبية
ثانياً: على مستوى السلطة التشريعية
1- المسارعة بتنقيح القانون الانتخابي ووضع عتبة دنيا من أجل الاستقرار السياسي ولتفادي التشتت والتدخل الخارجي
2- تثبيت المحكمة الدستورية لتكون السلطة المرجعية ذات السيادة في تأويل الدستور وتحديد الصلاحيات لكل الأطراف بما في ذلك الرئاسات الثلاث – رئاسة الجمهورية والبرلمان والحكومة.
3- مراجعة قانون الأحزاب والجمعيات وإخضاع الجميع لمقاييس جديدة لتنقية الساحة السياسية من الأحزاب والجمعيات الوهمية ومن أجل الشفافية في العمل والتمويل.
4- المسارعة بالنظر والموافقة على الاتفاقيات الدولية التي تم تأجيلها من أجل جلب استثمارات ومواطن شغل وتنمية للجهات.
وأعتقد أن الجميع مدرك لحساسية الوضع ودقته ولا أحد من الوطنيين له مصلحة في المغامرة بالتمسك برأيه والوطن والشعب يستغيث.
التحوّلات السياسية والسياسات التعليمية في تونس
بعد 9 سنوات من ثورتها: تونس ما المطلوب؟